إسلام ويب

مخافة الله عز وجل رأس الأمر، إذ هو شعار أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك هي شعار الصالحين من بعدهم. فالخوف باعث قوي على عبادة الله عز وجل، وسبب في البعد عن معاصيه، ورادع في الكف عن شهوات النفس، فإن النفس الأمارة بالسوء لا يردعها إلا قوة خوف من خالقها سبحانه وتعالى.

بيان مقام الخوف وتعريفه

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

ثم أما بعد:

فالخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه، والخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، ولا يزال الناس على الطريق ما دام معهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا، وما فارق الخوف قلباً إلا وخرب، قال حاتم الأصم : لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف.

وقال ابن مسعود : إنما العلم الخشية.

والخوف هو: توقع العقوبة على مدار الأنفاس، كلما خرج منك نفس تخشى عذاب الله عز وجل.

قال سيد التابعين أويس القرني : كن في أمر الله كأنك قتلت الناس أجمعين، أي: في الخوف من الله عز وجل.

بيان أن الخوف نعمة من الله وبيان فضله

الخوف نعمة من الله عز وجل، ينعم بها على من يشاء من عباده، قال الله تبارك وتعالى: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة:23].

فبنص هذه الآية الخوف من الله عز وجل نعمة؛ لأنه هداية، ولأنه يهيئ القلوب للاستجابة لأمر الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10]. وكما قال الله عز وجل: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11].

والخوف يوصل العبد لأقصى مقامات الإيمان، فيوصله إلى رضا الله تبارك وتعالى عنه، قال الله تبارك وتعالى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8].

وقال الله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. فالعبد عندما يعلم باطلاع الله تبارك وتعالى عليه فإنه يعظم هذا المقام، فيترك الذنب -وقد أمكنه فعله- خوفاً من الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين النظر إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه).

الخوف يوصل العبد إلى رضا الله تبارك وتعالى عنه، بل ويوصله إلى أعلى مقامات الجنان، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [الإنسان:5] والأبرار هم: المقربون عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:6-11].

والخوف علامة أهل الجنة، قال الله تبارك وتعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34]. فمن لم يخف يخشى عليه أن يكون من أهل النار، قال الله تبارك وتعالى عن أهل الجنة: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26]. والإشفاق هو: رقة الخوف فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27].

ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار عبد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دمع من خشية الله، وقطرة دم تراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله).

والخوف سبب للنصر، قال الله تبارك وتعالى: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

بيان أن الخوف من صفات الأنبياء وعباد الرحمن

والخوف شعار الأنبياء، قال الله تبارك وتعالى عنهم: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90].

وأما أصحاب التصوف الفلسفي فيقول الحلاج : ما الجنة؟ إنها لعبة صبيان، يضحكون بها على العيال الصغار، وما النار؟ أستطيع أن أبصق عليها فأطفئها، أي: أتفل عليها تفلة واحدة فأطفئها، وهذا لا يقوله رجل يخشى الله عز وجل، ولذلك حكم عليه جمهور أهل العلم بالزندقة، ولا تجد رجلاً ينافح عن الحلاج إلا وفي دينه خلل، مثل صلاح عبد الصبور الذي عندما كتب عن مصرع الحلاج جعله بطلاً دينياً وقومياً وبطلاً من أبطال الحرية، وجعل الفقهاء أصحاب سلطة وأصحاب مال.

وأما عباد الله وعباد الرحمن فإن ديدنهم كما قال الله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65].

أنواع الخوف

خوف العقوبة

والخوف على أنواع، منه: خوف العقوبة، وهو خوف العامة، وهو يتولد من مشاهدة الذنب والتصديق بوعيد الله عز وجل، وخوف العقوبة إذا ترحل من القلب ترحل عنه الإيمان، فلا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة وكبرياء من واجهته بها. وإذا حركت الريح ستر بيت إنسان أو ستر باب بيته فإنه ينخلع فؤادك لنظر الناس إلى عورتك، فكيف تقيم على المعصية وأنت عالم بنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات واطلاعه عليك وأنت تقترف المعاصي ليلاً ونهاراً؟! فآدم عليه السلام لم يسامح بلقمة وهو صفي الله عز وجل، ونحن:

نصل الذنوب إلى الذنوب ونرتجي درج الجنان ونيل فوز العابد

ونسينا أن الله أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحد

خوف الخشية وخوف الوجل

ومنه: الخشية، والخشية هي: خوف مقرون بعلم، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية).

