إسلام ويب

لقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين بإقامة الصلاة، وهي عبادة لله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة، وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعل الله يرحمهم بذلك. وذكر سبحانه أحكام استئذان الأقارب بعضهم على بعض، فأمر الله المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أوقات: ألأول: من قبل صلاة الغداة، والثاني: وقت القيلولة، والثالث: بعد صلاة العشاء، وفي غير هذه الأوقات لا جناح عليهم في الطواف على بعضهم البعض.

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ...)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56].

لما وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يعبدون الله سبحانه ولا يشركون به شيئاً أن يمكن لهم في الأرض، وأن يستخلفهم، وأن يبدل خوفهم أمناً، أمرهم بعد ذلك بأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويطيعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ لعلهم يرحمون، فالوعد من الله عز وجل بالتمكين في الأرض، والوعد من الله سبحانه وتعالى بالرحمة في الدنيا وفي الآخرة، إذا كان المؤمنون على صلاح وعلى حسن عبادة لرب العالمين، فإذا فعلوا ذلك استحقوا الاستخلاف والتمكين، وأن يؤمنهم الله عز وجل في الدنيا، وكذلك استحقوا أن يرحمهم الله عز وجل يوم القيامة.

فهنا استحقاق الرحمة كان بما قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، فخصص عبادات ثم عمم الطاعة، فهنا خصص العبادة البدنية والعبادة المالية بالذكر، فالعبادة البدنية: الصَّلاة، وهي أفضل العبادات البدنية، والعبادة المالية: الزكاة، فعلى صاحب المال أن يؤدي ما فرضه الله عز وجل عليه، فإذا كان عنده نصاب من أي نوع من أنواع الأموال التي فيها الزكاة وحال عليه الحول وجب عليه أن يؤدي زكاة ماله.

قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، إن إقامة الصلاة ليست مجرد الأمر بالصلاة، وإنما هي أن تستقيم فيها، ولا تتلهى عنها، ولا تسهو فيها، بل تقيم الصلاة على النحو الذي أمرك به ربك سبحانه، والذي وضحه لك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

وكذلك أمر في الصلاة بقوله: (اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً)، فيطمئن الإنسان في صلاته، وليكن مقبلاً على الله سبحانه فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل صلاة مودع) أي: لا يظن أن يصلي غيرها، فأنت تقوم في الصلاة على الهيئة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وبالخشوع الذي أمرت به، فإذا أقمت الصلاة كما أُمرت نهتك عن الفحشاء وعن المنكر، وكذلك الزكاة تبعد عنك شح النفس الذي خلق في الإنسان.

قوله: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، وقد ذكر ربنا سبحانه في غير هذه الآية: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، وقال في آية أخرى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران:132]، وقال في الآية الأخرى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، فطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله سبحانه وتعالى، فأمر وقال: وأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: على الهيئة التي أمرتم بها، وَآتُوا الزَّكَاةَ أي: على ما فرض الله عز وجل عليكم، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي: فيما يأمركم به عليه الصلاة والسلام، وكل ما نهاكم عنه تنزجرون عنه.

قوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هذا وعد من الله عز وجل، وهو لا يخلف الميعاد، فإذا قال: لعلك ترحم فيقيناً سيرحمك، لكن إذا أتيت بهذا الشرط الذي ذكره لك، فرحمة الله عز وجل عظيمة وواسعة، وأخبر عنها بقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156]، هذا وعده سبحانه أنه يكتب هذه الرحمة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [الأعراف:156-157] أي: بكل معروف، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف:157] يعني: عن كل منكر، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].

إذاً: هنا ربنا سبحانه جعل المطيعين من المؤمنين هم المرحومون وأهل الرحمة، وهم المفلحون يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ...)

قال الله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور:57]، قوله: لا تَحْسَبَنَّ ، جاءت بالخطاب وجاءت بالغائب، فقوله: لا تَحْسَبَنَّ ، هي قراءة عاصم وقراءة أبي جعفر، أي: يقول هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تظن ولا تحسب أن هؤلاء المشركين يعجزون الله سبحانه وتعالى في الأرض.

وأما قراءة ابن عامر وقراءة حمزة : (لا يحسَبن الذين كفروا معجزين في الأرض)، وقراءة باقي القراء: (لا تحسِبَن الذين كفروا معجزين في الأرض)، ففي كل القرآن يقرأ: (تحسَب) عاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر بفتح السين، وأما باقي القراء فيقرءون (تحسِب) بالكسرة. إذاً: أربعة يقرءونها في كل القرآن: (تحسَب) أو (يحسَب) أو (تحسبَن) أو (يحسبَن)، كلها بفتح السين، وهؤلاء هم: ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر، وأما باقي القراء فيقرءون هذه الألفاظ كلها: (تحسِب) و(يحسِب) و(تحسِبن) و(يحسِبن) بكسر السين.

