إسلام ويب

الشريعة الإسلامية مبناها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، فهي مصالح وحكم كلها، فكل مسألة خرجت إلى المفسدة والعبث فليست من الشريعة، وإن من المصالح ما شهدت لها أصول الدين العامة، وكانت المصلحة متحققة لا متوهمة، وقد اتفق الأئمة الأربعة على العمل بها، وإن اختلفوا في الاصطلاح على تسميتها.

أقسام المصالح في الشريعة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

المصالح في الشريعة تنقسم إلى أقسام ثلاثة: مصالح معتبرة، ومصالح ملغاة، ومصالح مرسلة.

فالمصالح المعتبرة هي: التي اعتبرها الشرع وجاء النص بها.

والمصالح الملغاة هي: التي ألغاها الشرع وجاء النص بإلغائها.

والمصالح المرسلة هي: التي لم يأت النص عليها لا بإلغاء ولا بإقرار.

ومن أمثلة المصالح التي جاء الشرع بإبطالها: الربا، ففيه مصلحة للمقرض، فهو يعطي الألف ويأخذها ألفاً ومائة، أو ألفاً ومائتين.

فالمرابي له مصلحة شخصية، لكن هذه المصلحة الشخصية تضر بالآخرين، فلذلك ألغاها الشارع.

أيضاً: نكاح المتعة، فيه مصلحة للذي يتمتع، لكنه يضر بالأعراض، فلذلك ألغاها الشرع وأبطلها.

أيضاً: بيع الخمر، ففيه مصلحة لبائعه، لكن جاء الشرع بإلغائها أيضاً، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] .

أيضاً: هناك مصلحة متوهمة، وهي: تسوية الذكر بالأنثى في الميراث، فهذه مصلحة متوهمة جاء الشرع بإلغائها، قال تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] .

وقد تكلم في ذلك كثير من المتنطعين وأرادوا رد الآية، والصحيح: أن الله جل وعلا قد فرق بينهما لحكم عظيمة.

أيضاً: فتوى الفقيه الذي أفتى الأمير الذي حنث في يمينه بأن يصوم، مع أن عتق الرقبة هو المطلوب؛ إذ الشرع متشوف للعتق، لكنه رأى أن العتق سيكون سهلاً على الأمير، وهو يريد أن يعزره ويشدد عليه في الكفارة، فأمره بالصيام.

والصحيح الراجح: أن عتق الرقبة هو الأولى، وكان عليه أن يأخذ به، وإن كان في الصيام مصلحة تعزير له، أو حتى يتحمل المشقة فلا يفعل مثل ذلك مرة ثانية، لكن عتق الرقبة مصلحة أكبر منها بكثير، فلذلك الشرع قال بعتق الرقبة، فهذه مصلحة تعتبر ملغاة بالنسبة لهذه المصلحة المتوهمة.

إذاً: كل ما أمر به الشرع فهو مصلحة معتبرة، وقد جاء الشرع بإقرار المصالح وتكميلها.

تعريف المصلحة المرسلة

المصلحة لغة: ضد المفسدة، والمصالح ضد المفاسد، ويقصد بها: جلب المنفعة ودفع المضرة.

واصطلاحاً هي: المسألة النافعة للناس، الضرورية لهم، ولم يرد عن الشرع اعتبار لها أو إلغاء بعينها، ولكن شهدت لها أصول الدين العامة ومقاصد الشريعة.

قولنا (مرسلة) أي: لم يأت عليها دليل بإلغاء ولا باعتبار، فالمرسل هو: المطلق الذي لم يأت دليل من الشرع بإلغائه ولا دليل من الشرع باعتباره.

وقولنا: (النافعة للناس) أي: أن النافع للناس ضروري وغير ضروري، والضروري: ضروري ديني، وضروري دنيوي.

الضرورات الدينية

أما الضروري الديني فمثل: حفظ الدين، وهذه مصلحة كبرى، فالشرع أمر بقتال الكفار لحفظ الدين، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [النساء:91]، وقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ الأنفال:39] فهذا مصلحة معتبرة وهو حفظ الدين.

أيضاً: المرتد إن لم يتب يقتل -على خلاف فقهي مشهور- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (من بدل دينه فاقتلوه)، فهذا كله لحفظ الدين، فلذلك نرى أن بعض الناس الذي يسب الدين ويتجرأ على دين الله عندما ينصح تجد آخر -كأنه لم يشتم رائحة علم- يقول لك: مصلحة الدعوة تقتضي أن تتركه، حتى لا تنفر الناس منك، ولماذا تنكر عليه سب الدين؟

فنقول: إن المصلحة أكبر من ذلك، فالمصلحة الأكبر هي حفظ الدين، والرجل قد ضيع دينه، ولو مات وهو يسب الدين لمات كافراً، فأنت يجب عليك أمران تجاه هذا الرجل:

الأول: أن ترده لدينه؛ لأنك لو تركته يسب الدين وسكت عنه، ثم مات كافراً، فإنه يخلد في نار جهنم، فأنت رفقاً به رده إلى دينه.