وهناك: خوف الوجل، والوجل: انقباض القلب وخوفه عند ذكر من يخاف سطوته وعقابه، فمثلاً: عندما يقال: إن الرجل الفلاني يقوم بإعدام الناس في دار الدنيا فإنه ينقبض القلب بمجرد ذكر اسمه، فالوجل هو: انقباض القلب أو خوف القلب عند ذكر من يخاف عذابه وسطوته.

خوف الإشفاق وخوف الهيبة

وفوق هذا: خوف الإشفاق، والإشفاق هو: رقة الخوف.

وفوق هذا: خوف الهيبة، والهيبة -كما قال ابن القيم - هو: خوف مقرون بحب.

فالخوف والخشية والوجل والإشفاق والهيبة كل هذا من مقامات الخوف، وما أنصب العباد والخدام إلا ذكر يوم القيامة، وكيف لا يخاف العباد ولا يحزنون منها؟! وما عبد الله عز وجل بمثل الخوف، فكيف لا يخافون والقيامة أمامهم، وفي العرصات مقامهم، وعلى الصراط جوازهم، والمهبط والصعود إما إلى الجنة وإما إلى النار.

نماذج من خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه

وإن كان سيد الرسل قد شاب من ذكر أهوال القيامة أفلا يشيب العبد؟

وقد ورد أن أبا بكر الصديق قال: (يا رسول الله! قد شبت قبل المشيب، قال: شيبتني هود وأخواتها)، وفي رواية: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت).

ولما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قد اجتمعوا قال: (علام اجتمع هؤلاء؟ قيل: اجتمعوا على قبر يحفرونه، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدر من بين يدي إخوانه، ثم واجه القبر حتى بل الثرى من دموعه، وقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا) هذا خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قام إلى الصلاة يسمع لصوت صدره أزيز كأزيز المرجل). وكان إذا هبت الريح دخل وخرج، فتقول له السيدة عائشة : (يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيم استبشروا -أي: لأنه سيجيء من بعده المطر- ولكني أعرف الكآبة في وجهك، قال: وما يؤمنني، إن قوماً رأوا عذاب الله عز وجل فقالوا: هذا عارض ممطرنا). فبمجرد تغير الجو وهبوب الريح كان يعرف الخوف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد واضع جبهته لله عز وجل).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت الجنة والنار فلم أر كالخير والشر قط اليوم) ثم قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل). فغطى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، أي: صوت خارج من الأنف فائج عن البكاء.

نماذج من خوف الأنبياء من الله عز وجل

وقال الله تبارك وتعالى في ذكر خليل الرحمن إبراهيم: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] قال الشوكاني : يكثر التأوه من ذنوبه، فإذا تذكر الذنب أكثر التأوه من ذلك، فمن لجوعك ومن لعطشك ومن لذنوبك إذا جئت بها تحملها على ظهرك؟ فواطول وقوفاه وتحيراه! وأوه من حمل الذنوب وثقلها، وأوه من الإقرار بها!

نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار

من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للبكاء تعار

وبكى آدم عند نزوله من الجنة حتى قالوا: لو قيس بكاء آدم ببكاء أهل الأرض جميعاً لعدل بهم، وقال: أبكي على دار كنت أسمع فيها زجل تسبيح الملائكة حول العرش.

وما شرب نبي الله داود شراباً من الماء ولا تناول طعاماً إلا وبلله بدموعه، وكان يقول: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك، فكيف أستطيع حر نارك؟ يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك -وهو الرعد- فكيف أستطيع سماع صوت غضبك.

ذكر خوف جبريل وميكائيل من الله عز وجل

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله)، أي: كالكساء الممزق الذي يوضع على ظهر الدابة.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: (ما لي لم أر ميكائيل يضحك؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار)، وهذا الحديث حسنه الألباني .

