إسلام ويب

أمر الله تعالى بالتفقه في الدين وحث عليه، ولا يمكن أن تجد فقيهاً متمكناً لا يعرف القواعد الفقهية التي تضبط له فروع الفقه ومسائله. ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأمور بمقاصدها، والتي تُعنى بالنيات، فلا تعتبر الأفعال أو تترتب عليها النتائج إلا بها، وهي تبين أنه قد تتحد الأعمال وبالنيات تختلف أحكامها، وللنية ثمرات، منها: التمييز بين العادات والعبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض، وقلب العادات إلى عبادات.

أدلة قاعدة الأمور بمقاصدها

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الإخوة الكرام! نفتتح اليوم بإذن الله كتاب القواعد الفقهية لفضيلة الشيخ/ محمد بن بكر بن إسماعيل ، ثم نتكلم عن أحكام المواريث، فنقسم الدرس بين القواعد الفقهية، وبين مهمات في أحكام المواريث.

انتهينا من المقدمة والكلام على القواعد الفقهية وأهميتها، وأنه لا يمكن أن تجد فقيهاً متقناً لعلم الفقه بدون أصول الفقه، وبدون القواعد الفقهية، إلا أن يكون صانعاً لها والفرق بينهما يبينه إتقان الأصول والقواعد، والتي تجعل من الرجل صانعاً للخفاف أو بائعاً لها.

وقد فرقنا بينهما، وهذا التفريق ليس منا، بل من فحل من فحول الفقه وهو ابن رشد في بداية المجتهد، فهناك فارق بعيد بين المقلد الذي هو بائع الخفاف وبين المجتهد الذي هو صانع الخفاف، فقد نجد من ينتسب إلى الفقه الشافعي مثلاً فيحفظ كل فروعه، وتسأله في مسألة منه فإذا هو كالسيل الجرار، أما إذا سألته في مسألة مستحدثة؛ لأنه لا يدرس العلوم أو ليس بفقيه بحق فلا يستطيع الجواب، ويضرب أخماساً بأسداس؛ ولذلك صانع الخفاف: هو الذي يضبط المسائل، وإذا أتاه فرع لم يقرأه يرد الفرع على الأصل، وهذا مصداقاً لقول الإمام مالك : ليس العلم بكثرة المسائل، ولكن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء.

نبدأ إن شاء الله بأول قاعدة، وهي أهم القواعد وهي: الأمور بمقاصدها، وأغلب هذه القواعد أدلتها من الكتاب والسنة.

وأدلة هذه القاعدة كما يلي:

أولاً: ما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، و(إنما) أسلوب حصر أي: قبول الأعمال بالنيات صحة أو بطلاناً، ومن أساليب الحصر: ثم وإن وإلا، وتقديم ماحقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، مثل قوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

أي: نعبدك أنت وحدك أو نعبد إياك، فقدم المفعول على الفعل والفاعل، وإياك نستعين: فيها نفس المعنى.

ومن أساليب الحصر: النفي والإثبات، مثل: لا إله إلا الله. ومعنى أسلوب الحصر: أن الحكم لا يتواجد إلا فيما ذكر، ويخرج كل ما كان غير هذا الذي ذكر.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، والتقدير: قبول الأعمال وصحتها مرتبط بالنيات، فهذا أول دليل لهذه القاعدة العظيمة التي تشمل فروعاً كثيرة.

وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)، فقال في الجهاد -الذي هو عمل الجوارح- إنه لا بد أن يقترن بنية وفي الحديث الذي يذكر الجيش الذي يخسف بأوله وآخره، قالت عائشة يا رسول الله! إن فيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم)، فذكر أصل الأصول وهو النية.

وهناك أحاديث فيها ضعف، ولكن يستأنس بها مع هذه الثوابت، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نية المؤمن خير من عمله).

ومنها: ما جاء في النسائي والدارمي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، يقاتل حمية، ويقاتل من أجل غنيمة، ما له؟ قال: لا شيء له، ثم ذكر له السؤال مرة ثانية فقال: لا شيء له، ثم ثالثة فقال: لا شيء له، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وابتغي به وجهه) ابتغاء وجه الله، وهذا أصل النية.

ومنها: ما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـسعد : (إنك لن تنفق نفقة تبتغي -هذا وجه الشاهد- بها وجه الله إلا أجرت عليها)، أي ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة.

تعريف القاعدة وشرحها

ولا بد من معرفة معنى القاعدة حتى نطبقها تطبيقاً صحيحاً، فالأمور: واحدها أمر، أو جمع أمر، والأمر في اللغة معناه: الحال أو الشأن، أي: الشأن والحال، قد يقبل أو يرد بالمقصد، ومقاصدها: جمع مقصد، والمقصد معناه: العزم على الشيء.

إذاً: معنى قاعدة الأمور بمقاصدها: أن أحوال وشئون الإنسان في أفعاله تترتب على نيته، وفي عرف الفقهاء: الأمور بمقاصدها يعني: أعمال المكلف، والفرق بين القواعد الفقهية وبين القواعد الأصولية، أن القواعد الأصولية: تهتم بدلالات اللفظ مثل: الأصل في الأمر الوجوب، الأصل في النهي التحريم.

أما القواعد الفقهية: فإنها تنظر إلى أعمال المكلفين سواء القولية أو الفعلية، فأحكامها ونتائجها تترتب على النية، بمعنى أن أعمال المكلف من قبول ورد، أو ثواب وعقاب، أو صحة وبطلان تترتب على النية، فمثلاً رجل قام يصلي، فصلاته لها صحة أو بطلان، ولها ثواب أو عقاب.

