إسلام ويب

مقام الشفاعة يوم القيامة مقام عظيم اختص الله به أنبياءه صلوات الله وسلامه عليهم، ومنهم وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختصه بشفاعات خاصة دونهم، ثم بعد الأنبياء يأتي أصناف من الناس جعل الله لهم شرف الشفاعة بين يديه، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهذا من تكريم الله عز وجل لهم، وإحسانه إليهم جزاء ما قدموا في الدنيا من تضحية بملاذ الدنيا وزخارفها في سبيل مرضاة الله ورفعة دينه.

مجمل القول في الشفاعة الخاصة برسول الله والشفاعة العامة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فإننا على مشارف الانتهاء من هذا الكتاب الجليل: كتاب التوحيد لـابن خزيمة , وما زلنا مع مقامات الشفاعة والكلام على شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بينا سابقاً أن الناس يخرجون من قبورهم عطشى يهرعون، فتنشق عنهم الأرض سراعاً إلى ربهم جل في علاه, فيخرجون ويشتد عليهم الكرب، ويعظم عليهم الخطب، فيستشفعون بأنبياء الله جل في علاه, فيذهبون إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم، وما من نبي إلا ويقول: نفسي نفسي ويحيلهم على نبي آخر، إلى أن يصلوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب تحت العرش فيسجد فيحمد الله جل في علاه بمحامد يعلمه الله إياها آنذاك، فيحمد الله ويثني على الله بما هو أهل له, ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع, ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقضى بين العباد، وهذا هو المقام المحمود الذي شرف الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وكرمه على الخلق أجمعين، وأظهر كرامته ومكانته أمام الخلق أجمعين.

وذكرنا أن هذه الشفاعة الخاصة برسول الله تلتها شفاعة أخرى خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لا يشترك معه فيها أحد، وهي: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، كما يقول الملك: بك أمرت، يعني: لا يمكن أن يفتح قبل محمد صلى الله عليه وسلم, بأبي هو وأمي.

وأيضاً هناك شفاعة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: شفاعته لعمه أبي طالب من الكافرين، فلولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شفع في عمه أبي طالب لكان في الدرك الأسفل من النار، وهو في ضحضاح من النار، وهذه أيضاً شفاعة لا يشترك مع رسول صلى الله عليه وسلم فيها أحد.

وبعد ذلك شفاعات ثلاث بيناها، وبينا أن هذه الشفاعات يشترك فيها الأنبياء والمرسلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وفوق ذلك فإن الله يظهر كرمه على عباده، فهو لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فإن الله يحسن إلى من أحسن من عباده وتذلل وتقرب وترك الدنيا من أجله، فيكرمه ويظهر كرامته في الآخرة بالشفاعة.

شفاعة الصديقين والشهداء يوم القيامة

ومن أصحاب هذه المنزلة: الصديقون، فهذه المرتبة تلي مراتب الأنبياء, وأيضاً الشهداء, وأيضاً الأولياء, فمراتب الناس بعد الأنبياء والمرسلين: الصديقون، ثم بعد ذلك الشهداء، ثم بعد ذلك أولياء الله الصالحون.

والصديقية تجيء عن محض التصديق، أي: أن يصدق ما أخبر به من قبل الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم, فلا يسمى صديقاً ولا يرتقي منبر الصديقية إلا إذا صدق تصديقاً محضاً بكل ما أتاه من الله جل وعلا ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسان حاله يقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأروع الأمثلة على تجسيد الصديقية أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه, فقد جسد لنا معنى الصديقية ظاهراً وباطناً.

فأول هذه المراتب: أن يصدق بكل ما أُخبر به من قبل الله وقبل رسوله صلى الله عليه وسلم.

والمرتبة الثانية: أن يصدق قوله فعله, والمرتبة الثالثة: أن يصدق ظاهره باطنه, والرابعة والخامسة: التصديق بموعود الله جل في علاه سواءً في الدنيا أو في الآخرة.

أولاً: التصديق بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله، وهذه -كما قلت- ضرب فيها أبو بكر أروع الأمثلة مبيناً لنا مكانة الصديقية, فلما كانت ليلة الإسراء ظن كفار قريش أنهم قد ظفروا بما يكذبونه به، فظنوا أنهم قد ظفروا بما يريدون حتى يجعلوا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه يرتد عما هو فيه.