نماذج من خوف الصحابة من الله عز وجل

ثم تعال إلى الصالحين من عباد الله عز وجل، فـصديق هذه الأمة الأكبر رضي الله عنه يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا ليتني لم أولد، ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسياً منسيا. وحفرت الدموع خطان أسودان في وجه الفاروق .

وعندما قال له ابن عباس رضي الله عنه عند موته: إنك لشهيد، مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل بك وفعل قال: إن المغتر من غررتموه، والله! لو كان لي ما طلعت عليه الشمس ما أمنت سوء المطلع، أو لافتديت به من هول المطلع يومئذ، ويرحم الله عمر بن الخطاب فاروق الإسلام فقد مرض من جراء آية، وهي قوله تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]، يقول: قسم حق ورب الكعبة!

وسيدنا علي رضي الله عنه يخرج ذات يوم على أصحابه ويقول: والله! لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزة، قد باتوا لله عز وجل سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، تنهمر دموعهم على خدودهم فتبتل منها ثيابهم، فما بال هؤلاء قد أصبحوا غافلين؟ فما روي ضاحكاً حتى ضربه عبد الرحمن بن ملجم.

وكان تحت عيني سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان يقول ابن مسعود رضي الله عنهما: إن هاهنا رجالاً ودوا لو أنها قامت ألا يبعثوا.

وعمران بن حصين رضي الله عنه الذي كان مجاب الدعوة يقول: يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح في يوم عاصف.

وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: لأن أدمع دمعة من خشية الله عز وجل أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار.

والصحابي الجليل شداد بن أوس رضي الله عنه كان إذا أوى إلى فراشه لا يستطيع النوم، ويقول: اللهم إن جهنم لا تدعني أنام.

نماذج من خوف التابعين من الله عز وجل

وعلي زين العابدين رضي الله عنه ابن الإمام الحسين كان إذا توضأ اصفر وجهه، ولما يسأل عن ذلك يقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟

وهبت نار عظيمة أتت على أكثر المسجد ففزع منها الناس، فلم يفزع ولم يترك صلاته، وقال: شغلتني النار الكبرى.

والربيع بن خثيم حفر قبراً في منزله، وكان ينزل فيه في اليوم مرات، ويقول: يا ربيع! ها قد خرجت، فاعمل لقبر إن نزلت فيه تقول: رب ارجعون، إلى يوم القيامة ولا يستجاب لك.

وربعي بن خراش -أحد رواة الكتب الستة- يقسم ألا يراه الله ضاحكاً حتى يعلم أي الدارين داره، يقول غاسله: فلما مات تبسم، ولما كان على المغسلة تبسم، ولما وضعناه في قبره تبسم. وهذه كرامة ثابتة.

وكذا يزيد الرقاشي قال عنه الحسن البصري: آلا على نفسه ألا يضحك حتى يعلم مصيره. قال: فعزم على ذلك فوفى.

والحسن البصري سيد البكائين وصفوه فقالوا: كان إذا تكلم فكأنه شاهد الآخرة، ثم جاء من الآخرة يخبر الناس عنها. وقالوا: كان إذا قدم فكأنما قدم من نفس حميم الله، وإذا جلس فكأنما هو أسير يستعد لضرب العنق، وإذا بكى فكأن النار لم تخلق إلا له. وكان يبكي ولما سئل عن سبب بكائه وقيل له: يا أبا سعيد ! ما يبكيك قال: وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ذنوبي فقال: افعل ما شئت فلا غفرت لك. ويقول: أخاف أن يطرحني في النار غداً ولا يبالي. وإن كانت الأنبياء يقولون يوم القيامة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فقد كان يبكي الحسن ويقول: أخاف أن يطرحني في النار غداً ولا يبالي.