ومثاله شخص سمع المؤذن يؤذن لصلاة الظهر، فإذا قام يصلي خالعاً النية فصلاته باطلة، كأن يصلي مع الإمام الظهر فقام وكبر، ولم يستحضر النية، ولم ينو أي صلاة أي: لم يعين صلاة، فلا يدري هل سيصلي ظهراً؟ أم عصراً؟ أم نافلة؟ أم فرضاً؟ فأتى بتكبيرة الإحرام والفاتحة والركوع والرفع والسجود والرفع إلى أن انتهى من الأربع الركعات، فحكم هذه الصلاة البطلان؟ لأن الأمور بمقاصدها.

ومعنى الأمور بمقاصدها أنها: تصح إذا كان المقصد صحيح، وتبطل بضد ذلك.

ومثلاً: لو دخل رجل فصلى، ونوى أن يصلي الظهر، لكن لما رأى الناس ينظرون لصلاته قال: سيمدحونني، فأحسن هذه الصلاة؛ من أجل أن الناس سيمدحونه على خشوعه، فحكم هذه الصلاة: أنها صحيحة ويأثم عليها.

أما بالنسبة للشق الثاني الذي تكلمنا عنه في معنى الأمور بمقاصدها، أي: الثواب أو العقاب، فليس له عليها ثواب؛ لأن الأمور بمقاصدها، وله الثواب لو قصد بذلك وجه الله انبثاقاً من الحديث: (ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة تبتغي)، وقيد بـ (تبتغي بذلك...) الحديث.

إذاً: إذا صليت صلاة فأحسنت الركوع والسجود والرفع وجب أن أقول لك: اقصد بذلك وجه الله لتثاب على هذه الصلاة، وهذا معنى أو شرح التعريف.

إذاً: شرح تعريف الأمور بمقاصدها عند الفقهاء: أن أعمال المكلفين سواء أكانت قولاً أم فعلاً، صحة أو بطلاناً، ثواباً أو عقاباً، تترتب على النية، وتطبيق هذه القاعدة كثير عند فقهائنا، والقواعد الفقهية تشمل جميع الأبواب، أو تشمل أغلب الأبواب، خلافاً للضوابط؛ لأن الضابط يشمل باباً واحداً كالطهارة مثلاً أو الزكاة.

تطبيقات وصور لقاعدة الأمور بمقاصدها

من هذه الصور ما يلي:

الصورة الأولى: رجل سار بسيارته فوجد أمامه شبح رجل فقتله بالسيارة، فنأتي بالصور لنطبق القاعدة عليها؛ ليعلم طالب العلم كيف يطبق القواعد وكيف كان الفقهاء يطبقون هذه القواعد.

عندنا رجل نريد الحكم عليه، والحكم يحال إلى القاضي الفقيه النحرير، رجل قتل رجلاً بسيارة، فعند الحكم عليه نأتي إلى القاعدة، فيقول الفقيه: الأمور بمقاصدها، إذاً: ننظر إلى الفاعل وإلى قصده ونيته، فإن كانت النية: قتله عمداً، فله حكم، وإن كانت النية أن لا يقتله عمداً، وقتله خطأً، فله حكم آخر، مع أن القتل واحد.

إذاً: فالمقاصد تغير لنا الأحكام، فإذا كان صاحب السيارة دهس هذا الرجل وقتله قاصداً ذلك مع سبق الإصرار والترصد -كما يقولون- فحكمه القتل والقصاص.

ولذلك قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ .. [البقرة:178]، إلى آخر الآيات، وقال الله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45].

فنطبق القاعدة، أي: الأمور بمقاصدها، فهو لما قصد قتله حكمه بهذا المقصد القتل، فتأملوا إلى أنه باختلاف المقاصد تختلف الأحكام، وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يأخذ الدية).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)، منها: (النفس بالنفس)، والمقصود أن حكمه القتل.

لكن لما غاير القصد، فما قصد القتل عمداً، بل قتله خطأً، فيتغير الحكم، مع أن الفعل واحد، والضرب بالسيارة واحد، لكن النية غيرت الأحكام في الفعل الواحد، فلما ذهب عن نية العمد قلنا له: حكمك حكم قتل الخطأ، وقتل الخطأ حكمه: الدية مخمسة وصوم شهرين.

فلما كان قتله خطأ غاير حكمه حكم العمد؛ للقاعدة، فكل بنيته، و: (إنما الأعمال بالنية)صحة أو بطلاناً ثواباً أو عقاباً، والأمور بمقاصدها، وهذه الصور في الحدود.

ومن الصور في الأموال: رجل كان يحب رجلاً، ورآه في ضيق فأعطاه مالاً، وقال: أراك تحتاج هذا المال، وهو ألف جنيه مثلاً، فلما أعطاه المال وتصرف الرجل فيه، بعد مدة جلس يتساءل لم لم أسأل الفقيه المقعد المؤصل ما حكم هذا المال؟

فالإجابة ستكون من الفقيه بأن يقول: الأمور بمقاصدها، ومالك فيه تفصيل، فإن كنت أعطيته هذا المال هبة فلا رد؛ لأن الموهوب له قد امتلك هذا المال بالقبض ولا رد، وكذلك إن أرادت أن تتصدق عليه.

وإن أردت بذلك المال أن تعطيه قرضاً دون أن يجر النفع فإن هذا المال حكمه أنه دين، ولا بد من الرد حين ميسرة إن كان معسراً؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فإذا قصدت بإعطائك له المال أن يكون وديعة، أو أمانة فتلف في يده دون تفريط فحكمه عدم الرد، إلا حين الطلب؛ لأن يد المودع يد أمان، ليست يد ضمان أبداً.

