إسلام ويب

القدر من لوازم ربوبية الله عز وجل، ولا يستقيم لعبد إيمان ما لم يؤمن بالقضاء والقدر، ومسألة القدر ضل فيها كل من القدرية والجبرية، والمنهج الأسلم والسبيل القويم في هذه المسألة هو ما عليه أهل السنة والجماعة الذين يثبتون لله قدراً كونياً وقدراً شرعياً، كما يثبتون للمخلوقين إرادة واختياراً لا تنفك عن إرادة الله تعالى وقدره.

مقدمة في أهمية الإيمان بالقضاء والقدر

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

انتهينا بفضل الله سبحانه وتعالى وبمنه وكرمه وبحوله وقوته من الكلام عن الأسماء والصفات، وهنا سنتكلم عن باب مهم جداً وأنا هنا سأجمل الكلام عنه، لكن من أراد التفصيل فعليه بأسطوانة شرح أصول أهل السنة والجماعة، ففيها تفصيل كبير في مسألة القدر، والقدر هو قدرة الله، وهو من لوازم ربوبية الله، ولا يستقيم إيمان عبد بحال من الأحوال إلا بالإيمان بالقدر، ولا يمكن أن تطلق الإيمان على رجل لا يعتقد الاعتقاد الصحيح بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلا يمكن أن يستقيم إيمان عبد إلا به، ومسائل القدر دحض مزلة، قد ضلت فيه أفهام كثيرة، وضل فيه أناس كثيرون حتى ممن ينتسب للسنة، وسأبين لكم أخطاء فادحة يقع فيها المرء حتى إن المؤلف وقع منه الخطأ فيه وهماً منه؛ لأن باب القدر باب ليس بالهين، بل هو سر من أسرار الله، وسر من أسرار الغيب، وهو من أفعال الله جل في علاه.

فإذا أردت أخي الكريم أن تؤمن بالقدر فعليك أن تعلم أن الله قدر كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، وأن الله كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، والقدر ركن ركين من أركان الإيمان، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب عندما دخل عليه جبريل معلماً الناس وقال: يا محمد !صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي (أخبرني ما الإيمان؟)، فأجاب النبي بأهم ما في الإيمان، ولم يعرف الإيمان لغة، ولكنه أعطاه أهم شيء فيه، فعرف الإيمان بأركانه، وهذه تثبت لك بأن الإيمان كل جزئية منه هي ركن من أركانه، وفيه دلالة على أن الركن الواحد منها إذا نزع نزع الإيمان، فالإيمان له أركان، وهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، فهذه أركان الإيمان ومنها القدر.

القدر من أركان الإيمان

والقدر ركن من أركان الإيمان، والذي لا يؤمن بالقدر فقد كفر وخرج من الملة؛ وهذا هو ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح مسلم أنه جاء رجلان من أهل الكوفة إلى ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكانا يريدان التعلم، فقالا: لو صادفنا أحداً من أصحاب رسول الله كي نتعلم منه، فطافا فوجدا ابن عمر فاكتنفاه رجل عن يمينه ورجل عن يساره فقال: أرأيت من يتكلم في القدر ويقول: إن الأمر أنف، -يعني: انقضى- وكأنهما يريدان أن يقولا لـابن عمر: أرأيت أناساً عندنا يدعون العلم، يقولون: الأمر أنف. فقال الراسخ في العلم ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أبلغهم أني منهم بريء وهم مني برآء، فهنا البراءة الكلية من الكفرة، ثم استدل على تكفيرهم بكفرهم بالقدر فقال: سمعت أبي أي: عمر بن الخطاب وذكر حديث جبريل الطويل.

ومن الدلالة على أن القدر ركن من أركان الإيمان، وأن من لم يؤمن به فقد خرج من الملة ولا يستقيم إيمانه إلا بذلك، حديث الصحابي الجليل في مسلم عندما نصح لابنه فقال له: يا بني! إنه لا يستقيم إيمانك حتى تعلم أنه ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ثم قال: يا بني! -وهذا وجه الشاهد- إن لم تمت على هذا كنت من أصحاب النار.

فهذه دلالة قوية جداً على أن من لم يمت على هذا الاعتقاد كفر وخرج من الملة، وكان من أصحاب النار خالداً فيها. والقدر هو قدرة الله جل في علاه، وهو تقديره لخلق الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد بين الله ذلك جلياً في كتابه وقال: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38]، وقال جل في علاه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال جل في علاه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22]، ووجه الشاهد هو قوله: (من قبل أن نبرأها).