فذهبوا إلى أبي بكر وقالوا: يا أبا بكر ! أما رأيت ما زعم صاحبك أو ما يقول صاحبك؟! قال: وما يقول؟ قالوا: يقول: إنه كان البارحة في بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة! فقال أبو بكر -يبين لنا معنى الصديقية- أقال ذلك؟ قالوا: نعم قال ذلك, وهم يظنون أن أبا بكر سيقول: إذاً لا أتبعه، فلا يعقل أن يذهب رجل إلى بيت المقدس -وهو تضرب إليه أكباد الإبل في شهور- ويرجع في ليلة واحدة، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إن كان قال ذلك فقد صدق، فلما قال ذلك دهشوا، فبين لهم الدليل القاطع فيما هو أجلى من ذلك, فقال: والله! إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه في خبر السماء. أي: فهذا أعظم من أن أصدقه في ذهابه إلى بيت المقدس ورجوعه في ليلة.

وضرب لنا أيضاً أروع الأمثلة في الصديقية رضي الله عنه وأرضاه في الحديبية، وهذه تبين لك مرتبة الصديقية من مرتبة الإلهام, فالفارق بينهما مفاوز، فمرتبة الصديقية أرقى من مرتبة الإلهام, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في عمر : (لو كان في الأمة محدَّث أو مُلهَم لكان عمر), وهذا الملهَم والمحدَّث الذي تتحدث الملائكة على لسانه بالحق ينزل مرتبة عن مرتبة الصديقية الذي صاحبها يجري الحق على لسانه وقلبه، ولا يحتاج إلى ملك يتكلم على لسانه, فانظروا كيف يبين لنا أبو بكر معنى الصديقية ومرتبتها العليا في صلح الحديبية، فلم يستطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكذلك كثير من المسلمين تقبل شروط الصلح، وقالوا: نحن في قوة ومنعة فكيف نعطي الدانية في ديننا؟! فقال عمر : يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى, قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى, قال: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني رسول الله ولن يضيعني الله)، وهنا يأتيك شاهد الصديقية، فيذهب عمر إلى أبي بكر -لأن أبا بكر أقرب الناس إلى رسول ويمكن أن يؤثر على رسول الله- فقال: يا أبا بكر ! ألسنا على الحق؟ قال: بلى, قال أليسوا على الباطل؟ قال بلى, قال: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! فانظروا إلى الصديقية فلا يفرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر إلا مرتبة النبوة , ولذلك ورد في بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو لم تنزل الرسالة عليّ لنزلت على أبي بكر) وينظر في أسانيدها، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كان هناك نبي بعدي لكان عمر)، لكن المرتبة الأولى هي مرتبة أبي بكر ، وأبو بكر كان يوازي النبي صلى الله عليه وسلم في الخلق، فقال له أبو بكر إلزم غرزه؛ فإنه رسول الله ولن يضيعه الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فقالوا: إن بين عمر وبين أبي بكر مفاوز فالصديقية أرقى ما تكون.

وقد ضرب لنا أبو بكر لنا أروع أمثلتها عند موت النبي صلى الله عليه وسلم, فـعمر رضي الله عنه وأرضاه أيضاً لم يستطع أن يصبر على ذلك، فقال: من قال: إن محمداً قد مات لأعلونّه بالسيف, فقام أبو بكر وقال: أسكت، فلم يسكت عمر وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى إلى ربه وسيرجع ليقطع أيدي المنافقين وأرجلهم, ثم قال أبو بكر : أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