لو أن أحد الناس أخذ وديعة يحملها ويحفظها، ولم يفرط فيها، فسرقت ليس عليه شيء؛ لأن يده يد أمان وليست يد ضمان.

إذاً: يتغاير الحكم في أكثر من حالة بالمقصد، فلما جاء المقلد الأعمى الذي يسمع هذا فيقول: أنت رجل متذبذب، وليس عندك ثمة علم؛ ففي مسألة واحدة أو فعل واحد أعطيتنا ثلاثة أحكام! فرد عليه الفقيه المقعد بقوله: أنت مقلد وما كان لك أن تتكلم، ولو تعلمت العلم لعلمت أن هذا الحكم تغاير بقاعدة مهمة جداً عند أهل الفقه والعلوم، وهي: الأمور بمقاصدها، وإذا تغيرت النية تغير الحكم تبعاً لذلك فالحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات).

الصورة الثالثة -وهي في الأموال أيضاً-: رجل كان صاحب أمل، ويكثر من أحلام اليقظة، وكلما يسير في الشارع يقول: لو رأيت مليوناً، أو ألفاً أو ألفين، فقدر الله عليه وهو يسير فرأى أسورة من ذهب تتلألأ أمامه، خطفت بصره، فنظر إليها فأخذها بيده، وجلس يحلم: سأتزوج بها المرأة الجميلة التي أحبها، وتنجب، ثم أعلم هذه البنت القرآن، ثم أبيع هذه الأسورة وأعمل شركة كذا وكذا، حتى جاء الغراب فأخذها من يده، وضيع عليه كل أحلامه التي يريدها، فجاء رجل أسود، وكان فحلاً كالجبل، فوقف أمامه فقال له وهو يأخذ بتلابيبه: أين أسورتي؟ رأيتها في يدك فأنت سارق، قال: لا والله! لست بسارق، أهي أسورتك؟ قال: نعم، هي أسورتي قال: إذاً يحل هذا الإشكال الفقيه، فذهبوا للفقيه المقعد المؤصل فسألوه عن هذه المسألة، فقال لهم: عندي قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها: ودليلها: (إنما الأعمال بالنيات).

فقال: ننظر في الرجل الذي أخذ الأسورة، فله أحوال، وهذه الأحوال متغايرة، لكنها مرتبة على نيته في الالتقاط، فإن التقطها ليمتلكها، وهو رجل قتلته أحلام اليقظة، فلما جعلها على طرف إصبعه، جاء الغراب فأخذها فنقول: إنه فرط فيها، وما حافظ عليها، بنية أن ويكون غاصباً، والغاصب يضمن سواء أفرط أم لم يفرط، والقاعدة عند العلماء: إن الغاصب يضمن إذا فرط أو لم يفرط.

فنقول له: حالك كالأول بنيتك، فهل تقسم بالله على هذه النية؟ أي: أنك التقطت هذه الأسورة لتمتلكها، وهنا تكون غاصباً، وتضمن الأسورة للرجل، فقال الرجل: لا والله! ما نويت هذه النية.

ثم نقول له: فإن كنت التقطتها لتعرفها، أي: لتكون لقطة، فأنت الآن يدك يد أمان، فإن فرطت تضمن، وإن لم تفرط لم تضمن، فقال: ما فرطت بل أخذتها في إصبعي وجاء الغراب هذا من غير أن أراه فخطفها، فيقال له: إذاً: فلست بمفرط فلا شيء عليك، وهذه هي الحالة الثانية.

ونقول: في الالتقاط يمكن أن تكون له نية أخرى غير النية الأولى الثانية، وهي: أن يلتقطها ليتصدق بها، وفي هذه الحالة نقول له: أنت ضامن؛ لأنك تصدقت بما لا تملك، وهي ليست ملكاً لك، فرجعت المسألة حكمها كحكم الأولى فتضمن للرجل أسورته.

وهناك صورة أخرى من باب العبادات وهي كالتالي: رجل كان غنياً يملك النصاب، وقبل أن يحول عليه الحول وجد فقراء كثر فرق لهم قلبه، والله جل في علاه يرحم من يرحم من في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، فرحمة بالذين ينامون في الشارع، ذهب يفرق عليهم مالاً، ثم بعدما حال عليه الحول، وقف الناس عند بيته يضجون أين الزكاة؟ أين الحق الواجب الذي عليك؟ فوقف الرجل يتذكر، وقال: قبل الحول قد أخرجت هذا المال، فما حكم هذا المال الذي أخرجته: أهو من الزكاة أم ليس من الزكاة؟ فاحتاج الرجل لفقيه مقعد يخرج الأحكام على القواعد، وقال له: أخرجت المال قبل الحول، والناس يطالبونني الآن، فما حكم هذا المال الذي أخرجته؟

فقال له الفقيه المقعد: عندنا قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها، فالأحوال والأحكام تتغاير بتغاير النيات، فلك أحوال في إخراج هذا المال: فإن أعطيت هذا المال تنوي به الاستسلاف، وأنه من الزكاة -والاستسلاف هو: تقديم مال الزكاة ويصح تقديم مال الزكاة، فكل عبادة أقتت بوقت لا يصح أن يأتي بها قبل وقتها، فهذه قاعدة عامة، وتقديم الزكاة من هذه القاعدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاة عامين أو سنتين.

إذاً: فإن كانت النية عندك الاستسلاف أن تقدم مال الزكاة، فتبرأ ساحتك وليس عليك شيء، وإذا طالبك أحد فقل: أخرجتها وبرئت ساحتي أمام الله جل في علاه، وهذه هي الحالة الأولى.

الحالة الثانية: إن أردت بنيتك أن تقدم الزكاة، لكن النية تغيرت وأنت تدفع المال فجعلتها صدقة، وجب عليك أن تخرج الزكاة.

