إسلام ويب

يذكر القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للعبرة والعظة، وما من أمة إلا وقد جاءها نذير من الله عز وجل يذكرهم بنعم الله سبحانه، ويدعوهم إلى عبادته وحده، وكم من أمم بطرت معيشتها وكفرت بأنعم الله فأذاقها الله العذاب من حيث لا يشعرون، ومن هؤلاء قوم عاد.

تفسير قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين ... فاتقوا الله وأطيعون)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الشعراء: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:123-140] .

تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لجميع المرسلين

هذه قصة أخرى من القصص العظيمة التي يذكرها لنا ربنا سبحانه وتعالى في سورة الشعراء بالسياق نفسه الذي ساقه قبل ذلك، كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105]، فذكر أن قوم عاد كذبوا المرسلين، مع أن رسولهم كان رسولاً واحداً، فقال الله عز وجل: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]؛ لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، فكل رسل الله عليهم الصلاة والسلام دعوتهم واحدة، فهم يدعون إلى عبادة الله، قال تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:61]، فهم يدعون أقوامهم إلى توحيد الله، وإلى دين رب العالمين، فمن كذب واحداً منهم فيما يأمر من توحيد الله فقد كذب جميع رسل الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ [الشعراء:123]، ذكر الله سبحانه هذه القبيلة، وذكر ثمود وذكر قبل ذلك قوم نوح، وذكر إبراهيم، والعرب يعرفون تماماً من هؤلاء، وذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكرر ذلك في القرآن في مواطن كثيرة، وأهل الكتاب يعرفون ذلك تماماً، فالله سبحانه خاطب الجميع بأنه أرسل رسلاً يعرفهم العرب ويعرفهم أهل الكتاب، فموسى عرفه أهل الكتاب، وأخبر الله عز وجل عن أشياء تفصيلية في قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يعرفها إلا من قرأ التوراة، واطلع على كتب أهل الكتاب، وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ التوراة ولا الإنجيل، ولم يقرأ كتاباً قط، ولم يكتب صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج خارج مكة ليتعلم من أحد وإنما خروجه كان في تجارات ورحلات معلومة معدودة، فإن بعض أهل مكة خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الرحلات كان معه عمه أبو طالب ، والكل يعرفون أين يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم في تجارته، وكيف يرجع، وهو لم يقابل أهل الكتاب ويجلس معهم ليستمع منهم مثلاً، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فحين يجدون تفصيلات عجيبة في هذا القرآن عن ذكر الأنبياء السابقين لا يعرفها إلا من اطلع على الكتب السابقة فإن ذلك يدل على أنه يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه من عند رب العالمين.

فقوم عاد كانوا في جنوب الحجاز بين الحجاز واليمن، وقوم ثمود كانوا في شمال الحجاز بين الحجاز وبين الشام، فقد كان لقريش رحلتان، قال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:1-2] ، فكانت لهم رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف، فيتوجهون إلى الشام ويتوجهون إلى اليمن في رحلتين تتكرران دائماً، فإذا ذهبوا إلى الشام مروا على ديار ثمود، وكانوا يعرفون وعرفوا أن قوم ثمود كانوا هنا، وهنا أهلكهم الله، وحجر ثمود معروف، وإذا ذهبوا إلى اليمن مروا على ديار عاد، وعرفوا أن ديار عاد كانت هنا، وأهلكهم الله عز وجل في هذا الموطن، ويعرفون أن في هذا البلد الأمين الذي هم فيه كان إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان ابنه إسماعيل كذلك، وقد دعاهم إبراهيم ودعاهم ابنه إسماعيل إلى توحيد الله سبحانه فإذا بهم يعبدون أصناماً من دون الله، وقد رأوا ما حاق بالأمم من قبلهم، فهؤلاء قوم عاد أهلهكم الله في هذا المكان الذي عرفتم، وهؤلاء قوم ثمود أهلكهم الله عز وجل في هذا المكان الذي عرفتم.

