إسلام ويب

إن من أعظم وأجل السور القرآنية سورة مريم والتي ضمنها المولى الكريم جل وعلا عدداً من مواقف بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن ذلك: ذكر قصة ومعجزة زكريا وكيف أن الله وهبه الولد في وضع لا يؤهله لذلك، كما ذكر معجزة خلق عيسى وولادته من غير أب سبحانه وتعالى، فسبحان من خلق عيسى من غير أب، وفلق الإصباح والحب.

بين يدي سورة مريم

الحمد لله رب العالمين, الملك الحق المبين, وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، رب الصالحين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرة الله من الخلق، وصفوة الله من الرسل، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آلـه وأصحابه، وعلى من اقتفى أثرهم واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم آمين.

أما بعد ..

ما زلنا في وقفات مع سور من كتاب الله الكريم الذي: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، ووقفات اليوم هي مع سورة كريمة من كتاب ربنا هي: سورة مريم, وهذه السورة الكريمة ضمنها الله جل وعلا في صدرها وفي أولها بعض أخبار أنبيائه ورسله ومن شهد الله لهم بالصديقية.

ثم ذكر فيها تبارك وتعالى بعض أخبار رسله، ثم أعقب ذلك ذكر جنان عدن وما يكون يوم القيامة من بعث ونشور، ثم بين فيها -تبارك وتعالى- تنزيه نفسه عن الولد، ورد جل وعلا على من قال بالفرية الكبرى وزعم أن الله اتخذ ولداً، ثم ختمها -سبحانه تبارك وتعالى- بما أعده الله لعباده من نعيم ووعد صادق وختمها خير ختام بأن بين أن له جل وعلا القوة والسلطان، يقول في آخر السورة: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98].

ذكر قصة زكريا في السورة وولادة مريم

الوقفة الأولى:

فقد ذكر الله جل وعلا فيها -بعد الحروف المتقطعة في أول السورة- رحمته جل وعلا وشمول نعمته لعبد من عباده ونبي من أنبيائه هو: زكريا عليه الصلاة والسلام، وقبل الشروع فيما أراده الله جل وعلا وذكره في كتابه يحسن القول بأن القرآن مثاني يفسر بعضه بعضاً ويرشد بعضه إلى بعضه.

فبني إسرائيل لما ظهر فيهم الفساد كان فيهم علماء ربانيون وكان من الربانيين رجل صالح يقال له: عمران فلما حملت منه زوجته، وكانت تلك الزوجة ترجو الله جل وعلا أن يرزقها ولداً لتجعله خالصاً لله يخدم في بيت من بيوت الله جل وعلا، فلما حملت منه وتمنت من الله تلك الأمنية، وضعت خلاف ما أرادت وابتغت فكان المولود الذي وضعته أنثى، فاعتذرت إلى الله جل وعلا والله أعلم بما وضعت، قال الله جل وعلا في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:33-35]، أي: خالصاً, إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35].

ثم لما وجدت تلك المرأة أن ما وضعته أنثى اعتذرت إلى الله، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36], وجدت بك يا ربنا! هذه البنت ومن يكون من ذريتها من الشيطان الرجيم.

وقد استجاب الله جل وعلا دعوتها، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مولود إلا ويمسه الشيطان حين ولادته فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها)، قال أبو هريرة : فاقرءوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، وهذا يلاحظ مما نلمسه ونراه جميعاً أن الطفل إذا ولد فإنه يستهل صارخاً، لصدق الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

ثم إن تلك المرأة دعت الله جل وعلا أن يتقبل هذا المولود قبولاً حسناً، فاستجاب الله دعوتها قال الله تبارك وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، وهذا مدخل إلى وقفاتنا مع سورة مريم.

كان زكريا نبياً من أنبياء بني إسرائيل، وكان زوجاً لأخت مريم فلما كان زوجاً لأختها كفَّله الله جل وعلا مريم تلك بعد أن استهم القوم على تلك الكفالة، ذلك أن مريم لما توفي والدها عمران اختصم بنو إسرائيل في كفالتها رغبة منهم في رد الجميل لأبيها ذلك العبد الصالح، قال الله جل وعلا: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44]، أي: القرعة والاستهام، أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، فهذا من أنباء الغيب الذي أنبأ الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.

فكان أمر الله جل وعلا أن يكفل زكريا مريم بنت عمران ، فلما كفلها جعل لها محراباً تتعبد الله جل وعلا فيه، فكان يأتيها ليطمئن عليها، فكان كلما دخل عليها زكريا المحراب يجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء، وفي الشتاء فاكهة الصيف، وربما وجد عندها طعاماً أو فاكهة ليست موجودة في السوق، فتعجب عليه الصلاة والسلام من هذا وقال لها كما أخبر الله في صريح المحكم: قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37]؟ فكان جوابها: قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37], في هذه اللحظة تذكر زكريا عليه الصلاة والسلام حاله وأنه محروم من نعمة الولد، وكان قد بلغ من الكبر مبلغاً عظيماً، وكانت امرأته عاقراً، وكان فيه من الضعف الشديد ما لا يستطيع معه على لقاح أو جماع لزوجه، لكنه لما رأى فضل الله على مريم بنت عمران . وهذا فيه فائدة عظيمة أن الرجل إذا رأى نعمة من نعم الله على غيره من المؤمنين فليسأل الله مثلها إن أرادها، فإن الذي أنعم على غيرك قادر على أن ينعم عليك سبحانه تبارك وتعالى فبيده جل وعلا مقاليد السماوات والأرض.