الثاني: حتى لا تجرأ أحداً غيره على دين الله جل وعلا، فلا بد أن تذهب فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالتواضع، فتقول له: اتق الله لا تسب الدين، قل: لا إله إلا الله، وهو يستمع لك، لكن أن تسمع سب الدين وتسكت، ولا يحترق قلبك مما تسمع، ولا تتحرك لتنهى عن هذا المنكر بدعوى أن هذه من أجل الدعوة فهذا خطأ، فحفظ الدين من المصالح الكبرى.

أيضاً: حفظ النفس، ولذلك شرع الله القصاص، قال الله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179] وهذه من أكبر المصالح، فالله جل وعلا حرم قتل النفس إلا في حالة واحدة وهي: قتل الوالد لولده، لكن من الذي يقتل؟ النفس بالنفس، فالله جل وعلا ما أباح دم المسلم إلا في قتل النفس بالنفس.

أيضاً: حفظ العقل، ولذلك حرم الله الخمر، والنبي صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر، فقال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام). فحرم كل المسكرات حفاظاً على العقل.

ومن المصالح الكبرى أيضاً: حفظ العرض والنسب، لذا حرم الشرع الزنا، ولذلك كان من المصالح سد الذرائع التي سدها عمر بن الخطاب مع نصر بن حجاج ، فقد كان يسير ليلاً، فسمع نساء المدينة يقلن: من أصبح أهل المدينة؟ أي: من أوسم وأجمل شكلاً ومنظراً؟ فقلن: نصر بن حجاج ، فذهب إليه فرآه وقد وهبه الله جمالاً عالياً، فقال: أنت مصبحهم، تعال ثم أمر بالحلاق فقال: احلق له شعره، فحلق شعره عن بكرة أبيه، فازداد الرجل جمالاً، ثم نظر إليه عمر وقال: ما ازدت إلا جمالاً، تعمم يعني: البس العمامة، فلما تعمم ازداد الرجل جمالاً، فقال: لا تمكث في هذه البلدة، ونفاه، ثم قال شعراً يذكر فيه أنه ما ذنبي أني خلقني الله بهذه الصورة، لم تنفيني عن بلدي وتغربني عن أهلي ومالي؟ فغربه سيدنا عمر بن الخطاب للمصلحة الكبرى: حفظاً على الأنساب، لاحتمال أن امرأة تشتهيه فتراوده عن نفسه فيقع عليها، وهذا حفظاً للأعراض، لذلك شرع الشارع جلد القاذف وجلد الزاني حفظاً للأنساب وحفظاً للأعراض.

أيضاً: حفظ الأموال من المصالح الكبرى، لذا شرع الشارع قطع يد السارق إذا بلغ النصاب وهو ربع دينار.

الضرورات الدنيوية

أما الضرورات الدنيوية فهي كثيرة، وهي تدخل تحت المعاملات، فلذلك أباح الله كل معاملة، فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

وأيضاً: جعل الأصل في الشروط الإباحة، فالمسلمون على شروطهم، فهذه أيضاً من الضروريات الكبرى التي فيها مصالح دنيوية.

أيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، فجعل الأصل فيها الإباحة دون التحريم.

رأي الإمام الغزالي في اعتبار الأصل الذي تعود عليه المصلحة المرسلة بالحفظ

أما الغزالي فقد توسط فقال: يؤخذ من المصالح في الضروريات أو في مقاصد الشريعة. وهذا هو الصحيح الراجح: أن المصالح المرسلة تؤخذ في الضروريات.

شروط المصالح المرسلة

الشروط التي ذكرها العلماء على الأخذ بالمصالح قد ضيقوا بها، وهي:

أولاً: أن تكون المصلحة متحققة غير متوهمة.

مثال المصلحة المتوهمة: التساوي في الميراث بين الذكر والأنثى.

مثال آخر: بيع الخمر، فهي مصلحة لكنها متوهمة؛ لأنها تعود على البائع فقط وتضر بكل المجتمع، والمفروض أن تكون المصلحة متحققة لجميع المجتمع.

ثانياً: أن يقود على الضروريات الدينية أو الدنيوية بالحفظ والصيانة، أما الضروريات من أجل الدين فهي: حفظ الدين، أو النفس، أو العقل، أو العرض، أو المال.

ثالثاً: أن يكون المستند في المصلحة الأصول العامة ومقاصد الشريعة، أي: عموم كتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس.

