إسلام ويب

سورة فاطر من السور المكية، وفيها إثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيته على ما يلاقيه من قومه، وفيها تذكير الناس بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، كما أن فيها كشف نوايا الكفار وبيان غلطهم في عبادتهم غير الله، وفيها إنذارهم وتخويفهم من عذاب الله عز وجل، وغير ذلك مما بين وذكر في هذه السورة العظيمة.

ترتيب سورة فاطر

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد:

قال الله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:1-2].

هذه السورة الخامسة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى وهي من السور المكية التي كان نزولها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بزمن.

وسورة فاطر في ترتيب سور النزول هي الثالثة والأربعون من كتاب الله عز وجل، نزلت بعد نزول سورة الفرقان، وقبل نزول سورة مريم، فهي من السور المكية التي نزلت في أوائل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

عدد آيات سورة فاطر

وهذه السورة عدد آياتها ستة وأربعون آية حسب العد المدني الأخير وحسب العد الدمشقي أيضاً، وحسب المصاحف الدمشقية، وأربعة وأربعون آية حسب العد في المصحف الحمصي، وخمسة وأربعون آية في باقي المصاحف.

وكما ذكرنا قبل ذلك: أن الخلاف في عد الآي يرجع إلى الوقف، أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقد يكون بعض القراء عدوا آية واحدة عدها البعض الآخر آيتين، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في وسط هذه سسسالآية، هذا هو سبب الاختلاف في العد، وليس زيادة آية أو نقصانها.

أسماء سورة فاطر

وهذه السورة اسمها سورة فاطر؛ لأنه بدأها سبحانه بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، وتسمى أيضاً بسورة الملائكة، لقوله سبحانه: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]، فذكر الله عز وجل الملائكة مثنى وثلاث ورباع، فتسمى بسورة الملائكة؛ لذلك تجد بعض المفسرين يذكرون أنها سورة الملائكة، والأكثرون على أنها سورة فاطر، وهذه التسمية سواء كانت سورة الملائكة أو سورة فاطر لا تغير ما تحويه السورة.

خصائص سورة فاطر

هذه السورة سورة مكية فيها خصائص السور المكية، مثل الاهتمام بأمر العقيدة وأمر توحيد الله سبحانه، والتركيز على الحساب والجزاء، وعلى ذكر يوم القيامة والبعث والنشور، والجنة والنار، وذكر أهل الجنة، وذكر أهل النار، وفيها إثبات تفرد الله سبحانه وتعالى بالإلهية، وأنه الإله وحده الذي يستحق أن يعبد دون غيره، فبدأها بقوله: (( الحمد لله )) يعني: كل الحمد له وحده لا شريك له سبحانه وتعالى، وجاء التأكيد على هذا المعنى في ثنايا السورة، فإنه مستحق للحمد على ما أبدع من الكائنات وخلقها سبحانه وتعالى، وهذه الكائنات فيها دلالة على أنه متفرد بالخلق والأمر وحده لا شريك له.

أغراض سورة فاطر

هذه السورة من أغراضها إثبات صدق النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما جاء به من عند الله سبحانه، وأنه جاء بالذي جاء به الرسل من قبله عليهم الصلاة والسلام.

وفيها أيضاً: إثبات البعث وإثبات الدار الآخرة.

وفيها: تذكير الناس بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، كنعمة الإيجاد، فإنه أوجدكم سبحانه، ونعمة الإمداد؛ فإنه يمدكم ويعطيكم من فضله سبحانه وتعالى.

وما يعبد المشركون من دون الله لا يملكون من قطمير، كما قال سبحانه: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].

أيضاً فيها: تثبيت النبي صلوات الله وسلامه عليه على ما يلاقيه من قومه، فيصبره ربه سبحانه وتعالى بما في هذه السورة من ذكر ذلك.

كذلك فيها كشف نوايا هؤلاء الكفار في إعراضهم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأن ما منعهم من ذلك إلا أنهم تعززوا، وحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو فيه من رسالة من عند الله، فحسدوه وأخذتهم العزة بالإثم.

وكذلك فيها الإنذار لهؤلاء وتخويفهم بأن ما حل بالسابقين قد يحل بهم كذلك.

وفيها أيضاً: الثناء على الذين تلقوا كتاب الله سبحانه وتعالى، وتلقوا هذا الإسلام العظيم بالتصديق، وبضد ذلك حال المكذبين.