الحالة الثالثة: إن نوى أن تكون هبة لهؤلاء الناس، فنقول له: هذه الهبة أنت مثاب عليها عند ربك جل في علاه، وعليك أن تخرج الزكاة من جديد.

والفرق بين الصورة الثالثة والثانية: أن الصدقة يبتغي بها وجه الله، أما الهبة فيمكن أن يبتغي بها وجه القرب للقرين، أو لمن فوقه، هذا هو الضابط الفارق المميز بين الهبة وبين الصدقة.

ونقول له: حتى لو فعلت ذلك لتتقرب أو تتحبب لمن أعطيته فحكمك: أنك لا بد أن تخرج الزكاة.

فهذه صور تبين لنا كيف كان علماؤنا يطبقون هذه القاعدة العظيمة الجليلة: الأمور بمقاصدها.

توابع مهمة لقاعدة الأمور بمقاصدها

هذه توابع مهمة جداً لهذه القاعدة منها:

أولاً: إذا قلنا بالتعريف الفقهي: أن أعمال المكلف صحة وبطلاناً إثابة أو رداً تترتب على النية، و: (إنما الأعمال بالنيات).

فلو انتفى شيء من هذه القيود التي بانتفائها لا يوجد الحكم، كما قعدنا قاعدة سابقة، فلو وجدت النية التي رأس الأمر عليها دون العمل لا يترتب عليها الآثار الشرعية، وبالمثال يتضح المقال: رجل تزوج امرأة، كغراب البين التي كانت دائماً تقول للرجل الذي يقول: لا بد أن تتساوى المرأة مع الرجل في الميراث، وحكموا عليه في المحكمة بالردة، وقالت: هذا زوجي يقيم الليل، والحمد لله أن ربنا رزقه بهذه المرأة، وهذا أول عقاب في الدنيا، فما يدخل إلا وتنظر له نظرة وحش كاسر، ولا يسمع إلا جعجعة أو لا يرى إلا وليداً تصفعه على وجهه، وكان ضعيف الشخصية، كلما يدخل يقول: ربنا نجني منها، فإذا نظر إليها قال: طالق ألف مرة أو سبعين مرة، وكل يوم من ضيقه منها يتحدث مع نفسه: هي طالق، طلقتها اليوم، سأطلقها غداً، طالق ألف مرة، طالق مليون مرة، لكنه من جبنه لا يستطيع أن يتلفظ. وهو إذا تلفظ لا بد أن تتزوج زوجاً غيره فيبتلى بها لتحل له، وذهب هذا الرجل الضعيف إلى الرجل الفقيه غير المقعد فقال له: إني أبغض هذه المرأة وكلما دخلت عليها ورأيت وجهها العبوس قلت في قلبي: طالق، ولا أستطيع أن أصرح بها، وقلت: طالق طالق طالق قال: يا بني! القاعدة عند العلماء: الأمور بمقاصدها، وقد نويت طلاقها، وإنما الأعمال بالنيات. وأنت قد طلقتها ألف مرة، فقد عصيت الله بتسعمائة وتسعين مرة، وبثلاث قد بانت منك بينونة كبرى، ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، وهؤلاء الفقهاء هم الذين تعج الأسواق بهم، فارتاب الرجل في قوله، وقال: لعلي أنظر إلى فقيه مقعد ومؤصل، فرجع للفقيه المقعد المؤصل فأخبره، فقال: من قال لك ذلك؟ قال الفقيه الفلاني قال: هذه ترجع إلى القاعدة التي قعدها، وهي قاعدة صحيحة، لكن تطبيقه لها كان تطبيقاً فاحشاً خطأ، إذ أن القاعدة: الأعمال بالنيات، وأنت لم تعمل، ولم تتكلم، ويلوح في الأفق أمامي دليل يريح قلبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم أو تعمل).

إذاً: أناط المسألة بالعمل، فإذاً: ارجع فهي زوجتك، إلا أن تطلقها بلسانك.

فهنا خرجت القاعدة وما طبقناها تطبيقاً دقيقاً، وعلمنا: أن الأعمال الظاهرة ترتبط بهذه النيات، هذه واحدة.

ثانياً: استثناء، وذلك أنا قعدنا: إن هذه الأحكام في القواعد أحكام أغلبية، فانظروا إلى هذا الاستثناء وهو: إلغاء مسألة النية في الظاهر الذي لا يحتاج لتأويل، وقلنا هذا في باب الطلاق أو النكاح لحفظ الفروج؛ لأن هذه المسألة من أهم المسائل، والفروج حقها عند الله عظيم، فلحفظ الفروج قال علماؤنا: الظاهر في الطلاق أو النكاح أنه لا يحتاج لنية، فإذا دخل رجل على امرأته فقبلها، وجلس معها يسايرها، ووجد منها الخير كله، فأحبها كثيراً، وبعدما أحبها وتكلم معها قال: أنت طالق يا حبيبتي، وهو يمازحها طبعاً مزاحاً أسود، فلما قال: أنت طالق بكت المرأة، فقال: ما يبكيك، هذا مزاح ولا يقع فقالت: لا بد أن ترجع للفقيه، فرجع للفقيه أو المأذون الشرعي، فقال: قلت لها طالق ولم أنو الطلاق، فقال: يا بني! (إنما الأعمال بالنيات)، والأمور بمقاصدها، ارجع لامرأتك فهي امرأتك، وليست بطالق، فلما رجع إلى الفقيه المقعد قال له: نعم، الأمور بمقاصدها، لكن: جاءني استثناء، أو جاءتني آية ظاهرة جداً، أو جاءني حديث ظاهر جداً، أما الآية فقال الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ [البقرة:230]، وهذه عامة مطلقة، ويبقى المطلق على إطلاقه ما لم يأت المقيد يقيده، ويبقى العام على عمومه ما لم يأت مخصص، فقال: فَإِنْ طَلَّقَهَا ، ولم يفتقر الأمر إلى نية، وأما الحديث فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث مختلف فيه لكن هناك من صححه-: (ثلاث جدهن وهزلهن جد)، إذاً: حتى ولو كنت مازحاً فقد ألغي الحديث المزح.

