إسلام ويب

يعتبر الإمام مسلم رحمه الله تعالى من أئمة الإسلام في الحديث، وصحيحه من أصح الكتب المصنفة بعد صحيح الإمام البخاري، وقد أثنى العلماء على الإمام مسلم وعلى كتابه الصحيح ثناءً حسناً يدل على المكانة السامية التي احتلها رحمه الله تعالى.

فضل إنظار المعسر وتنفيس كربة المكروب

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

قبل أن أتكلم عن الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري وصحيحه الجامع أسوة بشيخنا الفاضل الشيخ: محمد بن إسماعيل نذكر اليوم حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تزداد به بركة الكلام وبركة المجلس، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

فهذا الحديث الشريف قد جمع كثيراً من أبواب الخير، وما أحوجنا إلى أبواب الخير، وما أزهد الناس في هذه الأزمنة المتأخرة في الخير، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدل الأمة على ما فيه خيرها وصلاحها ونجاتها ونجاحها، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).

فإن قال قائل: هذا الجزء من الحديث يوهم تنفيس كربة بكربة، وقد ورد في القرآن أن الحسنة بعشر أمثالها، فلماذا جعل هنا كربة مقابل كربة فقط؟

والجواب: أن كربة الدنيا إلى كربة يوم القيامة كلا شيء.

فقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تذكر عظم كرب الآخرة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تدنو الشمس من رءوس العباد يوم القيامة قدر ميل أو ميلين -فتصهرهم الشمس- فمنهم من يصل عرقه إلى عقبيه، ومنهم من يصل عرقه إلى حقويه -أي: عظام الحوض- ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يلجمه إلجاماً)؛ أي: يصل العرق إلى فمه فيكون له كاللجام.

فيصاب الناس يوم القيامة بما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم؟ ألا تنظرون أحداً يشفع لكم عند ربكم، فيذهبون إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى عيسى، ثم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود الذي قال الله عز وجل فيه: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].

فتنفيس كربات المسلمين في الدنيا يكون سبباً لتنفيس الكربات العظيمة يوم القيامة.

ومعنى التنفيس: تخفيف الكربة، مأخوذ من فك الخناق حتى يأخذ المخنوق نفساً، فجزاء التفريج تفريج، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عز وجل عنه كربة من كرب يوم القيامة)، (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة).

التيسير على المعسر من جهة المال يكون بإنظاره إلى ميسرة، وهذا واجب لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فهذه أدنى الدرجات، والإنسان يؤجل الغريم الذي عليه دين حتى يتيسر حاله إلى وقت سداد الدين، فيجب على صاحب الحق أن يؤجل الغريم حتى يتيسر حاله.

فأعلى درجة من ذلك أن يسامحه في هذا المال؛ مساعدة منه في تيسير حاله، ودرجة أعلى من ذلك: أن يمده بمال جديد حتى يتيسر حاله.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يداين الناس فإذا رأى معسراً قال لصبيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني يوم القيامة، فتجاوز الله عنه).

وفي الصحيحين: (مات رجل فقيل: بم غفر لك؟ فقال: كنت أبايع الناس فأتجاوز عن المعسر وأخفف عن الموسر. فقال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه).

فالمسلم يتجاوز عن حقوقه التي عند الناس، سواء كانت الحقوق مادية أو معنوية؛ رغبة في أن يتجاوز الله عز وجل عنه، وهو يتذكر هذا الحديث: (نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه).

فمن تجاوز عن زلات الناس وعن حقوقه عند الناس فهو على رجاء أن يتجاوز الله عز وجل عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة).

قوله: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).

معناه أنه ينبغي على المسلمين أن يستروا العصاة المعروفين بالصلاح والذين ظاهرهم الاستقامة، أما من كان مجاهراً بالمعاصي فينبغي أن يرفع أمره إلى الحاكم من أجل أن يقيم عليه الحد، وقد كان أحد الوزراء الصالحين يقول لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: اجتهدوا في ستر عصاة المسلمين فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام.

وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته).

ومن كان يتتبع زلات الناس وعيوبهم وينشرها تتبع الله عز وجل عورته حتى يفضحه.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

فالبذل من العمل الصالح، والبذل الأعظم من أبواب الخير أن يكون الإنسان في عون أخيه المسلم.

أرسل الحسن البصري جماعة من إخوانه في قضاء حاجة لأخ لهم، وقال لهم: مروا بـثابت البناني فخذوه معكم وكان يلقب بالأعمش، فمروا به فقال: إني معتكف، فعادوا إلى الحسن فأخبروه، فقال لهم: قولوا له يا أعمش! أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجة بعد حجة، فأخبروه فترك اعتكافه وخرج معهم.

فضل العلم

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).

وهذا الطريق إما أن يكون طريقاً حسياً كالسير إلى مجالس أهل العلم أو الذهاب إلى عالم من أجل أن يسأله، أو إلى مدرسة مثلاً أو معهد يتعلم فيهما العلوم الشرعية، فهذا هو الطريق الحسي الذي يكون سبباً لتسهيل الطريق إلى الجنة.

وإما أن يكون طريقاً معنوياً كأن يتعاهد برنامجاً معيناً، أو يلتزم بمدارسة معينة يحصل فيها العلوم الشرعية، فمن سلك طريقاً معنوياً أو حسياً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة.