وقال الله جل في علاه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53]، يعني: مكتوب في اللوح المحفوظ، وكل هذه أدلة على أن الله جل وعلا كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق، ويدل على أن ذلك كان قبل خلق الخلائق بخمسين ألف سنة الحديث الذي سيأتي تفسيره في احتجاج آدم وموسى، حيث قال موسى: (أنت آدم خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه أكلت من الشجرة وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وبرسالته فقال: نعم. فقال: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، أو قال: أترى أن الله قد كتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فقال النبي: حينها حج آدم موسى)، ولذلك قال الله تعالى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، والإمام المبين: هو الكتابة في اللوح المحفوظ.

قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105]، والزبور: هو الذي أنزل على داود عليه السلام، والدليل قوله تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163] إذاً: فقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105] يعني: كتب في الذكر -وهو اللوح المحفوظ- كل شيء من الشقاء، أو السعادة، وأهل الجنة والنار، حتى ابتسامتك ونومك وزواجك، ورزقك، فكل ذلك قد كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، ودليل ذلك ما في مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (خرج على الناس بكتابين فقال: هذا كتاب وهذا كتاب، هذا كتاب أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم. وختم على ذلك -يعني: لا يزاد فيه ولا ينقص- ثم قال للذي في شماله: وهذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم، ثم قال: ختم على ذلك -يعني: لا يزاد فيه ولا ينقص- ثم قال: فرغ ربكم من العباد).

يعني: كتب أهل الجنة بعملهم وأهل النار بأعمالهم، وهذه الكتابة لا تجعل المرء يتقاعس عن العمل بل تزيده همة في العمل كما سنبين.

مراتب القدر

نذكر هنا بياناً لمراتب القدر الأربع، فهي محور إتقان المرء لاعتقاد القدر، وهذه المراتب الأربع: علم، فكتابة، فإرادة، فخلق، أو نقول: علم فكتب فأراد فخلق، وهذه المراتب من لم يؤمن بها فلا يستطيع الإيمان الكلي بالقدر ولا إتقان مسائل القدر، فتراه يتسخط على القدر ويجهل جهلاً عظيماً بهذا الباب، وإن كان لا يخرج من الملة؛ لأن الخروج من الملة إنما يكون إذا كان لا يؤمن أصالة بالقدر.

من مراتب القدر العلم

فالمرتبة الأولى هي: أن تعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله علم كل شيء صغيراً أو كبيراً سراً أو علناً، كلاماً أو صمتاً.

قال سبحانه وتعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، وقال الله تعالى: لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، فالله يحيط بكل شيء علماً سبحانه وتعالى، وأيضاً قال الله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107]، وقال جل في علاه: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الأنعام:59]، يعني: يعلمها الله جل في علاه وكتبها، وقد ختم الله الكثير من الآيات بتسمية نفسه (العليم الحكيم) قال تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:4-5]، ثم قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6]، فذكر العلم وذكر معه الحكمة، فالله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فكل ما كان يعلمه الله جل في علاه قبل أن يقع، وقد كتبه في اللوح المحفوظ عن علمه جل في علاه، ويعلم ما حدث بين آدم وإبليس وما حدث بين آدم وحواء، وما حدث بين محمد وأصحابه، ويعلم الله أيضاً ما يكون -كما سنبين في أشراط الساعة- في زمننا هذا من نطق الرويبضة، وأيضاً نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وظهور المسيح الدجال والدابة وغيرها.

جاء في مسند أحمد بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق، أو قال -يقلل من شأنه- : الفويسق يتكلم في أمر العامة)، وما أكثر الرويبضات في هذه العصور.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أننا سنموت ثم نحشر حفاة عراة غرلاً، وأن الله جل وعلا يحشرنا على أرض غير هذه الأرض يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، فكل ذلك أخبرنا الله به وسيقع.

وكذلك فإن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فالشيء الذي ليس موجوداً بحال من الأحوال لو وجد فإن كيفيته يعلمها الله ونحن لا نعلم، ويدخل في هذا الممكن والمستحيل، فمن الممكن مثلاً أن الصف المنافق لو خرج مع الصف المؤمن فإنه سينشر في الصف المؤمن الخبال والفتن، وقد قال الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ [التوبة:47]، فالمنافقون لم يخرجوا، ولكن لو خرجوا فإن الله يعلم ماذا سيحدث، فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.