قوله: (لا تحسبن) هي على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي تنصب مفعولين، فقوله: لا تَحْسَبَنَّ أي: هؤلاء الكفار، مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ أي: لا تحسب أنت، فهنا الفاعل هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (الذين كفروا) هذا المفعول الأول، وقوله: مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ هذا هو المفعول الثاني لتحسب.

والقراءة على الغائب: (لا يحسبَن) قراءة ابن عامر وقراءة حمزة وقراءة إدريس عن خلف ، والمعنى: لا يحسبَن الذين كفروا أنفسهم يعجزون الله سبحانه وتعالى في الأرض، فهنا قوله: أنفسهم هو المفعول الأول، و(مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) هو المفعول الثاني.

قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ أي: ومعاجزين، يقال: أعجزت الإنسان أو أعجزت الرجل أن يدركني، يعني: بحيث لا يقدر عليه ولا يقدر أن يأتي به، فهؤلاء الكفار وصل غرورهم أن يظنوا أنهم يعجزون الله عز وجل، وأن ربنا لا يقدر عليهم، فهو قال لهم: لا تظنوا هذا الشيء، فأين تذهبون من الله عز وجل والأرض أرضه، والسماء سماؤه؟ فلا ملجأ من الله إلا إليه، فلا يحسبون أنفسهم أنهم معجزون لله عز وجل، وفائتون من الله سبحانه وتعالى في الأرض.

قوله: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ أي: أنهم لا يفلتون من الله عز وجل، وأنهم إذا ماتوا سيجمعهم من الأرض مهما تفرقوا فيها، وانظروا إلى ذلك الإنسان الذي أمر بنيه وقال: (إذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديداً ريحه فذروني في البر والبحر، إن الله إن يقدر علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين).

فهنا الإنسان ظن أنه إذا عمل هذا الشيء فلن يفلت من الله عز وجل، فأين يذهب من الله عز وجل؟ فالأمر يسير عليه جداً سبحانه، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا [المرسلات:25] أي: جامعة لما فوقها في الحياة وبعد الممات، فلما مات هذا الإنسان وذروه في البر والبحر جاء أمر الله عز وجل يوم القيامة: يا أرض هاتي ما كان فيك منه، فجمعته الأرض، ويا بحر هات ما كان فيك فاجتمع الرجل، فأحياه الله عز وجل وسأله يوم القيامة، والحديث معروف.

والمقصود أن الإنسان لا يغتر ولا يظن أنه يعجز ربه سبحانه وتعالى، فمهما هرب فالله عز وجل يأتي به، فليتأدب المرء مع ربه سبحانه، وليحسن الظن بالله عز وجل، وليفعل الطاعات، وليعلم أنه مهما هرب فإن الله آت به، ثم يكون مأوى هؤلاء الذين يهربون من الله عز وجل نار جهنم.

قال تعالى: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ فهذا مصير بئيس وفظيع لهؤلاء، فبئس المكان مكان هؤلاء، وما صاروا وذهبوا إليه يوم القيامة وهو النار.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم...)

يأمر الله عز وجل المؤمنين بأدب من الآداب الشرعية العظيمة فيقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58]، وهذه الآية في الاستئذان الخاص، والآية السابقة كانت في الاستئذان بعمومه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] أي: في أي بيت غير بيتك لا تدخل حتى تستأذن وتستأنس، فإذا كان في بيتك فهناك ثلاثة أحوال لا بد من الإذن فيها، فخصص هنا وقال: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أي: العبيد الذين تملكونهم في بيوتكم، وكذلك والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58] أي: الأطفال الصغار، والطفل متى فهم ووعى وعرف العورة واستحيا منها فإنه يؤمر بالاستئذان، ولذلك قال الزهري حين سئل عن عُمْر هذا الذي يستأذن؟ فقال: أربع سنوات، يعني في هذا السن يعرف العورة، وإذا نظر يستحي من هذا الشيء، فعلى ذلك يعلم الصبي أنه لا يفتح الباب ولا يدخل على أبيه وأمه إلا بعد أن يستأذن، فيعلَّم في هذا السن.