والطريق إلى الجنة يوم القيامة كذلك إما أن يكون طريقاً حسياً وهو الصراط وما قبله وما بعده، وإما أن يكون طريقاً معنوياً؛ بأن ييسر الله عز وجل هذا العلم الذي طلبه، والعلم طريق إلى الجنة، فكيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟ قال بعض السلف: هل من طالب علم فيعان عليه؟

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).

فهذا من بركات دروس العلم، فإنك قد تحصل شيئاً من العلوم الشرعية من شريط أو كتاب، ولكن كيف تحصل السكينة والرحمة، وتحفك ملائكة الله عز وجل، ويذكرك الله عز وجل فيمن عنده؟

فما أحوجنا إلى هذه البركات، وما أحوجنا إلى مجالس العلم التي تحيا فيها القلوب، ويتجدد فيها الإيمان، وتحصّل فيها الحكمة، ويتعرف فيها الحلال من الحرام، خاصة ونحن في أزمنة كثرت فيها الفتن والمحن، واختلط فيها الحابل بالنابل، فاستنشق الناس هذه الفتن فدخلت إلى قلوبهم من أعينهم ومن آذانهم، ومن كل حواسهم، فما أحوجنا إلى هذه المجالس الطيبة التي يحل فيها الإيمان، والتي هي أجواء الإيمان!

كان أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرأ القرآن فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعلت فرسه تنفر منها فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تلك السكينة نزلت بالقرآن).

كان رضي الله عنه كلما قرأ القرآن نفرت فرسه، فإذا سكت سكنت الفرس فنظر فرأى مثل الظلة -أي: السحابة- فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تلك الملائكة)، فالمصابيح هي الملائكة وقد رآها أسيد بن حضير بعيني رأسه.

والظلة هي السكينة، فالملائكة تنزل معها الرحمات، وتنزل معها السكينة، فالصحابة رأوا هذه الغيبيات بقوة يقينهم، وهذا من الغيب الذي يمكن أن يكشفه الله عز وجل لمن شاء من عباده، وهو من قبيل الكرامة، ولا تكون هذه لمن ضعف يقينه، بل لمن عظم يقينه، كما شم بعض الصحابة رائحة الجنة، وهو أنس بن النضر فلقد وجد ريح الجنة من دون أحد، فهذا من الغيب الذي يمكن أن يطلع عليه الله عز وجل من شاء من عباده على سبيل الكرامات.

فالحاصل: أن من فضائل مجالس العلم أنها تنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة، وجاء في حديث آخر أن الملائكة السيارة يبحثون عن مجالس الذكر.

ومن فضائل مجالس العلم أن يذكر الله أهلها فيمن عنده، فإن من ذكر الله عز وجل في نفسه ذكره الله عز وجل في نفسه، ومن ذكره في ملأ -أي: في جماعة- ذكره الله عز وجل في الملأ الأعلى وهم الملائكة المقربون.

النسب لا يوصل العبد إن قصر به العمل

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

قيل: بطأ به في المرور على الصراط؛ لأن الإنسان يبذل قوة وطاقة في المرور على الصراط بحسب إيمانه وبحسب عمله الصالح، وبحسب ما حصل من أسباب الخير في الدنيا.

فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل أي: إسراع الرجل في المشي، ومنهم من يحبو على بطنه فيقول: يا رب لم أبطأتني؟ فيقول: إني لم أبطئ بك، ولكن أبطأ بك عملك.

فمن كان بطيئاً في أعمال الخير بطيئاً في تحصيل الطاعات والحسنات، فهو كذلك يسير ببطء على الصراط حتى تتخطفه الكلاليب التي هي على الصراط فيقول: رب لم أبطأتني فيقول: إني لم أبطئ بك ولكن أبطأ بك عملك في المرور على الصراط.

وقيل: من أبطأ به عمله في الوصول إلى الدرجات: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132] فلم يسرع به نسبه لأن كل نسب مقطوع يوم القيامة إلا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينتفع بهذا النسب الشريف إلا من كان من أهل الإيمان والتقوى.

هذا بعض ما ذكر في هذا الحديث النبوي الشريف.

الإمام مسلم نسبه ومولده وصفته

أما ترجمة إمام الأئمة والأعلام: الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب كتاب الصحيح وهو أصح كتب السنة بعد صحيح الإمام البخاري، وقد جعل الله عز وجل لهما من القبول في قلوب الخلق ما الله عز وجل به عليم.

فلا يجهل أحد من المسلمين مكانة البخاري ومسلم ، وكما قال شيخنا الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم : إن هؤلاء الأعلام ما ارتفعوا في الأمة بكثرة علمهم، وإنما ببركة إخلاصهم وتقواهم لله عز وجل.

فلقد كان في الأمة الكثير من الأعلام، وكان الكثير من الحفاظ يتواجدون في خراسان أو نيسابور، وكانوا أئمة في الفقه أو الحديث أو التفسير ولكن لم يرتفع شأنهم كما ارتفع شأن البخاري ومسلم .

بل إن الكثير من علماء نيسابور أرادوا أن يحذوا حذو الإمام مسلم ، وألفوا المسانيد أو الجوامع على غرار تأليف الإمام مسلم ، ولكن لم يكتب لها من القبول ما كتب لصحيح الإمام مسلم .

فهذا من بركة الإخلاص، وبركة التقوى والخشية، فلاشك أن هؤلاء العلماء كانوا على درجة من الإخلاص والتقوى وخشية الله عز وجل ومحبته جعلت لكتبهم هذا القبول، وجعلت لهؤلاء العلماء الأعلام المنزلة الرفيعة والذكر الحسن في الأمة.