أيضاً أهل الكفر يقول الله عنهم: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23]، ولم يحدث أن الله أسمع الكافرين، ولكن لو أسمعهم كيف سيكون الحال؟ قال: لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23]، وهذا في الدنيا.

وكذلك في الآخرة ذكر الله ما هو أعظم من ذلك، وهو أهل النار، فهم عندما يقفون على النار وينظرون إلى حق اليقين وعين اليقين يقولون يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، فهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا، ولكن لو ردوا إلى الدنيا فماذا سيكون حالهم؟ هل سيؤمنون على زعمهم؟ إذ قالوا: (نؤمن ولا نكذب بآيات ربنا) الجواب يأتي من الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، فهذا بيان من الله جل في علاه لما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذا بالنسبة للشيء الممكن والمتاح.

أما الشيء المستحيل، فيقول الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وهذا مستحيل أن يكون فليس للكون رب سوى الله جل في علاه، فلو قال أحد بأن للكون ربين أو إلهين لقلنا له: كذبت وخسئت، فإن هذا من المستحيل. ولكن بين لنا الله جل في علاه أن ذلك لو كان فإن الدنيا كلها ستكون خراباً، قال الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] فسيذهب كل إله بما خلق وسيعلو بعضهم على بعض، فصاحب الشمس يتمسك بشمسه وصاحب القمر كذلك، وصاحب الأنهار يتمسك بأنهاره، فتفسد الأرض ولا تكون ثمة حياة في هذه الدنيا.

تنبيه على تمثيل خاطئ عند بعض العلماء فيما يتعلق بعلم الله

وهنا ننبه على خطأ فادح يقع فيه كثير من الدعاة وكثير من أهل العلم، وهذا الخطأ الفادح هو في ضرب المثل على علم الله، فيقول بعضهم: إذا أردت أن تؤمن بالقدر فتقريب القول في ذلك: أن المدرس في الفصل ينظر إلى التلاميذ ويقول: هذا التلميذ سيأتي في الامتحان بالدرجة النهائية، والثاني أقل منه والثالث أقل منهما ويحدد درجة كل منهم؛ لأنه يعرف البليد من الذكي، فكتب المدرس في كتاب عنده: درجة محمد ثلاثون من ثلاثين، ودرجة زيد خمسة وعشرون، ودرجة عبيد صفر، وفي نهاية الامتحانات جاءت نتيجة الطلاب مطابقة لما كتبه المدرس عنده في ورقة قبل الامتحان.

ثم يقولون: كذلك القدر ولله المثل الأعلى، وهذا القول اعتزال محض، وهذا المثل ضربه الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه، والشيخ الشعراوي كان في فكرة شيء من عقيدة الأشاعرة وشيء من عقيدة المعتزلة، وإن كانت هذه إن شاء الله تغمر في بحر حسناته، ويغفر الله له زلاته، ولكن هذا اعتزال محض، إذ إن المعتزلة الذين ينفون القدر منهم من ينفي العلم كلية، ومنهم من يثبت العلم، لكن ينفي الإرادة، فالمعتزلة أصل في نفي القدر -وهم القدرية الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم مجوس هذه الأمة)- يقولون: نحن نؤمن بالقدر لكنهم ينفون علم الله أصالةً فيقولون: لا يعلم الله ما يفعل العباد إلا حين يفعلونه، وهم في هذا قد وافقوا اليهود حينما قالوا: بكى الله وحصل الرمد لعينه عندما رأى الفساد في الأرض متفشياً.

