إسلام ويب

لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة مستقلة تامة مبينة لجميع الأحكام، مستوعبة لقضايا الزمان، من يوم نزولها إلى يوم القيامة، ففيها الهدى والنور؛ لأنها من عند رب العباد، العليم بما يحتاج إليه الخلق، وإذا كانت قد جاءت الشريعة هكذا فالواجب على المؤمن الإذعان والاستسلام لها والتجرد لاتباعها، والحذر من الأهواء الباطلة، والفرق المخالفة، والأديان الكافرة، والأمم الجاهلة، فـ (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً).

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد:

قال الله عز وجل في سورة الجاثية: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية:18-22].

يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18]، لما ذكر الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وفضلهم على العالمين، كما قال تعالى: وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ [الجاثية:17]، ذكر أنه جعل رسوله صلى الله عليه وسلم نبياً للناس، ورسولاً للخلق جميعهم صلوات الله وسلامه عليه، وأنه جعله على شريعة، أي: على ملة كاملة، وعلى طريق مستقيم قويم، وهو هذه الشريعة.

معنى الشريعة

الشريعة والشرع هو: ما جعله الله عز وجل للعباد منهجاً يسيرون عليه. وهما مأخوذان من الشارع بمعنى: الطريق الأعظم الذي يمشي فيه الناس. ومن مشرعة الماء بمعنى: مكان المياه ومجتمعها الذي يرد عليه الناس فيشربون منه.

فشريعة الله عز وجل التي جاءت من عنده سبحانه وتعالى هي مورد ومنهل الأحكام التي تتلقى من الله عز وجل، وقد جعل الله نبيه على شريعة، وعلى ملة، وهي دين الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل لخلقه، فجعله منهجاً كاملاً في العقائد التي يريد الله عز وجل من العباد أن يكونوا عليها في العبادات، وفي الأحكام الفقهية التي يلتزمون بها، ويعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى بها، وفي الأخلاق، وفي العمل ليوم الدين، وفي الإخلاص، وغير ذلك مما أراده الله سبحانه تبارك وتعالى وبينه ووضحه في هذه الشريعة، وجعل الناس على بصيرة من ذلك.

جهل من لم يدخل في الإسلام ونقص علمه

قال تعالى: (( فَاتَّبِعْهَا )) أي: فاتبع هذه الشريعة، واحذر أن تتبع (( أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ))، من اليهود، والنصارى، والمشركين، فإن هؤلاء علموا ظاهراً من الحياة الدنيا، ولم يعلموا علم اليقين بما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، ومع ذلك لم يدخل الكثيرون منهم في دينه صلوات الله وسلامه عليه، وأبوا إلا الشرك والبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوصفهم الله عز وجل بالجهل، وبأنهم لا يعملون، ولو علموا علم اليقين لدخلوا في شريعة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، بدلاً من أن يلحون ويتعنتون ويطلبون منك أن تفجر لهم من الأرض ينبوعاً أو أن تجعل لهم الصفا ذهباً أو أن تنزل عليهم من السماء ما يشهد أمامهم بأنك رسول من رب العالمين، فهم جهلة لا يعلمون، والله على كل شيء قدير، ولكنه لن يجعل ما يتمناه هؤلاء القوم بأهوائهم حقيقة لهم، ولن يحقق لهم تعنتهم وطلبهم.

تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ...)