فالصديقية مرتبة أرقى ما تكون وهي تصديق بموعود الله جل في علاه، وتصديق بنصر الله، والقول فيها يصدق الفعل، والظاهر يصدق الباطن, وكان أبو بكر يعلم أن الله جل وعلا جنّد جنوداً من الملائكة كل صباح ومساء يقولون: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً, فكان يصدق بها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكانت تجري منه مجرى الدم رضي الله عنه وأرضاه, فلما استنفرهم رسول صلى الله عليه وسلم للنفقة قال عمر : اليوم أسبق أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه, فأنفق نصف ماله، أو شطر ماله فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ما تركت لأهلك؟ قال تركت لهم مثله، فمدحه وأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم جاء الصديق -الذي يصدق ويستيقن بالله جل في علاه- بماله كله وما أضرب هذا المثال الرائع لنتسلى، فالضياع في دنيانا اليوم والله الذي لا إله إلا هو! هو نفس الضياع الذي حصل لليهود, فقد ضاع اليهود لعدم يقينهم بالله تعالى، ونتيجة لضعف إيمانهم لم يثقوا بربهم جل في علاه، فلما أنزل الله عليهم المن والسلوى وهو طعام شهي لا يمكن أن يستعيضوا عنه بشيء قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ [البقرة:61] فهم لا يثقون بربهم جل في علاه, وهذا الضياع الذي نحن فيه سببه أننا لا نثق بربنا جل في علاه بحال من الأحوال, فأنت تخشى من الغرب والشرق، وتخشى من اليمين واليسار، وتخشى من فوق ومن تحت؛ لأنك لا تثق في ربك جل في علاه, فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه, يقول: والله! لو جرت الكلاب أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة وما ذاك إلا لأنه يثق في الله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جند أحداً فالنصر معه, وسترى ذلك من أبي بكر ويقينه في الله، اللهم ارزقنا ذلك يا رب العالمين! وأمتْنا عليه, فحلاوة الإيمان هذه لم يصل إليها المرء إلا بذلك, فـأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه صدق بما أنزل الله فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم بكل ماله، فقال له: (يا أبا بكر ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله)فسطر لنا سطراً علمه من كتاب الله لنعمل به, قال الله تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، فمن خشي على أولاده فعليه بالصلاح والتقى واليقين بالله جل في علاه، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، فإذا قالوا ذلك واتقوا الله فإن الله كفيل بأولادهم, وكما تقول في السفر: وأنت الخليفة في الأهل.

فكان أبو بكر يستيقن في موعود الله جل في علاه.

وفي غزوة بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع ويتذلل ويخضع ويبكي لله جل في علاه, ويقول: اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يبكي ويتضرع مرة ثانية: اللهم! أنجز لي وعدك الذي وعدت، وهذه سنة نعمل بها، ولنعلم أننا لا يمكن أن نخرج من الضوائق إلا أن نتذلل لله جل في علاه, فتغلق كل الأبواب إلا ويبقى باب واحد مفتوح فيه والنصر والرفعة والنجاة, وهو باب الذل لله جل في علاه, فتذلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقاعدة عند العلماء: أن أعز أهل الأرض هو أذل أهل الأرض لله جل في علاه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب لنا أروع الأمثلة في الذل والخضوع والمسكنة لله جل في علاه: (اللهم! أنجز لي وعدك الذي وعدت, اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم), فيقول أبو بكر المطمئن القلب بما طمأنه به رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله! إن الله سينجز لك ما وعدك, فما لبث إلا أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر ! هذا جبريل على فرسه), فأنزل الله الملائكة نصراً لهؤلاء المؤمنين.

إنها الصديقية! اللهم ارزقنا ذلك يا ربنا! ولذلك كان عمر الفاروق فارس الميدان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الحق لمع عمر)، وقال: (لو سلكت فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فجك يا عمر)، وعمر نفسه قال: النبوة ليست لنا، والصديقية من يرتقي إليها, فكان يقول: ليتني شعرة في صدر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه, ثم قال: اللهم ارزقنا الشهادة، أي: فإن لم نستطع إلى الصديقية سبيلاً فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الشهداء.

فهؤلاء الصديقون يشفعون في أهليهم وذويهم ومن يعرفون, بل يشفع الرجل في قبيلة بأسرها فتدخل الجنة بشفاعة هذا الرجل الصديق.