ويعنون: أن الله خلق الخلق ولا يعرف أنهم سيفسدون فلما وجد الفساد بكى أنهاراً. قاتلهم الله على إفكهم هذا وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فاليهود يقولون: الله لا يعلم، وهؤلاء المعتزلة يقولون: الله لا يعلم والعياذ بالله، وعندما وجدوا رماح الحق والسيوف البتارة من أهل السنة والجماعة تلاحقهم قالوا: رقابنا ستطير إذا قلنا بإنكار العلم؛ لأن الشافعي الفقيه المجتهد المحدث قال: ناظروا المعتزلة بالعلم فإن أقروا فقد خصموا، يعني: لو قالوا: إن الله يعلم، نقول: انتهى الأمر، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وإن أنكروا كفروا، فانظروا إلى دقة هذا العالم كيف يأتي بالمبتدع ويجعله في مكان لا يقدر على الهرب منه، ويقول له: ليس لك إلا أن تقر بما نقر به أو تخرج عن دائرة الإسلام، فإن أقروا بعلم الله ذهبت بدعتهم، وإن أنكروا علم الله كفروا؛ لأنهم سينكرون علم الله جل في علاه بعدما قامت الحجة عليهم، فيقتلون بذلك، فقدماء المعتزلة يقولون بنفي العلم، أما المتأخرون منهم فلما خشي كل واحد منهم على نفسه من السيف البتار من أهل السنة قالوا: نسكتهم بإثبات العلم ونقول: إن الله يعلم، ثم ننفي الإرادة والقدرة، فنقول: إن الله لا يستطيع أن يضل أحداً ولا يستطيع أن يهدي أحداً، وهذا هو نتيجة هذا المثال الذي يخطئ بعض الدعاة في ضربه لبيان القدر، فهذا المثال كأنه معتزلي محض؛ لأن نتيجة المثال أن الذي حصل على ثلاثين حصل عليها لأنه ممتاز، والذي حصل على خمسة وعشرين حصل عليها لأنه متوسط، والذي حصل على صفر حصل عليه لأنه بليد، فالمدرس ما حرك إرادة وذكاء التلميذ حتى يأخذ الثلاثين ولا حرك إرادة البليد حتى يأخذ صفراً، إذاً: هو ليس له إرادة ولا يتحكم بذلك، وهذا هو الاعتزال، لأن ربنا يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهو الذي يتحكم في إضلال الكفار، وهو الذي يتحكم في هداية المؤمنين، لكنه يفعل كل ذلك بالحكمة والعلم.

حكمة الله في الهداية والإضلال

إن الله يضل الكافر على علم عنده؛ لأنه يعلم أن هذا الكافر لا يستحق إلا الكفر، وأن هذا الظالم لا يستحق إلا الظلم، وذلك قول الله جلياً: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ [النحل:36] بمحض فضل ونعمة، ثم قال: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] يعني: هو لا يريد الهداية.

وقال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا [الصف:5]، إذاً: هم الذين يريدون الزيغ، ولما علم الله من قلوبهم الظلم والعتو والطغيان والزيغ والكفر يسر لهم أبواب الكفر، وهذا هو الفارق بينه وبين المدرس تعالى الله، فالمدرس لا يقدِّر شيئاً على الطالب، لكن الله يتحكم في إرادة الكافر ليكفر، فسد عليه كل منافذ الخير، وفتح عليه كل أبواب الشر؛ لأنه يعلم من يستحق الهداية ممن لا يستحقها.

والآن نتكلم عن معنى الحكمة فالحكمة: هي أن تضع الشيء في موضعه المستحق له، وعلى هذا فهل الله تعالى سيأخذ أبا جهل ويدخله الفردوس الأعلى، ويأخذ عثمان ويدخله نار جهنم؟ تعالى الله عن ذلك، فالحكمة إذاً: هي أن يأخذ الظالم الجهول أبا جهل ويجعله في الدرك الأسفل من النار، ويأخذ عثمان التقي المؤمن ويجعله في الفردوس .

ومن قال بعكس ذلك نقول له: قدحت في حكمة الله، فتكفير الله للكافر كان نتيجة لحكمته؛ لأن الله يغار أن يضع اللؤلؤ بين البهائم، فالله يغار أن يضع الخير في غير موضعه، وحتى البشر يغارون من وضع الشيء النفيس في غير مكانه، فقد كان الإمام مالك يقول: أربأ بعلمي أن يذهب لمن لا يستحقه، لما سأله رجل فقال: أجبني فلم يجبه، فقال الرجل لـمالك : من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار، فقال مالك : نح نفسك عني ائتني بمن يفقه ما أقول، ثم حدثني عن حديث اللجام، ولذلك قال الإمام الشافعي: أأنثر درراً وسط سارحة النعم.

