إسلام ويب

إن من رحمة الله بنا أن جعل باب التوبة مفتوحاً إلى أن تطلع الشمس من مغربها ولم يغلقه أمام أحد من عباده، حتى لو عظم ذنبه وكبر إلا أن يكون شركاً، فـ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)). وقد حث الشيخ حفظه الله على التوبة، وحذر من مغبة المجاهرة بالمعاصي.

سعة رحمة الله

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:110]، ويقول جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

معاشر المؤمنين: هذه آيات من فصل الخطاب، ومحكم الكتاب، ونداء ممن خلق الأرضين والسماوات رب الأرباب، لا إله إلا هو عليه التكلان وإليه المآب، رب غفور جبار قاهر قادر غني قوي ينادي عباده الضعفاء الفقراء الأذلاء المساكين بتودد الخطاب أن يدنوا إليه جل وعلا، لذا فلا غرابة أن يستعجب العبد ويتلذذ بترداده كل يوم وليلة سبع عشرة مرة الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] يقرؤها في الفاتحة الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] أبلغ وأقصى وأوسع معاني الرحمة بأصنافها وألوانها وأحوالها، رحمان بعباده، حتى العصاة يستر عليهم من رحمته، يسدل عليهم ستره، يعصونه بنعمه، ويعصونه بآلائه، فيمهلهم ولا يأخذهم ساعة المعصية، ثم يمن عليهم بتوبة فيعودون إليه أوابين منه برحمة، ثم يغفر ذنوبهم ويبدلها حسنات، رحمان رحيم.

عباد الله: إن هذه المعاني قد اجتهد الشيطان وأعوان الشيطان وشياطين الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112] لإبعادها عن كل عبدٍ زل زلة أو أذنب ذنباً أو أسرف على نفسه أو ارتكب ما ارتكب، يحرص الشيطان وأعوانه أن يبعدوا عن العبد هذه المعاني حتى تنقلب الخطيئة على شؤم مقاييس النصارى ضربة لازم لا يزيلها توبة ولا يمحوها استغفار ولا تدفعها حسنة، ذلكم معتقد الضالين، النصارى الذين يرون أن خطيئة الأب آدم اندرجت على ذريته من بعده فلا يخلصهم منها إلا صلب المسيح ودم المسيح ولقمة المسيح، وما إلى ذلك من خزعبلات القول وهرطقات المنطق التي ليست في وحي ولا علم ولا حكمة ولا هدى مبين.

سبب نزول قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)

معاشر المؤمنين: جاءت امرأة في المدينة إلى أحد الصحابة وكان رجلاً تماراً يبيع التمر، فلما نظر إليها أشغله جمالها، وملأت عليه فؤاده، وشغف بها حباً، فقالت: أعندك تمر أجود مما أرى؟ فقال: بلى، وقادها إلى مكان تظن أنه يذهب بها إلى موقع آخر ترى فيه أصنافاً أو أنواعاً من التمر، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن قادها إلى بيته، ولم تكن تعلم فأغلق دونها الباب فدنا منها، ولم يصب منها ما يوجب الحد وإقامته، وإنما كما يقول الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: لعله كان بينه وبينها ما لا ينبغي أن يكون إلا بين رجل وامرأته من مس أو ضم وقبلة، ولكن سرعان ما ندم ولسعته سياط الموعظة وأنبته نفسه اللوامة واستيقظ ضمير فكره، فما كان منه إلا أن كف عن فعله، وفتح الباب وخرج هائماً في الطرقات يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وجد الحبيب ووجد البر الرءوف الرحيم- بآبائنا هو وأمهاتنا صلى الله عليه وسلم- جاء إليه وأناخ بقدميه -اللتين تمطتا إلى تلك المعصية- في حماه الطاهر صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! إني أذنبت ذنباً، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، وما كهره وما زجره وما ضربه أو أغلق في وجهه آمال التوبة أو بشائر الرحمة أو بواكير الإنابة، وإنما سمع منه حيث قال: فعلت كيت وكيت وكيت، فأطرق النبي صلى الله عليه وسلم ملياً، فما لبث أن تغشاه الوحي، ولما سُرِّي عنه صلى الله عليه وسلم، قال: (أين الرجل؟ قال: هو أنا ذا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قول الله جل وعلا -تلك الآية المدنية في السورة المكية في سورة هود- وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] فقال الرجل: يا رسول الله! ألي هذا خاصة؟-) هل هذا الجواب وهذا الخطاب وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] (فقال صلى الله عليه وسلم: لا، بل لأمتي عامة)لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] اللهم صلِّ على محمد، اللهم صلِّ على محمد وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله: إننا نسوق هذه الآية وسبب نزولها ومقدماتها لنوجه الخطاب إلى أنفسنا وإلى فريق آخر، أما الخطاب لنا ولكم فهو يوم أن نرى عبداً مذنباً، فإن حاجة المريض أن تصف له العلاج لا أن تعاتبه وتشتمه وتقول له: لماذا أنت مريض؟ والله إن الذين في زنازين السجون يتمنون أن يكونوا من المهتدين المزاحمين بركبهم في حلق العلم بين يدي العلماء، والله إن مدمني المخدرات يتمنى الكثير منهم أن يكونوا من المهتدين السابقين إلى الصف الأول ورياض المساجد، ووالله إن كثيراً من العصاة ليلومون أنفسهم لوماً عظيماً، ولكن من ذا يأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية؟