كذلك فيها تذكير الناس بأنهم يودون أن يرسل الله عز وجل إليهم رسولاً، فلما جاءهم رسول من عند رب العالمين كفروا به، وكذبوا وأعرضوا، فيذكرهم: ألم تكونوا تسألون الله سبحانه أن يرسل إليكم رسولاً؟

كذلك فيها أنه لا مفر لهم من حلول العذاب بهم على تكذيبهم، وقد شاهدوا آثار الأمم السابقة كيف فعل الله عز وجل بهم، فلا يغتر هؤلاء بإمهال الله سبحانه وتعالى، ولا يغتروا بالشيطان، قال سبحانه: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5].

هذه مجمل أغراض هذه السورة، وهي كلها من خصائص السور المكية.

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً...)

هذه السورة بدأها الله سبحانه بقوله: 3الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر:1] وقدمنا أنه في كتاب الله عز وجل خمس سور افتتحها الله سبحانه وتعالى بهذا الحمد العظيم له وحده، وهي: سورة الفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وكذلك هذه السورة سورة فاطر، وكلها سور مكية، وكأن الخطاب موجه للخلق: (اعبدوا الله)، فرفض الكفار أن يعبدوه، وأن يشكروه سبحانه، وأن يحمدوه، فقال: (الحمد لله) أي: هو مستغنٍ عن حمدكم، ومستغنٍ عن شكركم وعبادتكم، فهو سبحانه وتعالى جعل له عباداً يعبدونه من الملائكة، عبدهم لنفسه سبحانه وتعالى، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وخلق من الإنس ومن الجن من هم أولى بعبادته سبحانه وتعالى، وهو غني عن الخلق جميعهم.

وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1] الحمد كما قدمنا هو بمعنى: الثناء الجميل والحسن على الله سبحانه وتعالى بأفعاله العظيمة الحسنة الجميلة، فهو يحمد بما يستحقه وبما هو أهل له، ويثنى عليه بجميل فعله سبحانه وتعالى.

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، في هذه السورة اسمان له عز وجل: اسمه (الله)، واسمه (الفاطر) و(الله) بمعنى: المألوه، فالله هو المعبود الذي يؤله ويعبد سبحانه وتعالى، فالخلق يعبدونه وحده لا شريك له، فقد أمرهم بعبادته فقال: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32].

وفطر الشيء بمعنى: خلقه، وبمعنى: أوجده على غير مثال سابق، وبمعنى: اخترعه وابتدعه.

فقوله: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، أي: أوجدهما ولم يكن قبل ذلك مثال لهما عمل على شكله وعادة الناس في الاختراعات أنهم يقلد بعضهم بعضاً، فهذا صنع شيئاً والثاني طور هذا الشيء، والثالث طوره إلى شيء آخر، فالطائرة التي تطير كيف وصلوا إلى صناعتها؟ بدءوا يفكرون كيف تطير هذه الطيور، والطيور من خلق الله سبحانه وتعالى، فجاء العباس بن فرناس وعمل له جناحين، وحاول أنه يطير من على الجبل بالجناحين، فوقع على الأرض، والذي بعده طور هذا الشيء، والثاني يطور ويطور، إلى أن اخترعوا الطائرة والصاروخ.

فالإنسان يخترع، لكنه يقلد من كان قبله أو يقلد خلقاً خلقه الله سبحانه وتعالى، لكن الله حين أوجد السماوات والأرض لم يكن قبلها سماء يخلق مثلها، ولم يكن قبل الأرض أرض أخرى يخلق مثلها، ولكن هو الذي فطرها، أي: أنشأها أول مرة ولم يكن لها مثال سابق قبل ذلك.

فالله عز وجل فاطر السماوات والأرض، أي: خلقها على غير مثال سابق، وابتدع إنشاءها،وأتقن صنعها، فهو فاطر، أي: خالق هذه الأشياء التي ليست على مثال سابق قبل ذلك.

يقول عبد الله بن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، أي: ما معنى فاطر السماوات الأرض؟ لأن فاطر معناه: خالق، وخالق تحتمل معنى الخلق، وتحتمل معنى التقدير، لكن هناك فرق بين فاطر وخالق.

فهنا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ما كنت أعرف معنى هذه الكلمة إلى أن جاء أعرابيان يختصمان إليه في بئر، فقال أحد الأعرابيين: أنا فطرتها. فتبين لـابن عباس الآن معنى فطرها، أي: أنا حفرتها وأوجدتها قبل أن تكون قبل ذلك.