ويقول: والله! لا يؤمن أحد بهذا القرآن إلا ذبل، وإلا نحل، وإلا تعب، وإلا ذاب. وعندما قال له رجل: كيف حالك يا أبا سعيد ؟! قال: كيف حال قوم ركبوا سفينة فلما توسطوا البحر تكسرت السفينة وتعلق كل منهم بخشبة؟ قال: في حال شديدة. قال: حالي والله! أشد من حال هؤلاء. وكان صائماً فقدم له ماء ليفطر عليه فلما رآه بكى، فقيل له: لم؟ قال: تذكرت أمنية أهل النار، وقولهم لأهل الجنة: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50].

أما طاووس بن كيسان سيد العباد، وسيد أهل اليمن، وتلميذ سيدنا عبد الله بن عباس كان إذا مر برواس -الرجل الذي يشوي الرءوس- ووجده قد أخرج رأساً مشوياً غشي عليه، ولا يأكل أولا يتعشى تلك الليلة، وكان إذا أتى إلى مضجعه يقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين، ثم يستقبل محرابه إلى الصباح.

أما سفيان الثوري -أمير المؤمنين في الحديث- فكان عجب عجاب، قال عنه الإمام أحمد : سفيان عندي هو الإمام، كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم، وكان إذا ذكر الموت لا ينتفع بعلمه أياماً، ويقول: لا أدري، لا أدري. وحمل بوله إلى طبيب في مرضه الأخير فقال: هذا ماء رجل قد أحرق الخوف جوفه، وكان يقول: خفت الله عز وجل خوفاً أعجب كيف ما مت منه، وكان إذا جلس يجلس فزعاً مرعوباً ويقول: اللهم سلم، اللهم سلم. ويقول عبد الرحمن بن مهدي -شيخ الإمام أحمد-: ما صاحبت رجلاً في الناس أرق من سفيان ، كان يقوم من نومه فزعاً مرعوباً ويقول: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وإن حاجة سفيان أن تغفر له ذنبه، اللهم لو كان لي عذر في التخلي عن الناس ما أقمت مع الناس طرفة عين.

ولما سئل سفيان عن سر بكائه قال: لو أعلم أني أموت على التوحيد ما بكيت، وقال: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام، وقال سهل بن عبد الله التستري : خوف الصديقين من سوء الخاتمة ومن مكر الله عز وجل عند كل خطوة وعند كل حركة، وهم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فـسفيان الثوري الإمام المعظم المبرز يقول: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام. يخشى أن يموت على غير الإسلام.

سفيان الثوري يقول لرجل: تعال لنبكي على علم الله فينا، وماذا سبق القضاء لنا في أم الكتاب، أي: في اللوح المحفوظ، أشقي أم سعيد؟ وليس سوء الخاتمة فقط، وإنما يخافون مما سبق في علم الله لهم، أأشقياء أم سعداء؟

ومسعر بن كدام يبكي ويطول بكاءه، فتقول له أمه: لم البكاء يا مسعر ؟ فيقول لها: لما ننتظر. فتقول: وما هو يا بني؟! فيقول لها: القيامة وما فيها، القيامة وما فيها.

وأتى مالك بن مغول إلى سفيان الثوري فبكيا حتى رقا، حتى قال سفيان : ما أحب أن أقوم من مكاني حتى أموت، فقال له مالك بن مغول: ولكني والله! لا أرضى ذلك -أي: لا أحب ذلك- قال له سفيان : ولم؟ قال: معاينة الرسل، -أي: رؤية ملك الموت وملائكة العذاب أو ملائكة الرحمة- ولم ترهم من قبل، وخوف السكرات، واصطكاك الأسماع، واختلاف الأضلاع، وترادف الحشارج، وتتابع الأنين، ثم رؤية ملك الموت.

فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر

وكأنهم قد وضعوك على ظهر السرير وأنت لا تدري

وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر

يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر

يا ليت شعري كيف أنت على نبش الضريح وظلمة القبر

يا ليت شعري ما تقول إذاوضع الكتاب صبيحة الحشر

بيان أهوال الموت

قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].

وقال تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:26-30].

وقال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:20-22].