فأخبر الله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:37-38]، ودعا قائلاً: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89]، كما في سورة الأنبياء.

فنعود لسورة مريم ، قال الله جل وعلا: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:2-3]، قال العلماء: إنه دعا الله في مكان خلي بصوت خفي، وقلب نقي، أن يرزقه نعمة الولد حتى تتم رسالة الأنبياء من بعده، لا كما يريده الناس ولداً محضاً للتجارة أو لغيرها فقد كان زكريا عليه الصلاة والسلام نجاراً ولذلك قال: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، وكونه يرثه في المال فهذا أمر لا يحتاج إلى الإشادة؛ لأن كل الناس يرث أبناءهم آباءهم، ولكن الله نص عليه؛ لأن المقصود بالميراث هنا: هو ميراث النبوة، ومنه قول الله جل وعلا: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النمل:16].

وهنا نقول: إن للدعاء فضيلة عظيمة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، والله جل وعلا ندب عباده أجمعين لدعائه، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60]، فسمى الدعاء عبادة.

وقد تذلل في ذلك العبد الصالح إلى رب السماوات والأرض، والوسائل المشروعة في دعاء الله متعددة، ومن أعظمها ومن أرجى الوسائل قربة عند الله: إظهار التذلل، والمسكنة، والفقر بين يدي رب العالمين، قال جل وعلا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:3-4].

تبرأ من كل حول وطول وقوة إلا حول وقوة وطول رب العالمين جل جلاله، فدعا إلى الله جل وعلا بذلته، ومسكنته، وفقره، ومدى فقره إلى رحمة الله جل وعلا، وبغنى الواحد الحي القيوم عنه وعن غيره: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم:4]، ذكر بذلك ضعف الباطن، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم:4]، ذكر ضعف الظاهر، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:4]، أي: كما تفضلت علي سابقاً في إجابة دعواتي تفضل علي لاحقاً وأنت الرب الواحد الأحد صاحب المنة والفضل.

ثم بين الغرض فقال: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، ولما كان المدعو هو الله جل جلاله من وسعت رحمته كل شيء وقع فضل الله تبارك وتعالى على هذا العبد الصالح، فإذا بالملائكة تبشر هذا النبي وهذا العبد الصالح بيحيى، بل إن الله جل جلاله زيادة في الإنعام على هذا العبد الصالح اختار الله له اسم الولد، قال تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7]، وهو ما يسميه النصارى اليوم: يوحنا.

فالله جل وعلا اختار اسمه وأخبر أنه لم يسم أحد من قبل بهذا لاسم، لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7]، ورغم أن العبد الصالح دعا الله، ورغم أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير لكنه تعجب: كيف يكون له ولد وقد كانت امرأته عاقراً وقد بلغ هو من الكبر عتياً أي: مرحلة متقدمة في السن لا تجري العادة بأن ينجب الرجل إذا بلغها ذكراً أو أنثى.

وقد حمل بعض أهل العلم قول الله جل وعلا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3]، أن زكريا لما دعا الله دعاه في معزل عن الناس حتى لا يسخر منه أحد، فهو رجل كبير بالغ مرحلة متقدمة في السن، ومع ذلك يرجو الولد ولكنه يعلم فضل الله جل وعلا ورحمته، فلما جاءته البشارة وتعجب منها أخبرته الملائكة أن الله خلقه -أي: زكريا- من قبل ولم يكن شيئاً.

فالله جل وعلا قادر على كل شيء, ثم إن زكريا أراد من ربه علامات وأمارات بقرب تلك البشارة؛ ليطمئن قلبه وتستقر نفسه، قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، وهذه الآية ظاهرها أنها ثلاث ليال متتابعات، وهذا على الصحيح خلاف الصواب, والصواب: أن المقصود بقول الله جل وعلا: ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، أي: أنك -يا زكريا- لا تستطيع أن تكلم الناس رغم أنك رجل سوي الخلقة، تام من غير نقص فليس بك علة وليس بك مرض ومع ذلك لا تستطيع أن تكلم الخلق إلا بالإشارة كما قال في آية آل عمران: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، أي: بالإشارة، فهذه هي العلامة التي جعلها الله تبارك وتعالى لعبده زكريا حتى يطمئن قلبه وتستقر نفسه وحتى يثق بأن أمر الله نافذ لا محالة، وحتى يكون أقر لعينيه صلوات الله وسلامه عليه، فكانت البشارة من الله له، وهنا نقول قبل أن ننتقل إلى وقفة أخرى: إنه يجب على العبد أن يعلم أن خزائن الله لا تحصى، وفضله تبارك وتعالى لا يعد فليفزع العبد إلى الله جل وعلا، وليتأسى بنبي الله زكريا، وليظهر فقره وذلته ومسكنته إلى الله، وليصاحب العمل الصالح فإن الله قال في سورة أخرى لما ذكر آلاءه على زكريا: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، فأثنى الله جل وعلا عليه وعلى أهل بيته بالصلاح والتقوى وهذا من أعظم موجبات أو مسببات إجابة الدعاء.

ذكر نبي الله يحيى في السورة

ثم ذكر الله جل وعلا نبيه يحيى عليه الصلاة والسلام أي: أن يحيى نبي ابن نبي وهو ابن خالة عيسى بن مريم -كما سيأتي بيانه- قال الله جل وعلا: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا [مريم:12-13]، ويحيى عليه الصلاة والسلام نبي من أنبياء بني إسرائيل وقد كان يجتمع في بني إسرائيل أكثر من نبي في الحقبة الواحدة أو في العصر الواحد أو في الزمن الواحد، ومن هنا اجتمع يحيى وزكريا وعيسى عليهم وعلى نبينا جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

وفي قول الله عز وجل: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]، استنصار لهمم الشباب ودفع لهم إلى تتبع طرائق الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا رزق يحيى الفهم والعلم والحزم والحكمة وهو صبي، وقد قيل: إن الصبيان اجتمعوا عليه ذات يوم فقالوا له: يا يحيى! هيا بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا؛ خلقنا لعبادة الله.