وهنا القاعدة صحيحة، لكنه -أي: الفقيه غير المقعد- لم يطلع اطلاعاً واسعاً حتى يأتيك بالحكم الصحيح، فأنت الآن وإن كنت مازحاً فقد طلقت امرأتك.

فإذا طلقتها وأنت مازح فقد أحللتها من الوثاق إلا في حالة واحدة، وهي: إذا احتفت القرائن، وبينت لنا أنك جاهل عن هذه النية، أو قلت هذا الكلام وأنت لا تريده، ولولا أن هذا حدث في زمن الصحابة ما قلنا به، والذي جعلنا نقول بذلك: أن القرائن المحتفة إذا جاءت وقوت عدم إرادة الطلاق قلنا به.

ففي زمن عمر بن الخطاب عندما جاءت المرأة تقول لزوجها -وكانت تبغضه وتريد أن تنفك منه- ما أرضى بك حتى تتغزل فيَّ فقال: أنت قمر أنت شمس أنت حسناء، قالت: لا، والله ما أرضى إلا أن تقول أنت خلية طالق فقال: أنت قمر خلية طالق، فهنا الكلام ظاهر جداً أنه يتغزل ولا يريد الطلاق بحال من الأحوال، فهو قال: أنت قمر أنت شمس، قالت: هذا الغزل لا أريده، قال: لقنيني قالت: قل -وكان غراً لا يعلم أن هذا طلاق-: خلية طالق، قال: أنت قمر خلية طالق.

فهنا القرائن المحتفة أثبتت عدم إرادته الطلاق جزماً، فلما ذهب إلى عمر -الفقيه- قال له عمر بن الخطاب : ارجع فأوجعها ضرباً فإنها امرأتك، وليست بطالق.

إذاً: فهذه مستثناه، وهذا الاستثناء إذا احتفت به قرائن تثبت الجزم في إرادة الطلاق فيقع، أو تثبت الجزم في عدم إرادة الطلاق فلا يقع.

فهنا فرق بين النية وبين اللفظ، فاللفظ الصريح أقامه الله مقام النية، فلا يحتاج إلى تأويل، ولا يحتاج إلى نيات، قال الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، وأيضاً بين النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد).

إذا: فحتى لو مازحها فقد ألغيت النية وبقي اللفظ الظاهر، وهذه الحكمة لحفظ الفروج ولئلا يتلاعب أحد، فيأتي رجل ويطلق امرأته مرة ومرتين وثلاثاً، ولكنه يعشقها، ولا يريد أن ينفك عنها، لا والله كنت مازحاً وما نويت الطلاق،ولو قلنا بهذا القول لفتحنا باباً كبيراً، وشراً مستطيراً على الناس، لكن حفاظاً على هذه الفروج قلنا: أنزل الله الظاهر منزلة الباطن فلا نحتج بهذه القاعدة، فهذا كل ما يرتبط بهذه القاعدة العظيمة من صور.

النية ومتعلقاتها

للنية مباحث عظيمة وجليلة وواسعة جداً أوجزها لكم في نقاط، أولاً: تعريف النية لغة وشرعاً، الثاني: فائدة وثمرة النية، الثالث: النية وقاعدة الاندراج.

تعريف النية

أولاً: النية معناها لغة: القصد، وشرعاً: هو القصد المقترن بالفعل، وهذا من أهم ما يكون به ضبط النية ولا بد أن يعرف طالب العلم النية في لغة الفقهاء أو الاصطلاح، ومعنى القصد المقترن بالفعل: أي: أن لا تصل إلا وتستحضر النية، ولا تحج إلا وتستحضر النية، وكذا الصوم وغيرها من العبادات، ولا تزك إلا وتستحضر النية، فإذا ما استحضرت نية الزكاة فلا يمكن أن تقبل، ولا تصح زكاتك.

ولا تصوم أيضاً إلا بنية.

إذاً: القصد المقترن بالفعل لا بد أن يكون هو والفعل سواء، وإن سبقه لا يسبقه بكثير، ولا يكون بعده، فإن كان بعد الفعل، كرجل دخل يصلي صلاة العشاء فوجد الإمام يقرأ فكبر وقرأ الفاتحة، وبعدما قرأ الفاتحة قال: ما نويت، والآن أنوي صلاة المغرب مثلاً، فتوى بعدما كبر تكبيرة الإحرام لصلاة المغرب، فلا تصح صلاته؛ لأن النية لم تقترن بالفعل بل جاءت بعده.

وكرجل دخل فتوضأ، ثم جلس في المسجد، ثم أقام المؤذن الصلاة، ونوى صلاة الظهر قبل أن يقيم الرجل الصلاة، وكبر مع الإمام، وركع وسجد وانتهى من الصلاة، فصلاته صحيحة، مع أن النية غير مقترنة! لأن الفارق يسير، وهناك قاعدة عند علمائنا أن اليسير مغتفر، فالفارق إن كان يسيراً فهو مغتفر.

فهذا معنى تعريف فقهائنا: أن النية هو القصد المقترن بالفعل.

ووقت النية مفرع على هذا الكلام، فيكون مع الفعل أو يسبقه بيسير، وخروج المرء من بيته، وذهابه إلى المسجد قصد للصلاة، وجلوسه مع نظره إلى المؤذن الذي يقيم الصلاة يدل على العزم على الصلاة، فهي مقترنة.