وكذلك الإمام البخاري حدثت له قصة وإن كان فيها كلام، ولكن العلماء يذكرونها للاعتبار بسعة علم الإمام البخاري وذلك أنه عندما اختبره المحدثون وقلبوا عليه الأسانيد والمتون، فكلما يقولون له: حديث أنس بسند كذا، فيقول البخاري : لا أعرفه هكذا حتى ذكروا له مائة حديث، وقد كان الناس أتوا ليسمعوا للبخاري جبل الحفظ، فالجهال لما رأوا ذلك قالوا: أهذا البخاري ؟ إنه لا يعرف حديثاً، فقد ذكروا له أحاديث وهو لا يعرفها، وكلما ذكروا له حديثاً يقول: لا أعرفه، ولكن العلماء فطنوا لقوة ودقة نظر البخاري وشدة حفظه، فاتهموه وقالوا: إن هذا يأخذ دواء يذهب النسيان، فإذا بـالبخاري يأخذ المائة حديث عشرة عشرة، فقال للأول: أما أنت فأسانيدك كذا ومتونها كذا فأخرج الإسناد المركب على غير متنه وأعاده إلى متنه حتى وصل إلى المائة، فطارت عقول المحدثين، وأذعنوا جميعاً بقوة علم البخاري.

والمقصود أن الجهلة يضيعون أهل العلم، فيضع الله الهداية لأهلها، ويضع الكفر لأهله، ولذلك قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] فمن الذي ييسر لليسرى ومن الذي يغلق أبواب الخير عن غير أهلها؟ الجواب صريح في قول الله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، وهذه الآية فيها رد على المثل السابق الذي لا يمكن أن يقوله إلا المعتزلة، وقد قال لي بعض الأفاضل: إن من يقول هذا ربما وهم وروجع فرجع وهذا محتمل، لكنني أحببت أن أبين ذلك.

من مراتب القدر الكتابة

المرتبة الثانية من مراتب القدر هي: مرتبة الكتابة، يعني: أن الله كتب كل شيء كما قال الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الأنعام:59] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، فقد كتبت الأقدار في هذا الكتاب، وأيضاً قال الله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، يعني: كتبناه في الإمام المبين وهو اللوح المحفوظ، وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53]، يعني: مكتوب.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما خلق الله القلم فلما خلقه قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).

فوائد من حديث أول ما خلق الله القلم

ونستدل بهذا على عدة مسائل في العقيدة، فنستدل به على أن القلم يتكلم وفائدة ذلك أنه لا يلزم من إثبات الكلام أن يكون له فم ولسان وأسنان وإلا قلنا: أين فم القلم وأسنانه ولسانه؟ مع أننا نعلم أنه لا مخرج له، فهذه دلالة على أن هناك مخلوقات تتكلم ولا نعلم كيفية كلامها ولا مخرج كلامها أيضاً، فمن باب أولى أن الله جل وعلا يتكلم ولا نعلم كيفية كلامه، فهذه هي المسألة الأولى.

المسألة الثانية: أن الله تعالى تكلم بحرف وصوت مسموع؛ لأنه قال: قال للقلم: اكتب.

المسألة الثالثة: أن جعل جماداً يتكلم، إذاً لا تقولون بالمجاز، ولا تقولون: إن الجبل يحب أي: أهل الجبل، ولا تقولون: إن الجدران في القرية تريد، أي: أهل القرية يريدون، فلا مجاز في القرآن على الراجح الصحيح.

وأما قول الله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77]، فهذا بالصريح الصحيح هو الجدار، وقد أفهم الله الخضر ذلك، ولم لا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، فإن الجبل يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يكون له قلب، كما أن الجذع بكى وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه الصحابة عندما كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم ويده على الجذع، فلما اعتلى المنبر أنّ الجذع أنيناً شديداً، ولم يسكت حتى وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه.

أيضاً الطعام تكلم بالتسبيح، فنحن لا نقول بالمجاز، بل نقول: قد يتكلم الجماد ويشعر كما ورد في النصوص، وقد قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].

إذاً: الكتابة هي: أن الله كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، وقد فرغ ربنا من أهل الجنة، ومن أهل النار، نقول هذا إجمالاً، أما التفصيل: فإن على المؤمن أن يؤمن بأربع كتابات:

الكتابة الأولى: الكتابة الأزلية.

الكتابة الثانية: الكتابة السنوية.

الكتابة الثالثة: الكتابة العمرية.

الكتابة الرابعة: الكتابة اليومية.

والكتابة العمرية هي الكتابة التي تكتب في الرحم بعد مرور الأربعة أشهر للجنين في الرحم، حيث يأتي الملك فيقول: أي رب! ذكر أم أنثى؟ أي رب! شقي أم سعيد؟ أي رب! كم أجله؟ أي رب! ما رزقه؟ فيكتب كل ذلك بأمر الله جل وعلا، والمرء لا يزال في بطن أمه.