وقول الله: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، دلالة على إن دين الله لا يحمله إلا ذوي العزم الشديد، وذوي العقل الرشيد، وذوي الحكمة البالغة، وذوي الآفاق الواسعة، ومن اتصف بصفات عدة؛ لأن القوة ليس المقصود: حصرها على قوة البدن فقط ولكن القوة في البدن والقوة في الرشد والتأني، حتى السكينة والصبر والتحمل فإنها شيء من القوة, قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

فمن حاولت إغراءه وجلبه بقول أو بما لا يخفى على أحد، فصبر وتأنى وتبين الحق من الباطل واسترشد فهذا يدل على قوة فيه، أما الضعف والخور والطيش والحماس المفرط فهذه لا تبني الأمة ولا تقوي مجير ولا تنفع صحوة إنما يكون أحياناً ضررها أكثر من نفعها.

فالقوة الحق: الاسترشاد، والتأني، والحلم، والبعد، وحسن الظن بالمؤمنين، والنظر في المصالح، والنظر في المفاسد، وتقديم أعظم المصلحتين، ودرء أعظم المفسدتين.. إلى غير ذلك مما لا يخفى على أحد منكم بإذن الله.

ثم قال الله جل وعلا: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا [مريم:12-13]، أي: الذي آتيناه ليحيى آتيناه من فضلنا ومن عطائنا، ومن ذا الذي يمنع -كما قلنا مراراً- فضل الله ورحمته على أحد من عباده كائناً من كان؟!

صفات نبي الله يحيى المذكورة في السورة

ثم ذكر الله عز وجل بعض الصفات التي وصف الله بها هذا النبي الصالح:

قال جل وعلا في أول صفاته: وَكَانَ تَقِيًّا [مريم:13]، والتقوى قيل في وصفها: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله تخشى عقاب الله, وهي وصية الله لكم وللسابقين من قبلكم، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]، وقد قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع وفي غيرها: (يا أيها الناس! اتقوا ربكم)، وما زال الصالحون والأخيار جيلاً بعد جيل خلفاً بعد سلف يوصي بعضهم بعضاً بتقوى الله تبارك وتعالى.

ولهذا وصف الله ذلك العبد الصالح بقوله: وَكَانَ تَقِيًّا [مريم:13]، أي: مقدماً على الطاعات، محجماً عن المعاصي، يرجو رحمة الله، ويخشى عقاب الله وهذا هو التقوى وأساسها، فإن الإيمان بالعمل وليس الإيمان بالألفاظ فقط والتحلي بها سماعاً دون تطبيق واسترشاد بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر تبارك وتعالى ثاني صفاته على عبده يحيى قال: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ [مريم:14]، وهذه من أعظم الخصال وأجل الصفات، وبر الوالدين قد أطنب ولله الحمد في بيانه كثير من الدعاة والعلماء جزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء، ورغم ما قدمه أهل العلم بل وما ذكر في القران وفي صحيح السنة من دعوة إلى بر الوالدين، إلا إننا مع ذلك نجد البعض -عفا الله عنا وعنهم وردهم إلى سبيله وهديه- يفرط في هذه المسالة حتى ممن من الله عليه بالهداية والعودة إلى الطريق المستقيم، وقد أخبرنا من نثق به على سبيل الشكوى إن هناك من الناس من يضرب أمه وأباه أمام أصحابه إظهاراً لقوة شخصيته، ولا ريب إن هذا والعياذ بالله بلاء عظيم وبعد عن طريق الله المستقيم.

أسباب عقوق الوالدين

ولو استقصينا أسباب العقوق لوجدناها تنحصر في أغلب ما يأتي:

أولها: جهل كثير من الناس بما أعده الله من أجر عظيم لمن بر والديه, فهو لا يرى في بر الوالدين منقبة، ولا يرى في بر الوالدين مرقى إلى الملكوت الأعلى والرضا من الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، وقال تبارك وتعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي [لقمان:14]، أي: بالعبادة، وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، أي ببرهما، وقال صلى الله عليه وسلم لمن سأله الخروج إلى الجهاد (ألك والدين؟ قال: نعم، قال: الزمهما فثم الجنة)، بل إنه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أوصى أحد أصحابه ممن سألوه أن يلزم خالته؛ لأن أمه متوفاة وقال له: (إن الخالة بمنزلة الأم)، فجهل كثير من الناس لما أعده الله من أجر ببر الوالدين هو الذي دفعهم إلى العقوق.

ومما دفع كثير من الناس إلى العقوق: سخريتهم وعدم اعتقادهم بما أعده الله من وعيد لمن عق والديه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)، فليست فقط الكبائر، ولكنها من أكبر الكبائر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)، فثنى بعقوق الوالدين وهو أعلم الناس بالشرع بعد الفرية الكبرى والذنب الأكبر وهو الإشراك بالله.