وأيضاً جعل الله للشهداء كرامة لم يجعلها لغيرهم، فهم يشفعون في أهليهم وذويهم, اللهم ارزقنا الشهادة يا رب العالمين! فهؤلاء الشهداء الأخيار هم الذين اصطفاهم الله على العالمين, فإن الله لا يصطفي أي أحد لهذه المنزلة العظيمة، فالله يصطفيهم على عينه وعلى علمه جل في علاه, ولذلك فإن للشهيد ست خصال: ومن هذه الخصال: أنه يشفع في سبعين من أهله، بل ويشفع في كثير من قومه.

شفاعة عباد الله الصالحين يوم القيامة

ثم بعد ذلك تأتي شفاعة أولياء الله الصالحين، كما جاء ذلك في حديث القبضة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن عباد الله الصالحين المؤمنين يقولون: (ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا، ويزكون معنا، ويحجون معنا)، أي: وهم في النار، فكانوا يصلون ويزكون ويحجون ثم هم في النار، نعوذ بالله من الظلم ونعوذ بالله من الخذلان يوم القيامة, (قالوا: ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا، ويحجون معنا، ويزكون معنا)، فالله جل في علاه يظهر كرامتهم فيقول: (اذهبوا فأخرجوا من تعرفون من النار, فيخرجون من قال: لا إله إلا الله)، والنار لا تأكل مواضع السجود فمن هم في النار؛ لأن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل مواضع السجود, وكلٌ يعذب في النار على قدر ذنوبه، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى المصنف بأكثر من حديث تدل على أن النار تأكل الناس على حسب سيئاتهم, فمنهم من تأكله إلى ساقه, ومنهم من تأكله إلى ركبته, ومنهم من تأكله إلى حقوه, ومنهم من تأكله إلى صدره , لكن النار حرم عليها أن تأكل مواضع السجود، فيعرفونهم بذلك فيخرجونهم بعدما ماتوا وصاروا حمماً، فيلقون في نهر الحياة، ثم ينبتون وبعد ذلك يدخلون الجنة).

الرد على من استدل بحديث القبضة على عدم كفر تارك الصلاة

واستدل المصنف بحديث آخر وهو أرجا حديث عند أهل السنة والجماعة، وهو حديث القبضة: (أن الله يقبض قبضة فيخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ولم يعمل خيراً قط)، ولنا وقفة مع هذه اللفظة؛ إذ إن من العلماء من يقول بعدم كفر تارك الصلاة ويتمسكون بهذا الحديث، فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط)، ونحن لا نوافق على هذا, وهذا أضعف ما يكون, والرد عليه من وجهين:

الوجه الأول: أنهم يوافقوننا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يعمل خيراً قط) مخصوص بأعمال القلوب؛ إذ لا يمكن أن نقول: إن هذا الذي يخرجه الله جل وعلا ليس عنده أصل التوكل أو الخوف أو الرجاء أو المحبة, فأفعال القلوب ركن ركين من أركان الإيمان, فمن فقد أصل التوكل فقد الإيمان, ومن فقد أصل الخوف من الله فقد الإيمان, ومن فقد أصل الرجاء فقد الإيمان, فأعمال القلوب نحن وهم متفقون على أنها ركن ركين من الإيمان, فلو خلا القلب من أعمال القلوب فإن صاحبه يكون كافراً، كما سنبين عند الحديث الآخر الذي استدل به المصنف، وهو حديث الرجل الذي قال: (فذروني وألقوني في البحر، فلما سأله الله عن سبب فعله قال: مخافتك)، والمخافة عمل قلبي، فهذه دلالة على تخصيص معنى: (من لم يعمل خيراً قط)بأعمال القلوب.

فكما أبحتم لأنفسكم أن تخصصوا العموم في قوله (من لم يعمل خيراً قط) بأعمال القلوب، فنحن أيضاً عندنا نصوص قواطع تجعلنا نخصص هذا النص، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين المرء وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة)، والشرك والكفر هنا معرف بالألف واللام العهدية، يعني: الكفر الذي تعهدونه وتعلمونه، وهو الذي يخرج من الملة, وهذا يخصص قول الله تعالى: (من لم يعمل خيراً قط) فكما خصصناه بالخوف والرجاء والتوكل فكذلك نخصصه بالصلاة, فيكون معنى الكلام: لم يعمل خيراً قط سوى الصلاة.