رابعاً: أن تكون المصلحة للعموم لا للخصوص، ونحن نرى من المصالح: فرض الضرائب، وحتى لو فرضوها وعمومها فهي لا تؤخذ إلا من الفقير، أما الأغنياء فلا يدفعون ضرائب، بينما الأصل والمفروض أن الأغنياء هم الذين يدفعون الضرائب، فلا بد للمصلحة أن تكون عامة وليست خاصة.

حكم الاحتجاج بالمصلحة المرسلة

اختلف العلماء في حجية المصالح المرسلة، فقالت الشافعية والأحناف: إنها ليست بحجة، إذ أن كل المصالح قد ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وذكرها رسوله في سنته.

ولو دققنا النظر لوجدنا أن الخلاف إنما هو في الاصطلاح فقط، بل الأئمة الأربعة يقولون ويعملون بالمصالح المرسلة كما سنبين، فلا داعي للدخول في مسألة الخلاف، لكن المالكية والأحناف أكثر الناس أخذاً بالمصالح المرسلة.

فالمصلحة ليست دليلاً مستقلاً، لكنها تابعة لأصول الدين، وهذا بالاتفاق، لكنهم اختلفوا في الاصطلاح فقط، فالمالكية يقولون: هي دليل مستقل. والأحناف والشافعية يقولون: ليست دليلاً مستقلاً، وعند النظر إلى بعض الصور نرى فيها المصالح المرسلة، وقد أفتى بها الشافعية والأحناف الذين ينكرون المصالح المرسلة، وأفتى بها المالكية الذين يعملون بالمصالح المرسلة.

ومن هذه النماذج: ما قاله الأحناف بجواز حرق ما يغنمه المسلمون من متاع ومال وغنيمة إذا عجزوا عن حملها إلى بلادهم، أي: إن كانوا في بلاد الكفر وغنموا منهم بقراً وبعيراً وغنماً وأموالاً وذهباً وأشياء كثيرة جداً لا يستطيعون حملها، فقد أفتى الأحناف بحرقها، مع أن هذا يخالف النهي عن قتل الحيوان، كما أن إتلاف المال محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) . فإتلاف المال لا يجوز، لكن نحن نقول: عندنا مصلحة أكبر من ذلك، وهي: إضعاف اقتصاد الكفار؛ لأن الكفار إذا تقووا بهذه الأموال والغنائم سيخرجون علينا مرة ثانية، ويهدمون لنا الدين، ونحن لا نقاتلهم إلا من أجل رفعة الدين.

أكثر من ذلك: هم يقولون ذلك استحساناً، وهذه هي المصالح المرسلة؛ لأن الشارع لم يأت عليها إلغاءً ولا اعتباراً، وإنما جاء عليها إلغاءً في أموال المسلمين وليست في أموال الكفرة، ولكن لو علمنا يقيناً أن الكفرة سيعودون ثم يتحكمون في هذه الأموال فيقوى اقتصادهم فيميلون علينا ميلة واحدة فلنا تحريق هذه الأموال.

كذلك أفتى الشافعية بنفس الفتوى، مع العلم أنه قد نهي في الشرع عن حرق الشجر وقتل النساء وغير ذلك، لكن للمصلحة الأكبر أفتى الشافعي بإحراق وإتلاف الأشجار والأرض إن كان أهل الكفر سيستفيدون بها دون أهل الإسلام.

ولهم أصول عامة تدل على ذلك، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والأطفال، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله! إنا ندخل القرية فنبيِّت القوم فيكون معهم الأطفال والنساء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هم منهم) أي: لو قتلتموهم لا شيء عليكم، مع أنه ورد في الأحاديث النهي عن قتل النساء والأطفال، لكن لما كانت المصلحة الأعظم والأكبر في إهلاك أعداء الله جل وعلا، ولا يهلكون إلا بإهلاك الأطفال والنساء الذين معهم قال: (هم منهم) طالما هي المصلحة الأكبر.

وهذه تبين لك الآن أن فتاوى كثيرة يميناً ويساراً ليس لها زمام، لكن نحن لا نتكلم عن حكم هذه المسائل الآن.

الغرض المقصود: أن هذا الفعل تظهر فيه المصلحة.

أيضاً أفتى المالكية: بجواز بيعة المفضول مع وجود الفاضل، وهذا أقرب ما يكون على علي ومعاوية ، فـعلي أفضل بكثير من معاوية رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك بايع أهل الشام معاوية ، ثم بايع الناس بعد ذلك معاوية وفيهم من هو أفضل منه وهو الحسن ، كذلك ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يضاهي علي بن أبي طالب في مكانته، وإن كان علي بن أبي طالب لا يضاهيه أحد في مكانته في تلك الآونات، لكن ابن عمر ليس بالهين ومكانته عالية جداً؛ فـابن عمر أفضل من معاوية ، ومع ذلك بايع الناس معاوية وتركوا ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.