وقد قال ابن مسعود : (السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه) جاء أن بعض الناس طرقوا الباب على إبراهيم بن أدهم فوجدوه يبكي، فقالوا: ما يبكيك؟ إنك رجل على صلاح.. إنك تفعل كذا وكذا وكذا، قال: إليكم عني، فإني لا أعلم كتبت في بطن أمي شقياً أم سعيداً. فهذه هي الكتابة الأزلية وأصلها حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

الكتابة الثانية: الكتابة السنوية، وهذه تكون في ليلة القدر من كل سنة كما قال الله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، قال ابن عباس : يكتب أهل الحجيج، ويكتب من يموت في هذا العام، ويكتب من يحيا ومن يولد، ويكتب الرزق ويكتب كل شيء في هذه الليلة، وهذه الكتابة على قول ابن عباس اسمها: كتابة عامية.

الكتابة الثالثة: الكتابة اليومية، والكتابة اليومية على أقسام: كتابة الملكين اللذين لا يفارقان ابن آدم بحال من الأحوال، كما قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] يعني: يكتب هذا الحسنات، ويكتب هذا السيئات، وهناك قسم آخر وهم ملائكة يكتبون الطاعات، ويسيحون في الأرض بحثاً عن مجالس العلم، فيكتبون أسماء من يجلس فيها بأسمائهم وأسماء آبائهم ويصعدون إلى الله، فيقول الملك: يا رب إن فلاناً هذا جاء لغرض، ولم يأت لطلب العلم، فيقال: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة يتقابلون في العصر، ويتقابلون في الفجر)، فالذين كانوا في الفجر يصعدون في العصر، فتخلفهم ملائكة يصعدون في الفجر يكتبون ما يفعل ابن آدم، فهذه كتابة يومية.

ومما يجدر التنبيه إليه في هذه المرتبة أن الكتابات لا تتغير في اللوح المحفوظ، فما كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير بحال من الأحوال، ولكن هل يمكن أن يتغير شيء من الكتابة في غير اللوح المحفوظ؟ الجواب: نعم، فهذا هو الراجح، وقد بين المؤلف الأدلة التي تدل على ذلك، وبهذا فلا إشكال في القدر.

ولذلك فإن الناس يسألون الله تعالى ما يريدون، فإذا بالدعاء والقدر أقواهما يرفع الآخر، يعني: أنه يمكن للدعاء أن يرفع القدر، ولكن كيف يرفع القدر وقد قلنا: إن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ؟ نقول: نعم الدعاء يرفع القدر المكتوب في أيدي الملائكة لا المكتوب في اللوح المحفوظ.

أما الإشكال الثاني: فهل يكتب رجل في بطن أمه شقياً ويكون سعيداً؟ الجواب: نعم، فقد يكتب في بطن أمه شقياً، ولكن في اللوح المحفوظ يكون الله قدر أنه سيختم له بالصالحات فيكون سعيداً، فالذي يغير هو ما في يد الملك فقط، والدليل على ذلك.

حديث (الدعاء والقدر يعتلجان)، يعني: يتعارضان؛ وأيضاً كلام عمر بن الخطاب بسند صحيح أنه طاف حول الكعبة فكان يبكي ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني شقياً -يعني: في بطن أمه- فامحها واكتبني عندك سعيداً. فهو طلب تغيير ما كتب عليه في بطن أمه فقط؛ لأن اللوح المحفوظ لا يتغير أبداً، والدليل على أن عمر يريد ذلك نهاية قوله، إذ قال في نهايته: فاكتبني عندك سعيداً، ثم يقرأ قول الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

والمعنى: يمحو الله ما يشاء مما في يد الملك، وعنده أُمُّ الْكِتَابِ ، يعني: اللوح المحفوظ فإنه لا يتبدل ولا يتغير، فالآية هنا ظاهرة جداً في أن الذي يمحي هو ما في يد الملائكة.

وكذلك لو أن رجلاً سرق وستقطع يده، فإذا كان ذلك مكتوباً في اللوح المحفوظ فلن يتغير ذلك، وأما إذا كتب في يد الملائكة فقط بأنه سارق، فإنه سيمحى من كتاب الملائكة إن قدر الله ذلك.