رب مذكور لقوم غاب عنهم فنسوه

وكأني بالمرء قد يبكي عليه أقربوه

وكأن القوم قد قاموا فقالوا أدركوه

حرفوه وجهوه غمضوه كفنوه

ألحدوه أقبروه فارقوه خلفوه

وكأن القوم لم يكونوا يعرفوه

الحث على تذكر الموت والهرب من النار

تذكر الموت، واجعله منك على بال حتى يدوم خوفك، واجعل السكرات منك على بال، ومعاينة الرسل ومشاهدة ملك الموت، وتفكر في هذا، وما تقول له ولم تره من قبل، فهذا كائن لا محالة، وأمتنا آخر الأمم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، وقد أسرع بإخبارنا فما ننتظر إلا المعاينة.

ويقول مطرف بن عبد الله -وهو من أئمة التابعين-: لقد كاد الخوف من النار أن يمنعني من سؤال الله الجنة. يقول: غلب علي الخوف حتى كاد ينسيني سؤال الله عز وجل الجنة.

إن آخر من يخرج من النار كما جاء في الحديث الصحيح رجل يحبو حبواً، ثم يقول للمولى عز وجل: (يا رب! اصرف وجهي عن النار، لا أسألك شيئاً غير ذلك)، فيأخذ المولى تبارك وتعالى عليه العهد والميثاق -فمع هول ما هو فيه ينسى الجنة- وإنما يقول: (اصرف وجهي عن النار، لا أسألك شيئاً غير ذلك).

ويزيد بن مرثد يقول له عبد الرحمن بن يزيد بن جابر : ما لي أرى عينك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عن هذا؟ قال: عسى الله أن ينفعني بك، قال: إن ربي توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، ولو لم يتوعدني إلا بالسجن في الحمام لكان حرياً ألا تجف لي عين. يعني: إن ربي قد توعدني لو عصيته بالنار، ولو لم يتوعدني إلا بسجني في الحمام تحت دش ساخن قد علت درجة حرارته قليلاً لكان حرياً ألا تجف لي عين. إن هذا الأمر ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني وبين ما أريد، وهو يعرض لي حين يقدم إلي الطعام فأبكي وتبكي صبيتي وزوجتي وتقول: ويحي وما اختصصت به من طول الحزن معك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس الإسلام وأهله).

من أسباب الخوف

الأول: خشية العذاب

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

ثم أما بعد:

من أسباب الخوف: أن يخشى الإنسان حلول العذاب، ويخشى أن يعاقبه الله عز وجل ويعجل له العقوبة في دار الدنيا على معاصيه، وكان هذا لا يدع الصالحين ينامون.

فـالربيع بن خثيم -تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود ، وكان من أحب الناس إليه، وكان إذا خلا به لا يأذن عبد الله بن مسعود لغيره من التابعين- تقول له ابنته: ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فقال: إن أباك يخشى البيات. والبيات هو: حلول عذاب الله ليلاً.

وتقول له أمه: يا ربيع ! يا بني! أقتلت نفساً؟ فيقول: بلى. فتقول: فوالله! لو علم أهل القتيل ما تلاقي بسبب قتيلهم لرحموك من كثرة البكاء، فيقول: قتلت أعز الأنفس علي، قتلت نفسي بالمعاصي.

ومالك بن دينار يقول: لولا أن تكون بدعة لوضعت التراب على رأسي وقلت: أيها الناس! من رآني فلا يعصي ربه، هذا ذل العاصي في دار الدنيا فكيف في الآخرة.

وكان يقول: لو أن لي أعواناً لفرقتهم في منارات الدنيا يصيحون في الناس: النار النار، أي: لا تنسوا النار. وله شاهد من حديثه صلى الله عليه وسلم: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار).

ويقول: لولا أن تكون بدعة لم أسبق إليها عند الموت، فإنه إذا جاءني الموت لوضعت الغل في عنقي وقلت لهم: اسحبوني وامضوا بي كما يمضى بالعبد الآبق إلى سيده.