فالإمام مسلم هو مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري . وكنيته: أبو الحسين ، الإمام الكبير، الحافظ المجود، الحجة الصادق.

مولده: قال الذهبي : ولد سنة أربع ومائتين.

والإمام البخاري أكبر من الإمام مسلم ، فلقد ولد سنة أربعة وتسعين ومائة.

قال الذهبي عن الإمام مسلم : وما أظنه إلا ولد قبل ذلك.

صفته: قال الحاكم : سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: رأيت شيخاً حسن الوجه والثياب، وعليه رداء حسن، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه، فتقدم أصحاب السلطان فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين، فقدموه في الجامع فكبر وصلى بالناس.

وقال الحاكم أيضاً: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج يحدث في خان محمس فكان تام القامة، أبيض الرأس واللحية، يرخي طرف عمامته بين كتفيه.

والعلماء عند ترجمتهم للأعلام يركزون على العلم، وعلى الضبط والإتقان، وعلى الشيوخ والتلاميذ، أما معرفة صفاته الخلقية فيكون فيه نوع من الأنس عندما نعرف صفة الشيخ، أو عالم من العلماء فنستحضر صفته وكأننا في صحبته.

مكانة الإمام مسلم وثناء العلماء عليه

عن أحمد بن مسلمة قال: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.

فعصر الإمام مسلم والبخاري هو العصر الذهبي لتدوين السنة؛ لأن الأئمة البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وأبا داود ، وابن ماجه ، والدارمي كانوا في عصر واحد، وقد دونوا لنا كتب السنة المعروفة المشهورة المتداولة، وهذه الطبقة كانت بعد طبقة الإمام أحمد ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين ، وإسحاق بن راهويه ، ويحيى بن يحيى النيسابوري.

وقبل هذه الطبقة طبقة: عبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى بن سعيد القطان .

وقبلها طبقة كبار أتباع التابعين كالإمام مالك والسفيانين: سفيان الثوري بالكوفة، وسفيان بن عيينة بمكة والحجاز، وشعبة بن الحجاج ، والأوزاعي ، والليث بن سعد .

وطبقة صغار التابعين وفيها الإمام الزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وقد أخذوا عن كبار التابعين مثل: سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وخارجة وهؤلاء من أئمة التابعين، ثم هؤلاء أخذوا عن الصحابة كـأنس بن مالك وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهما.

فهذه طبقات تروى حتى نستحضر طبقة الشيخ نعلم من فوقه ومن تحته من تلامذته ومن شيوخه.

يقول: عن الحسين بن منصور قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ويعرف ويشتهر بـإسحاق بن راهويه .

فقد ذكر مسلم بن الحجاج فقال: مربى كاب مبول، وهذا الكلام فيما يبدو بالفارسية ومعناه: أي رجل كان هذا.

وقال أبو عمرو أحمد بن المبارك : سمعت إسحاق بن منصور يقول لـمسلم بن الحجاج : لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : كان ثقة من الحفاظ، كتبت عمن روى عنه، وسئل عنه أبي فقال: صدوق، فـأبو حاتم الرازي من طبقة مسلم والبخاري ، وأبي زرعة ولابنه عبد الرحمن كتاب مشهور وهو الجرح والتعديل، فـعبد الرحمن بن أبي حاتم إمام حافظ ينقل عن أبي حاتم الرازي .

وقال أبو قريش الحافظ: سمعت محمد بن بشار يقول: حفاظ الدنيا أربعة:

أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وأبو عبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى.

وقال أبو عمرو بن حبان : سألت ابن عقدة الحافظ عن البخاري ومسلم أيهما أعلم؟ فقال: كان محمد عالماً ومسلم عالماً، فكررت عليه مراراً ثم قال: يا أبا عمرو قد يقع لـمحمد بن إسماعيل الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها، فربما ذكر الواحد منهم بكنيته، ثم ذكره في موضع آخر باسمه، ويتوهم أنهما اثنان.

أما مسلم فقل ما يقع له من الغلط؛ لأنه كتب المسانيد ولم يكتب المقاطيع والمراسيل، فهذا سر الترجيح على صحيح البخاري ؛ لأن مسلماً أرجح وأعلى درجة وأتقن لهذه الصنعة.

وقوله: (المسانيد) أي: الأحاديث المسندة، وذلك لأن البخاري رحمه الله أكثر في صحيحه من المقاطيع والموقوفات والأحاديث المعلقة؛ لأن البخاري رحمه الله قصد مع تجريد الصحيح استنباط الأحكام الفقهية والنكت الحكمية.

والناظر في كتاب البخاري يجد فيه الفقه، فيقول مثلاً: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، فيترجم للأبواب، ويقطع الأحاديث، ويذكر الأحاديث بأكثر من رواية وفي أكثر من موضع، ويستأنس بأقوال الصحابة وبالمقاطيع والأحاديث المعلقة؛ يستأنس بذلك للتراجم التي يترجم لها.

أما الإمام مسلم فقد قسم صحيحه إلى كتب، مثل كتاب الإيمان، وكتاب الصلاة، وكتاب الجنائز، ولم يبوب أبواباً، وكان في الكتاب الواحد يسرد الأحاديث الكثيرة، وربما ذكر الحديث الواحد مروياً بخمس روايات أو أكثر، يسرد هذه الروايات المتتابعة في موطن واحد.