قال تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الجاثية:19]، ولن يغنوا كذلك عن أنفسهم من الله شيئاً، فلو اتبعت أهواء هؤلاء لضللت، وحاشا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواءهم، ولكن الله يخاطب نبيه هنا والخطاب لجميع الأمة، فإذا كان الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لو اتبعت هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين لضللت، فكيف يكون أتباع النبي صلى الله عليه وسلم لو اتبعوهم؟ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبعهم: (حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، وقد فعل المسلمون ذلك، حتى صاروا كأنهم منهم، والآخرون لا يقبلونهم أن يكونوا منهم، بل إنهم يستكبرون عليهم، وهم ينظرون إليهم نظرة استعلاء واحتقار لهم، ولما مشى المسلمون خلفهم صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم)، وصدق فيهم أيضاً ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم يجتمعون عليكم، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك قال: (يشد الله قلوبهم)، يعني: يقويهم ويجرئهم عليكم. فيجرئهم علينا عندما نتنازل عن شرع الله عز وجل، ونبتعد عن دينه، فيشد الله قلوب أهل الذمة، فأول ما يصنعون أنهم يمنعون الجزية ولا يدفعونها، ولا يزالون يتقوون إلى أن يدفعها المسلمون لهم، وليس هم الذين يدفعونها، وهذا عندما يترك المسلمون الجهاد في سبيل الله سبحانه، ويتركون شرع الله وراء ظهورهم.

فإذا فعل المسلمون ذلك -وهذا ما حصل- فإن الكفار يفرضون عليهم الإتاوات، ويأخذونها منهم، ويمنعونهم من الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإعلاء كلمته، وحتى ولو قالوا بألسنتهم بأنهم يحكمون بشرع الله، ويعلون دينه، فإن الحقيقة خلاف ذلك، ولا توجد دولة مسلمة تقيم شرع الله سبحانه، إلا ما كان في المملكة العربية السعودية من إقامة الحدود، أما باقي دول الإسلام فكلها تزعم أنها تقيم شرع الله، وأن دساتيرها لا تخالف شرع الله بزعمهم وكذبهم، والناس يصدقونهم في ذلك، في حين أن هذه الدول تلهث وراء الغرب الكافر، وتأخذ تشريعاته، فهذه الدولة تتبع القانون الفرنسي، وهذه تتبع القانون الإنجليزي، وكل دولة تتبع هواها في ذلك.

فضل إقامة الحدود

وأما أحكام شرع الله عز وجل، وحدود كتاب الله، وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يطبق شيء من ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لحد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً)، فلأن يقيموا حداً واحداً من حدود كتاب الله عز وجل، خير لهم؛ لأنهم بإقامتهم لحدود الله سبحانه وتعالى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يفتح عليهم البركات من السماء والأرض، ولكنهم اتبعوا أهواء الكفار.

فمثلاً يقول الكفار: تحرير النساء، وهؤلاء يقولون كذباً وزوراً كما يقول هؤلاء المجرمون: نحرر النساء! ولا يدرون بأن النساء كن عند هؤلاء الكفار مجرد إماء، وكانت المرأة عندهم شيطاناً ورجساً، وقد كان اليهود إذا حاضت المرأة يهجرون البيت كله الذي فيه هذه المرأة؛ لأنها عندهم نجسة.

فقالوا: نحرر المرأة مما كانوا فيه من رق للمرأة، ومن وصفها بأنها شيطان، ومن كونها عندهم لا تعقل ولا تفهم، فقالوا: نحرر المرأة، فإذا بالمسلمين يقولون: نحرر المرأة، ومن أي شيء يحرر المسلمون المرأة؟! لم يبق عندهم إلا أن يحرروها بزعمهم من شرع ربنا سبحانه فيقولون: هي حرة تلبس ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتخرج مثل الذكور، وليس لأحد سلطان عليها، حتى إن بعض الكافرات ممن تكتب في صحف المسلمين تقول: لا بد من تحرير المرأة، ولا مانع من قوامة المرأة على الرجل، وهي أستاذة في الفلسفة، ومع ذلك تتكلم بهذا الشيء!

فقد أصبح كل من هب ودب يتكلم في دين الله عز وجل، حتى هذه المرأة الفاجرة المتبرجة الكافرة تقول ذلك، ولا تستحي أن تقول: لا مانع من قوامة المرأة على الرجل!

والله عز وجل يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34]، فضل الله عز وجل الرجل على المرأة في الخلقة، وجعل له عليها القوامة عليها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).

فقال المشايخ بجواز ذلك، وأنه ليس هناك مانع من أن تتولى المرأة أمر الناس، وهذا الكلام هو في بنت كسرى فقط، وأما باقي الناس فكلهم مفلحون، وكل من يولي أمره امرأة فهو مفلح، ولكن يختلف الفرس!