فإذاً الكتابات أربع: كتابة في اللوح المحفوظ وهذه لا تتبدل ولا تتغير، وكتابة عمرية، وكتابة سنوية، وكتابة يومية، والتغيير والتبديل يكون في هذه الكتابات لا في اللوح المحفوظ.

من مراتب القدر الإرادة

والإرادة بمعنى: أن تعتقد اعتقاداً جازماً بأنه لا شيء في هذا الكون إلا وهو تحت إرادة الله جل في علاه فقد عمت مشيئته وإرادته على الخلق أجمعين سبحانه جل في علاه، ولن يستقيم إيمان عبد بالقدر حتى يعلم أن كل صغير وكبير، ودقيق وجليل قد تم بإرادة الله جل في علاه، لا كما يقول بعضهم: إن في الكون أشياء لم يردها الله جل في علاه، وهؤلاء خلطوا بين المحبة والإرادة فما من شيء يقع في الأرض إلا وهو مراد لله جل في علاه كوناً أو شرعاً.

الإرادة الشرعية والكونية

إن كل شيء يقع فهو تحت إرادة الله جل في علاه. فالزنا، والسرقة، والفواحش، والبذاءة كلها مرادة لله، لكنها مرادة إرادة كونية، وما أراده الله كان، وما لم يرده لم يكن، (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)، وقال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].

وهناك آية ظاهرها مشكل وهي قول الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وذلك لأن (أتى) فعل ماض، والفعل (تستعجلوه) فعل مضارع، فكيف نوفق بين أول الآية وآخرها؟

الجواب: أن الفعل (أتى) بمعنى: أن الله إذا أراد شيئاً فسيقع لا محالة، فلا مرد لقضاء الله ولا لإرادته جل في علاه، فكأن الله يخبرنا بأنه وإن لم يأت حتى الآن، لكن إذا أراده الله فكأنه قد وقع لتحقق وقوعه؛ لأن الله قضاه وإذا قضى الله أمراً كان وقوعه محتماً.

والمراد: أن المؤمن لابد أن يعلم أن الإرادة إرادتان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، أما الإرادة الكونية فهي المشيئة، وأما الإرادة الشرعية فهي المحبة وبينهما تفاوت، وهذا مما يجعل طالب العلم عند تعلمه مسائل القدر لا يتشوش باله ويوسوس لجهله بالفرق بين الإرادتين.

وضابط الإرادة الكونية أنها تقع لا محالة، فما أراده الله كوناً فلا يمكن أن يرد وضابط آخر للإرادة الكونية وهو أنها تقع فيما يحبه الله وما لا يحبه الله، فالله جل في علاه أراد وجود الشيطان ووسوسة الشيطان لابن آدم، وهذه الإرادة كونية؛ لأنها وقعت، ولأنها فيما لا يحبه الله.

وقال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ [الأنعام:125]، والإرادة هنا كونية؛ لأن الإضلال غير محبوب لله، ولأن الله لما أراد إضلال فرعون ضل لا محالة.

أما الإرادة الشرعية وهي المحبة فضابطها أنها قد تقع وقد لا تقع وهي محصورة فيما يحبه الله فقط، فلا يمكن أن تكون فيما يبغضه الله، إذاً: وجود إبليس أراده الله إرادة كونية وليس إرادة شرعية، وكذلك الزنا والسرقة وسب الوالدين.

وكذلك الإذن قد يكون إذناً كونياً وقد يكون إذناً شرعياً، وكذلك القضاء قد يكون قضاء كونياً وقد يكون قضاء شرعياً، وأيضاً البغض منه ما هو كوني وما هو شرعي.

قال الله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت:12]، فهذا القضاء قضاء كوني؛ لأن السماوات موجودة لا محالة.

وقال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] والإذن هنا إذن كوني؛ لأنه وقع حقيقة، فقد بعث الله عليهم من سامهم سوء العذاب، وهو بختنصر ووقع فيما لا يحبه الله؛ ولكن قدره لحكمة أرادها، وهي رد الظالم عن ظلمه.

قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، والقضاء هنا قضاء شرعي، لأنه قد يقع وقد لا يقع، فقد يوجد من يعبد الله، وقد يوجد من يعبد غير الله.

قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، والإرادة في هذه الآية إرادة كونية.

الإراداة الإلهية وأقسام الموجودات

الموجودات في الكون أقسام:-

الأول: مراد كوناً وشرعاً.