كما أنه مما أسهم في وجود ناشئة يعقون والديهم ما يرونه ويسمعونه في بعض المسلسلات والأفلام من عدم وجود حرمة للوالدين وبر الوالدين في ثنايا المسلسل أو الفيلم، فيصور العائلة على أنها إفراد متكافئين والوالد يكلم ولده استرحاماً، والولد يكلم والده علواً وما إلى ذلك حتى غرس في القلوب واستقر في العقول أن هذه هي الحياة الطبيعية؛ لأن النشء من كثرة ما يسمع وما يرى وما إلى ذلك وجد أن الأمر طبيعياً فلا يجد غضاضة ولا ملاماً ولا عتاباً أن يرفع صوته على أحد والديه؛ أمه أو أبيه؛ لأنه يرى أن هذا أمر طبعي جبل الناس عليه بدليل أنه رآه في مسلسل، أو بدليل أنه قرأه في قصة، أو بدليل أنه رآه في فيلم ذات يوم في بيته أو في غيره من بيوت أصحابه.

كذلك مما أسهم في عقوق الوالدين: رفقاء السوء، فإن كثيراً من الشباب -عفا الله عنا وعنهم- يهون بعضهم لبعض مسألة بر الوالدين، حتى أحياناً من الشباب الموسومين بالاستقامة فقد يفضل حضور محاضرة أو درس أو الذهاب إلى نافلة من الطاعات على بره لوالديه، ولا ريب إن هذا خلاف الحق وخلاف الصحيح، فإن إجابة أمر الوالدين واجب وما عدا ذلك من حضور المحاضرات والدروس فإن غالبه داخل في عموم النوافل، وليس من الحكمة تقديم النفل على الواجب, إلا إذا أمرك والداك أو أحدهما بمعصية الله، الكف عن تلك المعصية، والثاني: استرضاءهما ومحاولة تقريبهما من الدين العظيم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين وغيرهما: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج)، ثم فصل صلى الله عليه وسلم قال: (وكان جريج رجلاً عابداً في بني إسرائيل، فدعته أمه ذات يوم قالت: يا جريج ! وهو مقبل على الصلاة، قال: يا رب! أمي أو صلاتي؟ فأقبل على صلاته, فلما كان من الغد دعته أمه فقال: يا رب! أمي أو صلاتي؟ فأقبل على صلاته, فلما كان في اليوم الثالث دعته أمه فقال: يا رب! أمي أو صلاتي فأقبل على صلاته، فدعت أمه عليه: اللهم! لا تمته حتى تريه وجوه المومسات)، والمومسات: هن النساء المشتغلات بالزنا والبغي، فتذاكر بني إسرائيل عبادة جريج فقالت امرأة: أنا أفتنه لكم، وكانت المرأة على قدر كبير من الجمال فتعرضت له في الطريق، فأعرض عنها، فذهبت إلى راعٍ فمكنته من نفسها فحملت منه، ثم لما وضعت أخذت المولود وقدمت به على بني إسرائيل، وقالت: هذا الغلام من جريج , فذهب بنو إسرائيل إليه وهو صومعته فهدموها وأنزلوه وأخذوا يوجعونه ضرباً فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه المرأة فحملت منك مولوداً فقال: ائتوني بماء حتى أتوضأ, فتوضأ وصلى لله ركعتين، وكذلك حال المؤمنون فإذا حلت بهم النوازل لجئوا إلى الله، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45].

ثم إنه بعد ذلك دعا بالغلام فوخزه في خاصرته وقال له: يا غلام! من أبوك؟ فأنطق الله ذلك الغلام في المهد وقال: أبي فلان الراعي! نصراً من الله لـجريج .

موضع الشاهد: أن الله استجاب لدعوة تلك الأم على ابنها بأن يرى وجوه المومسات فرأى ذلك، لكن عندما كان ذلك العبد قريباً من الله، وذا عبادة عصمه ودافع عنه، وأظهر براءته. وللحديث بقية وإنما اكتفينا بموضع الشاهد منه؛ لأنه هو المقصود.

وقد جاء في بعض الروايات أو في أقوال بعض أهل العلم أن جريجاً رحمة الله تعالى عليه لم يكن فقيهاً، ولو كان فقيهاً لما قدَّم النافلة على طاعة الوالدين .

ومن أسباب العقوق كذلك: أن كثيراً من الشباب أو من الرجال يكون لديه ضعف في شخصيته، أو كما يطلق بعض الناس على هذه الحالة: أن لديه مركب نقص، فيريد إن يظهر قوته وسلطانه أمام أقرانه وزملائه ورفقائه وأصحابه بأن يعصي والديه أمامهم، أو أن يتجرأ على الوالدين أمامهم، أو أن يبين لهم أنه ليس لوالديه سلطان عليه، فهو يغدو ويروح، ويذهب ويجيء، ويرفع الصوت ولا يبالي، ويأخذ من الأموال ما شاء فيتعجب الرفقاء والقرناء والأصحاب من قوة شخصيته، وهؤلاء يقول الله في مثلهم: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، وصدق الله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فالحق يعرف بنوره ولا يعرف بكثرة أو قلة أتباعه، فإن للحق نوراً لا يخفى على أحد.

هذه بعض أسباب الحقوق، وقد يفتح الله على غيري فيذكر أكثر منها وغالب الظن عندي أنها من أعظم أسباب عقوق الوالدين، وهي منافية لما أمر الله به ولما وصف الله به الصالحين فيحيى عليه السلام يقول الله فيه: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ [مريم:14].