فهؤلاء الكذابون الأفاكون الذين يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤولون ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه هم الذين جرءوا أمثال هؤلاء الفاجرات على ذلك، وجرءوهن على دين الله سبحانه بفتواهم: أنه لا مانع أن تكون المرأة قوامة على الرجل، ولا مانع أن تكون المرأة رئيسة أو تكون ملكة أو تكون ما تكون، لا مانع من ذلك، مجاملة للغرب الكافر؛ لأنهم في ميثاق الأمم المتحدة أول ما ذكروا في ذلك تحرير المرأة، وأن المرأة تكون كالرجل في كل شيء، ولا بد من موافقة الكل على ذلك، فإذا بحكومات الدول توافق على ذلك، وإذا بالمشايخ يهرعون وراءهم، ويقولون هذا الشيء، فتجترئ هذه المرأة الفاجرة وتقول: ما المانع أن تكون المرأة نصيبها في الميراث كالرجل؟ وأنا شخصياً أوصي بهذا الشيء، وأن يكون ابني كبنتي، ولا تكون البنت أقل من الابن، وتجترئ على كتاب الله، والذي جرأها على ذلك خيبة المشايخ، وخيبة المسلمين.

فإنهم تركوا الدين وراءهم فاجترأت الفاجرات والكافرات والعاهرات بالكلام، وحتى الممثلة الفاجرة المجرمة تتكلم في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وتقول: أنا أرى كذا وكذا!!!

فإذا تكلم أهل الدين قالوا: رجعيون، وقالوا: أصوليون، وقالوا: إرهابيون، وقالوا: متزمتون، فتركوا الدين وراءهم، وأصبح الذين يتكلمون في دين الله الصحفي المأجور العميل، والمرأة الفاجرة المجرمة، والمرأة العاهرة الممثلة، والمغنية، والرقاصة.

وإذا تكلم أهل الدين قالوا لهم: ما لكم ولهذا؟! فنحن ما تأخرنا إلا بهذا الشيء! ألا لعنة الله على الكافرين، فإن شرع الله عز وجل من تمسك به وجعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن ألقاه وراء ظهره قاده إلى نار جهنم والعياذ بالله، فكتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، من أخذ به عصم، ففيه العصمة، ولا تغتر بكثرة الهلكى والفسقة والمجرمين، قال بعض السلف: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، فالهلكى كثيرون، ولكن الزم دين الله عز وجل وشرعه، قال تعالى: َلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ .

فلا تتبع أهواء هؤلاء، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، فكل إنسان مسئول عن نفسه يوم القيامة، أما من يفتي للناس ويقول: أنا أحملها يوم القيامة، فقد قال الله عز وجل: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، فمن يحلل للناس الربا ويقول: أنا أحملها يوم القيامة، فليحمل مصيبته، وكل إنسان قد عرف حكم الربا في دين الله عز وجل، وعرف الحلال من الحرم.

والذي يحلل بيع الخمر للكفار ويقول: أنا أحملها عند الله يوم القيامة، أيحمل خبثاً من الخبائث في الدنيا وفي الآخرة؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فيوم القيامة لا يغني أحد عن أحد شيئاً، كما قال الله: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].

وقال: ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة، (لعن عاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها، وساقيها ومسقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها). ثم بعد ذلك يجوز بعضهم بيعها للكفار! ويجيز للمسلم أن يبيعها للكافر في الفنادق في بلاد المسلمين، فطالما الكفار يشربونها فالمسلمون يبيعونها لهم!

سبب تسلط الأعداء علينا

لما تنازل المسلمون عن دين الله سلط الله عز وجل عليهم أعداءه سبحانه، فأصبحوا لا يملكون إلا الشجب والصراخ واللجوء إلى الأمم المتحدة أن يعملوا لهم شيئاً حتى لا يشتم ديننا، ولا يفعل كذا! فرضوا بالذل، فسلط الله عز وجل عليهم من يذلهم ويتحكم فيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).