وقال: بينا أنا أطوف إذا بجويرية صغيرة تقول: يا رب! أفما كان لك أدب تؤدب به من عصاك إلا النار؟ أي: يا رب! أما اخترت عقوبة وأدباً للذي يعصيك غير النار؟ قال: فما زال هذا مقامها إلى الصباح. قال: فلما رأيت هذا من جويرية صغيرة وضعت يدي على رأسي وقلت: ثكلت مالكاً أمه، أفما كان لك أدب تؤدب به من عصاك إلا النار؟

بيان صفة جهنم

جهنم سوداء، نارها أسود، شجرها أسود، أهلها سود قبيحون، كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [يونس:27]، أكلوا من النار، وشربوا من النار، ومشوا على النار، وعاشوا في النار، لهم نعال من نار، وسرابيل من قطران، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:17-14].

فما ظنك أيها المفرط في عمره المقصر في دهره! بسكان هذه الدار، فهي ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، دار يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، فيها سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم واحد من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد بمن فيه).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل النار يبكون الدمع حتى ينفد الدمع، ثم يبكون الدم -أي: بدل الدمع- حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو سيرت فيه سفن لجرت).

دمع النواصي مع الأقدام صيرهمكالقوس محنية من شدة الوتر

صالحون يموتون وتعمى أبصارهم خوفاً

والله إن أناساً من هذه الأمة ماتوا من الخوف، كانت تتلى عليهم آيات العذاب أو يرددونها فتخرج أرواحهم.

ومنهم علي بن الفضيل بن عياض وقد قرأ زرارة بن أوفى قاضي البصرة قول الله عز وجل: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر:8-9] في صلاة الصبح فخرجت روحه، وأبو جهير الضرير في مجلس صالح المري تخرج روحه، وكان الناس يحضرون مجالس عبد العزيز بن سليمان فيقول: النار، النار، القيامة، القيامة، فيرفع من المجلس الميت والميتان والثلاثة.

ومنهم من بكى من خوف النار، ومن خوف الوقوف بين يدي الله عز وجل حتى عمي.

والإمام الترمذي -الذي ما خلف البخاري بعده أفضل منه وأورع- بكى من خوف الله عز وجل حتى عمي.

وعلي بن بكار الذي يقول: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر بكى حتى عمي.

هشام الدستوائي بكى حتى عمي، وقبل أن يعمى كان إذا أبعدت زوجته عنه السراج يبكي فتقول له: لم تبكي؟ فيقول: أخشى ظلمة القبر.

وأشيم البلخي بكى حتى عمي، وكان يقول: أواه القبر وظلمته، أواه اللحد وضيقه، ثم يبكي حتى عمي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سيدنا سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن: (ضيق عليه القبر لولا أن فرجه الله عنه) فانظر ماذا يكون حالي وحالك؟ وعطاء السلمي يبكي ويقول: ويل عطاء ، ليت عطاء لم تلده أمه، وكان إذا غلا السعر في السوق يقول: كل هذا بذنب عطاء ، لو مات عطاء لاستراح الناس، لو مات لاستراح الناس.

والفضيل بن عياض يأتي إليه جابر بن سليمان من أصحاب الحديث، فيقول له: اجلس يا جابر ! ليس عند أصحاب الحديث أحب إليهم من قرب الإسناد، وسآتي لك بإسناد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فأنا وأنت يا جابر من الناس، يعني: أنا وأنت من وقود النار، ثم غشي على الفضيل ، وكذا على ابنه علي، ما كانوا يستطيعون ذكر القيامة، أو أي آية من آيات العذاب. وعمر بن عبد العزيز كان يبكي حتى تختلف أضلاعه ويقول: بطيء بطين متباطئ، ويتمنى على الله منازل الصالحين، وكان يبكي ويقول:

نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم

وتكدح فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم

تابع أسباب الخوف

الثاني: الخوف من الموت قبل التوبة

ومن أسباب الخوف: خوف الموت قبل التوبة، فـالحسن بن صالح بن حي لما كانوا يقولون له: صف لنا غسل الميت! فيبكي ولا يستطيع. وكان إذا قرأ: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84] يغشى عليه ويقول: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84] أنفاسك تعد، آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد لقاء ربك، فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84]، إن النفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل. هذا هو الخوف من الموت قبل التوبة.

فيا إخوتاه! قوموا قيام قوم قد يئسوا من العودة إلى مجلسهم خوفاً من خطفات الموكل بأخذ النفوس، وما أدراك أنك ستأتي إلى المسجد بعد خروجك منه إن النفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل، فبادر بالتوبة.