إذاً: ففي هذا دعوة أن نفتح صدورنا لإخواننا ولو كانوا مذنبين، شتان بين مذنب ذنبه على نفسه قاصر، وبين مذنب يتعدى بذنوبه لينشر الجريمة في أنحاء المجتمع.

المذنبون صنفان:

صنف يذنب ذنباً ويخاف خوفاً ويندم ندماً ويخشى فضيحةً ويخاف هتك ستر الله عليه، ثم هذا تراه أقرب ما يكون يوم أن تدعوه إلى حسنة تمحو خطيئته، وإلى صدقة تمحو زلته، وإلى عودة تفتح باب توبته.

ومذنب آخر محترف للذنوب، تاجر ينشر ويوزع وكيل معتمد، إليه تفد ألوان الذنوب ومنه تصدر، يوزعها لينشرها في أنحاء المجتمع وجنبات الأمة، فشتان بين هذا وهذا.

توبة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً

الأمر الآخر: يوم أن يجيء عبد من المذنبين طائعاً مختاراً مقبلاً راضياً غير مكره، فمن ذا يحول بينه وبين التوبة؟ أولسنا نعلم أن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً كما في الحديث الصحيح؟! فلما جاء إلى راهب وشكا إليه ما قال له، قال: لا نرى ولا نجد ولا نعرف لك توبة بعد فعلك هذا، فما كان منه إلا أن أخرج تلك الشفرة وذلك الخنجر الذي حزه على تسعة وتسعين نفساً فأكمل به على رقبة الراهب تمام المائة، وخرج هائماً على وجهه، ثم قصد عالماً من العلماء -وفي القصة فرق بين الرهبان والعلماء- فلما جاء إليه وأخبره، قال: إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ وكأنما هو يلوح بالتهديد ليضيف رقم الواحد بعد المائة، فقال ذلك العالم: ومن ذا يغلق باب التوبة دونك؟ إن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، لا يغلق إلا يوم أن تطلع الشمس من مغربها، ولكن إن كنت تائباً مقبلاً، فالحق بأرض بني فلان فإن فيها قوماً يعبدون الله، فقبل الرجل النصيحة ووسعته الموعظة وعمته الهداية، وذهب إلى أرض بني فلان تائباً عائداً نادماً، فأدركته المنية قرب منتصف الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة العذاب: عبد مذنب أسرف في القتل والذنوب، وقالت ملائكة الرحمة: عبد جاء طائعاً تائباً مختاراً، فكان بينهم ومِن أمرهم أن يقيسوا أي المسافتين إلى خطوه أقرب، فأوحى الله إلى أرض الرحمة أن تقاربي، وأوحى الله إلى أرض المعصية أن تباعدي، فكان من الذين أدركتهم رحمة الله.

لما جاء طائعاً مقبلاً مختاراً تائباً إلى الله، أوحى الله إلى الأرض بأن تزحف وتتزعزع، أوحى الله للأرض أن تجر أذيالها، تدنو من أجل عبد جاء تائباً مقبلاً مختاراً قاصداً وجه الله جل وعلا ورحمته التي وسعت كل شيء.

أفنظن يا معاشر العباد أن من أذنب ذنباً تضيق به رحمة الله؟ لا والله، إذاً فلا يترددن عبد في التوبة ولا يترددن عاصٍ بالإنابة، ولا يترددن خاطئ في الرجوع، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، وإن رحمة الله سبقت غضبه، وإن رحمة الله قريب من المحسنين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

معركة حنين وقوله صلى الله عليه وسلم (لله أرحم بعبده من هذه بولدها)

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد..