أما التراجم الموجودة الآن في كتاب صحيح مسلم فالمشهور والمتداول أنها من صنع الإمام النووي فقد وضع هذه التراجم للأبواب، أما الإمام مسلم فلم يترجم للأبواب بل اقتصر على تقسيم الكتاب إلى كتب.

فكتاب الإمام مسلم يعتبر كتاب حديث؛ لأنه يجمع روايات الحديث في مكان واحد، فمن أراد أن يقف على روايات الحديث الواحد في موطن واحد فعليه بكتاب الإمام مسلم .

أما الإمام البخاري فجمع بين الحديث والفقه، فلكل من الكتابين مزية في بابه.

فالإمام مسلم -رحمه الله- قصد جمع جملة من الأحاديث الصحيحة؛ لتكون مرجعاً للناس فقسم كتابه إلى كتب، ولم يقسم كل كتاب إلى أبواب، والإمام البخاري رحمه الله فكان يستأنس بالمقطوعات والمعلقات فيما يذهب إليه من آراء فقهية، فرحم الله الجميع.

وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم : إنما أخرجت نيسابور ثلاثة رجال:

محمد بن يحيى الذهلي ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب .

وقال النووي رحمه الله: وأجمعوا على جلالته وإمامته، وعلو مرتبته في هذه الصنعة، وتقدمه فيها، وتضلعه منها، ومن أكبر الدلائل على جلالته وإمامته وورعه وحذقه في علوم الحديث، واضطلاعه منها، وتفننه فيها: كتابه الصحيح الذي لم يوجد في كتاب قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان... إلى أن قال رحمه الله: واعلم أن مسلماً رحمه الله أحد أعلام أئمة هذا الشأن، وكبار المبرزين فيه، وأهل الحفظ والإتقان، والرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان، والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان، والمرجوع إلى كتابه، والمعتمد عليه في كل الأزمان.

ونقل أبو عبد الله الحاكم أن محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: كان مسلم بن الحجاج من علماء الناس، ومن أوعية العلم.

وقال الحافظ : ثقة حافظ إمام مصنف.

أهمية دراسة تراجم العلماء

ودراسة هذه التراجم لها بركات كثيرة منها: أن نعرف هذه القمم الشامخة.

ومنها: أن نتقرب إلى الله عز وجل بحبهم.

ومنها: أن ننظر إلى الجهد الذي بذلوه؛ لحفظ سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومنها: أن نتأسى بهم، وأن نستفيد من علمهم، وأن نقتدي بهم.

ومنها: نزول الرحمات، فإذا ذكر الصالحون نزلت الرحمات، فهذه بعض بركات من دراسة هذه التراجم.

أهمية صحيح مسلم

أما أهمية صحيح الجامع، فقد قال الإمام النووي رحمه الله: ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله، واطلع على ما أودعه في إسناده وترتيبه وحسن سياقه، وبديع طريقه من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق، وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الروايات وتلخيص الطرق واختصارها، وضبط متفرقها وانتشارها، وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات، واللطائف الظاهرات والخفيات، علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه بل يدانيه من أهل دهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وقال الحافظ : حصل لـمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، حيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل البخاري وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من نيسابور اليوم فلم يبلغوا شأوه، فسبحان المعطي الوهاب!

فهؤلاء الأئمة لم يكونوا أعلم أهل عصرهم، فإن الإمام مسلماً عرض كتابه الصحيح على أبي زرعة الرازي فما أشار إليه بحذفه كان يحذفه، فدل على علو رتبة أبي زرعة .

ولكن هؤلاء الأئمة رزقوا هذا العلم لحسن النية، كما قال الحافظ : سبحان المعطي الوهاب.

وقال ابن كثير رحمه الله في ترجمة الإمام مسلم صاحب الصحيح الذي هو صنو صحيح البخاري عند أكثر العلماء.

وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري .

يقول: فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل، فإن صحيح مسلم لم ترد فيه إلا ثلاثة من الأحاديث المحذوفة والمعلقة في بداية السند.

أما صحيح البخاري ففيه الكثير بالمئات، وإنما ذلك استعانة يستعين بها وليست على شرطه، أي: ولكن يستأنس ويستعين بها فيما يرجحه من آراء فقهية.

فصحيح الإمام مسلم ليس فيه من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر ينازع قوة أسانيد البخاري في الصحيح.

أما صحيح البخاري فيتميز بقوة الأسانيد كما قال بعضهم:

أسانيد مثل نجوم السماءأمام متون كمثل الشهب

أي: أن الأسانيد قوية جداً، والمتون مثل الشهب في قوتها كما سترى في ترجيح البخاري على مسلم ، ولكن الإمام مسلماً جمع الرواة في مكان واحد، وكان عنده حسن ترتيب وتنسيق واختصار كما سنرى.

فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واشتراطه في الصحيح لها ما أورده في جامعه من معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه. فهذا فرق بين البخاري ومسلم، فالإمام البخاري كان يشترط السماع؛ فالشيخ إذا روى عن الشيخ بالعنعنة لا يقبل منه، حتى يثبت أن فلاناً سمع من فلان ولا يكفي فيهما المعاصرة، كأن يكون هذا في قطر وذاك في قطر آخر، فلم تحصل مشافهة، فـالبخاري لابد أن يتأكد من السماع.

أما الإمام مسلم فيحمل المعاصرة على السماع، يعني: يكتفي بالمعاصرة وإن لم يثبت السماع.

قال الذهبي : ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل.