فقول الأعرابي: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها، وعلى هذا فمعنى: (فاطر السماوات والأرض)، أي: الذي ابتدأ خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق.

وقوله: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]، الله عز وجل يذكر الآيات العظيمة، مثل خلق السماوات وخلق الإبل وغيرها، كما قال سبحانه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:17-18]، فتتفكر في هذه السماء العظيمة، وتتفكر في الكون وفي الخلق الذي أمامك، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190].

ولما نزلت هذه الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190] التي في آخر سورة آل عمران قال النبي صلى الله عليه وسلم في صبيحة نزولها: (لقد أنزل عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها)، فلما يقرأ الإنسان: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.. [آل عمران:190] لا يجعل الآيات تمر هكذا على أذنه كأي شيء يسمعه، ولكن عليه أن يتدبر ويتفكر في خلق هذه السماوات،ويتفكر في السماء التي لا يصل إليها أحد أبداً، وفي النجوم التي في السماء، يقولون: إن أقرب نجم من هذه المجموعة إلينا يبعد عنا أربعة ونصف مليون سنة ضوئية، فمن يستطيع أن يصل إلى هذه المسافة؟ وكيف يصل إلى هذه المسافة بشر؟ مستحيل أن يصل إنسان إلى نجم من هذه النجوم، فإنه يريد أعماراً حتى يصل إليها، والبشر إنما وصلوا إلى ما حوال الأرض في فلك الأرض نفسها، والمجموعة الشمسية التي حول الشمس منها الأرض، ومنها الزهرة ومنها القمر ومنها المريخ وغيرها من المجموعة التي تدور في فلك واحد قريبة من بعضها، فقد يصل الإنسان إلى ذلك، أما أنه يصل إلى نجم من النجوم فلا، بل مستحيل أن يصل إليه.

وهذه النجوم البعيدة جداً في السماء جعلها الله سبحانه زينة للسماء الدنيا تحت السماء الدنيا، والإنسان لا يصل إلى هذه السماء، والسماء فيها مجرات، وفيها كواكب وشموس وأقمار، والمجرة التي نحن فيها تسمى بمجرة درب التبانة؛ ويشبهونها بالتبن، لأن منظرها مثل التبن وهذه المجرة عدد الكواكب التي فيها والأقمار والشموس مليارات، والأرض كوكب من الكواكب التي فيها، وهي أصغر الكواكب فيها، وهناك كواكب أخرى كثيرة أكبر منها بكثير.

هذه المجرة التي نحن فيها التي اطلع العلماء على وجه واحد فقط منها، وهو الوجه المواجه للأرض فقط، أما الذي خلفها والذي تحتها فإلى الآن لم يعرفوا عنه شيئا، يقولون: الذي قدرنا أن نحصي منها كذا وكذا مليار من الشموس ومن الأقمار، أي: في هذا الجزء الذي أطلعهم عليه ربنا، وكل يوم يخترعون شيئاً ينظرون به إلى هذه الأشياء، فتجدهم يقولون: اكتشفنا اليوم أن هذا نجم على بعد كذا سنة ضوئية، واكتشفنا نجماً آخر على بعد كذا، بل نقرأ في الجرائد أنهم عملوا في أمريكا تلسكوباً جديداً المرآة التي تتبعه تبلغ حوالي أربعين متراً أو نحو ذلك، وفيها أشياء يستطيع الشخص أن ينظر بها على بعد مئات الكيلو مترات، ولو أن شمعة تحترق على بعد كذا مليون كيلو متر لرأوها وهي تحترق بهذا التلسكوب، هذا التلسكوب صنعوه من أجل أن ينظروا به في خلق الله سبحانه وتعالى، ويجدون العجب العجاب، يجدون الكون الذي لا يتناهى، ويجدون أن الكون ممتلئ بالشموس والأقمار والنجوم، وكل شيء في فلكه يدور ويجري ليس فيها شيء يصطدم في شيء آخر، بل يسيرها الله سبحانه وتعالى في دقة متناهية، ويجدون أشياء عجيبة جداً، فالإنسان يتفكر في هذه الأشياء العظيمة، من الذي دبر أمرها؟ ومن الذي أوجدها؟ ومن الذي جعلها في هذا المدار التي هي فيه تدور ولا يرتطم بعضها ببعض؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي قال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190].