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من النار.

معاشر المؤمنين: لما خرجت هوازن بقيادة زعيمها عوف بن مالك وقد حزب الأحزاب وجمع الجموع لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ضلال أمره وسفاهة رأيه أن قال: يا معاشر العرب! ليخرج كل منكم بماله وأهله وولده حتى يثبت القوم، ويقاتل الرجل دون عرضه وإزاره، فما كان من القوم إلا أن استجابوا له، وخرجوا بنسائهم وأطفالهم وأموالهم، وسمع دريد بن الصمة بهذا، وكان كهلاً عجوزاً كبيراً لا يثبت على ظهر الخيل، قال: ما لي أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير وثغاء الشاة؟ قالوا: هذا عوف بن مالك زعيم هوازن أقسم أن يضع ذبابة السيف على صدره ويتكئ عليها حتى يخرج السيف من ظهره إن لم تسمع العرب رأيه فيما رأى، قال: بئس الرأي ما رأى! إن المهزوم لا يرده شيء.

فما كان من القوم بعد أن كان ما كان من أمر تلك المعركة- معركة حنين - في بدايتها أصاب بعض المسلمين عجب، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، ليس علينا خطر أو هزيمة نخشاها لأننا كثير وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25] كانت كثرة تعلق القوم فيها بنوع سبب بشري فكانت من أسباب الهزيمة، لأن النصر لا يتنزل إلا على أمة تقطع الآمال بأسباب البشر وتعلق الآمال والرجاء بالله وحده لا شريك له.

فما كان من القوم بعد أن كمن المشركون لهم في وادي أوطاس ، ثم فاجئوهم بمطر بالنبال إلا أن فروا ولم يبق منهم إلا قليل، ولم يثبت إلا الشجاع القائد المجاهد الإمام النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت على بغلة وليست فرساً أو خيلاً تحسن الكر والفر في المعارك، ثبت على بغلة ولم يخف القائد موقعه، بل صاح بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، واشتد الكرب، وادلهم القوم، والتفوا يريدون إزهاق روح رسول الله، ويريدون قتله صلى الله عليه وسلم، فثبت وخيار الصحابة حوله، ثم التفت صلى الله عليه وسلم وهو يقدم على القوم ويفل صفوفهم ويكسر جمعهم ويبيد خضراءهم، فلما التفت إلى العباس، وقال: يا عباس! الحق بالقوم وصح بهم: يا أصحاب السمرة! يا أصحاب سورة البقرة! إن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوكم أن تعودوا، وكان العباس جهوري الصوت فنادى فيهم فسمعوه، ومن شدة فرار بعض القوم أن بعضهم لم يستطع أن يثني رأس راحلته أو خيله أو بعيره ليعود إلى موقع المعركة، فرمى بنفسه من ظهرها وعاد راجلاً؛ استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم نصرهم الله بنصره وثبتهم بثباته يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم:27] ثم كسروا جموع القوم، وكان كل ما جمعه عوف بن مالك من الخيل والشاة والإبل والنساء والأطفال غنيمة وسبياً للمسلمين، فاجتمع للمسلمين ذاك اليوم شيء عظيم من الفيء والغنائم والسبي، فجاء القوم يريدون بعض المال من رسول الله، وكيف يمن عليهم صلى الله عليه وسلم بمال وهو الذي خير أن تذوب جبال الدنيا ذهباً تحت قدميه فلم يرض بهذا واختار أن يشبع يوماً ويجوع يوماً؟! كيف يمن أو يبخل بمال من هذه همته في الآخرة وهذا زهده في الدنيا؟ فجاء الأقرع بن حابس، وأعطاه مائة من الإبل، وجاء عيينة بن حصن، فأعطاه مائة من الإبل، وجاء حكيم بن حزام، فأعطاه مائة، ثم سأل ثانية، فأعطاه مائة، ثم سأل ثالثة، فأعطاه مائة، ثم جاء أعرابي وقال: يا رسول الله! ما أطيب هذا الوادي وما فيه من النعم والشاة! قال: خذه فهو لك، ثم جاء من جاء والنبي يعطي ويعطي ويعطي؛ لأن همته أعظم من ذلك، همته وفكره وقلبه ولبه وفؤاده نصر المسلمين، ونشر التوحيد وتعبيد العباد لله، بعبادة الله وحده لا شريك له، لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة.