فالإمام الذهبي يعرف كل كتب السنة، فكلامه يكتب بماء الذهب لمن يعرف قيمة هذا الكلام.

ومعنى العوالي: أن يقل عدد الرواة بين المصنف أو بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما قل عدد الرواة كان الحديث أبعد من العلل حتى لو كان الرواة كلهم عدولاً ضابطين فإن العدل الضابط قد يهم، لأنه ليس معصوماً من الخطأ. فنعيب على الإمام مسلم بأن أحاديثه لم تكن من العوالي، وإنما أكثر أسانيده فيها عدد كبير من الرواة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن كثيراً ممن عاصره استحسن متون الأحاديث، ولكنه اعتبر هذه الأسانيد نازلة فأورد هذه المتون بأسانيد أخرى أكثر علواً، وسيأتي ذكر جماعة من هؤلاء.

فيقول الإمام الذهبي : ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل كـالقعنبي عن أفلح بن حميد.

واسم القعنبي هو: عبد الله بن مسلمة يروي عن الإمام مالك.

ثم حديث حماد بن سلمة ، وهمام ، ومالك ، والليث وليس في الكتاب حديث عالٍ لـشعبة ، ولا للثوري ، ولا لـإسرائيل وهو كتاب نفيس كامل في معناه، فلما رآه الحفاظ أعجبوا به، ولم يسمعوه لنزوله.

وكان الرواة يرحلون طلباً لعلو الأسانيد، كما قال أبو العالية : كنا نسمع الأحاديث عن الصحابة فما يكفينا ذلك حتى رحلنا إليهم وسمعنا منهم.

وأيضاً: جابر بن عبد الله رحل إلى عبد الله بن أنيس من أجل أن يسمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم منه مباشرة.

فكانوا يرحلون طلباً لعلو الأسانيد.

والحفاظ أعجبوا بصحيح مسلم، قال الذهبي : ولم يسمعوه لذهوله، فعمدوا إلى أحاديث الكتاب فساقوها من مروياتهم عالية بدرجة وبدرجتين -أي: مع اختصار راوٍ أو راويين- ونحو ذلك حتى أتوا على الجميع هكذا، وسموه المستخرج على صحيح مسلم .

وهو أن يأتي أحد العلماء المعاصرين للإمام مسلم أو يأتي من بعد عصره، ويأخذ متون الكتاب ويورد لها أسانيد أخرى من عنده فقد ينتقل إلى شيخه أو شيخ شيخه فيورد الأحاديث بأسانيد أكثر علواً، وقد فعل ذلك عدد من حفاظ الحديث منهم: أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء ، وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني، وكتابه موجود مطبوع.

قال: وزاد في كتابه متوناً معروفة بعضها لين.

قال: والزاهد أبو جعفر أحمد بن حمدان الحيري ، وأبو الوليد حسان بن محمد الفقيه ، وأبو حامد أحمد بن محمد الشاكي الهروي ، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن زكريا الجوزقي والإمام أبو علي الماسرجسي وآخرون.

وقال الحافظ أبو القاسم في أول الأطراف بعد ذكر صحيح البخاري : ثم سلك سبيله مسلم بن الحجاج فأخذ في تخريج كتابه وتأليفه وترتيبه على قسمين وتصنيفه، وقصد أن يذكر في القسم الأول أحاديث أهل الإتقان، وفي القسم الثاني أحاديث أهل الستر والصدق الذين لم يبلغوا درجة المتثبتين.

فحالت المنية بينه وبين هذه الأمنية فمات قبل استتمام كتابه، غير أن كتابه مع إعوازه اشتهر وانتشر.

وقد صرح الإمام مسلم في مقدمة كتابه بأنه سوف يروي أحاديث عن المتثبتين من الدرجة العالية ثم عن أهل الستر والصدق، ثم عن أناس تكلم فيهم فهو لا يورد جميع أحاديثهم بل يختار منها، فقد يكون الراوي مثلاً ضعيفاً عند بعض العلماء وهو ثبت فيما بقي من هذه الأحاديث.

ولا يعرج على الضعفاء والهالكين كـالواقدي وغيره.

صفة الرواة الذين أخرج لهم الإمام مسلم في الصحيح

وقال الحاكم : وأراد مسلم أن يخرج الصحيح على ثلاثة أقسام وعلى ثلاث طبقات:

منها: الرواة، وقد ذكر هذا في صدر خطبته، فلم يقدر إلا على الطبقة الأولى ثم مات.

ثم ذكر الحاكم مقالة هي مجرد دعوى فقال: إنه لا يذكر من الأحاديث إلا ما رواه صحابي مشهور له راويان ثقتان فأكثر، ثم يرويه عنه أيضاً راويان ثقتان فأكثر، ثم كذلك من بعدهم.

فقال أبو علي الجياني: المراد بهذا إن هذا الصحابي أو هذا التابعي قد روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة.

وقال القاضي عياض : والذي تأوله الحاكم على مسلم من اقتران المنية له قبل استيفاء غرضه إلا في الطبقة الأولى، فأنا أقول: إنك إن نظرت في تفصيل مسلم في كتابه الصحيح الحديث على ثلاث طبقات من الناس على غير تكرار.

فذكر أن القسم الأول حديث الحفاظ، ثم قال: إذا انقضى هذا أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان، وذكر أنهم لاحقون بالطبقة الأولى، أي: أنهم استدلوا بأحاديثهم حتى لا ينفرطوا، فهؤلاء مذكورون في كتابه لمن تدبر الأبواب.