فإذا رضيتم بالدنيا، وطلبتموها، وتركتم الآخرة وراء ظهوركم، و(إذا تبايعتم بالعينة)، أي: الربا، وإذا حلل لكم الربا، وأفتاكم المفتون بأنه لا يوجد مانع في الصورة الفلانية فاعملوها، وهي من الربا، والعينة صورة من صور الربا المغطى، وفيها التدليس، والضحك على الناس والخديعة، وهي مثل أن يبيع الإنسان الثوب ولا يريد أن يبيعه، وإنما يريد أن يأخذ مائة درهم ويدفع مكانها مائتان، فهذه من الربا، فهو يقول لك: اشتر مني هذا الثوب بمائة جنيه، وعندما يقبضها، يقول: بعه لي بالتقسيط بمائة وخمسين، فكأنه في الحقيقة أخذ مائة ليردها مائة وخمسين، فهذه هي العينة، أخذ مالاً ليرده أكثر منه، فتحايلوا على الربا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة) يعني: تحايلتم على تحليل ما حرم الله سبحانه.

(إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر) أي: إذا رضي الله عنه كل إنسان بهذا الشيء، ولم يفكر في غيره، وإنما كل تفكيره في ماله.

(ورضيتم بالزرع) أي: رضيتم بالزراعة والعمل فيها، ولم يهتم بغيرها، (وتركتم الجهاد في سبيل الله)، ولغيتم آياته وأحاديثه من المناهج، فإذا فعلتم ذلك (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، أي: حتى يرجع كل إنسان إلى دينه، ويعرف الحق الذي جاءه من عند الله، ويتمسك بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا حال المسلمين الآن فكل منهم قد رضي بما هو فيه، فهذا راض بماله، وهذا راض بعمله، وكل إنسان مشغول بنفسه، يريد أن يأكل لقمة عيشه، ويتعلل بما وراءه، وإذا قيل له: أد زكاة مالك، قال: لا أحد محتاج أو أن الناس لا يستحقونها. وأحد المسلمين يسأل بأنه تزوج امرأة تملك من المال مائتين ألفاً، وأنها لا تؤدي الزكاة، ولما سألها عن الحج استهزأت، ولا تصلي، فيسأل ماذا يعمل؟ لا يحل له أن يعيش معها وهي كافرة، ولما سئل: لماذا تزوجتها؟ قال: بسبب مالها!

فلما اتبع المسلمون الغرب الكافر قلدوهم في كل شيء، فلم يبق لهم من الإسلام إلا الأسماء، اسم هذا مسلم وهذه مسلمة، ولم يدخل فيهم حقيقة الإسلام، فتجد الكثيرين منهم لا يعرفون شيئاً عن دين ربهم سبحانه، وتجد الكثيرين يحاربون دينهم وهم يعرفون أو لا يعرفون قبل أعدائهم، ولذلك سلط الله عز وجل بعضهم على بعض، وجعل بأسهم بينهم كما جعل اليهود والنصارى من قبل.

قال الله عز وجل: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الجاثية:18-19]، وقال: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]. وقد قال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بغيره؟ أي: أن الكفار واليهود والنصارى لن ينفعوك يا محمد يوم القيامة. فهم لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . وشيئاً هنا: نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، أي: لن يغنوا عنك ولو بأقل شيء، ولو شيئاً يسيراً جداً، فلن يغنوا عنك ولن ينفعوك عند الله عز وجل.

ولاية الله لعباده المتقين

قال الله تعالى: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الجاثية:19] أي: الذين ظلموا أنفسهم بشركهم وبكفرهم، فالظلمة بعضهم أعوان بعض، فيعين بعضهم بعضاً على الإسلام، وعلى أهل الإسلام، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:19]، ولم يقل: المسلمين؛ لأن الكثير يزعمون أنهم على الإسلام، فكل أحد يقول: أنا مسلم. فهذا يشرب الخمر ويقول: أنا مسلم، وهذا يفعل الفواحش ويقول: أنا مسلم، وهذا يفعل كذا ويقول: أنا مسلم، فلذلك قال الله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الله، ويخافونه، ويقدمون له سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم الذين يتولاهم وينصرهم ويدفع عنهم سبحانه، ويدافع عنهم الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس ...)