ثمرات النية

الأولى: التمييز بين العبادات والعادات، وكثيراً ما ترى أن العبادات لها مثيل من العادات، مثال ذلك: الغسل، فيمكن للإنسان أن يدخل بأهله، أو يحتلم ليلاً فيغتسل لرفع الجنابة، وممكن إذا قام من الليل فوجد الحر شديداً أن يغتسل، للتبرد، فأمكن أن يكون الغسل عبادة، وأن يكون عادة، فكل عبادة لها مثيلتها من العادات.

أيضاً: كالذي يشعر أن في معدته تعب، فيرى أن الصوم فيه صحة، فيمسك عن الطعام، ولا ينو الصوم، بل يمسك من أجل الاستشفاء، فهذه عادة، فالنية تميز العبادة من العادة، وإذا دخلت وأنت جنب فاغتسلت ولم تنو إلا التبرد، ثم خرجت فصليت العصر، فصلاتك باطلة؛ لأنك صليت وأنت جنب، فإن قال: كيف أكون جنباً، وقد دخلت الآن أمامك، واغتسلت، وأفضت الماء على كل جسدي، والغسل معناه تعميم الجسد بالماء، وقد فعلت؟

قلنا: افتقر الأمر إلى نية الفعل، فلابد أن يصاحبه نية أن تستبيح الصلاة بنيتك، أو ترفع الجنابة، فلما اغتسلت تبرداً كأنك لم تفعل شيئاً.

ومن الأمثلة أيضاً: رجل دخل يصلي، وقال هذه رياضة أعظم ما تكون، فإن الركوع والرفع تضبط لي فقرات الظهر، والسجود والجلوس أيضاً رياضة عظيمة، فدخل يصلي متريضاً، فبعدما صلى قام رجل وقال: أنا أعرفك أنت الرياضي الفلاني، وأنت ما دخلت الصلاة إلا للتريض؛ فصلاتك باطلة، فقال: أنت لا تفقه شيئاً، فإني قد أتيت بالشروط، والأركان متوفرة، وتوضأت، وركعت وسجدت ورفعت، فتوفرت في صلاتي الشروط والأركان؛ فصحت فكان الذي يناظره فقيها، وقال: لكنك لم تفرق بين العبادة وبين العادة؛ لأنك لم تنو أن تصلي هذه الصلاة إلا مع قيامك بهذه الحركات.

الثانية: تمييز العبادات بعضها من بعض، بأن تكون فرضاً أو نفلاً، أو نذراً، أو كفارة، مثاله: رجل قام يصلي صلاة الظهر، ونوي أنها من الفروض التي فرضها الله عليه، فتسقط عنه الفريضة، وقام يصلي العصر، فنوى أنها من الفرائض التي فرضها الله عليه فتسقط عنه، فلما قام يصلي المغرب قال هذه سنة نستن بها، فصلاها على أنها سنة ونافلة، فلا تسقط عنه صلاة المغرب؛ لأنه يميز بين النافلة وبين الفرض، والأمور بمقاصدها فإذاً: من التمييز بين العبادات بعضها من بعض: التمييز بين الفريضة وبين النافلة.

مثال آخر: رجل صام يوم الاثنين، وكان يعتاد الصوم جزاه الله خيراً، ويرى أن النبي صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين لأكثر من فائدة، منها: أن الأعمال ترفع منه، ومنها: أن الصوم ولأعدل له ومنها: الاحتفال بأن هذا مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يحتفل بالصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (لما سئل عن ذلك قال: ذلك يوم ولدت فيه).

فصام الرجل هذا اليوم، وكان كثيراً ما يصومه، لكنه في ذات مرة قال: نذر علي إن شفى الله ابني لأصومن يوم الاثنين، فهذا يعتبر نذراً، والنذر ينزل منزلته، فقام من الليل وبعدما صلى صلاته من الليل نام حتى أصبح، ثم قام صائماً كما كان يصوم كل اثنين، فعند الإفطار قال الحمد لله قد وفيت بنذري فيقال له: هذا الصيام وقع نفلاً وعليك أن تأتي بالفرض؛ لأنك لم تميز بين الفرض والنافلة.

فإذاً: النيات تميز بين العبادات بعضها من بعض، وتميز بين الكفارات والنذور والنوافل.

الثالثة: أنها تقلب العادات إلى عبادات، وكما قعد علماؤنا: بالنيات تنقلب العادات إلى عبادات، فالنوم مثلاً مباح، فللمسلم أن ينام، وليس شرطاً، أو لازماً إلا إذا أشرف على الهلكة، فإذا احتسب نومه؛ ليقيم الليل، فكل ساعة وكل دقيقة وكل نفس يخرج منه ويدخل له، فيه الأجر؛ لأنه احتسبه، وقلبه من العادات إلى العبادات، ولذلك كان ابن مسعود يجعلها قاعدة عامة فكان يقول: ((والله! إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي )).

فكان ينام ليقيم الليل، وكان ينام ليستطيع أن يجاهد في سبيل الله، وكان ينام حتى يدرس دروس العلم، فقلب العادات إلى عبادات.

وأيضاً الأكل الكثير، مع أنه مذموم يمكن أن يكون ممدوحاً، فقد كان أمير المؤمنين في الحديث -أي: سفيان الثوري- يأكل كثيراً، فلما عوتب على الأكل الكثير -والأكل الكثير مباح، فقلبه من العادات إلى العبادات أو قلبه من المباحات إلى العبادات- قال: آكل كثيراً لأستطيع أن أعبد ربي، فالدابة إذا علفتها علفاً جيداً ستعطيك وتثمر لك ما تريد، فقال: أنا أعلف نفسي كثيراً لأستطيع أن أعطي لربي في العبادات، ولذلك كان يأكل خروفاً على العشاء مثلاً فيقيم الليل إلى الفجر.

وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ما كان يأكل الدباء مع أنه مباح، لكن: (لما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحفة، فكان يرى يد النبي صلى الله عليه وسلم تنتقل إلى الدباء، ويحبه فيأكله، قال: فمنذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت الدباء).

فما رأى دباء إلا وجلس يأكل منها كما يأكل النبي صلى الله عليه وسلم، تعبداً بذلك، أو للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأكل الدباء عادة وليست عبادة، ففعلها وقلبها من العادة إلى العبادة، وأبو أيوب الأنصاري أو أبي بن كعب لما جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قدم له طعاماً فيه بصل مطبوخ، ويجوز للإنسان أن يأكله مطبوخاً، لكن ما أكله النبي صلى الله عليه وسلم وكف يده، فقال له أبي : (حرام؟ قال: لا، لكني أناجي من لا تناجي).

فقال هذا الفقيه الأريب اللبيب: (والذي نفسي بيده! لآتسين برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلم يأكل البصل مطبوخاً ولا غير مطبوخ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلبها من المباح إلى العبادة.

إذاً: من ثمرات النية: قلب المباحات إلى عبادات.

التداخل والاندراج في النية

تداخل العبادات أو قاعدة الاندراج كانت للصحابة، فكان عملهم قليل ونواياهم كثيرة، فكانوا فقهاء بل تجار نية مع الله جل في علاه، يأتي الواحد منهم المسجد بعشرين نية، يأتي بنية صلاة الفرض، وأن يسقط عنه الفرض، وبنية مدارسة العلم، وبنية تعليم الجاهل، وبنية التعاون على البر والتقوى، وبنية الجلوس في المسجد ليستغفر له الملك، وبنية مساعدة الفقير، وبنية وصول الخير لغيره، فله أكثر من نية في عمل واحد، وليجمع هذه النيات فتكون له هذه الأجور، فميزة وثمرة النيات: أنها يمكن أن تتداخل العبادات فيها، بنية واحدة، فيكون لك أكثر من عمل.

قاعدة الاندراج لها ضوابط، وهذه الضوابط في العبادات تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: عبادات مقصودة لذاتها.

فالمقصودة لذاتها مثل صلاة الفروض، كالظهر والعصر والفجر والمغرب والعشاء، فهذه مقصودة لذاتها، وأيضاً كالسنن والرواتب، فهي مقصودة لذاتها وليست مطلقة، وكسنة الفجر والظهر والمغرب والعشاء.

القسم الثاني: المطلوب الفعل فقط، أو ليست مقصودة لذاتها، كتحية المسجد، فصلاة تحية المسجد مطلقة، وصلاة سنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، ولا تحسبن أنه يجب عليك أن تصلي ركعتين، بل لو صليت الفرض سقطت عنك تحية المسجد، ولو صليت صلاة استخارة سقطت عنك تحية المسجد، فهي غير مقصودة لذاتها، والمقصود شغل البقعة بالصلاة مطلقاً فقط.

فالسنن المطلقة غير مقصودة لذاتها، فصلاة الاستخارة غير مقصودة لذاتها، وسنة الوضوء غير مقصودة لذاتها، والمطلوب الفعل فقط. أما القسم الأول فلا تشريك ولا تداخل فيه بحال من الأحوال، فكل عبادة مقصودة لذاتها، ولا تقبل التشريك، فلا يصح لقائم يصلي صلاة المغرب أن ينوي صلاة المغرب مع قيام الليل، فيقرأ طويلاً، أو يقرأ بالأعراف، ويقول: أنوي نيتين، وتسقط عني فريضة المغرب، ووقت الليل قد دخل فهذا من قيام الليل، فيجعلها من قيام الليل ويجعلها صلاة المغرب، فنقول له: بطلت صلاتك؛ لأنك لم تفردها بالنية، والأمور بمقاصدها، ولا يصح لك أن تشرك النية في هذه الصلاة؛ لأنها عبادة مقصودة لذاتها.

أو كرجل قام يصلي الفجر فقال هذه صلاة الفجر أصليها حتى تطلع الشمس وأنا أقرأ، أو تقارب، وأصلي معها مع الضحى مثلاً، نقول له: لا تصح صلاتك؛ لأنك شركت ولا تشريك في النية للفرض؛ لأن هذه العبادة مقصودة لذاتها.

أما القسم الثاني: وهو عبادات غير مقصودة لذاتها: فالمراد الفعل فقط، مثاله: رجل توضأ ودخل المسجد، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فهذه مطلقة، فإذا قام فتوضأ، وكان من عادته أنه يفعل ما فعله بلال أي: ما توضأ وضوءاً إلا وصلى، فقال: هذه الصلاة سنة الوضوء، فصلاها بنية سنة الوضوء، فتدخل معها تحية المسجد، وإن لم يدخلها ونوى سنة الوضوء فقط سقطت عنه صلاة تحية المسجد؛ إذ المطلوب فقط أن تشغل البقعة بالصلاة، ولو دخلت ووجدت الإمام يصلي الظهر وأنت لم تصل تحية المسجد وصليت خلفه الظهر، فقد سقطت عنك تحية المسجد، فتبين أنها ليست مطلوبة لذاتها، والمطلوب: هو شغل البقعة بالصلاة، وقد صليت الصلاة وإن كانت سنة الوضوء، ولكن نقول لك: كن فقيهاً وصلها بنية سنة الوضوء وأدخل معها نية تحية المسجد.