يقول سبحانه: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ [الشعراء:123-124] أي: كذبوا لما قال لهم أخوهم ورسولهم هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:124] ، فيخاطب قومه: ألا تتقون الله سبحانه وتعالى فتوحدونه وتؤمنون به وتعبدونه وتطيعونني فيما جئتكم به من وحي من عند رب العالمين؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:125]، فهو رسول يدعوهم إلى الله، ويدعوهم إلى التوحيد وإلى شرع رب العالمين سبحانه، فقال: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:125] يعني: مؤتمن من عند رب العالمين على هذه الرسالة، وقد عرفتم أنتم أمانتي، فما من رسول يبعثه الله عز وجل إلى قومه إلا وهم يعرفون سلفاً أنه أمين، وأنه لا يكذب، وأنه لا يقع في الفواحش ولا في الذنوب، فالرسل عليهم الصلاة والسلام يذكرون أقوامهم بقوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:125] أي: قد عرفتم أمانتي، فإذا لم أكن قد خنتكم قط قبل ذلك فكيف أخون الله رب العالمين سبحانه وأبلغ شيئاً لم يقله؟ وإذا لم أكن كذبت عليكم يوماً من الأيام فكيف أكذب على الله سبحانه؟!

قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:126] ، دعاهم ليتقوا الله، وحثهم على ذلك، وأمرهم بذلك: اتقوا الله وأطيعون، وهذه كسابقتها قراءة الجمهور: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:126]، وقراءة يعقوب وصلاً ووقفاً: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي).

تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)

قال تعالى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:127] أي: لا أسأل أحداً من الناس أجراً ولكن: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ[الشعراء:127] ، و(إن) هنا بمعنى: (ما)، و(ما) و(إلا) من أدوات القصر، فإذا قيل: ما في الدار إلا فلان فمعناه: ليس في الدار أحدٌ إلا فلان، فإذا قال: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ[الشعراء:127] يعني: لا أنتظر أبداً أجراً من أحد من الخلق، وإنما أنتظر الأجر من الخالق سبحانه وحده لا شريك له، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ[الشعراء:127]، وهذه كسابقتها أيضاً فيها قراءتان، فهذه القراءة إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ[الشعراء:127] هي قراءة نافع وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم ، وأما باقي القراء: شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب فيقرءون: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)، إذاً: تقرأ بالفتح وبالسكون.

تفسير قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون)

لقد ذكر الله عز وجل عاداً فقال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، فقوله تعالى: إِرَمَ [الفجر:7] هو جدهم، فعاد إرم هم أحفاد إرم، فالقبيلة أبوهم عاد وأبو عاد إرم وأبوه سام وأبوه نوح، فهو عاد بن إرم بن سام بن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهؤلاء القوم يذكرهم نبيهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو أخوهم هود، وليس شرطاً أن يكون له أخوات من هؤلاء، ولكنه ابن من أبناء القبيلة يشترك مع هذه القبيلة في جدهم الذي هو سام بن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

فيخبر ربنا سبحانه هنا أن هوداً قال لقومه: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128]، الريع: هو المنطقة المرتفعة أو الطريق الممتد، فهؤلاء كأنهم لفراغ أوقاتهم يلعبون ويبنون آية، والآية: هي البرج العالي الذي يكون للملك، فيطلع منه على الناس، أو أبراج يربي فيها الحمام ويلعب به، أو أبراج لمراقبة الناس حتى إذا مروا من عندها أخذوا من المارين خراجاً أو مالاً، فقال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ [الشعراء:128] الريع: هو المكان المرتفع من الأرض هذا قول، أو الطريق الواسع وهذا قول آخر، أو أنه الفج الذي بين الجبلين، أو الثنية، يعني: المرتفع الصغير من الأرض، أو المنظرة.

وذكر الله سبحانه تعالى أن هؤلاء القوم كانوا جبارين، وكانوا يبطشون بطشاً شديداً بلا رحمة، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ [الفجر:6] أي: الرؤية البصرية، والرؤية هنا: هي الاطلاع عن طريق ما أخبر الله عز وجل في كتابه، يعني: ألم تعلم مستيقناً كأنك ترى ذلك، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ [الفجر:6] إشارة إلى قوتهم والتعجب مما فُعِلَ بهم، وقوله تعالى: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [الفجر:7] أي: أولاد إرم ذات العماد، فقد كانت بيوتهم عالية جداً، ولها أعمدة عالية؛ لأن أجسامهم كانت عظيمة، وكانوا طوالاً وعراضاً، فاغتروا بقوتهم وأجسامهم حتى إنهم كانوا يبطشون بغيرهم من الخلق بتجبر وعتو، فالواحد منهم يضرب ويقتل غيره من غير سبب ومن غير ذنب، فيقول لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128] يعني: ليس لكم حاجة في بنائها، إنما هي زيادة في اللعب والعبث في ذلك، فإذا مر قوم من غير البلاد يضربونهم ويقتلونهم، ويأخذون أموالهم ويخيفون من حولهم.