فأهل الحفظ والإتقان لا خلاف في وجودهم في صحيح الإمام مسلم ، ثم تكلم في الطبقة الثانية من أهل الستر والصدق فقال:

والطبقة الثانية: قوم تكلم فيهم قوم وزكاهم آخرون، فخرج حديثه عمن ضعف أو اتهم ببدعة، وكذلك فعل البخاري في صحيحه في تخريج أحاديث عن بعض الشيعة غير الغلاة، والخوارج المعروفين بالحفظ والإتقان، ولم يكونوا من دعاة أهل البدع، وكذلك عن المعتزلة وغيرهم كثير، ولكن بشرط أن يكونوا معروفين بالصدق والأمانة والصيانة.

ثم قال القاضي عياض : فعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه وطرح الطبقة الرابعة.

فالطبقة الأولى: طبقة الحفاظ، والثانية: طبقة أهل الستر والصدق، والثالثة: تكلم فيهم قوم وزكاهم آخرون، وليس كل من تكلم فيه ضعيفاً بمجرد هذا الكلام، بل لابد أن يكون الجرح مفسراً، بحيث يخرجه عن العدالة، فليس كل من تكلم فيه بالضعف يخرج بذلك من عداد أهل العدالة.

قال الذهبي : بل خرج أحاديث الطبقة الأولى، والطبقة الثانية إلا النزر القليل مما يستنكره في الطبقة الثانية، ثم خرج لأهل الطبقة الثالثة أحاديث ليست بالكثيرة، وذلك في الشواهد والاعتبارات والمتابعات.

أما ترتيب الإمام مسلم للأحاديث، فيذكر الروايات التي ليس فيها مطعن والتي رواها أئمة حفاظ، ثم يروي عن رواة أقل منهم في الإتقان والحفظ، ثم يروي عمن تكلم فيهم بالضعف، وإن لم يكن هذا الكلام قادحاً، وسوف نجيب عن الإمام مسلم في إخراجه حديث جماعة ممن تكلم فيهم.

ثم قال الذهبي : وقل أن خرج لهم في الأصول شيئاً، والمراد بالأصول الأحاديث الأولى في بداية الأبواب والتي رواها الأئمة الحفاظ، ثم هناك شيء مهم هنا وهو قوة هذه المتون، وأنها أحاديث صحيحة؛ لقوة الأسانيد، فلا يضر الحديث أن يأتي من طرق أخرى فيها بعض من تكلم فيه بالضعف، بل هذا مما يزيدها قوة عند التعارض بكثرة الطرق.

فالذين تكلم فيهم بالضعف كان يذكرهم في الشواهد والمتابعات بعد أن يورد الأسانيد النظيفة أولاً.

ثم قال الذهبي : وقلّ أن خرج لهم في الأصول شيئاً، ولو استوعبت أحاديث أهل هذه الطبقة في الصحيح لجاء الكتاب في حجم ما هو مرة أخرى، ولنزل كتابه بذلك الاستيعاب عن رتبة الصحة، وهم: عطاء بن السائب ، وليث بن أبي سليم ، ويزيد بن أبي زياد ، وأبان بن صمعة ، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عمرو بن علقمة وطائفة أمثالهم فلم يخرج لهم إلا الحديث بعد الحديث، وهي أحاديث قليلة، فإذا كان لها أصل ساق أحاديث هؤلاء.

فالذين يكثرون من هذه الأحاديث التي فيها من تكلم فيهم هم: الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، والدارمي وغيرهم من أصحاب السنن الذين لم يشترطوا الصحة.

يقول الذهبي : فإذا انحطوا إلى إخراج أحاديث الضعفاء الذين هم أهل الطبقة الرابعة.

وأما أهل الطبقة الخامسة ممن أجمع على اطراحه وتركه لعدم فهمه وضبطه، أو لكونه متهماً فينظر أن يخرج لهم أحمد ، والنسائي ، ويورد لهم أبو عيسى الترمذي فيبينه بحسب اجتهاده، فيقول: هذا مجمع على تركه، هذا ضعيف، هذا لم يوثقه أهل العلم، فهذه ميزة في كتاب جامع الإمام أبي عيسى الترمذي .

يقول: ويورد لهم أبو عيسى فيبينه بحسب اجتهاده، لكنه قليل، ويورد لهم ابن ماجه أحاديث قليلة ولا يبين والله أعلم، وقلما يورد منها أبو داود فإن أورد بينه في غالب الأوقات.

يقول: وأما أهل الطبقة السادسة كغلاة الرافضة، والجهمية الدعاة والكذابين والوضاعين، وكالمتروكين المتهوكين كـعمر بن صبح ومحمد المصلوب ، ونوح بن أبي مريم ، وأحمد الجويباري ، وأبي حذيفة البخاري فما لهم في الكتب حرف، يقصد بالكتب: الكتب الستة.

قال: فما لهم في الكتب حرف ما عدا عمر فإن ابن ماجه خرج له حديثاً واحداً فلم يصب، فقد خرج للواقدي حديثاً واحداً فدلس اسمه وأبهمه.

أنكر على ابن ماجه أنه خرج للواقدي ، ولـعمر بن الصبح ، ولذلك فإن بعض العلماء يقترحون أن يقدم الدارمي على ابن ماجه في الكتب الستة؛ لأن ابن ماجه خرج لهؤلاء وإن كانت أحاديثه الصحيحة كثيرة جداً.