والثاني: غير مراد كوناً ولا شرعاً.

والثالث: مراد كوناً لا شرعاً.

والرابع: مراد شرعاً لا كوناً.

أما المراد كوناً وشرعاً فإيمان المؤمن، فإن إيمان المؤمن مراد لله شرعاً، لأن الله يحبه، وذلك كإيمان أبي بكر فلما أحبه الله كان مراداً شرعياً، وهو أيضاً مراد كوني من حيث أنه يقع لا محالة فالله قد كتبه في اللوح المحفوظ مؤمناً وأودع في قلبه حب الإيمان، وأراده شرعاً بأن بعث الرسول محمداً ليهدي أبا بكر ، فيكون سيد المؤمنين.

أما الذي لا يراد شرعاً ولا كوناً فكفر المؤمن، فإنه غير مراد لأنه لم ولن يقع لا كوناً ولا شرعاً؛ لأن الله لا يحب كفر المؤمن ولا يحب كفر أهل الأرض، قال الله تعالى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، وقال: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَِ [الزمر:7]، أي: لا يحب لهم الكفر، ولذلك فإن الله أرسل الرسل ليهدوا الناس، ولكن منهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، قال الله عنهم: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6].

وأما المراد كوناً لا شرعاً فهو كفر الكافر؛ لأن الله يبغض الكفر، لكنه أراده كوناً وذلك لحكمة علمها الله، فقد علم الله أن الكافر لا يريد الإيمان، ولا يمكن أن يريده، وأجلى ما يكون مثالاً لهذا الأمر قول الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، فكانت عاقبتهم الكفر والعياذ بالله.

وأما ما هو مراد شرعاً لا كوناً فهو إيمان الكافر، فهو غير مراد كوناً، لكنه مراد شرعاً؛ لأن الله أرسل الرسل لإيمان البشر، فإيمان أبي جهل مراد شرعاً؛ لأن الإيمان يحبه الله، وإن رسول الله ذهب إليه، وذهب إلى أبي طالب وقال: (يا عم قل كلمة أحاج بها لك عند الله، قل لا إله إلا الله)، لكن أراد الله كفرهما كوناً فقط.

من مراتب القدر الخلق

أما المرتبة الرابعة من مراتب القدر: فهي مرتبة الخلق، فإن الله علم فكتب فأراد فخلق، والله جل وعلا خلق كل شيء، قال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، ويندرج تحت هذا عموم الخلق.

والخلق خلقان: خلق إيجاد من عدم، وخلق تحويل من صورة إلى صورة، وبهذا نزيل شبهة المتكلمة عندما يقولون: أنتم تقولون: الله خالق كل شيء، يعني: لا خالق مع الله؟ فنقول: نعم. فيقولون: ماذا تقولون في قول الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، فظاهر الآية يدل على أن هناك مشاركة؟

فنقول جواباً عليهم: إننا عندما ننظر في الخلق، ونقسمه إلى قسمين: خلق إيجاد من عدم، وخلق تحويل من صورة إلى صورة، فإننا نخرج من هذه الشبهة، وذلك أن خلق الإيجاد من عدم هو مما ينفرد الله به.

فلا يمكن لأحد أن يخلق من العدم إلا الله تعالى، فقد كنا عدماً ثم خلقنا الله، قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1].

وأما الخلق المقيد: وهو تحويل الصورة إلى صورة أخرى، فهذا قد يشترك فيه البشر، كما في تحويل الحديد إلى سيارة، أو تحويل الخشب إلى باب أو نافذة، فإن هذا التحويل يسمى خلقاً، فيقال: إن هذا الرجل صنع باباً من الخشب أي: خلق باباً من الخشب؛ لأن الخلق قد يأتي بمعنى الصناعة، فيكون محل الآية: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، إنما هو في خلق التحويل من صورة إلى صورة.

ومن المهم في مرتبة الخلق بيان الرد على القدرية، وذلك بأن الله خلق أفعال العباد كلها، ومنها: فعل الزنا، والسرقة فإنها مخلوقة، لكنها تنسب إلى الله خلقاً وإيجاداً، وتنسب إلى العبد كسباً وفعلاً، يعني: أن الزاني والسارق منسوب إليه الزنا والسرقة، ولكن العبد كله مع فعله مخلوق لله جل في علاه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - فصل في القضاء والقدر للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net