أيضاً أجاز المالكية: فرض الضرائب رغم أن هناك نهي عام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)، لكنهم أفتوا بجواز أخذ الضرائب بشروط، وهذا من باب المصالح المرسلة؛ لأن الأصول العامة تؤكد هذه الفتوى، فلو أن خزانة بيت المال أصبحت ضعيفة، واحتاج الجند في الجهاد إلى التجهيز ولا مال في بيت المال، أو أن الأموال التي في الخزانة لا تكفي المئونة، فلولي الأمر أن يفرض الضرائب على الأغنياء أولاً، فإن لم يكتف بيت المال من الأغنياء فله أن يعود إلى الفقراء فيفرض عليهم، لكن الحال مقلوب الآن، ففرض الضرائب هو على الفقراء دون الأغنياء.

والصحيح أن نقول: إن فرض الضرائب من باب المصالح المرسلة عند خواء بيت مال المسلمين، ثم مع عدم الاكتفاء من الأغنياء، للوالي أن يأخذ من الفقراء ويفرض عليهم الضرائب.

أيضاً الحنابلة يفتون: بأن الوالي له أن يجبر المحتكر أن يبيع السلعة بسعر المثل، وفي الشرع لا تسعير، لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (سعر لنا، قال: إن الله هو المسعر -ثم قال:- لا أحب أن يأتي أحدكم بمظلمة على يوم القيامة)، فالله هو المسعر والتسعير لا يجوز، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: يجوز للمصلحة العامة أن يسعر ولي الأمر في السلع، حتى لا يضر بالمجتمع، فنظر إلى المصلحة الأكبر فقدمها، وهذه فتوى أحمد بن حنبل .

وقد سبق الأئمة الأربعة بالفتاوى في المصالح المرسلة الصحابة: أبو بكر وعمر ، فقد جمعوا القراءات في مصحف واحد، ثم جاء عثمان رضي الله عنهم أجمعين فجمع الناس على مصحف واحد، وهو المصحف العثماني.

وأيضاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أمضى الطلاق ثلاثاً، وجلد ثمانين في الخمر، وحلق لـنصر بن حجاج .

واتفق الأئمة الأربعة على تضمين الصناع بفتوى علي بن أبي طالب للمصلحة، ولذلك علي بن أبي طالب قال: لا يصلح الناس إلا مثل ذلك، أي: عند تضمين الصناع.

فالخلاصة: أن المصالح المرسلة حجة إذا كانت تستند إلى الأصول العامة من الشريعة، وكانت مصلحة متحققة لا متوهمة، ولم يأت الشرع بإلغائها.

أمثلة للمصالح المرسلة المعاصرة

في عصرنا نرى أن من المصالح المرسلة:

ألا يدخل المرء بحذائه إلى المسجد، فلو دخل به إلى المسجد أفسد، مع أن الشرع أباح له أن يصلي بالنعل، لكن نقول: من باب المصلحة المرسلة أنه لا يصلي بالنعل، ولا بد أن نحافظ على المسجد، ولا يحافظ على المسجد إلا بخلع النعال، فمن المصلحة ألا تدنس المسجد، وقد جاءت قواعد عامة وأصول تشريع تدل على عدم تدنيس المسجد، ومنها: (النخامة في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) وقال: (أهريقوا على بوله سجلاً من ماء).

فهذه دلالة على أن من أصول الشرع أنك لا تدنس المسجد، أو تدخل بنعال متسخة أو قذرة فتنجس المسجد.

أيضاً من المصالح المرسلة: الميكرفونات، فهي مصلحة لها مصلحة، ألا وهي: إبلاغ وإعلام الناس بالأذان، فهذا يؤدي الغرض بالإعلام، والأذان هو: إيذان الناس بالصلاة.

أيضاً من المصالح المرسلة: فرش المسجد، فما كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفروشاً إلا بالرمال والحصى، ولذلك كان ينهى عن مس الحصى.

ومنها أيضاً: الخط الذي يوضع لتسوية الصفوف، وإن رأى بعض أهل العلم أنه بدعة، لكن نحن نخالف في هذا على أن تمام الصلاة من إقامة الصفوف، واستواء الصفوف واجب من الواجبات إذا لم يكن شرطاً من شروط الصلاة.

فالقاعدة العامة عندنا: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فهذه من باب المصالح المرسلة.

أيضاً، المنارات، وإن كانت لم تعرف في القديم، فهي من باب المصالح المرسلة، لإعلام الناس بأن هناك مكاناً يصلى فيه وهو المسجد، والمنارة تثبت ذلك.

فالحق الذي عليه الأئمة الأربعة -وإن كان قد اختلفوا في الاصطلاح على التسمية- الأخذ بالمصالح المرسلة والعمل بها.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تيسير أصول الفقه للمبتدئين - المصالح المرسلة للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net