فمثلاً رجل اسمه محمد وهو من يوم أن خلقه الله جل وعلا وإلى أن مات لم يسجد لله سجدة، ولم يركع لله ركعة، فهل نقول: إنه مؤمن؟! والله هذا ليس بمؤمن بحال من الأحوال، ولا يؤمن باليوم الآخر، ولا أنه سيقف أمام ربه جل في علاه.

والرد الثاني على هذا الاستدلال: نقول: إن معنى: (لم يعمل خيراً قط) كما قال المصنف ابن خزيمة رحمه الله هنا: العرب يقولون: لم يعمل خيراً قط في الذي لم يتم الكمال، يعني: في الأمر الناقص غير التام.

واستدل على ذلك برواية في مسند أحمد بسند صحيح على ما فيها من الضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيخرجون رجلاً من النار فيقولون له: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا)، فهو هنا نفى أن يكون عمل خيراً قط, (فيقولون: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أتسامح مع الناس في البيع والشراء)، فهنا لم يعمل خيراً قط إلا أنه كان يتسامح في البيع والشراء، وهذا فيه تخصيص لدلالة أنه لم يعمل خيراً قط، وهذا جزاء وفاق وأجر طباق،هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60], فيقول الله تعالى: (تسامحوا عن عبدي كما كان يتسامح مع عبادي), فهنيئاً للتجار الذين يعملون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سمحاً إذا اقتضى، سمحاً إذا باع، سمحاً إذا أشترى)، والويل ثم الويل للتجار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار! تبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من صدق وبر)، فانظروا إلى فضل الله جل وعلا حيث يقول: (تسامحوا عن عبدي كما كان يتسامح عن عبادي) , وفي رواية أخرى: (يخرجون رجلاً من النار يقولون: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا، غير أني قلت لأولادي: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني وألقوني في الريح وفي الماء؛ إن الله لن يقدر عليّ أبداً، فيجمعه الله جل في علاه)، وفي هذه الرواية التي أتى بها المصنف قال: (إن الله لن يقدر عليّ أبداً، فلما جمعه الله قال: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: مخافتك, فلما علم الله من صدق قلبه أنه يخشى منه, قال: ادخل الجنة برحمتي).

بين لنا المصنف صفات أهل الجنة، وآخر أهل الجنة دخولاً كما يصف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: وهو يتبسم (إن آخر أهل الجنة دخولاً رجل يحبو على يديه ورجليه حتى يصل إلى ظل شجرة، ثم يصل إلى الجنة، فينظر فلا يستطيع أن يصبر)، وفي روايات أخرى يسأل ويقول: (لا أسأل مرة ثانية, فيقول الله: يا ابن آدم ما أغدرك! فيسأل مرة ثانية, حتى يصل إلى الجنة فينظر إليها فلا يستطيع أن يصبر، والله يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر عنه, فيقول: ربي أدخلني الجنة, فيقول: اذهب فادخل الجنة, فيذهب ليدخل الجنة وهو يصدق بموعود الله, فيعود ويقول: ربي وجدتها قد ملئت! أتسخر مني؟ أو قال: أتضحك مني وأنت رب العالمين؟ فيضحك الله جل وعلا ويقول: اذهب ولك مثل الدنيا وعشرة أمثالها).

الكبر سبب لدخول النار

ثم بعد ذلك أتى المصنف بصفات أهل النار, وهي صفات كثيرة جداً لكن استجمعت منها صفة هي أسوء الصفات, وهي أجمع الزلات، وهي مذكورة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين كما أورد ذلك المصنف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، نعوذ بالله من الكبر, فالكبر خلق ذميم مهلكة على صاحبه, وهو أم الكبائر, ومنبع الرذائل، وهو القائد إلى الهلاك, وهو أول ما عصي الله تعالى به، فعندما أمر الله جل في علاه الملائكة أن يسجدوا لآدم تكبر إبليس فلم يسجد لآدم وعصى الله جل في علاه ورد عليه الأمر، كما قال الله تعالى وصور لنا ذلك: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، فالكبر -والعياذ بالله- أقبح الذنوب وأكبرها هلكة على ابن آدم.