ثم ذكر الله جل وعلا الصفة الثالثة ليحيى عليه الصلاة والسلام فقال جل ذكره: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، فالكبر رذيلة من الرذائل في حق بني آدم، وهو صفة عظيمة من صفات الله جل وعلا، فالكبرياء رداء الله، والعظمة إزاره، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قطعته أو بهته)، وأمر الله يكون الإنسان مجبولاً على التواضع وغض الطرف وأمر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ورحمة الله على من قال:

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع

ولاتكن كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع

إن الناس غالباً لا يحترموك إلا لسلطان أو لمال أو لغنى أو لما شابهه، هذا إذا كنت عندهم، فإذا انصرفت عنهم لعنوك، ولكن تكسب قلوب الناس إلا بالخلق الحسن والتواضع والبعد عن الكبر؛ لأنك لا تستطيع ولن تقدر أن تنازع الله بسلطانه، يقول الله جل وعلا مؤدباً لخير المؤدبين صلى الله عليه وسلم: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37]، ولقد كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الكبر، وأقرب الناس -صلى الله عليه وسلم- إلى التواضع، ولذلك تآلفت قلوب المؤمنين الخلّص حوله، قال الله جل وعلا: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

يقول جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه -والحديث في صحيح مسلم (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى يعني: صلاة الظهر، قال: ثم انصرف فتبعه غلمان أهل المدينة يسلمون عليه، قال جابر : فسلم عليهم واحداً .. واحداً حتى وصل إليَّ -يقصد: نفسه- فسلمت عليه فوجدت بيديه برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار)، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه.

ومن أمثلة تواضعه صلى الله عليه وسلم, أنه لما زار بعض بيوت أصحابه أخذ يداعب غلاماً صغير يقول: (يا أبا عمير ! ما فعل النغير؟)، والنغير: طائر من الطيور كان أبا عمير -وهو طفل صغير- قد وضعه في قفص فمات الطائر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يداعبه ويسليه والحديث في البخاري وغيره، فهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.

ونحن كمؤمنين لسنا مكلفين بإتباع زيد ولا عمرو ممن يخطئ ويصيب، ولكنا ملزمون شرعاً بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعيرك أحد أن التواضع من ضعف الشخصية بل إن التواضع دليل على الصحة النفسية ودليل على ثقة المرء بنفسه إلا عند أهل الكفر، قال الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]، فهذه ثلاث صفات وصف الله جل وعلا بها نبيه يحيى عليه الصلاة والسلام.

ثم قال الله تبارك وتعالى في حق يحيى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15]، وعندما يمعن الإنسان النظر في يوم الميلاد ويوم الموت ويوم البعث يجد أن هذه الثلاثة المواضع لا يمكن أن تتكرر أبداً، فالإنسان أياً كان لا يولد مرتين، ولا يموت مرتين، ولا يبعث مرتين، فكلنا يولد مرة واحده، ويموت مرة واحدة، ويبعث مرة واحدة، فإذا سلم الإنسان في هذه المواطن الثلاثة فقد سلمه الله جل وعلا، والله كتب السلامة ليحيى ولعيسى بن مريم كما سيأتي في هذه المواطن الثلاث, قال الله جل وعلا: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15]، أسأل الله جل وعلا لي ولكم إن يرزقنا السلامة في هذه المواطن كلها.

ذكر قصة مريم في السورة

ثم بعد ذلك ذكر الله جل وعلا قصة مريم البتول رضي الله تعالى عنها، وذكر فيها ميلاد المسيح عيسى بن مريم، وقضية المسيح عليه الصلاة والسلام قضية كبرى، ولعل الله يوفقنا لبيانها.

فـمريم -كما قد علمتم في أول الدرس- امرأة نشأت في بيت من بيوت الله وكانت على قدر كبير من الصلاح والتقوى حتى إن ملائكة الله كانت تزورها في محرابها، قال الله جل وعلا ينبئ عن ذلك: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:42-43].

وهذا كله قبل أن تلد المسيح عيسى بن مريم، بل إن الملائكة بشرتها بالمسيح قبل أن تلد وهذا من فضل الله جل وعلا على تلك المرأة التي وصفها الله في القرآن بقوله: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، فشهد الله جل وعلا لها بالصديقية.

فمضت هذه المرأة تعبد الله وتوحده وتذكره وتهلله سبحانه وتعالى على الوجه الذي ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، حتى خرجت ذات يوم تريد شيئاً من الراحة شرقي بيت المقدس، وكانت -على قول بعض المفسرين والمؤرخين- تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً.

قال الله جل وعلا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم:16-17]، فبعث الله جل وعلا إليها ملكاً وهو على الصحيح والله أعلم: جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فتمثل لها بصورة شاب وضيء الوجه، تام الخلقة، حسن الخلق، قال الله جل وعلا: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]، أتاها وهي امرأة عذراء، لم تتزوج، وتقابل شاباً أخبر الله أنه وضيء تام الخلقة بشراً سوياً، ومع ذلك لم تفتتن به، ولم تبغي، ولم تهمز، ولم تغمز له، ولم تكشف عن نفسها حجاباً بل إنها خافت على نفسها دون أن يصدر منه أي دليل على أنه يريد بها سوءاً, فهو لم يتكلم معها ولم يطلب منها أمراً محرماً ومع ذلك من شدة عفافها وحيائها وخوفها من الله: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18].

فاستعاذت بالله جل وعلا منه ودعته إلى أن يتركها قائلة: إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18]، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنت تقياً فتخلى عني أو فاتركني أو فلا تلمسني، يقدر بحسبه، لكن هذا هو الصحيح في تفسير الآية؛ ولذلك قال العلماء: علمت أن التُقى ذو نهيه فوصفته وأخبرته وذكرته بتقوى الله جل وعلا.