تفسير قوله تعالى: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون)

قال الله تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129]، إذاً: بناؤهم ليسوا هم في حاجة إليه، وإنما للفخر وإظهار الجبروت على غيرهم، فالله يملي لهم ويقول: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، فأملى لعاد، وذهب إليهم رسولهم عليه الصلاة والسلام هود يدعوهم إلى الله سبحانه ويقول لهم: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129] ، والمصانع لها معانٍ وكلها مقصودة هنا، فمن معاني المصانع: الحصون المشيدة، أي: يبنون حصوناً ويشيدونها، ظناً منهم أنهم سيخلدون بهذه المصانع، ومن معاني المصانع أيضاً: القصور المشيدة، أي: تتخذون حصوناً وقصوراً، وقالوا أيضاً: من معاني المصانع: أماكن جمع الماء، أي: يحفرون في الأرض آباراً عظيمة للمياه، فالله عز وجل يخبر أنهم يفعلون هذه الأشياء وكأنهم سيخلدون إلى الأبد.

فقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129] أي: ترجون بذلك الخلود والعيش دهوراً طويلة، ومن الحماقة التي نسمع عنها في هذا العصر الحديث هو محاولة بعض الجهلة المغفلين إطالة عمر الإنسان، ويجرون في ذلك أبحاثاً ويزعمون أنهم قد وصلوا في بحثهم إلى الشيء الذي يطيل عمر الإنسان أو يقصره، ونسوا أن الله هو الذي كتب على العباد أن آجال الأمة من كذا إلى كذا، ومستحيل أن تزيد هذه الآجال التي حددها الله عز وجل، ففي العصور القديمة مد الله لهم في أعمارهم، وجاءت هذه الأمة فجعل الله أعمارها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين) يعني: غالب أعمار هذه الأمة على ذلك ما بين الستين إلى السبعين، والقليلون من يجاوزن ذلك إلى المائة أو إلى المائة والعشرين، وقوم عاد اتخذوا هذه المصانع يرجون بها الخلود، فيقول لهم نبيهم: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ [الشعراء:129] مؤملين أن تخلدوا ولا تموتوا أبداً، وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وهذا استفهام توبيخي، يعني: تريدون أن تخلدوا، ولن يكون ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين)

قال تعالى: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] ، هذه مصيبة أخرى من مصائبهم، فقد كانوا كفاراً فدعاهم هود إلى الله سبحانه وتعالى، وكانوا أهل لهو وعبث فدعاهم إلى ربهم سبحانه أن يتوبوا ويتركوا هذا اللهو والعبث، ويأتوا لعبادة رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن مصائبهم أن بطشهم كان شديداً، وأصل البطش: الإمساك، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصعقة التي تكون يوم القيامة يقول: (يصعق الناس فأكون أول من يفيق -صلوات الله وسلامه عليه- فإذا بموسى عليه الصلاة والسلام باطش بساق العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم لم تصبه هذه الصاعقة) ، فلا يدري النبي صلى الله عليه وسلم هل موسى قام قبله صلى الله عليه وسلم أم هو ليس ممن صعقوا في هذه الصاعقة، ومعنى باطش: أي بساق العرش.

ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه في عبده المؤمن: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها -أي: يمسك بها-، ورجله التي يمشي بها).

فالله عز وجل إذا أحب العبد كان له سمعه الذي يسمع به، يعني: لا يسمع إلا ما يرضي ربه سبحانه، وكان الله عز وجل معيناً لهذا الإنسان في بصره، فهو يراقب الله سبحانه وتعالى، ولا ينظر إلا إلى ما أحل الله، ولا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه، (ويده التي يبطش بها) كقوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

فالإنسان يمسك بعدوه والله يعينه ويمكنه منه سبحانه وتعالى، فهذا هو البطش.