الثالث: الخوف من نقض التوبة وعدم الوفاء بها

ثم بعد ذلك يخافون من نقض التوبة، أي: أن يعودوا بعد التوبة، وألا يوفوا بكلمة.

إذا ما قال لي ربيأما استحييت تعصيني

وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني

فما قولي له لمايعاتبني فيقصيني

الرابع: الخوف من الميل عن الاستقامة ومن مكر الله

ثم الخوف من الميل عن الاستقامة، والخوف من مكر الله عز وجل، مثل أن تركن لأعمالك الصالحة فيوكلك الله عز وجل إليها.

صفت لي الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر

والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فتخاف -يا أخي- من ضيق القلب وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليها الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، فتخاف مكر الله عز وجل، فكم من رجل كان له حال مع الله عز وجل، وكان يصلي الفجر في جماعة، وهو الآن يجلس على القهاوي. فاتق الله عز وجل هذا هو الخوف من الزيغ ومن مكر الله عز وجل.

الخامس: الخوف من تشتت القلب في أودية الدنيا

ثم الخوف من تشتت القلب في الدنيا وأهلها وهمومها. نسأل الله عز وجل أن يجمع قلبي وقلبك على هم الآخرة. وفي الخوف من تشتت القلب في أودية الدنيا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحدا كفاه الله سائر همومه).

السادس: الخوف من ضياع الوقت في المعاصي

ثم الخوف من ضياع الوقت في غير طاعة لله عز وجل، كأن يعيش في غفلة وفي لعب ولهو حتى يأتيه الموت بغتة.

السابع: الخوف من رؤية الله للعبد على معصية وخوف كفر النعمة

وكذلك الخوف أن يراك الله عز وجل مقيماً على ما لا يرضاه منك، وخوف البطر والطغيان والكبر بكثرة النعم.

الثامن: الخوف من تعجيل العقوبة

ومن الأسباب: الخوف من تعجيل العقوبة في دار الدنيا، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

وهذه الآية نزلت في ناس كفروا ثم نقصوا في الموازين ففعل الله بهم ما فعل وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:102-105]، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46].

والحسن بن صالح كان إذا رأى الجراد يطير يغشى عليه، وعندما يسأل عن سر ذلك يقول: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ [القمر:7].

التاسع: خوف السؤال في القبر

وكذلك الخوف من منكر ونكير، وسؤال الملكين حينما يسألان الإنسان: من ربك؟ وما دينك؟ وما الأمر الذي كنت عليه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال) يعني: فتنة توازي في هولها فتنة المسيخ الدجال، وهي أعظم فتنة منذ خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال، وعني تسألون).

العاشر: خوف يوم القيامة

ثم الخوف من عرصات القيامة ومن الحساب واطلاع الله على النقير والفتيل والقطمير.

الحادي عشر: الخوف من الوقوف بين يدي الله عز وجل

ثم الخوف من الوقوف بين يدي الله عز وجل، فالرجل العابد لما قابله ابن السماك وقد حفر لنفسه قبراً ودلى رجليه إلى القبر وهو يقول: إن للناس موقفاً لا بد أن يوقفوه قال له ابن السماك : بين يدي من؟ فمات الرجل.

الثاني عشر: الخوف من تطاير الصحف والموازين والصراط

ثم الخوف من تطاير الصحف، والوقوف بين يدي الله عز وجل، والموازين، والصراط وحده. وإذا كان دعاء النبيين وهم على الصراط: يا رب! سلم، يا رب! سلم، فماذا يكون حالي وحالك؟

الثالث عشر: الخوف من القصاص وخوف مكان المصير

والخوف من القنطرة والقصاص، وعدم العلم بعد ذلك بالمأوى هل يكون إلى الجنة أم إلى النار.

الرابع عشر: خوف عدم قبول الأعمال وخوف الذنوب

ثم بعد ذلك الخوف من الحسنات والخوف من الذنوب، فما ظنك بالخوف من الحسنات وألا يقبلها الله عز وجل، وألا توفي بها، وألا تستمر عليها إلى يوم القيامة.