وفي هذا درس بليغ لأخواتنا المؤمنات: أنه ليس هناك زينة أعظم من الحياء، فالمرأة تتزين حسياً ومعنوياً، أما حسياً فلا حرج فيه إن كان لزوجها قال الله عز وجل: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، ولكن أعظم زينة معنوية هي: الحياء؛ لأن الشيء إذا كان مستتراً مكنوناً تشتاق النفوس لرؤيته، أما إذا كان الشيء معروفاً للعيان فإن الناس تحجم عنه، ولذلك أصحاب الغوص والبحار ينزلون إلى قاع البحار للبحث عن الدر المكنون، أما ما يعلو على سطح البحر من أشياء معروضة فإن أهون الصيادين أو أهون من الغواصين أو أهون الباحثين يعرض عنه ولا يريده.

فالله الله يا نساء المؤمنات! وهن يسمعنني الآن أن يستوصين بأنفسهن خيراً، وأن يعلمن أن الحياء والعفة والتزام وتقى الله جل وعلا هي الزينة العظمى، وهي الكساء الأجل والأجمل، وهي ما يدعو الصالحون والأخيار والرجال ذوي الكرامة والشهامة أن يطلبوا أياديكن.

أما إن كنتن غير ذلك -والعياذ بالله- فإنما يهفوا إليكن الرعاع من الناس والسوقة والأقوام الذين لا خلاق لهم، والمرأة الأبية العفيفة لا ترضى بأولئك، ولا ترضى أن تكون قرينة لمثل أولئك ممن لا خلاق لهم، وهو في حقها أعظم من حق الرجل؛ لأنه ربما تاب بعد ذلك وتزوج أما أنت أيها المؤمنة! فإن وبال ذلك قد يبقى وقد لا يُغسل وقد لا يُترك، وقد يبقى وشمة عار، أسأل الله لنا وللمؤمنات إن يحفظهن الله من كيد الأشرار، ومن زيغ الفجار إنه جل وعلا حفيظ عليم.

ثم نقول: في هذا بيان خشية الله فقد ورد أن جبرائيل لما قالت له مريم : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ [مريم:18]، قيل: إن جبرائيل لما سمع كلمة الرحمن انتفض فرقاً حتى قيل: إنه عاد لهيأته الطبيعية التي خلقه الله تعالى عليها، وهذا ليس ببعيد؛ لأن الملائكة أعلم الناس بربها تبارك وتعالى، فطمأنها وهدأ خاطرها، وقال: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19]، فتعجبت! قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [مريم:20]! الغلام لا يأتي إلا من زواج مشروع أو من بغي محرم، ونفت عن نفسها كلا الأمرين: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [مريم:20]، أي: عن طريق الزواج، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]، فقال لها جبرائيل: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ [مريم:21]، أي: هذا الغلام، آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مريم:21]، لكونه نبي، وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21]، أي: هذا أمر منتهٍ؛ لأنه قد خُطَّ في اللوح.

فنفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى دخلت في فرجها ثم إلى رحمها ثم حملت كما تحمل النساء إذا جامعهن الرجال، قال الله جل وعلا: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [مريم:22]، اختلف أهل العلم رحمة الله تبارك وتعالى عليهم في مدة الحمل فمنهم من قال: إنها ساعات معدودة ومنهم من قال: إنها ثلاثة أيام، ومنهم من قال: غير ذلك.

والصواب أن يقال: إن الأمر يبقى على أصله أنه تسعة أشهر؛ لأنه لو كان خلاف الأصل لأخبر الله جل وعلا به، لكن لما سكت الله عنه، فإن الأمر يحمل على ما يجري على غيرها من النساء، والعادة أن المرأة تحمل جنينها في بطنها تسعة أشهر، فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [مريم:22]، أي: بعيداً، فلما اشتد عليها المخاض قال تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ [مريم:23]، أي: ألزمها المخاض، وما يكون من ألم يصيب المرأة إذا ولدت، إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:23]، قيل: إنها كانت يابسة.

فلما أحست شدة ألم الولادة خافت أن تفتن في دينها، وماذا تقول للناس إن عادت به إليهم؟ ولم تعلم أن الله سيظهر دلالة صدقها.

قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]، ومنه أي: من هذه الآية أخذ بعض أهل العلم جواز تمني الموت عند نزول الفتن، فلقد قال صلى الله عليه وسلم في شروط الساعة: (إن الرجل يمر على قبر الرجل يقول: ياليتني مكانك! مما يرى من الفتن)، عافانا الله وإياكم قبل ذلك اليوم.

فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا [مريم:23-24]، قيل: إنه جبريل، وقيل: إنه عيسى، الظاهر -والله أعلم- أنه جبرائيل، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:24]، والسري في لغة العرب: هو الجدول من الماء الصغير أو قيل: هو النهر الصغير.

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25]، فلما هزت جذع النخلة تساقطت عليها الرطب، وفي قول الله جل وعلا لها وأمره بأن تهز جذع النخلة دليل على أن الأمور مربوطة بأسبابها -وإن كان فضل الله واسعاً- وبيان للعبد أن يتبع الأسباب، ولذلك قيل:

ألم تـر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يتساقط الرطب

ولو شاء ألقى الثمر من غير هزةولكن كــل شيء له سبب

فلما هزت واطمأنت وقرت عيناً كما أراد الله لها أوصاها الله جل وعلا ألا تتكلم، وأن يكون شعارها الصمت، فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26]، أي: امتناعاً عن الكلام، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26].