فالله سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض وجعلها للإنسان، وعمرها له، وجعلها صالحة لأن يعيش عليها، وخلق له فيها الماء، وأخرج له فيها المرعى، وجعل له طعامه منها، وجعل له حيوانات يحمله عليها، ودبر أمرها، وما من شيء إلا والله عز وجل يعلم عنه كل شيء، كما قال عز وجل: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:8-9]، وقال: .. وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] فكل شيء عند الله في كتاب مبين، فعندما تتفكر في النمل الذي يسير في الأرض تقول: كم نملة يا ترى في هذه الأرض؟ ولماذا خلقها الله سبحانه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل هذا النمل الذي أوجده الله سبحانه على الأرض.

فالإنسان يتفكر، وتفكير الإنسان قاصر؛ لأنه ينظر من جهة واحدة فقط، لكن لم يحط بكل شيء علماً.

فالله بديع السماوات والأرض، وفاطر السماوات والأرض، جعل لكل شيء سبباً من الأسباب، فتجد النمل الذي تتأذى منه يحبه أناس آخرون، ويبحثون عنه، ففي بعض الأماكن مثلاً: يذهبون إلى الغابة ليأتوا بالنمل، ويقطعون أشجاراً من الغابة ممتلئة نملاً فيأخذونها فوق الجمال ويبيعونها في السوق، فيشتريها أناس من أصحاب البساتين التي فيها الموالح فتتسلط على فطريات معينة ومكروبات معينة، والنمل فقط هو الذي يقدر أن يقضي عليها، ولم لم يستخدموا النمل لهلك محصولهم، وهذا شيء عجيب جداً!

لقد خلق الله النمل، وعرفه كيف يجمع غذاءه، فترى كل نملة من النمل تأتي إلى الحبة الموجودة في الأرض، فتخاف أن يأتي عليها الشتاء وتخاف أن تزرع هذه الحبة، فتأكلها من المكان الذي تنبت منه؛ من أجل أن تفسد الحبة ولا تزرع بعد ذلك، فالله سبحانه هو الذي أعطاها هذا التفكير لكي تصنع ذلك، قال عز وجل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا [النحل:68-69]، وهذا من تيسير الله وتدبيره لكونه، فالنحلة كم فيها من منافع؟ يخرج من بطونها هذا الشراب العظيم الذي فيه المنفعة للإنسان، وفيه بفضل الله سبحانه شفاء للناس.

وهكذا تتعجب حين تنظر إلى العنكبوت التي خلقها سبحانه، وهناك آلاف الفصائل من العنكبوت، يقول علماء الحشرات: مستحيل أن الأرض تبقى من غير هذا العنكبوت، لماذا؟ حتى يحصل، التوازن البيئي الموجود، فقد خلقها الله عز وجل من أجل حماية هذه البيئة، يقول أحد هؤلاء العلماء: إني لا أتخيل أن الأرض يكون فوقها حياة من غير وجود هذا الشيء الذي يستقذره الإنسان وينظر إليه بأنه شيء حقير، يقول الله عز وجل: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت:41].

فتتفكر فيما خلق الله سبحانه، فلكل شيء عنده عز وجل قدر وله أجل وله عمل، ويحصي عليه ما يفعله، والله على كل شيء قدير، وهو علام الغيوب سبحانه وتعالى، لذلك يذكرنا في كتابه الذي نقرؤه أن نتفكر في هذا الكون الذي ننظر إليه ونراه أمامنا، وأن نطبق شرع الله.

قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]، ففطر السماوات وعلم ما فيها، وفطر الأرض وعلم ما فيها، وأحصى كل شيء عدداً، فإذا قرأت: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] تفكرت في هذه الآيات، وأن السماوات آية من آيات الله سبحانه والأراضين آية من آيات الله سبحانه، وبعد الشمس عن الأرض حوالي ثمان دقائق ضوئية، ولو أن الشمس اقتربت دقيقة فقط عن المكان التي هي فيه وأصبحت المسافة سبع دقائق بدل ثمان دقائق من الأرض، أصبحت ست دقائق لأذابت الجليد الذي على الأرض، وإذا ذاب الجليد غرقت الأرض كلها، وحصل طوفان على هذه الأرض، فانظر إلى رحمة الله سبحانه، تجد أن المسافة التي بيننا وبين الشمس مسافة ثابتة، والقمر على بعد معين من الأرض، والمسافة التي بيننا وبين القمر ثابتة، قد تتغير شيئاً بسيطاً فيحدث المد والجزر، حيث ينحسر البحر، وبعد ذلك يمتد ماؤه، ولو اقترب القمر أكثر لازداد المد وأغرق الدنيا، فالله عز وجل يقول: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:8-9].