وكذلك: رجل دهمه أمر مهم يريد أن يفصل فيه فقال: الفصل جاء من النبي، فأفوض أمري لله وأستخير, فتوضأ وأراد أن يستخير، وكان من عادته أن يصلي للوضوء فقال: أصلي داخل المسجد كي تحفني الملائكة، فدخل المسجد فلما نظر وقعد قال: قد درست بأن النيات يمكن أن تتداخل، وقد توضأت فأصلي بهذا الوضوء سنة الوضوء، وبنية تحية المسجد، وبنية الاستخارة، فصلى بهذه النوايا الثلاثة، فجمع هذه الأجور كلها بعمل واحد، وصح له ذلك.

إذاً: العبادات المطلقة الغير مقصودة لذاتها يصح أن تتداخل، أما العبادات المقصودة لذاتها، فلا يصح أن تتداخل، وبالتطبيق سيتضح لك ما أقول: رجل قام يصلي صلاة الغداة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل مما طلعت عليه الشمس)، وقال هاتين الركعتين بنية سنة الفجر، ونية الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوتر وهو جالس بعد قيام الليل، فصلاهما بنيتين: نية سنة الفجر، ونية قيام الليل، وخطوات القاعدة: أن ننظر إلى هذه الصلاة التي هي مقصودة لذاتها، إذاً: فالحكم أنه لا تداخل، ونقول له: لا يصح فعلك بل لابد أن تفردها بنية.

ورجل بعدما صلى المغرب قال: ألتمس هذه السارية فأصلي سنة المغرب، وأنوي معها قيام الليل، فلا يصح؛ لأن سنة المغرب مقصودة لذاتها، مع أن بعض العلماء قال: ممكن أن تدخل في قيام الليل؛ لأن الثانية نافلة، لكن الصحيح الراجح: أن كل عبادة مقصودة لذاتها لا تداخل للنيات فيها.

ورجل قام يصلي تحية المسجد فقال: أنا أصلي تحية المسجد، وسنة الظهر، وسنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، فأتى بأربع نيات، فلا يصح فعله؛ لأنه أدخل فيها سنة الظهر، وهي مقصودة لذاتها، ولو نوى ثلاثاً: الاستخارة وسنة الوضوء وتحية المسجد لصح ذلك.

إذاً: العبادات المقصودة لذاتها لا تتداخل نياتها، والعبادات المطلقة يمكن أن تتداخل النية فيها، وهي التي يدخل فيها قاعدة الاندراج.

وهناك ضابط آخر يضبط المقصود بذاته أو مطلق الفعل، ومثال ذلك: رجل كان يأخذ بقول الشافعي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بكر وابتكر وغسل واغتسل)، فأخذ بأسباب الغسل، ومن أسباب الغسل: جماع أهله، فجامع أهله، ثم دخل ليغتسل بعدما جامع أهله وكان فقيهاً حنبلياً؛ لأنه يرى: بأن غسل الجمعة واجب على كل محتلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب)، والصحيح الراجح: أنه مستحب وليس واجب؛ لما في صحيح مسلم -وهو أسطع من شمس النهار- وفيه: (من توضأ وذهب إلى الجمعة ماشياً، وقرب من الإمام فأنصت، ولم يلغ كانت له كفارة إلى الجمعة الثانية)، فقوله: (من توضأ)، هذا صريح غير مؤول، ولا يحتمل أي شيء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب)، يحتمل أشياء كثيرة جداً، والمقصود: أنها سنة وليست بواجب، فدخل الحنبلي يغتسل وقال: الآن أنا دائر بين أن أنوي نية غسل الجمعة وأدرجه مع غسل الجنابة، فكان فقيهاً نيراً، وقال: اغتسلت هذا الغسل للجمعة وللجنابة وخرج فصلى، فصلاته صحيحة.

فنجد: بأن غسل الجنابة مقصود بذاته لرفع الجنابة، أو لرفع الحدث، أما غسل الجمعة فليس مقصوداً لذاته، بل مقصود لغيره؛ والغير قد يكون العرق مع الاجتماع، فينفر منك أخوك من هذه الرائحة، فأصبح مقصوداً لغيره، فلما كان مقصوداً لغيره قال العلماء: الذين يتبنون مسألة الوجوب يندرج؛ لأن الأدنى الذي هو غير مقصود لذاته يندرج تحت الأعلى الذي هو مقصود لذاته، لكن الزهري قال: إن هذا واجب وإن كان غير مقصود لذاته لكنه واجب، والثاني أيضاً مقصود لذاته وهو واجب، والقاعدة عندنا: أن الواجبات لا تقبل التشريك، فكان قوله أشبه بالتقعيد والتأصيل، وعلى قول الزهري : عليه غسلين: غسل الجنابة، وغسل الجمعة، فإن قلنا: الراجح قول الزهري، نقول له: قد رفعت جنابتك بغسل الجنابة وصحت صلاتك، لكنك أثمت لتركك غسل الجمعة، وهذا تخريج على قول الزهري ، الذي هو أشبه ما يكون بالتقعيد والتأصيل.

إذاً: توسعنا في مسألة وقاعدة الاندراج وتداخل النوايا، وقلنا: العبادات تنقسم إلى مقصود بذاته وغير مقصود بذاته، فما كان غير مقصود بذاته بل المقصود منه الفعل فقط فتندرج تحته النوايا، أي: ممكن أن تتداخل فيه النوايا، أما المقصود لذاته فلا يمكن أن تتداخل فيه النوايا، ولا يقبل تشريكاً.

وهذا آخر الكلام على مسألة الأمور بمقاصدها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الأمور بمقاصدها للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net