فحملته ووضعته في مهده، وقدمت به على الملأ من بني إسرائيل، قال الله جل وعلا: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [مريم:27]، فتعجبوا!! قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [مريم:27]، أي: أمر عظيم هائل لا تصدقه العقول، ثم أخذوا يكثرون عليها اللوم والعتاب: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]، وهارون هذا رجل صالح كان في بني إسرائيل فشبهوها به؛ لأنها كانت تشبهه في عبادتها لله جل وعلا، وليس المقصود به: هارون أخو موسى بن عمران عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم، فأنت من عائلة معروفة بالتقى، وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]، فمن أين أتيت بهذا الشيء الذي ليس من طبع قومك، ولا من أخلاق والديك، وليس منك بشيء؟! فلم تملك جواباً؛ لأنها أمرت بالصمت، فما زادت على أن أشارت إليه، فلما أشارت إليه ظنوا أن هذا زيادة في التهكم.

قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]، هنا أظهر الله جل وعلا أولى معجزات المسيح ابن مريم فأنطقه الله في مهده والله على كل شيء قدير: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33]، فأنطق الله جل وعلا المسيح عيسى بن مريم في مهده، فلما تكلم علموا أنها صادقة وأظهر الله جل وعلا براءة هذه المرأة البتول العذراء -كما وصفها الله وأخبرنا بأنها صديقة- وسلم قومها للأمر، قال الله جل وعلا بعد ذلك: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34].

اختلاف الناس في المسيح بن مريم

إنه ما اختلفت أمة من الأمم ولا قوم من الأقوام كما اختلف الناس في المسيح عيسى بن مريم, فاليهود حاربوه وحاولوا صلبه وظنوا أنهم صلبوه، وقومه النصارى منهم من زعم أنه هو الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ومنهم من زعم أنه ابن الله، ومنهم من قال بعقيدة الأقانين الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، وهم يقولون: الثلاثة واحد والواحد ثلاثة.

والله جل علا كفَّر كل قائل بهذا القول، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وكفر الله جل وعلا الذين قالوا: إن المسيح هو ابن الله، قال الله جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم:88-94].

وكفر الله جل وعلا الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، قال الله جل وعلا: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، فهذه عقيدة النصارى في المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام.

وهم يزعمون في بعض معتقداتهم أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة ارتكب خطأ عظيماً، ولما اهبط إلى الأرض كان على خطيئته وتبعه أبناؤه على تلك الخطيئة، وقالوا: إن من عدل الله ألا يترك خطيئة بدون عقاب، فأنزل الله جل وعلا ابنه الذي هو الله على الأرض، ليأتي من رحم امرأة فيكون إنساناً من جهة لكونه ابن مريم ، وليكون إلهاً من جهة لكونه ابن الله، ثم إنه يدعو إلى شريعة الله الذي أتى منه، ثم يتكالب عليه الأشرار فيقتلوه ويصلبوه يسمِّروه على الخشب، فيكون بذلك هذا الابن قد خلص الناس من خطيئاتهم؛ لأنه تحمل عنهم تلك العقوبة، فلذلك يسمونه بعضهم: ذي نصير.

هذا قد يكون مجمل عقيدة النصارى في المسيح بن مريم، ولا ريب أنها عقيدة باطلة ما أنزل الله جل علا بها من سلطان، ولغلوهم في المسيح لجئوا إلى هذه الأمور، وتفرقوا تلك الفرق، وقالوا على المسيح ابن مريم ما قد سمعتموه وما أخبر الله جل وعلا عنه.

أما عقيدتنا -نحن المسلمين- في المسيح بن مريم فإننا نقول كما قال الله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، وانظر إلى الإشارة في قول الله جل وعلا: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، فإن من يأكل الطعام لا بد أن يخرج هذا الطعام، فكيف يكون إلهاً من يذهب إلى الحمام؟!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ولكن الله كنى عن هذه المسألة وهذا من الأدب القرآني بقوله تبارك وتعالى: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، ليستدعي الانتباه، وليثبت العقول إلى هذا المقصود؛ ولأنه يستحيل أن يكون نبياً, ثم إن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام هو نفسه يقول: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، والنصارى يزعمون أنه الله على قول، ويزعمون أنه ابن الله، والله جل وعلا ليس المسيح بن مريم وهو منزه عن الولد، قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

فينبغي أن يعلم أن المسيح بن مريم سبقت له من الله الحسنى فلا يضيره كون النصارى زعموا أنه إله أو زعموا أنه ابن الله، قال الله جل وعلا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:98-99]، هنا رفع أهل الشرك أعناقهم وقالوا: إن على هذا القول المسيح في النار! فأنزل الله جل وعلا قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101]، وهذا جواب.

والجواب الثاني: أن الله قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ [الأنبياء:98]، و(ما) تطلق على غير العاقل ولا تشمل العاقل؛ لأن العرب تستخدم (ما) الموصولة لغير العاقل وتستخدم (مَنْ) للعاقل.

مكث المسيح عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله جل وعلا وأنزل الله جل وعلا عليه كتاباً سماوياً: هو الإنجيل, والإنجيل: كلمة عبرية ومعناها: البشارة, وقد ضمنَّ الله الإنجيل العظيم من الهدى والنور، ومما جاءه الإنجيل البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى على لسان عيسى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، وجاء فيه وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [الفتح:29].