قال الله تعالى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:20] أي: هذا الذي ذكرناه، وجاءك من عند الله، فيه دلائل بينة واضحة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وقد أخبركم الله فيه عما يريده منكم. ففيه براهين، ودلائل ومعالم للناس، وفيه حدود الله عز وجل وأحكامه، فقد وضح لكم شرعه، فجعله كالشيء المبصر تراه أمامك واضحاً، فلا إشكال في شرع الله عز وجل، فقد وضح كل شيء في كتابه وعلى لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه وبفعله.

هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى أي: هذا القرآن العظيم هدى من الله، يبصر الخلق، ويهديهم الله عز وجل رحمة بهم.

فالحجة تقام على الجميع بهذا القرآن، وأما الهداية والرحمة فهي لمن اختصه الله عز وجل، فيحول من يشاء إلى دينه سبحانه وتعالى، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بفضله وبكرمه.

وأما الرسول فإنما عليه أن يبين، وأن يبلغ صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99]، وقال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54].

فالرسول يبين عليه الصلاة والسلام، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]، فيرحم عباده الذين يصدقون ويؤمنون ويتابعون الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات ...)

قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] أي: اضرب عن هؤلاء الكفار، وعما يقولونه لك، وانظر في حالهم، بل أحسبوا، أي: أحس وظن وزعم هؤلاء وقد اجترحوا السيئات، أي: اكتسبوها واقترفوها من الجارحة، والجارحة الكاسبة هي: جوارح الإنسان كاليدين ونحوها، التي يجترح بها، أي: يمسك ويأخذ ويكسب، فاجترح بمعنى: اكتسب واقترف.

فهؤلاء الكفار الذين اكتسبوا السيئات فوقعوا في الشرك بالله سبحانه، وظلموا العباد، هل حسبوا وظنوا وزعموا: أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ؟ أي: أن نجعلهم كالذين صدقوا بكتابنا وبرسولنا عليه الصلاة والسلام، وعملوا بكلام رب العالمين متبعين له سبحانه، فهل نجعل هؤلاء كهؤلاء؟ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ أي: نجعلهم سواء، فهي منصوبة على ذلك؛ لأن المفعول الثاني لنجعل (أن نجعلهم) سواء، وهذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة ، والكسائي ، وخلف وقرأ باقي القراء أن نجعلهم: سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ على الابتداء والخبر يعني: مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سواء فنجعلهم كذلك، أي: هل ظنوا أن نجعلهم مثل ما كانوا في الحياة الدنيا ثم يموتون ولا بعث؟ هل يظنون ذلك؟ وهل يظلمون في الدنيا، ولا ينصرون يوم القيامة؟ كلا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] أي: لا نفعل ذلك أبداً.

بل لا بد من بعث، ولا بد من جزاء وحساب، ولا بد من عقاب لهؤلاء الكفرة والمجرمين والظلمة.

قال تعالى: ألا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] أي: ساء ما يزعمون، وساء ما يقضون به، من أنهم يحكمون ويقولون: إننا نحيا ونموت وانتهى الأمر على ذلك، فساء قولهم قولاً وساء حكمهم حكماً، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ .

بل إن الله عز وجل الذي خلق السموات والأرض بالحق قادر على أن يحيي هذه العظام بعد موتها، وأن يجازي أهلها، ولذلك قال: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ، فإذا كان خلق السموات بالحق، وخلق الأرض بالحق، فهل يخلق العباد باطلاً، ويجعلهم عبثاً وسدىً لا يبعثون؟

قال: وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ، فلا بد من ذلك، فكل امرئ يجزئ يوم القيامة بما كسب، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، كما قال تعالى: لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الجاثية [18 - 22] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net