والكبر معناه: التعاظم والتجبر, وهو ازدراء الناس وبطر الحق ودفعه وإنكاره, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكبر غمط الناس وبطر الحق)، وبطر الحق هو: رد الحق كبراً وازدراءً والعياذ بالله، وغمط الناس هو: ازدراء الناس واحتقارهم، فهذا معناه لغة واصطلاحاً.

الأسباب المؤدية إلى نمو الكبر في قلب المرء

والكبر -كما ذكرت- أول ذنب عصي به الله جل في علاه، وله أسباب يجب عليك أن تتعرف عليها؛ حتى تنقي قلبك منها؛ فهو أعظم أدواء القلوب، وأسبابه أربعة أدواء، وهي: العجب والرياء والحقد والحسد.

فالعجب: هو الذي يؤدي بصاحبه إلى الكبر والعياذ بالله، فينظر إلى نفسه فيقول: أنا أنا ولا أحد مثلي والعياذ بالله, ويتعاظم في نفسه كما يتعاظم الشيطان في نفسه, فأول درجات الكبر العجب, والعجب مرض قلبي، وهو كبر باطني يظهر بعد ذلك على الجوارح والعياذ بالله، فينظر المعجب بنفسه في الدنيا فلا يرى أحداً مثل نفسه، وهذا يحمله على التكبر على الناس.

والحقد يورث البغضاء والكبر، فالحاقد على غيره لا يمكن أن يقبل منه شيئاً، بل يدفعه ويدفع كل ما جاء به, فالحاقد كالحاسد، والحاسد محترق، فالحقد والحسد يورثان البغض ودفع الحقائق وازدراء الناس, مع أنه في قرارة نفسه يعلم أن هذا المرء يستحق التواضع له، ويستحق الانصياع له ومع ذلك لا يقبل منه لأنه حاسد حاقد.

وآخر هذه الصفات الرياء، فبعضهم يريد أن يري نفسه ومكانه أمام الناس، وأن يسمع الناس بحاله ويرون مكانته، فالمرائي عندما يشار إليه بالبنان ويأتيه الصغير فيعلمه مسألة يجهلها فلا يمكن أن يقبلها منه؛ لأنه يرائي، ولو قبل منه هذا الكلام أمام الناس فإن الناس سيفضلون هذا الرجل عليه, فيخشى أن تنزل مكانته فلا يرضى بالحق ويدفعه, وعلاج هذه الخصلة يسير، فيمكن علاجها بالإخلاص وبمتابعة مراقبة الله جل في علاه, لكن علاج الحقد والعجب والحسد من أصعب ما يكون، ولن يعافى منه إلا من عافاه الله جل في علاه, نسأل الله جل وعلا أن يعافينا من هذا، والذي ينجي الناس من هذه الأدواء هو الدعاء والتذلل في السحر لله جل في علاه أن ينقي قلبك من هذه الأدواء.

أنواع الكبر

إن الكبر أنواع، فمنه الكبر على الله نعوذ بالله من غضبه، وهذا كفر بالله، والكبر على رسول الله والعياذ بالله، والكبر على عباد الله.

فالكبر على الله كفر, والكبر على رسول الله كفر, فالكبر على الله قد يكون كبراً على ربوبية الله جل في علاه، وذلك بعدم الانصياع لله جل وعلا, وعدم الإيمان بربوبية الله جل في علاه, وهذا ما فعله الخبيث فرعون فقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] ولم يرتضِ بربوبية الله جل في علاه, والأخبث منه النمرود الذي قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، فهذا ينازع الله في ربوبيته والعياذ بالله, فهذا كبر على الله في ربوبيته والعياذ بالله.

والكبر الثاني: الكبر على إلهية الله جل في علاه، وهذا حصل من أهل مكة، فقد تكبروا على إلهية الله جل في علاه, وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وكان أحدهم يأخذ حفنة من التراب ويضعها على رأسه، ويقول: يكفيني هذا، ولا يسجد لله تذللاً ولا خضوعاً، وهذا كبر على إلهية الله جل في علاه وعلى التعبد والتذلل والخضوع والمسكنة لربهم جل في علاه, وهم مقرون بالربوبية، فالكبر هنا: كبر في الإلهية وكبر على شرع الله، مع أن توحيد الإلهية من لوازم توحيد الربوبية, وإمام هذه الطائفة هو إبليس عندما رد الأمر على ربه جل في علاه حين أمره أن يسجد قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فقال الله تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف:13]، قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:62].

