إسلام ويب

لا يستقيم للعبد إيمانه حتى يؤمن بالقدر ومراتبه الأربع، وذلك نجاة له من الحيرة والتخبط، فالله علم فكتب، وإذا شاء خلق ما يريد، وإن العبد تحت قدرة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وليس بمقدور العبد أن يخرج عن أقدار الله تعالى، فهو الذي بيده الهداية والضلال، وكل ذلك حكمة منه وكمال مطلق.

مقدمة في مراتب القدر

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

وقال أيضاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

ما زلنا في الكلام على أبواب القدر، وفي سياق ما جاء من الآيات في كتاب الله عز وجل، وما روي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر، وما نقل من إجماع الصحابة والتابعين لهم من علماء الأمة: أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، طاعاتها ومعاصيها.

وقد قلنا: إن القدر هو قدرة الله جل وعلا، وهو سر لم ينكشف لا لعالم ولا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل.

وقلنا: إن الذي يعمل عقله في مسائل القدر يتخبط في بحر الحيرة، فمن تمام الإيمان بالله جل وعلا الإيمان بالقدر.

والقدر بالنسبة لله تعالى هو صفة من صفاته، فإن التوحيد أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية، والإيمان بالقدر يعتبر من توحيد الربوبية؛ لأنه يختص بأفعال الله جل وعلا.

وقد قال الإمام أحمد : إن القدر هو قدرة الله جل وعلا، فلا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر، وبمراتبه الأربع.

مرتبة العلم

إن الذي يؤمن بأن الله قد قدر كل شيء لا بد عليه أن يؤمن بأن الله علم كل شيء، وقع أو سيقع، قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، وكل آية تثبت العلم لله تدل على ذلك، فالله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فهذه هي المرتبة الأولى من مراتب القدر، وهي مرتبة العلم.

مرتبة الكتابة

المرتبة الثانية من مراتب القدر: مرتبة الكتابة، فالله قد كتب كل شيء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق.

وإن العبد الذي يتعبد لله جل وعلا مقراً بمراتب القدر، يرتاح ولا يتبرم في الدنيا عند حلول مصائبها؛ لأنه يعلم أن الله قد كتب كل شيء.

ولكن القول بأن الله كتب كل شيء كلمة مجملة تحتاج إلى تفصيل، وتفصيلها هو الكلام عن مراحلها.

والكلام عن مراحل الكتابة مهم جداً، فإن أرزاق العباد وآجالهم، وتحديد أهل الجنة وأهل النار وغير ذلك كله قد كُتب في اللوح المحفوظ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ، وأما كيف كتب القلم؟ فالله أعلم بذلك، لكن القلم تكلم مع الله، فأمره الله أن يكتب فقال: سمعت وأطعت، فكتب كل كبيرة وصغيرة، وليس المكتوب في اللوح المحفوظ هو ما يتعلق بالبشر أو المخلوقات فقط، بل هو عام فيها وفي غيرها، وذلك أن الكلام صفات من صفات الله، وهذه الصفة قد كتبت في اللوح المحفوظ.

وهناك كتابة تكون في الرحم، وتسمى: الكتابة العمرية، وأما الكتابة التي تكتبها الملائكة كل يوم على الإنسان فهي الكتابة اليومية، وهناك أيضاً الكتابة العامية، وهي التي تكون في ليلة القدر.

وهنا سؤال، وهو: هل المكتوب في اللوح المحفوظ له أمد أو ليس له أمد؟

الجواب: إن له أمداً؛ لأنه جاء في الحديث: أن القلم قال: (ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، ولا شك أن هناك أحداثاً بعد يوم القيامة، وذلك مثل من سيتزوج الحورية الفلانية من الحور العين، ونحو ذلك.

فأفعال الله جل وعلا معنا بعد دخول الجنة وغيرها من هذه الأمور فإنها لم تكتب، ولم يكتب كل شيء يحصل بعد يوم القيامة، لكن كتبت بعض الأحداث كرؤية الله تعالى، والنعيم عند زيارته كل أسبوع وغيرها.

