إسلام ويب

من أصول اعتقاد أهل السنة أن الجنار والنار مخلوقتان وأنهما لا تفنيان، وأن الله جعل الجنة رحمته، وجعل النار غضبه، وصفة الرحمة ثابتة في الكتاب والسنة، وقد أولها أهل البدع على عادتهم في تأويل الصفات.

عدم فناء الجنة والنار

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

إخوتي الكرام! ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ونحن على مشارف الانتهاء من المجلد السادس.

تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الجنة والنار، وذكرنا أنهما موجودتان الآن، وبينا أن الأحاديث النبوية والآيات أثبتت وجود الجنة ووجود النار، وأن الله تعالى قد خلقهما، فأعد الجنة رحمة للمؤمنين، وأعد النار عقاباً للكافرين.

وتعرضنا لمسألة مهمة، وهي: هل تفنى النار أم لا تفنى النار؟ وذكرنا أقوال العلماء والراجح في ذلك، وأزيد هنا في ذكر الأدلة على أن النار والجنة موجودتان مخلوقتان: حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اختصمت الجنة والنار: فقالت النار: رب جعلتني للمتجبرين أو المتكبرين، وقالت الجنة: رب جعلتني للضعفاء، فقال الله للنار: أنت عقابي أعاقب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء).

وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في البخاري ومسلم : (إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم).

ومعنى: (فأبردوا بالظهر) أي: تؤخر صلاة الظهر، والإبراد في الظهر فيه خلاف بين العلماء، فبعضهم يقول: تصلي بعد الزوال بساعة، والصحيح أن الإبراد بالظهر لا يكون إلا قبيل العصر، أي: قبيل أن يصير الشيء ظل الشيء مثله، والشاهد أن شدة الحر من فيح جهنم.

وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)، فهذه الأدلة تدل على وجود الجنة والنار.

وأما مسألة: هل تفنى الجنة والنار أم لا تفنيان؟ فالجنة لا تفنى بالاتفاق، قال الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57]، وأما النار فقال بعضهم: إنها تفنى، واستدلوا بقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأنعام:128] ويوضح هذا الاستثناء حديث أبي هريرة وابن مسعود: (ليأتين زمان على النار ليس فيها أحد)، فدل بذلك على أن النار تخلو من المعذبين فتفنى بذلك، والراجح أن النار تبقى دائماً ولا تفنى.

ويرد على قول شيخ الإسلام ابن تيمية بفنائها من وجهين:

الوجه الأول: قول الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57].

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالموت فيقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت).

والتي تفنى هي نار الموحدين، فقد جاء في الأحاديث: أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة أو شعيرة من إيمان، فتخلو نار الموحدين من الموحدين ثم بعد ذلك تفنى.

صفة الرحمة

ختم المؤلف الكتاب بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرحمة، والرحمة صفة من صفات الله جل وعلا، وهي صفة ذاتية وفعلية، وهي مشتقة من اسمي الله جل وعلا: الرحمن الرحيم، والصفة الفعلية هي التي تتعلق بمشيئته، فهو إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، فالله جل وعلا سيرحم المؤمنين ولكنه يعاقب الكافرين.

والصفة الذاتية هي الصفة التي لا تنفك عن الله جل وعلا بحال من الأحوال، فإن قلت: فعلية بالإطلاق فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، ونظيرها في الصفات الكلام، فهي صفة فعلية قديمة النوع حادثة الأفراد.

قال الله تعالى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28] سبحانه وتعالى.

مظاهر رحمة الله جل وعلا

مظاهر رحمة الله جل وعلا عظيمة جسيمة كثيرة، فمن مظاهر رحمة الله جل وعلا بديع وحسن تنسيق الكون، فهذه النجوم المتلألئة في السماء الصافية، وهذه الشمس المشرقة الدافئة تدل على رحمة الله لخلقه، فهذه من مظاهر رحمة الله جل وعلا، وهي تدل على ربوبية الله تعالى وعظمته، وتدل على أنه الخالق المبدع المكون سبحانه وتعالى لهذا الكون رحمة للعباد؛ حتى يصلوا سريعاً إلى ربهم فلا يعبدوا غيره، فهذه من مظاهر رحمة الله جل وعلا.

وأيضاً من مظاهر رحمة الله جل وعلا بعباده أنه أرسل الرسل، فالله رحيم لا يعذب أحداً بجهل، ولا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة، والله جل وعلا لم يكن ليضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، ولم يكن ليعذب قوماً حتى يرسل إليهم رسولاً يبين لهم طريق الهدى، كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا.

وأيضاً من آثار رحمة الله جل وعلا: الغيث الذي ينزل من السماء رحمة من الله جل وعلا، فإذا قنط العباد فإن الله الرب الكريم الرحيم يضحك من عباده حين يقنطون والفرج قريب كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا، ولا يقنط من رحمة الله إلا الكافر، ولا ييئس من روح الله -أي من رحمة الله جل وعلا- إلا الضال المبتدع، قال الله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] يعني: الكافرين، وقد قال الله تعالى على لسان يعقوب: يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، فروح الله هنا معناها الرحمة، فمن مظاهر رحمة الله أنه يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته.

وأيضاً من رحمة الله أنه خلق مائة رحمة، فاحتجز عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل جزءاً من هذه الرحمات في الدنيا، فبها يرحم الخلق بعضهم بعضاً، فيتراحم بها الفرس مع وليده كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرحمة في الدنيا من الجزء اليسير، واختزن الله للبشر تسعة وتسعين جزءاً في الآخرة يرحمهم بها ويدخلهم الجنات جل وعلا.

سبب ذكر المصنف الريح بعد ذكر صفة الرحمة

ذكر المصنف ختاماً لهذا الكتاب باب الريح، فقال: باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الريح مخلوقة، وتعجب محقق الكتاب من هذا التصنيف، فقال: لم أتى بهذا الباب بعد صفة الرحمة؟ وكذلك لم ينكر أحد أن الريح مخلوقة لله جل وعلا!

والجواب: أن الريح من آثار رحمة الله حتى وإن قلنا بالتفريق الذي ذكره بعض العلماء بين الريح والرياح، فقد قالوا: إن الريح تأتي بالمساوئ أو بالشدة على الناس، وأما الرياح فإنها تأتي بالخيرات والمبشرات، فإن قلنا بأن الريح فيها شدة فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا، لأن الريح التي فيها شدة ينصر الله بها المؤمنين، ويهلك بها الكافرين، فالله جل وعلا يقول: قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24]، فالله جل وعلا يعذب الكافرين بالريح، ويشفي صدور قوم مؤمنين، فهي من آثار رحمته للمؤمنين وإن كانت شديدة على الكافرين.

وأيضاً مناسبتها لهذا الباب أن الرياح فيها الرحمة، وهو الغيث، وهذه الرحمة من آثار رحمة الله جل وعلا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الجنة والنار للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net