وكان كبار الصحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيطون به إحاطة النجوم بالقمر ليلة البدر، فرأوا بين السبي امرأة كأنها مجنونة، كأنها قد أصابها مس أو جنون، تفتش يمنة ويسرة وتقبل وتدبر وتركض وتجيء وتعود حتى شقت الطريق بين القوم، ثم لقيت طفلاً فأخذته واحتضنته وضمته وقبلته، ثم كشفت ثديها، لم تشعر بحالها بين القوم، وألقمته في فم الرضيع وهي تبكي، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر والصحابة ينظرون، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون أن هذه المرأة تقذف بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها).

إن الله ستير يحب الستر

إن إلهنا وخالقنا ومولانا عظيم في ذاته، وكذلك عظيم في صفاته، ومن صفاته الرحمة، فهو عظيم في رحمته جل وعلا.

ولسنا نسوق هذا الكلام لكي تجترئ النفوس على المعصية، فكما أنه عظيم في رحمته غيور على نعمه، وغيرته أن يأتي عبده أو أمته ما حرم عليه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة:218] فإنه كذلك شديد في عقابه.

إن الصادقين في طلب الرحمة براهين صدقهم في أعمالهم: التوبة بعد الذنب والحسنة بعد السيئة، والندم بعد الخطيئة، وملاحقة السيئات بالحسنات التي تمحوها بإذن الله.

لسنا نسوق هذا حتى يفهم السامع قول القائل:

وكثر ما استطعت من المعاصي>>>>>إذا كان القدوم على كريم

بل نسوق هذا لكي نعلنها منذ اللحظة، ومن الساعة نهجرها ونطلقها ونودعها وليس وداعاً بل نفارقها فراقاً، وإن صرم فصرم كالطلاق، كل معصية أسرفنا بها وزللنا وأخطأنا، فالحمد لله الذي لم يزل بعد يمتعنا بأبصارنا وأسماعنا وألسنتنا وأيدينا وأقدامنا، وقد عصيناه بها جميعاً، فالحمد لله على ما ستر، والحمد لله على ما أنعم من هذه الحواس والجوارح ومن غيرها وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18] الحمد لله على كل حال.

ومن موجبات حمده أن نقلع عن معصيته وألا نصر عليها، وألا نستخدم نعمه في معصيته جل وعلا.

ستر الله على مذنب بني إسرائيل

أيها الأحبة: إن الله جل وعلا عفو غفور كريم ستير يحب الستر.

ذكر ابن قدامة في التوابين قصة في بني إسرائيل أن موسى عليه السلام خرج يوماً يستسقي، فلم ير في السماء قزعة- أي: سحابة- واشتد الحر، فقال موسى: يا رب! اللهم إنا نسألك الغيث فاسقنا، فقال الله جل وعلا: يا موسى! إن فيكم عبدي يبارزني بالذنوب أربعين عاماً، صح في القوم وناد إلى العباد: الذي بارز ربه بالذنوب والمعاصي أربعين عاماً أن اخرج، فقال موسى: يا رب! القوم كثير والصوت ضعيف فكيف يبلغهم النداء؟! فقال الله: يا موسى! قل أنت وعلينا البلاغ، فنادى موسى بما استطاع، وبلغ الصوت جميع السامعين الحاضرين، فما كان من ذلك العبد العاصي -الذي علم أنه المقصود بالخطاب، المرقوم في الكتاب أنه ينادى بعينه بين الخلائق، فلو خرج من بين الجموع، عُرف وهتك ستره وانفضحت سريرته وكشفت خبيئته- فما كان منه إلا أن أطرق برأسه وأدخل رأسه في جيب درعه أو قميصه، وقال: يا رب! اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني.

فما لبث موسى ومن معه إلا أن أظلهم الغيم وانفتحت السماء بمطر كأفواه القرب، فقال موسى: يا رب! سقيتنا وأغثتنا ولم يخرج منا أحد! فقال الله: يا موسى! إن من منعتكم السقيا به تاب وسألني وأعطيته وسقيتكم بعده، فقال موسى: يا رب! أرني ذلك الرجل، فقال الله جل وعلا: يا موسى! سترته أربعين عاماً وهو يعصيني أفأفضحه وقد تاب إلي وبين يدي؟ الله أكبر! ما أعظم ستر الله! إن الله ستير يحب الستر.