وفي هذه آيات لأولي الألباب، فاستمع إلى أهل العلم وإلى أهل المعرفة بهذه الأشياء، وسترى كيف ينظرون في خلق السماوات والأرض، استمع إلى حديث الدكتور زغلول النجار وإلى طريقته الجميلة المثيرة في عرض هذه الأشياء، لتقول: سبحان الله! إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، كلما تدبر الإنسان وتفكر، وكلما ازداد علماً في هذا الكون ازداد خشية لله سبحانه وتعالى وأحسن عبادة الله.

عظم خلق الملائكة

قال الله سبحانه عن نفسه: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]، أخبرك الله عز وجل عما ترى في السماء من العجب، وأخبرك أن الأرض فيها العجب، فأنت نظرت فوجدت ما قاله الله حقاً.

والآن يخبرك عز وجل عما لا تراه، فتصدق كما صدقت في الأول، فالملائكة خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، جعلهم الله عباداً له مطيعين، كما قال عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فمنذ أن خلقت الملائكة إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى وهم يعبدون الله ولا يعصون لله أمراً، هؤلاء الملائكة أخبر سبحانه أنه خلقهم: أُولِي أَجْنِحَةٍ [فاطر:1].

وقوله: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر:1] أي: رسلاً بين الله عز وجل وبين من شاء ممن اصطفاه الله من خلقه، من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فينزل الملك بالوحي من السماء إلى الأرض، والعادة أن الذي ينزل هو جبريل، وقد ينزل الله عز وجل غيره، فمن الملائكة الرسل بين السماء والأرض جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فإن ملك الموت رسول رب العالمين ليقبض أرواح الخلق، فجعل الله عز وجل من الملائكة رسلاً ينزلون إلى هذه الأرض، لما يشاءه الله سبحانه.

ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ..)، يعني: أنت تنزل علينا في أوقات معينة فلماذا لا تأتي أكثر من ذلك؟ وجبريل عليه السلام يحب النبي صلوات الله وسلامه عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فأنزل الله عز وجل قوله: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ [مريم:64])، فلا تشغل نفسك بذلك، واشغل نفسك بعبادة الله سبحانه وتعالى الذي يرسل الملائكة، واشغل نفسك بالمرسِل وهو الله سبحانه وتعالى عن هذا المرسَل الذي يأتي إليك بأمر الله سبحانه.

وهؤلاء الملائكة العظام عليهم السلام جعل الله عز وجل لهم أجنحة، وأنت تتفكر: لماذا الأجنحة؟ هل هي ليطيروا بها؟ فالمسافة التي بين السماء والأرض مستحيل أن يقطعها صاروخ، أو تقطعها طائرة أو نحو ذلك، لكن الملك يقطعها في وقت قليل جداً، قال تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، ونزول الملك إلى هذه الأرض يكون في وقت يسير جداً، فقد كان ينزل من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة وعشياً في الصباح وفي المساء، والوقت الذي ينزل فيه لا يقدر مخلوق أن يصل إليه إلا في هذا القدر: ألف سنة، فلذلك خلق لهم الأجنحة مثنى ، كلمة (مثنى) معناها: اثنين اثنين، وثلاث يعني: ثلاثة ثلاثة، ورباع يعني: أربعة أربعة، يعني: من الملائكة من لهم جناحان جناحان، ومنهم -من الملائكة- من له ثلاثة ثلاثة، ومنهم من له أربعة أجنحة، فيقضون أمر الله سبحانه وتعالى بحسب ما يأمرهم سبحانه وتعالى.

وقوله: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1] هل هذا أكبر عدد؟ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى جبريل على هيئته التي خلقه الله عز وجل عليها مرتين له ستمائة جناح)، فكان له هذا العدد الضخم من الأجنحة التي خلقها الله عز وجل له.

وأما كيف تكون؟ فلا ندري، فهذا خلق الله، وهو خلق عظيم جداً رآه بين السماء والأرض على هذه الهيئة العظيمة، ولما صعد بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ووصل إلى سدرة المنتهى إذا به يتواضع، إلى أن صار كالحلس البالي، والحلس هو: الشيء الذي تضعه فوق الجمل حتى تقعد عليه، هذا الملك العظيم الذي سدت أجنحته ما بين المشرق والمغرب لما وصل إلى سدرة المنتهى تواضع، فإذا به كالحلس البالي من تواضعه للرب سبحانه وتعالى.

وجاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح)، وحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما رآه في الملائكة فقال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، وإذا كان طول عنقه على هذه الهيئة، فكيف بباقي جسده؟

تفسير قوله تعالى (يزيد في الخلق ما يشاء)

قوله: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] أي: يزيد زيادة عددية وزيادة كيفية في هذا الخلق، وفيما يعطيه من الوصف، فالله عز وجل يزيد في الخلق ما يشاء، فيفنى خلقاً خلقه سبحانه، ويخلق خلقاً آخر جديداً، ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.

فعدد خلقه يزيد، فالبشر كانوا مليوناً ثم صاروا خمسة مليون ولا زالوا يزيدون وهكذا يزيد الجن والملائكة، والله يزيد ما يشاء في العدد وفي كيفية هذا الخلق، فيخلق خلقاً كالخلق الأول، ويخلق خلقاً آخر ليس كالذي خلقه من قبل، وإنما يخلقه بكيفية أخرى جديدة، فالله يفطر الأشياء ويبتدع ما يشاء سبحانه وتعالى.

فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية يقول: يزيد في الخلق ما يشاء ، ويدخل فيها أي شيء يزيده الله سبحانه وتعالى في الخلق من طول في قامة الإنسان أو الحيوان أو غيره، ومن اعتدال في الصور، ومن تمام في الأعضاء، وقوة في البطش ويعطي الحصافة في العقل، ويعطي الصحة في البدن، ويعطي الجزالة في الرأي، ويعطي الجرأة في القلب، ويعطي السماحة في النفس، ويعطي بعداً عن الآفات، ويعطي ذلاقة في اللسان وفي التعبير وفي البيان والفصاحة، ويعطي اللباقة في تكلم الإنسان، ويعطي حسن الهيئة وحسن مزاولة الأمور .. وما أشبه ذلك، فيزيد ما يشاء سبحانه وتعالى لمن يشاء من خلقه، قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر:1]، أي: يفعل ما يشاء سبحانه، ولا شيء يعجزه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها...)

قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2] ففي الآية الأولى قال: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر:1] فلا تعجب، فالله على كل شيء قدير، وهنا يقول: وهو العزيز أي: الغالب الذي لا يمانع، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، ومستحيل أن يعترض أحد على ما يريده الله، فيمنع ما يريده الله، وليس هذا ممكن أبداً.

فالله سبحانه وتعالى هو العزيز الغالب القاهر سبحانه وتعالى.

الحكيم الذي يحكم كل شيء، ويخلق كل شيء بإتقان وبحكمة، فلا يدخل في خلقه خلل، وهو الحاكم على كل شيء، يحكم بأمره ما يريد، المحكم للأشياء سبحانه وتعالى.

فالله هو الغالب ذو الحكمة سبحانه، القاهر الذي له حكمة في كل أمر من أموره، ويحكم كل أمر من أموره.

وقوله: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر:2] أي: برحمته وبقوته سبحانه وتعالى وبحكمته: فلا ممسك لها ، أي: لا أحد يمسك رحمة الله سبحانه إذا فتحها؛ فهو العزيز الذي لا يغالب، ولا يقدر أحد أن يمنع رحمته عن أحد من خلقه سبحانه؛ لأنه العزيز سبحانه.

فإذا أراد أن تمطر السماء فمستحيل أن يمنع الخلق هذا المطر، ولن يستطيعوا أن يمنعوا المطر، فإذا أمسك الله ذلك، وأقحط عليهم دنياهم، فهل يقدرون أن يأتوا بسحابة وينزلوا المطر منها؟ لا يقدرون.

وقوله: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، لا يقدر أحد أن يرسل ما يمسكه الله، فإذا منع الله فليس لأحد أن يقف ويقول: أنا أرسل هذا الذي منعه الله، لا يقدر أبداً، فإذا منع الله أحداً من خلقه رزقاً فلا يقدر أحد أن يأتيه بهذا الرزق ولا بغيره؛ لأن الله هو العزيز الغالب حين أعطى وحين منع سبحانه وتعالى، الحكيم في عطائه وفي منعه.

قال: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ [فاطر:2] أي: لهذا الذي أمسكه ومنعه، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2].

نسأل الله من فضله ورحمته؛ فإنه لا يملكها إلا هو، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة فاطر [1 - 2] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net