قال النووي : ومما جاء في فضل صحيح مسلم ما بلغني عن مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور أنه قال: سمعت مسلم بن الحجاج رحمه الله يقول: لو أن أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة فمدارهم على هذا المسند. يعني صحيحه.

قال: وسمعت مسلماً يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته.

وذكر غيره ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي بإسناده عن مسلم رحمه الله قال: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة.

فليس كل ما هو صحيح عند مسلم أو البخاري أدخلاه في الصحيح.

دقة الإمام مسلم وشدة تحريه في الجامع الصحيح

قال الإمام النووي ما ملخصه: سلك مسلم رحمه الله في صحيحه طرقاً بالغة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة؛ وذلك مصرح بكمال ورعه، وتمام معرفته، وغزارة علومه، وشدة تحقيقه بحفظه، وتقعده في هذا الشأن، وتمكنه من أنواع معارفه، وتبريزه في صناعته، وعلو محله في التمييز بين دقائق علومه، لا يهتدي إليها إلا أفراد في الأعصار، فرحمه الله ورضي عنه، وأنا أذكر أحرفاً من أمثلة ذلك.

قوله: (رضي عنه) هي على سبيل الدعاء، فيجوز أن تقول لإنسان: رضي الله عنك على سبيل الدعاء، أما على سبيل الخبر فلا يجوز أن تقول إلا للصحابة، فإنهم يختصون بذلك؛ لأنهم هم الذين رضي الله عنهم وأرضاهم.

يقول رحمه الله: وأنا أذكر أحرفاً من أمثلة ذلك تنبيهاً بها على ما سواها، إذ لا يعرف حقيقة حاله إلا من أحسن النظر في كتابه مع كمال أهليته ومعرفته بأنواع العلوم التي يفتقر إليها صاحب هذه الصناعة، كالفقه والأصولين -يعني: المصطلح وأصول الفقه- والعربية، وأسماء الرجال ودقائق علم الأسانيد والتاريخ، ومعاشرة أهل هذه الصنعة، ومباحثتهم مع حسن الفقه ونباهة الذهن، ومداومة الاشتغال بالذهن وغير ذلك من الأدوات التي يفتقر إليها.

فمن تحري مسلم رحمه الله: اعتناؤه بالتمييز بين حدثنا وأخبرنا .

والفرق بين (حدثنا) و(أخبرنا) أن من يسمع مع جماعة من لفظ الشيخ يقول (حدثنا)، ومن سمع لوحده يقول (حدثني).

أما من قرأ على الشيخ وهو جالس فإنه يقول: (أخبرنا) إذا كان معه جماعة من طلبة العلم، فلو كان لوحده يقول: (أخبرني).

وكثير من العلماء لا يفرقون بين (حدثنا) و(أخبرنا) فيقولون: هما درجة واحدة، وبعض العلماء يرجح (أخبرنا) على (حدثنا)، لأن الشيخ قد يسهو في القراءة عندما يقرأ فلا يستطيع أحد أن يرد عليه، ولكن لو قرئ على الشيخ والشيخ جالس متيقظ فإذا أخطأ القارئ فإن الشيخ يرد عليه، فقد كان الطلبة يقرءون على الإمام مالك الموطأ، ولهذا كان بعض العلماء يرجح القراءة على الشيخ على نفس قراءة الشيخ.

فالحاصل: أن الإمام مسلماً كان من الذين يفرقون بين (حدثنا) و(أخبرنا)، فـ(حدثنا) لابد فيها أن يسمع الطالب لفظة الشيخ وكلام الشيخ، أما (أخبرنا) فإن الطالب يقرأ على الشيخ.

يقول النووي رحمه الله: وتقييده ذلك على مشايخه وفي روايته. فإذا قال له شيخه: حدثنا فلان فإنه يثبت هذه الكلمة وكذلك إذا قال له: أخبرني.

يقول: وكان من مذهبه رحمه الله الفرق بينهما، وأن (حدثنا) لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، و(خبرنا) لما قرئ على الشيخ. وهذا الفرق هو مذهب الشافعي وأصحابه وجمهور أهل العلم بالمشرق.

ومن ذلك اعتناؤه بضبط اختلاف لفظ الرواة كقوله: حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان، يعني: أن الحديث له راويان، ولكن لفظ المتن مختلف فيميز فيقول: حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان، وهذا من شدة دقة الإمام مسلم وتحريه.

يقول رحمه الله: قال أو قالا: حدثنا فلان، وكما إذا كان بينهما اختلاف في حرف من متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبه أو نحو ذلك فإنه يبينه، وربما كان بعضه لا يتغير به معنى، وربما كان في بعضه اختلاف في المعنى، ولكن كان خفياً لا يتفطن له إلا ماهر في العلوم التي ذكرتها في أول الفصل مع اطلاع على دقائق الفقه ومذاهب الفقهاء.

ومن ذلك تحريه في رواية صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة كقوله: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أي: أن صحيفة همام بن منبه هي مجموعة أحاديث فيها مائة أو مائتا حديث، فهو يذكر أحاديث من هذه الصحيفة لا يذكرها بالسند؛ لأنه روى بسند واحد جملة أحاديث. فمن تحري الإمام مسلم عندما يروي حديثاً من هذه الصحيفة يقول مثلاً: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها:

يقول رحمه الله تعالى: فذكر أحاديث منها:

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق...)، الحديث.