خطورة المجاهرة بالمعاصي

لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، قالوا: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الذين يذنبون أو يعصون الله فيمسون يسترهم الله فيصبحون يكشفون ستر الله عليهم، يقولون: فعلنا وفعلنا)وما أكثرهم في هذا الزمان! يسافرون في الإجازات ونهاية عطلة الأسبوع وغيرها من المواسم والمناسبات، فإذا عادوا: هذه صورتنا يوم كنا كذا، وهذا صورتها يوم كانت كذا، وهذا مقامنا في مكان كذا، يسترهم الله وهم يفضحون أنفسهم! إن الله ستير يحب الستر.

ونسوق هذا ونكرر أن الكلام هذا ليس بدعوة إلى الجرأة على المعصية، وإنما هي دعوة لمن أذنب أن يتوب، ولمن أسرف أن يئوب، ولمن أخطأ أن يستغفر، ولمن وقع في الذنب أن يعلم أن له رباً يغفر الذنب ويقبل التوبة ويعفو عن السيئات.

فيا عباد الله: توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم. يا عباد الله: توبوا إلى الله من صغير الذنوب وكبيرها

خل الذنوب صغيرها>>>>>وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أرض>>>>>الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة>>>>>إن الجبال من الحصى

يا عباد الله: توبوا إلى الله من كثير من الذنوب التي درجت على الألسنة، وكثير من الخطايا والآثام، فلنتب إلى الله من الغيبة، ولنتب إلى الله من النميمة، ولنتب إلى الله من الحسد والحقد، ولنتب إلى الله من ازدراء الناس واحتقار الخلق والتهاون بشأن الخلق، إن من الناس من لا يرى في نفسه ذنباً ولا عيباً وقد جمع ألواناً من الذنوب لم يجمعها من ظهر فسقه في بعض الأمور؛ وذلك بغيبة لا تكل، ونميمة لا تمل، وازدراء لا حد له، إن احتقار الخلق أمر عظيم (بحسب امرئ من الشر- يكفيه شراً- أن يحقر أخاه المسلم) وهذه من الذنوب الشائعة العامة بين العباد.

ومن الذنوب أيضاً: ما تساهل به كثير من الناس تحت دعوى الأخبار والمسلسلات أو التحقيقات، فجثم بإرادته طبق يستقبل السموم على سطح بيته، ويعد أنه يستقبل بهذا أخباراً غاديةً ورائحةً، والله لن تسأل عنهم ولا عن أخبارهم، ولو حفظ أخبارهم عن ظهر قلب ما نورت لحدك، وما وسعت قبرك، وما أخرت أجلك، وما بسطت في رزقك، وإنما جررت ذنباً على نفسك وذنباً على أبنائك، فتب إلى الله وأزل هذا، نقول هذا نصيحة لكل من وضع الطبق على سطح داره أن يزيله حتى لا يبارز ربه بالمعصية، والذنوب نوعان: ذنب خفي وذنب جلي، فالذنب الخفي أهون بكثير من الذنوب الجلية.

فيا عباد الله: توبوا إلى الله، يا عباد الله! ناصحوا إخوانكم وناصحوا جيرانكم، ونادوهم برقيق العبارة ولطيف القول ولين الخطاب، وليعلموا أن الباعث ليس الأمر والنهي وإنما هو الخشية والوجل والخوف والمحبة، حينئذٍ لعل قلباً أن يستمع، ولعل نفساً أن تنزجر أو ترعوي.

أسأل الله جل وعلا أن يتوب علينا من ذنوب خفيت وظهرت، وأسأله سبحانه وتعالى أن يسترنا بستره، وألا يكشف سرائرنا، وألا يهتك أستارنا، وألا يفضح عوراتنا، أسأله سبحانه وتعالى أن يصلح لنا السيرة والسريرة، والظاهر والباطن والسر والعلانية.

اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بذنوبنا فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

اللهم صل على محمد وآله وصحبه، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم ارحم المستضعفين في البوسنة، اللهم ارحم المستضعفين في كشمير، اللهم أقم التوحيد في بلاد المسلمين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، ورد المبعدين إلى بلادهم، وأصلح شأنهم يا حي يا قيوم.

اللهم أهلك اليهود، اللهم اجعلهم شذر مذر، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين يا حي يا قيوم، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في السجون والزنازين، اللهم اجعل لهم مما هم فيه فرجاً، وعجل لهم في أمرهم مخرجاً، اللهم احفظ عوراتهم، وآمن روعاتهم، واستر ذرياتهم، وتكفل بأبنائهم وآبائهم وأمهاتهم يا رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التوبة إلى الله للشيخ : سعد البريك

https://audio.islamweb.net