والصبي ليس مكلفاً ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بقوله: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ أي: ليستأذنوكم أنتم لكن لا يأثم إن دخل دون استئذان وإنما هو تعويد حتى لا ينظر إلى شيء يتأذى به ولا يفهمه، فقد يدخل الصبي الصغير ويفتح الباب ويجد الأب يجامع الأم، فهذا منظر بالنسبة له يجعله يتحير فيه، ولعله يمرض بسببه، وكم رأينا من أصيب بعقدة نفسية في حياته من صغره بسبب أنه نظر لشيء لا يفهمه، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يؤدب المؤمنين ويؤدب الصغار والكبار ويعلمهم أن الصغير يستأذن طالما أنه يعقل ويفهم ذلك، فإذا أراد أن يدخل باباً مغلقاً فيه الأب أو فيه الأم، أو فيه الأخ، أو فيه الأخت فإنه يستأذن في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأن هذه الأوقات هي مظنة أن يكون الإنسان فيها عارياً، فقال سبحانه: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثلاث مرات يعني: الأطفال الصغار الذين يفهمون العورات، يستأذنون ثلاث مرات، وهنا المقصد أن يستأذنوا في الأوقات الثلاثة التي سيأتي بيانها، وليس المعنى أنه يستأذن ثلاث مرات ويقول: أأدخل؟ أأدخل؟ أأدخل؟ لا؛ لأن بقية الآية يوضح مقصد الله سبحانه وتعالى من الثلاث المرات، فقال تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ، فهذه هي الأوقات الثلاثة التي الغالب فيها أن الإنسان وخاصة في الحر يدخل غرفة نومه، ويخلع ثيابه، فلعله ينام وليس عليه إلا ما يستر العورة المغلظة فقط.

وإذا كان الصغير الذي هو غير مكلف ومرفوع عنه القلم ومع ذلك هو مأمور بأن يستأذن، ومأمور الولي أن يعلمه أن يستأذن فكيف بالبالغ الكبير؟!

قال سبحانه وتعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ يعني: هذه الأوقات الثلاثة أوقات قد تنكشف فيها عوراتكم وأنتم نائمون أو مستيقظون، ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ يعني: هي ثلاث عورات لكم، فهنا المبتدأ محذوف، والخبر فيها (ثلاثُ) على قراءة الجمهور، وأما شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف فقرءوا: (ثلاثَ عورات لكم) يعني: كأن هذه الأوقات أوقات عورات لكم.

فقوله: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ أي: حرمنا على الإنسان فيها أن يفتح باباً مغلقاً في هذه الأوقات حتى يستأذن مَن بداخلها، لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ أي: ليس عليكم أنتم أن تفتحوا باباً في بيتكم، فيدخل بعضكم على بعض، لكن في الماضي كانت الغرف ليس لها أبواب، وإنما عليها ستور، فكان الواحد يفتح ستره ويدخل بسهولة، فالله عز وجل علم أدب الاستئذان سواء الستر موجود أو الباب مغلق، ففي غير هذه الأوقات عادة الإنسان أنه يلبس فيها ثيابه، فلا بأس أن يدخل بعضهم على بعض، إلا أن يكون الباب مغلقاً، فإذا كان الباب مغلقاً فلا أحد يفتح باباً ويدخل فيه؛ لعل إنساناً يبدل ثيابه، ولعله يكون متعرياً، فطالما أن الباب مغلق فإن عليه أن يستأذن.

إذاً: في هذه الأوقات الثلاثة قد يكون الباب مفتوحاً بالليل مثلاً وعليه ستارة، ويكون وراء الستار الرجل مع امرأته أو نحو ذلك، فنهى عن الدخول فيها دون استئذان؛ لأن هذه الأوقات مظنة انكشاف العورة.

قال سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ، فهنا الخطاب في قوله (عليهم) للعبيد الذين ملكت أيمانكم، وأما الأطفال الصغار فليس عليهم إثم أصلاً، وإنما الإثم على الكبير البالغ.

وقوله: (جناح) يعني: إثم قوله: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ يعني: يطوف بعضكم على بعض؛ لأن العادة في بيت الإنسان أن أبواب الغرف تكون مفتوحة، ويدخل من مكان إلى مكان ويتحرك براحته في بيته، ولكن في هذه الأوقات يراعي الإنسان أن يستأذن حتى لا ينظر إلى أمه أو إلى أبيه وهما على حال لا ينبغي أن ينظر إليهما فيه.

فقوله: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ يعني: في سائر الأوقات، قوله: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ [النور:58] يعني: كهذا البيان العظيم الواضح، فالله عز وجل يوضح لكم دينكم ويوضح لكم آدابكم، فهو سبحانه لا يستحيي من الحق، فعلى ذلك هنا تأمر ابنك أن يستأذن، وتعلمه أدب الاستئذان من صغره، حتى يتعود على ذلك، فإذا كبر لا يفتح باباً مغلقاً أبداً حتى يستأذن مَن بداخل هذا المكان.

قال سبحانه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ [النور:58] أي: بما تحتاجون إليه وبما ينفعكم، حَكِيمٌ [النور:58] في أمره سبحانه، فكل ما يأمر به مبناه على حكمته سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا...)

قال تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:59].

يعني: هذا الطفل الصغير إذا كان يعود على الاستئذان، فإنه حين يبلغ الحلم من باب أولى أن يستأذن كما استأذن الكبار قبل ذلك، وإلا يكون عليه الإثم في ذلك.

قوله: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي: الاحتلام، وهي علامة البلوغ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ يعني: البيان واضح وليس بخفي وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:59]، فإذا اتضح لك هذا البيان فلا يحل لك أن تفعل ما نهاك الله عز وجل عنه.

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النور [56 - 59] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net