يقول تعالى: وَإِذَا بَطَشْتُمْ [الشعراء:130] أي: أخذتم عدوكم، بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] أي: أمسكتم إمساكاً فيه الموت، يضرب الضربة يقتل بها غيره، فقوله تعالى: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] أي: سطوتم بعنف على غيركم من الناس فبطشتم بهم وقتلتموهم، فالبطش من معانيه: القتل، فيقتلون غيرهم من غير جريمة، أو على شيء لا يستحق معه أن يقتل، فقالوا: هو القتل على الغضب من غير تثبت، بل بمجرد أن يغيظه يضربه ويقتله، فهذا بطش الجبارين الذين نهانا ربنا سبحانه وتعالى عن مثله، وأمر عباده أن يزينوا أمرهم بالحلم، فلا يكونون متسرعين مندفعين متهورين، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ولكن الله أعطاه الرقة صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن فظاً ولا غليظاً ولا صخاباً في الأسواق عليه الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: جَبَّارِينَ [الشعراء:130] الجبار يأتي بمعانٍ، فالله الجبار القوي سبحانه وتعالى، فأخذه شديد، والجبار يأتي من الجبر، والجبر: الإصلاح، فالله يجبر ما يفسد وينكسر من خلقه، فهو يجبر خلقه سبحانه وتعالى، فإذا انكسر إنسان أقامه الله سبحانه ورأف ولطف به سبحانه وتعالى.

وأما هؤلاء فجبارون بمعنى: أنهم قساة عتاة يضربون فيقتلون، فقالوا: الجبار من الناس هو القتّال في غير حق، يعني: يقتل من غير وجه حق، قالوا: وكذلك قوله سبحانه: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ [القصص:19]، يقولها لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أراد أن يبطش بالذي هو عدو له، فموسى أراد أن يمسك هذا العدو ويضربه فقال: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا [القصص:19] أي: تريد أن تقتل الناس من غير وجه حق.

ومن معانيها أيضاً: الجبار: المتسلط العاتي على غيره، ومنها قول الله عز وجل: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق:45]، فليس جبار صلوات الله وسلامه عليه ولكنه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون ... وجنات وعيون)

قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:131]، فكررها مرة ثانية، فقد ذكرها في البداية وكررها مرة ثانية هنا، فانظروا إلى قوله: أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:124]، فحثهم على تقوى الله سبحانه وتعالى بأسلوب فيه لطف، ثم أمر: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:131] ، ثم بين أنه لا يطلب منهم أجرة في الدنيا وإنما الأجر على رب العالمين، ثم بين لهم الذنوب التي يستحقون بها عقوبة رب العالمين، ثم أمرهم مرة ثالثة بتقوى الله سبحانه، فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:131] ، ثم أمرهم مرة رابعة: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ [الشعراء:132] .

فهذه أربع مرات يحثهم ويأمرهم بتقوى الله سبحانه وتعالى.

وتقوى الله: أن تجعل حجاباً بينك وبين عقوبة رب العالمين سبحانه، فلا تقع في المعاصي، بل تجعل الطاعات لك رحمة يوم القيامة تنجيك من غضب الله سبحانه، فأمرهم وحثهم على أن يتقوا غضب الله عليهم، فهم جبارون ولكن الله إذا أخذهم فأخذه شديد أليم.

وأمرهم هود عليه السلام فقال: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ [الشعراء:132] ، ففي الأمر الأول ذكرهم بذنوبهم، ثم ذكرهم بنعم الله سبحانه، فهل هذه هي المكافأة التي تكافئون بها ربكم سبحانه أن أعطاكم هذه النعم فتكونون جبارين مع الخلق، ولا تراعون في الناس إلاً ولا ذمة؟!

فقوله تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ [الشعراء:132] أي: اتقوا الله الذي أعطاكم ما تعرفونه أكثر من غيركم.

ثم قال تعالى: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ [الشعراء:133] عطاء من الله سبحانه، ووَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء:134]، إذاً: فقد أعطاكم الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وسخرها لكم، وأعطاكم البنين.

والجنات: هي البساتين العظيمة والكثيرة الممتلئة بالثمار، والعرب يمرون على هذه الأماكن فلا يجدون فيها بساتين ولا ثماراً، فقد كانت في يوم من الأيام فيها البساتين وفيها الثمار كما ذكر الله عز وجل لنا هنا، وسترجع مرة أخرى هذه البساتين والثمار في هذه الأماكن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستعود بلاد العرب مروجاً وأنهاراً)، فقوله صلى الله عليه وسلم: (ستعود) معناها: كانت موجودة قبل ذلك وسترجع مرة ثانية، والعلماء الذين نظروا إلى كتاب الله قالوا: فعلاً في يوم من الأيام كانت هذه الأرض فيها البساتين وفيها الأنهار وفيها الثمار، وقد عرف ذلك خبراء الجيولوجيا وعلم الأرض عن طريق الحفريات، وهؤلاء العلماء أنفسهم يقولون: إنها سترجع مرة ثانية في هذه الأماكن، فستجري العيون والأنهار وسترجع فيها الثمار.