فعودوا أنفسكم الخوف من الله عز وجل، فإذا سكن الخوف القلوب طرد مواطن الشهوات عنها، وأحرق مواضع الشبهات منها، وعودوا أنفسكم ذكر الموت، واجعلوا الموت منكم على بال.

فهذا الربيع بن خثيم يقول: لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة لفسد قلبي، ومن لم يتعظ بالموت ولا بالقرآن فلو تناطحت الجبال بين يديه ما اتعظ.

الحث على قصر الأمل

وليكن عندك قصر في الأمل، وكل يوم قل: هذا اليوم الذي أموت فيه، وفلان يغسلني، ولتكن الوصية منك على بال، ودع نصب عينيك، فلان يغسلني، وفلان يكفنني، وفلان يصلي علي، فإذا أتى الليل فقل: يا نفس! هذه ليلتك التي فيها تموتين، وفلان يغسلني، وفلان يكفنني، وفلان يصلي علي.

وحفصة بنت سيرين كانت إذا قامت إلى صلاتها من الليل لبست كفنها؛ إذ ربما تكون هذه آخر صلاة لها. فاجعل الموت منك على بال، واجعل السكرات منك على بال، واجعل القبر منك على بال، واجعل القيام منك على بال، وردد آيات العذاب، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54]، فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ [الملك:27]. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].

بيان فوائد خوف الله عز وجل

وعزة سيدي! لا يجعل الله عز وجل عبداً أسرع إليه كمن أبطأ عنه، والناس تتسابق في دار الدنيا وتتغافل عن الموت، وإن أمراً أنت راحل إليه في كل لحظة أحق بالعمل من دار أنت مسافر عنها في كل لحظة. اللهم ارزقنا الخوف منك وحدك، ومن خاف الله عز وجل وحده خوف الله منه كل شيء، ومن خاف غير الله عز وجل أخافه الله من كل شيء. فهذا عز الدين بن عبد السلام كان يقول لـنجم الدين ملك مصر: يا نجم الدين ! الخمر تباع في الحانة الفلانية، فقال: هذا كان في أيام أبي، فقال له: أنت ممن يقول الله فيهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فيقولون له: أما خفت نجم الدين أيوب ملك مصر، فيقول: تذكرت هيبة الله عز وجل فصار كالقط، والملك العادل ملك مصر كان إذا دخل عليه عبد الغني المقدسي -وكان إماماً عظيماً من أئمة الحديث- يقوم له مرتعداً، فيقولون له: هذا رجل صاحب قرآن وصاحب حديث فلماذا تخاف منه هكذا؟ فيقول: والله! ما دخل علي مرة إلا وخيل إلي أنه سبع.

ومصطفى كمال أتاتورك الذي أذل المسلمين في تركيا وأسقط دولة الخلافة وجعل الصلاة باللغة التركية وهدم المساجد وحولها إلى متاحف، وصاحب الراقصات، هذا الرجل الذي فعل الأفاعيل جاء نوع من النمل الأبيض وأصابه بحكة غريبة، فجلس الأطباء يعالجوه منها سنتين، وهم لا يعرفون ما هو سبب المرض، ثم اكتشفوا أنه نمل أبيض، قدم من آسيا إلى أوروبا فأمر بمدمرة بحرية بكامل طاقمها تأتي إلى قصره؛ لتهاجم النمل، وألقى مرة خطابه في مجلس النواب فهبت ريح شديدة وغبار شديد فارتعد وأراد أن يخرج من المجلس، فأمسكوا به، وبعد لحظات إذا هي غنم كان يرعاها راع، فخاف من رؤية غبار الغنم، ومن لم يخف الله عز وجل خوفه الله من كل شيء.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الخوف منه وحده، والعمل له وحده، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك مخبتين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخيمة صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.

اللهم اشف مرضانا وجميع مرضى المسلمين، اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، وحسن النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، اللهم اهد حكام الأمة، اللهم اهد حكام الأمة إلى العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وقفات مع الخائفين للشيخ : سيد حسين العفاني

https://audio.islamweb.net