فهو -والعياذ بالله- يقدح في أمر الله وحكمة الله، ويقول: ليس من الحكمة أن تفضل هذا الذي خلق من طين عليّ، فهذا كبر على أوامر الله وشرعه.

ومن ذلك ما قاله ذاك الخليع الخبيث المفتون المأفون الذي قال: هذه الآية لا بد أن تشطب، يعني قول الله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فأراد أن يشطبها من كتاب الله جل في علاه، ثم تأتي امرأة هذا الرجل وتقول: إنه يقوم الليل ويصوم النهار، فهذا الرجل كافر مرتد عن دين الله جل في علاه؛ لأنه رد الأمر على الله، وقال: لا يصح أن نفضل الرجل على المرأة , فالرجل والمرأة سواء، والله جل وعلا يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] بل إن العقل الرجيح يقبل ذلك, والقاعدة عند العلماء: الغنم بالغرم والخراج بالضمان, فهذا عدل السماء ولكن هؤلاء الأغبياء السفهاء بله لا يفقهون شيئاً، وهم يعاندون دين الله جل وعلا للمعاندة وللشهرة فقط, فيركبون موجة محاربة الإسلام, فهذا أيضاً كفر وكبر على أوامر وشرع الله جل وعلا، وهي من لوازم ربوبية الله.

والكبر على رسول الله يكون برد أوامر رسول الله، وعدم الانصياع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب سنة النبي صلى الله عليه وسلم عرض الحائط والأخذ بقول فقيه, ولله در من قال:

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه.

وبعضهم يقول: إن عقله يقدم على النص, فنعرض الأحاديث على عقولنا فإن قبلتها العقول أخذنا بها، وإلا رددناها، ووالله إن الذين يقولون: نعرضها على كتاب الله فما وافق كتاب الله أخذنا به، لهم خير من هؤلاء لأن هؤلاء يعرضون الأحاديث على عقولهم الخربة، وطبعاً الأمثلة في ذلك كثيرة، فقد ردوا حديث الذباب وهو حديث رواه أبو داود بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الجناح الثاني الدواء)، وقال في رواية أخرى أوضح من ذلك: (ويتقي بالذي فيه الداء) يعني: أنه أول ما ينزل فإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء، فأنت لو لم تغمسه فسيقع عليك الضر؛ وبعضهم يقول: كيف نعرف ذلك فلعله نزل بالجناح الذي فيه الدواء؟ فنقول: إن السنة قد جاءت مفسرة لكل شيء, قال النبي صلى الله عليه وسلم (وإنه ليتقي بالجناح الذي فيه الداء)، فلا بد أن تغمسه حتى يأخذ الجناح الذي فيه الدواء الداء.

ومع ذلك جاء عالم ألماني كافر وبين لهؤلاء المسلمين الذين يردون دين الله ويردون سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبحاث كثيرة أن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنهم من رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أنه تزوج عائشة وهي بنت ست سنين ودخل بها وهي بنت تسع، فيقول أحدهم: أنا عندي عقل أفكر به، فلا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون قد تزوجها حتى إن روى ذلك البخاري ، وهذا الحديث في البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة ، وهذه الأسانيد كالشمس وهو يردها؛ لأن عقله لم يقبل هذه الأحاديث.

وهناك رجل آخر -وقد مات رحمة الله عليه وغفر زلاته وما من أحد إلا وقد زل والله غفور رحيم, لكن نحن نبين أخطاءه- رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج من قلبه حض الشيطان، وملأه علماً وحكمة)، فيقول: لا لم يشق صدره ولو شقه فإنه سيموت، مع أنه لو قيل له: إن الطبيب الفلاني الماهر أجرى ستين عملية قلب، وسبعين عملية كلى وثلاثين عملية شرايين ونجح فيها، فإنه يصدق بهذا، فهذا الطبيب عنده مهارة وجبريل عليه السلام ليس عنده مهارة، أي فقه هذا لهؤلاء القوم؟!! إن جبريل عليه السلام مأمور من الله جل في علاه، والله جل في علاه إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون.