وقال تعالى: وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء:134] كلمة عيون في القرآن كله تقرأ بضم العين وبكسر العين: عُيون وعِيون، مثل جُيوب وجِيوب، بُيوت وبِيوت، فـابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي يقرءون: وَعِيُونٍ ، وباقي القراء ومنهم حفص عن عاصم يقرءون: وَعُيُونٍ [الشعراء:134] .

قال تعالى: وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء:134] أي: عيون مياه، والجنات: البساتين.

تفسير قوله تعالى: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ... وما نحن بمعذبين)

قال تعالى: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:135] ، أي: إذا قابلتم هذه النعمة بكفركم بربكم سبحانه، فإذا كان قد أعطاكم النعم فإذا بكم تتفرغون للهو وللعبث، فانتظروا عقوبة رب العالمين سبحانه، وهذا الكلام ليس لهم وحدهم، بل هو لكل إنسان يعتبر بذلك، فالقرآن تذكرة، والله يقول: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، ويقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] ، فالمؤمن حين يقرأ مثل هذه القصة بقيس نفسه على هؤلاء، فهؤلاء أنعم الله عز وجل عليهم، وأعطاهم النعم وجعلهم متفرغين، ففي فراغك أنت اعبد رب العالمين سبحانه، ولا تضع وقتك في اللهو والفراغ والعبث، فإن من جرائم قوم عادٍ كما قال تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130]، فهذه من جرائم هؤلاء القوم، فاحذر أن يكون فيك مثل جرائم هؤلاء من اللهو، والعبث، وتضييع الوقت، والبعد عن عبادة الله سبحانه، والبطش بالخلق بغير سبب أو بأتفه الأسباب، احذر من ذلك فإن الله يؤاخذ على ذلك، ويفضح صاحبه كما صنع بهؤلاء القوم.

فقوله تعالى: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:135] أي: بسبب ذنوبكم ومعاصيكم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو : (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم ترون فيه من الله عز وجل الآيات عليكم، فكان جوابهم: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [الشعراء:136] لن نستمع لك، فقوله تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْنَا [الشعراء:136] يعني: يستوي عندنا أن تنصح أو أن تسكت، أَوَعَظْتَ [الشعراء:136] أي: ذكرتنا أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [الشعراء:136]، وفي كلا الحالتين لن نستجيب لما تقول، والإنسان قد يغتر بنفسه حين يجد نفسه في صحة في عافية، ويغتر بماله ويستكبر حتى على خالقه سبحانه وتعالى، وينسى أن الذي خلقه من تراب وخلقه من نطفة مذرة، وأخرجه ضعيفاً إلى هذه الحياة وصيره قوياً، سيرده مرة ثانية إلى الضعف وإلى التراب، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54] .

فلا تغتر بقوتك فإن بعد القوة ضعفاً، ولا تغتر بغناك فإن بعد الغنى فقراً، ولا تغتر بأن الله مكنك فإنه سيسلب منك ما أعطاك، فقد أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، فهؤلاء القوم ل تنفعهم النصيحة ولم تردعهم الموعظة.

وقالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] أي: أن هذه الأخلاق التي أنت عليها هي نفس الأكاذيب في الزمان الماضي، فقوله تعالى: خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] أي: أن الناس السابقين من قبلك قالوا كذا وماتوا كلهم، ولم يبعث أحد منهم، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] ، فقراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وخلف : إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] ، وباقي القراء يقرءونها: (إِنْ هَذَا إِلَّا خَلْقُ الأَوَّلِينَ).

ويحتمل في قوله تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] أنه من كلام رب العالمين سبحانه فكأنه يعقب على ما قالوه، أي: هذه عادة الأولين، فالأقوام المكذبون من قبل عادتهم أنهم يكذبون الرسل ويقولون مثل هذا الكلام، فتكون كلمة خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] بمعنى: عادة الأولين، ويكون هذا من كلام رب العالمين، أو أنه من كلامهم هم يقولون: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] أي: أن أخلاقك والكلام الذي أنت تقوله هو مثل حال الذين من قبلك، فلم يُنْتفع بكلامهم، فأنت مثلهم.

فقوله تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] الخلق: من الاختلاق وهو الكذب، أي: إن هذا إلا افتراء الأولين، فأنت مثل الكذابين الذين من قبلك، فتأتي كلمة خلق بمعنى: افتراء وكذب، فيكون من كلام هؤلاء، إذ يكذبون رسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام ويقولون: أنت كذاب مفتر كما افترى الذين من قبلك.