وصفات الله جل وعلا مكتوبة في اللوح في المحفوظ من نزول، ومجيء، وكلام وإعطاء، وإحياء، وإماتة.

وهناك كتابة أخرى أيضاً فيها صفات الله جل وعلا كصفة الرحمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب ربكم في كتاب عنده - عند العرش - رحمتي سبقت غضبي).

والرحمة والغضب صفتان من صفات الله جل وعلا.

وكذلك مكتوب في اللوح المحفوظ أن الله جل وعلا سيتكلم مع موسى بقوله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي [الأعراف:144] ومكتوب أيضاً أن موسى سيقول: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] فيجيبه الله جل وعلا بقوله: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] ومكتوب أيضاً نزول الله كل ليلة إلى السماء الدنيا.

مرتبة المشيئة

المراد بالمشيئة أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأما الخلق فسنتكلم عنه في مبحث مستقل.

خلق أفعال العباد

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ إن أفعال العباد كلها مخلوقة، طاعاتها ومعاصيها ].

معنى أفعال العباد: هي كل ما يصدر من العبد من كلام، ومن حركات وسكنات، معصية كانت أو طاعة، فكل ذلك من أفعال العباد، وهي مخلوقة لله جل وعلا.

قول القدرية بأن الله لم يخلق الشرور والمعاصي

إن القدرية قالوا: إن الله تعالى لم يخلق المعاصي والشرور، فظنوا أن الشر والمعصية لا يخلقهما الله تعالى، ولكن الآثار قد جاءت عن الصحابة بالسند الصحيح أنهم قالوا بأن الله خلق أفعال العباد، ومن هؤلاء الصحابة الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وأبي بن كعب وغيرهم.

وجاء ذلك عن التابعين، منهم: سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر وغيرهم، وكذلك من بعدهم كـأيوب السختياني وغيره، ومن الفقهاء أيضاً: مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو حنيفة ، والليث بن سعد ، وأشهب بن عبد العزيز ، فكل هؤلاء قالوا بذلك.

دلالة الكتاب والسنة على خلق الله لأفعال العباد

إن مما يثبت أن الله خلق أفعال العباد أدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

أي: كل فعل فعلتموه فإن الله هو الذي خلقه بنص هذه الآية.

وقد ذكر البخاري في خلق أفعال العباد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)، وفي رواية: (خلق الله كل صانع وصنعته).

فالصنعة هذه هي نتيجة لفعل الله، فإنه قد خلق كل صانع وصنعته.

وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس).

فقوله: (كل شيء) لفظ عام.

قال الإمام البخاري : خلق الله أفعال العباد، الحركات والسكنات، واليقظة والنوم، والأصوات وغيرها، فكل ذلك خلقه الله جل وعلا.

وعن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: خلق الله أفعال العباد، حتى وضعك يدك على خدك خلقها الله جل وعلا.

وقد كان علي بن أبي طالب ينكت بعصاه ويقول: هذه النكتة أو هذه الضربة في الأرض خلقها الله جل وعلا.

وكذلك ابتساماتك في كل لحظة من اللحظات من الله جل وعلا، فقد قال الله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43].

والضحك فعل من أفعال العبد، والبكاء فعل من أفعال العبد، والله جل وعلا هو الذي هو أضحكك وهو الذي أبكاك.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (الأمر قد قضي، قالوا: على ما نستقبل أم على ما مضى؟

فقال: على ما مضى، فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال: كل ميسر لما خلق له).

ووجه الشاهد هو قوله: (كل ميسر)، يعني:

إذا قدر الله لك باب الهداية خلق فيك العزيمة والإرادة للهداية، ثم خلق فيك فعل الهداية ووفقك له.

فالله جل وعلا خلق كل فعل فعله العبد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ جاء في الحديث عن حذيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المعروف كله صدقة، وإن الله صانع كل صانع وصنعته) ].

وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

فقالت القدرية: هذه الآية ليست دليلاً على أن الله خلق أفعال العباد؛ لأن (ما) هنا موصولة بمعنى الذي، فالمعنى: والله خلقكم والذي تعملون، والذي كان يعمله قوم إبراهيم هو جعل الأخشاب أصناماً فقال لهم إبراهيم: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] ، أي: والذي تعملونه من هذه الأخشاب، فإن الله خلقها وخلقكم، قالوا: وهذا ليس له علاقة بأفعال العباد.

والرد عليهم هو أن قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] معناه: إن هذه الأخشاب التي أصبحت أصناماً تعبدونها خلقها الله، وإذا كان الله قد خلقها وهي نتيجة المقدمة وهي عملكم، فيلزم من هذا أن يكون الله قد خلق المقدمة التي هي: العمل.

فيرد عليهم من طريق اللزوم، فالأصنام هي النتيجة التي وصلتم إليها بعملكم، وهذه النتيجة التي وصلتم إليها الله خلقها، فمن باب أولى أن يكون الله هو الذي خلق العمل أو المقدمة التي أوصلكم بها إلى النتيجة.

وأيضاً إذا فسرنا (ما) بأنها مصدرية فسيصبح معناها: والله خلقكم وعملكم، وليس في هذا أي نزاع، وقد جاء في الآية الأخرى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].

ووجه الشاهد من هذه الآية قوله: إن (كل) لفظ من ألفاظ العموم، ويدخل تحته كل شيء في السموات أو في الأرض، كبني آدم وأفعالهم، وبهذا دخلت أفعال العباد تحت ما خلقه الله تعالى بقدر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فأنزلت هذه الآية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:47-49] ). وعليه فإن الله قد خلق مسبة أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بالسفه والكذب، وإن كان تعالى لا يرضى لنبيه أن يسب ويسفه ويكذب، وهذا يبين الفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ تفسير قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [:8] ].

ووجه الاستدلال: أن الإلهام من الخلق، والشيخ الشعراوي رحمه الله ذكر أن المعنى: أعلمها بالفجور وبالتقوى، وكان يقول: علم الله أهل الجنة فكتبهم، وعلم أهل النار فكتبهم، وكان يضرب مثلاً على ذلك فقال: إذا نظر المدرس لخمسة من تلامذته ، ورأى أن التلميذ الجيد جداً سيحصل على تسعين في المائة فكتب ذلك عنده، ورأى أن المهمل سيحصل على ثلاثين في المائة، وكتب ذلك، فإذا جاءت نهاية العام وحصل ما كتبه المدرس وأخبر به، فلا يُلام المدرس على ذلك؛ لأنه عمل على ما يعلمه، وبهذا يتبين معنى القدر، فلا يصح الاحتجاج بالقدر على فعل المخالفات.

فلو قلنا تنزلاً: إن معنى: (فَأَلْهَمَهَا) أي: أعلمها، فإن أم موسى عليه السلام أوحي إليها وحي إلهام، وهذا تفسير صحيح، ولكن الشعراوي له تأويلات أخرى. والله جل وعلا أعلم البشر بقوله: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10].

فأعلمهم الخير من الشر، والتقى من العصيان.

ووجه الدلالة في قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] على خلق أفعال العباد: هي أن الله ألهمه فعل الشر، أي: خلق فيه إرادة الزنا مثلاً، ولكنه لم يخلق فيه نفس الفعل، فلو أنه زنا بامرأة، فإن هذا الشر قد علمه، ثم كتبه، وعند السؤال: هل خلق الله هذا الزنا أو لا؟

فلو قلنا: تأدباً مع الله لا ينسب الشر إليه جل وعلا -أي: خلق الزنا- ولكنه خلق أسبابه فقط، فيلزم من هذا أن الزنا مخلوق لله جل وعلا، فخلاصة الأمر أن نقول: إن الزنا إذا نسبنا خلقه إلى الله جل وعلا فذلك منه حكمة وكمال، وإذا نسبناه للعبد نسبناه على أنه من الفجور الذي سيحاسب عليه؛ لأنه فاعل لذلك الفعل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ تفسير قوله تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] ].