فيرد حديث الشق لأن عقله لا يقبله.

وأيضاً رد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، قال: إن البخاري لو رأى تاتشر ما روى هذا الكلام!! فنقول لهذا وأمثاله: سمعنا وأطعنا، ووالله ما علت امرأة عرشاً أبداً إلا وأتت به على دابره، وأتى الله بقومها على دابرهم, فالمرأة ضعيفة أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، فمن الأبله السفيه الذي يجعل زمام أمره في يد امرأة؟ فالمرأة إذا جاعت فإنها تبكي كالأطفال، وإذا رأت قتالاً ذهب الوعي عنها، فهي لا تستطيع شيئاً، وما عندها إلا المكياج وحلاوة نفسها وجمال زينتها، وإن كنا لا نقدح في عقلها ولا في أمومتها ولا في مكانتها، لكن لا يمكن أن تصدر امرأة عليك أبداً، ووالله ليس من الرجولة ولا من الشهامة ولا من المروءة ولا من الشرع أولاً أن تقدم المرأة عليك.

وبعض أصحاب الفضائيات يقول: إن المرأة كانت محدثة، فمن أين أخذتم العلم أليس من عائشة رضي الله عنها وأرضاها؟ قلنا: نعم، قد تكون المرأة محدثة وقد تكون حافظة وصاحبة أسانيد، بل كان ابن حجر رحمة الله عليه يجلس في مجلس الإملاء ثم بعد ذلك يأتي بامرأته من خلف الستار تملي على طلبة العلم, وهناك نساء كثيرات كن يحفظن علم رسول صلى الله عليه وسلم, لكن أن تقول: إن المرأة تتولى أمر الرجال، وتتولى القضاء فهذا غير صحيح، وجمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم يقولون: إنه لا يجوز بحال من الأحوال أن تتقلد المرأة القضاء, وذهب الطبري أو ابن حزم إلى أنه يجوز للمرأة أن تتولى القضاء، واستدل بتحديث عائشة وغيرها.

ونحن نقول: إن الأدلة قاطعة باهرة للعقول في عدم جواز ذلك لقول الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، وأتوني بقاضية على مر العصور وكر الدهور في الخلافة الإسلامية، أو حتى في أيام الخلافة عندما وهنت وضعفت، فلابد للإنسان أن يقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول على مراد رسول الله.

الكبر الثالث: الكبر على عباد الله، وهذا أخس لأنه ليس بكفر لكنه نذير شؤم وهو يؤذن بهلكة المتكبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخاصمت الجنة والنار، فقالت النار: ما لي يدخلني المتجبرون والمتكبرون)، فأصحاب النار هم المتكبرون.

وكتب الله الذل في الدنيا والآخرة على كل متكبر، فأما في الدنيا: فإن الله لا يمكن أن يرفع رجلاً تكبر ونازعه في ربوبيته، فالله يضرب عليه الذل والصغار في الدنيا قبل الآخرة, وفي الآخرة يفضحه على رءوس الخلائق كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر على صورة رجال يغشاهم الذل من كل مكان) نعوذ بالله من التكبر. وقد رأى ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلاً يمشي متبختراً فقال: إن هذا من إخوان الشياطين؛ لأن الشيطان هو الذي يمشي في الأرض مرحاً. وعقاب المتكبر العذاب الأليم، والله جل وعلا لا يحب المتكبرين فكفى بهذه مذمة، وكفى بها عقوبة.

والمتكبر ينازع الله في ربوبيته, فكيف يفعل الله جل وعلا فيمن ينازعه في ربوبيته؟ جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: (الكبر ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار), وأيضاً في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة وأبغضكم إليّ الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، فقالوا: يا رسول الله! علمنا الثرثارين والمتشدقين فمن المتفيهقون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المتكبرون)، فهذا آخر ما يستنبط من هذه الأحاديث التي استدل بها المصنف.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - مقامات الشفاعة للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net