ومن ذلك: تحريه في مثل قوله: حدثنا عبد الله بن مسلمة -ولقبه القعنبي - حدثنا سليمان -يعني: ابن بلال - فلو قال الإمام مسلم : حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان بن بلال لكان في ذلك شبهة كذب على شيخه، فهو يريد أن يبين في الرواة أنه سليمان بن بلال ، لأنه قد يكون أكثر من سليمان في نفس الطبقة.

يقول رحمه الله: ابن بلال عن يحيى وهو ابن سعيد ، فلو قال: حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد يكون قد كذب على شيخه؛ لأن شيخه لم ينسبه، وإنما قال: حدثنا سليمان عن يحيى .

فلم يستجز رضي الله عنه سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد ؛ لكونه لم يقع في روايته منسوباً فلو قاله منسوباً لكان مخبراً عن شيخه أنه أخبره بنسبه ولم يخبره.

ومن ذلك: احتياطه في تلخيص الطرق، وتحول الأسانيد مع إيجاز العبارة وكمال حسنها.

أي: أنه يلخص طرق الحديث، ويجمع الروايات مع الاختصار وحسن العبارة والدقة والتحري.

ولذلك دائماً الذين يخرجون الأحاديث يقولون مثلاً: هذا الحديث رواه البخاري ، ومسلم واللفظ لـمسلم ؛ لأن مسلماً معروف بالمحافظة على الألفاظ النبوية؛ لأنه كان لا يجيز رواية الحديث بالمعنى، ويفرق بين حدثنا وأخبرنا.

أما الإمام البخاري فكان يجيز رواية الحديث بالمعنى، وكان يقطع الأحاديث ويترجم لها تراجم مختلفة ويستنبط منها الأحكام.

فالحاصل: أن الإمام مسلماً مشهور بالدقة والتحري والمحافظة على الألفاظ النبوية.

يقول رحمه الله تعالى: ومن ذلك حسن ترتيبه وترصيفه للأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب، ودقائق العلم، وأصول القواعد، وخفيات علم الأسانيد، ومراتب الرواة وغير ذلك.

الجواب على من عاب على مسلم إخراجه عن بعض الضعفاء

الجواب على من عاب على مسلم إخراجه عن جماعة ممن تكلم فيهم بالضعف:

قال الإمام النووي : عاب عائبون مسلماً بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح. ولا عيب عليه في ذلك، بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله:

أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده.

وذلك أن التضعيف والتوثيق مسألة اجتهادية، فقد يكون الراوي هذا ثقة عند الإمام مسلم، وهذه مسألة اجتهادية فلكل اجتهاده.

فالجواب الأول: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتاً مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذلك.

وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب، يعني: الراجح أنها أوهام ولم يثبت عليهم هذا الطعن.

الثاني: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول، فيذكر الأسانيد السليمة برواية الحفاظ المتقنين أولاً ثم أهل الستر والصدق، ثم من تكلم فيهم بالضعف.

فيكون مطمئناً للمتون بالأسانيد الأولى، ثم يذكر بعد ذلك أسانيد فيها شيء من الكلام.

يقول: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولاً بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلاً، ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه.

الجواب الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته.

أي: أن الإمام مسلماً روى عن راو ثم اختلط هذا الراوي بعد رواية الإمام مسلم عنه.

يقول: كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب ، فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر -أي أن الإمام مسلماً روى عنه قبل أن يختلط- فهو في ذلك كـسعيد بن أبي عروبة ، وعبد الرزاق وغيرهما ممن اختلط آخراً، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك.

الجواب الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن في ذلك؛ لأن الحديث قد يكون ثابتاً من رواية الثقات، ولكنه حديث نازل يعني: أن عدد الرواة كثير في السند.

فقد يرويه الإمام مسلم بسند عال، ولكن فيه بعض الرواة ممن تكلم فيهم، وهو مطمئن أن أهل عصره يعرفون أن هذا الحديث ثابت برواية الحفاظ، فلا يضر أن يكون بعض رواة السند ممن تكلم فيهم إذا كان السند عالياً، وذلك في الشواهد والمتابعات.

المقارنة بين صحيح البخاري وصحيح مسلم

قال الإمام النووي : اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان: البخاري ، ومسلم ، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري .

والقصة معروفة أن الإمام مسلماً كان يتعلم من الإمام البخاري ، وكان يتعلم من محمد بن يحيى الذهلي ثم لما وقع الكلام بين محمد بن يحيى الذهلي والإمام البخاري ونسب للإمام البخاري القول بخلق القرآن، فقال الإمام محمد بن يحيى الذهلي: من كان يجالس محمد بن إسماعيل فلا يجلس إلينا، أو من قال باللفظ فلا يجلس إلينا، كان مسلم يقول بما يقوله الإمام البخاري، وهما بريئان من هذه التهمة، وهما من أئمة أهل السنة، فترك الإمام مسلم مجلس محمد بن يحيى الذهلي وأرسل إليه كل الأحاديث التي سمعها منه.

ومن باب الإنصاف: لم يرو الإمام مسلم في صحيحه حديثاً واحداً عن الإمام البخاري مع أن البخاري شيخه، وهو أكبر منه وأعلم منه.

أما الإمام البخاري فروى أحاديث عن محمد بن يحيى ، واعتبر أن ما وقع بينه وبين محمد بن يحيى ليس قادحاً في عدالته، فكان يقول: حدثنا محمد ويسكت.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , ترجمة الإمام مسلم للشيخ : أحمد فريد

https://audio.islamweb.net