قال تعالى: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:138] فقد جزموا بذلك فقالوا: ليس هناك عذاب، وهذا افتراء على الله الكذب، فالكافر يكذب ولا يهتم لكذبه، فيقولون: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:138] فالكافر بطبيعته يكذب على الله ويكذب على الخلق.

تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم ... لهو العزيز الرحيم)

قال الله سبحانه: فَكَذَّبُوهُ [الشعراء:139]، والنتيجة: فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [الشعراء:139] .

فقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ [الشعراء:139] أي: أهلكناهم هلاكاً عظيماً صعباً شديداً ما كانوا يتوقعون مثله أبداً، إذْ منع الله عنهم المطر سنين، فإذا بهم لا يجدون ماء وهم على كفرهم هذا، فأرسلوا وافد عاد الذي يضرب به المثل في الشؤم إلى الحرم؛ كي يدعو لهم ويستغيث لهم، فليس هناك أحدٌ يدعو في هذا المكان إلا أعطاه الله، فذهب وافد عاد إلى هذا المكان، وقبل أن يصل إلى الحرم مرّ على ملك من الملوك فدعاه فجلس عنده ووجد طعاماً وشراباً، فنسي قومه، فذكره هذا الملك عن طريق جاريتين تغنيان بما جاء من أجله، فذهب حتى وصل إلى الحرم، فدعا وقال: اللهم اسق عاداً. فكل الكفار يعرفون أن الله هو الخالق، وأنه هو الرازق، فعندما يحتاجون شيئاً فإنهم يقولون: يا رب أعطنا، وأما العبادة فلا يعبدون الله سبحانه وتعالى، فهذا دعا ربه سبحانه وتعالى وقال: اللهم اسق عاداً، فأراه الله عز وجل ثلاث سحابات في السماء: سحابة بيضاء، وسحابة سوداء، وسحابة حمراء، فاختار السحابة السوداء، فنزلت على عاد فلما رأوها قالوا: قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ [الأحقاف:24] سموم وريح شديدة من عند رب العالمين، بل هو عذاب أليم من عند رب العالمين، يمطر عليهم من الجحيم، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بما ظنوه، قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:24-25].

فقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف:25] فقد دمرت البلد على من فيها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وكانت أجسامهم طويلة كالنخيل فجاءتهم ريح شديدة فاقتلعتهم من الأرض كأنهم أعجاز نخل، قال تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:20]، فأصبح الواحد منهم كالنخلة تقتلع من الأرض وترمى فتنزل على رأسها.

قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [الشعراء:139]، فقد جاءهم العذاب من حيث كانوا يتوقعون الرحمة، وجاءتهم النيران من حيث كانوا يتوقعون الماء، وجاءهم بطش الله سبحانه وهم كانوا يزعمون أنهم جبارون.

قال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12] .

وقال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ [الشعراء:139] فهما كلمتان فقط، فكأنهم ليس لهم قيمة، فقد كذبوا فجاءهم العذاب سريعاً من عند رب العالمين.

قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [الشعراء:139] والآية وموطن العبرة هنا ألا تغتر ولا تعجب بنفسك، ولا تطلب ما لا تقدر عليه، وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى تنفعك طاعتك، ولا تبتعد عن الله فإنك لا تدري متى يأتي بطشه سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:139] أي: أن الأغلبية من الناس ليسوا على الإيمان وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:140] ، ختم هنا بهذا الختام الجميل الذي ختم به كل قصة من هذه القصص، فيذكر الله سبحانه أنه الرب العزيز الحكيم، وأنه الرب الفعال لما يريد سبحانه وتعالى، الخالق، الرازق، الذي يرفع والذي يضع سبحانه وتعالى، الرب الذي يشرع فيأمر وينهى سبحانه وتعالى، قال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ [الشعراء:140] وحده لا شريك له الْعَزِيزُ [الشعراء:140] أي: الغالب القوي القهار الذي لا يغالب سبحانه، المنيع الجانب، فهو يقدر عليكم ولا تقدرون له على شيء، الرَّحِيمُ [الشعراء:140] مع قوته وجبروته سبحانه وتعالى فهو العزيز الرحيم، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:140] فيخوف عباده ثم يرجيهم ويجعلهم يؤملون فضله ورحمته سبحانه.

نسأل الله من فضله ورحمته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الشعراء [123 - 140] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net