يعني: أن الله جل وعلا هداه الطريقين: طريق الخير وطريق الشر.

أنواع الهداية

الهدية أربعة أنواع:

الهداية العامة

الهداية العامة تعم كل المخلوقات، فقد هدى الله آدم كيف يأتي امرأته، وهدى كل رجل كيف يسعى لرزقه، وهدى الحيوانات معرفة خالقها، وهداها كيف تجلب الرزق، وهو الذي هدى الثعلب أن ينام، وإذا نام أن يغمض واحدة ويترك الأخرى حتى ينقض على فريسته. وهناك قصة طريفة ذكرها بعض العلماء في أن الله تعالى هو الذي هدى الفأرة إلى أن تعرف الفرق بين كثافة الماء وكثافة الزيت، وذلك أن رجلاً كان عنده زيت في إناء، فما استطاع الفأر أن يأخذ الزيت إذ كان بعيداً عنه، فذهب إلى مكان فيه ماء، فكان يأخذ الماء ويجعله في هذه الإناء، فكلما نزل الماء في الزيت ارتفع الزيت حتى ارتفع الزيت إلى آخر الإناء فشرب منه الفأر.

فمن الذي هدى هذا الفأر لمعرفة الفرق بين كثافة الماء وكثافة في الزيت؟ وكذلك النمل تكون طابوراً كاملاً حتى تنقض على الفريسة، ثم تذهب بها لتخزنها أعوماً.

وأيضاً هدى الله كل هذه المخلوقات لتسبيحه فقال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].

فهذه النقنقة من الضفدع تسبيحات لله جل وعلا، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع؛ لأنها تكثر من تسبيح الله جل وعلا بهذه النقنقة، وقيل: لأنها كانت تأخذ الماء وتلقي به في نار إبراهيم عليه السلام لحمايته منها.

والله هو الذي هدى الهدهد ليعرف أن الله جل وعلا يخرج الخبء من السماوات والأرض، وذلك عندما ذهب إلى بلقيس وقومها ووجدهم يسجدون للشمس من دون الله قال: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النمل:24-25].

فمن الذي هدى الهدهد ليعرف ذلك الأمر العظيم؟ إنه الله عز وجل، فهذه هي الهداية العامة.

الهداية الخاصة

والهداية الثانية: هداية خاصة بالبشر، وهي هداية الإرشاد، أو هداية البيان، وهي تصديق لقول الله تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وفي بعض التفاسير لقوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [:8] يعني: بين لها طريق الفجور وطريق التقى.

وهذه الهداية قد تكون لله جل وعلا أو لرسوله أو للدعاة إلى الله جل وعلا، ومنها قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، وقوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] أي: بينا لهم الطرق الصحيحة. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] وقوله: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر، وهذه الهداية أيضاً قد تكون للرسول قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] .

يعني: تبين وترشد الناس.

هداية التوفيق

الهداية الثالثة هي: هداية التوفيق والسداد وخلق الإرادة في القلب، أو خلق العزيمة على فعل الخير، وهذه لا تكون إلا لله جل وعلا، وفصل الخطاب فيها قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] .

مع أنه تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] .

فكيف يثبت له الهداية هنا وينفيها في الآية الثانية إذ يقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]؟

الجواب: أن المراد بالآية التي تنفي عن الهداية: نفي هداية السداد والتوفيق لا هداية البيان والإرشاد، وهذه الهدايات الثلاث تكون في الدنيا.

هداية الآخرة إلى الجنة

الهداية الرابعة: هي هداية الآخرة، وهي هداية أهل الجنة إلى منازلهم يعرفونها كما كانوا يعرفون منازلهم في الدنيا، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6] .

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كل امرئ يدخل الجنة فإنه يعرف مكانه في الجنة، ويعرف ملكه، واللؤلؤة المجوفة التي يدخل فيها، كما كان يعرف بيته في الدنيا، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يجعلنا من المهديين هداية البيان والإرشاد، وهداية السداد والتوفيق.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خلق أفعال العباد [1] للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net