وعيسى عليه الصلاة والسلام لما دعا الله جل وعلا تكالب عليه الأشرار في زمانه، فاتفق أشرار اليهود على قتله والخلاص منه، فطاردوه بعد أن دخل أورشليم -أي: القدس- فلما دخلها ذهبت فئة من اليهود وحاصرته في مكان ليأخذوه ويصلبوه، فرفعه الله جل وعلا إليه كما نص الله في القران، وألقى الشبهة -أي: هيأته على واحدٍ ممن كان موجوداً- فأخذ ذلك الواحد، قال جمهرة المؤرخين: أن اسمه: يهوذاً والله أعلم، فأخذوه وقتلوه وصلبوه، فظنت النصارى أن المسيح صلب وخلص الناس من خطاياهم، وظنت اليهود أنهم شفوا غليلهم وقتلوا المسيح بن مريم، وكلا الفرقتين واهم ومخطئ فيما ظنه وزعمه وادعاه، قال الله جل وعلا عن اليهود: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:156-157]، ما الذي حدث؟ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158]، النساء.

فالله جل وعلا أخبر بأن المسيح عيسى بن مريم لم يقتل ولم يصلب ولكن القتل والصلب وقع على غيره، وأنه عليه الصلاة والسلام قد رفعه الله جل وعلا إليه، وهذه هي عقيدتنا نحن المؤمنين في قضية صلب المسيح عليه الصلاة السلام.

ذم اليهود على ألسنة أنبيائهم

وهنا نجنح ونتحدث عن اليهود .. اليهود أمة ملعونة على ألسنة أنبيائهم والمقصود: الكفار منهم، قال الله جل وعلا: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78].

وهم أشد الناس عداوة لأهل الإيمان، قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].

وتطاولهم على أنبياء الله ورسله أمر ذكره الله في القران، قال تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].

بل إنهم تطاولوا على رب العالمين فإن الله جل وعلا لما بعث خير خلقه وصفوة رسله محمد صلى الله عليه وسلم حاربه اليهود وتطاولوا على الذات العلية في حياته صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله جل وعلا على نبيه قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

فأنزل الله جل وعلا قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْر ِحَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181]، ثم تطاولوا فزعموا -عليهم من الله اللعنة- أن الله بخيل يشح بما يعطي، فأنزل الله جل وعلا تنزيه ذاته العلية ورده على أولئك المغضوب عليهم بقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة:64].

اليهود قوم جبلوا على الحسد، تقول صفية بنت حيي بن أخطب -كما ذكر ابن إسحاق بإسناد جيد في السير- قالت: إن أباها حيي بن أخطب ، وعمها أبا ياسر لما علما بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم خرجا في ضواحي عمر بن عوف -أي: عند قباء اليوم- ينتظرون قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه وهو قادم عليه الصلاة والسلام، واليهود كما تعلمون قوم أوتوا الكتاب وكانوا على علم عظيم، فلما رأوه عرفوه فرجعوا وفيهم ما فيهم من الحقد والبغض لنبينا صلى الله عليه وسلم، تقول صفية رضي الله تعالى عنها -ومعلوم أنها أسلمت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم-: فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، هو بعينه، قال: أتعرفه؟ قال: نعم، هو كما عندنا في وصفه، فقال أبو ياسر بن حيي : فما رأيك نحوه؟ قال: عداوته ما بقيت، ما تبلوا عليه والعياذ بالله من كفر وحسد للمؤمنين، قال الله جل وعلا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146]، أي: محمد صلى الله عليه وسلم، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، ولكن -والعياذ بالله- منعهم الكبر والحسد عن اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة عظيمة لما يمكن أن يصنعه الحسد في الصدور أخلص الله سريرتي وسريرتكم، وصفَّى الله صدري وصدركم.

الحديث عن تحريف الإنجيل

الإنجيل الذي أنزله الله جل وعلا على عيسى من المعلوم أنه قد لحقه التحريف الكثير، والأناجيل الموجودة اليوم والتي تقر بها الكنيسة: إنجيل متى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، وإنجيل مرقص. هذه على ما نعلم الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم، وهناك إنجيل قال بعض العارفين والعالمين بهذا الشأن إنه أقرب إلى الحق والصواب وهو إنجيل برنابا أو اسماً قريب من هذا، لكن الكنيسة لا تعترف به اليوم، ثم إنكم ترون دفاع الكثير من المؤمنين من العلماء والدعاة والجهود المبذولة في قضية تصحيح عقيدة النصارى في المسيح بن مريم، وقد كتب حتى بعض العلماء السابقين في هذا الباب كما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه وقدس الله روحه كتابه الشهير: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ومن علماء العصر ودعاتهم الذين برزوا في هذا المجال، والذي ينبغي للداعية ولطالب العلوم ولغيرهم أن يطلعوا على جهودهم، وأن يقرءوا ما لهم وأن يشاهدوا مناظراتهم الداعية الإسلامي الشهير أحمد ديدات وفقه الله وتقبله عنده في الصالحين، والدكتور جمال بدوي تقبل الله منهما ومن غيرهما مما لا نعلم ولا يضرهم أننا لا نعلم منهم شيئاً ممن يجاهدون بالكلمة الصادقة في الغرب وفي أمريكا وفي غيرها من معاقل الكنائس، وبيان أرباب الكفر وممن يصححون للناس هذه العقيدة الباطلة.

بيان أن نزول عيسى من علامات الساعة الكبرى وبيان الحكمة من نزوله

خص الله جل وعلا عيسى بالنزول دون غيره من الأنبياء، وأن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام علامة من علامات الساعة الكبرى، قال الله جل وعلا: وَإِنَّهُ [الزخرف:61]، فالضمير عائد على عيسى، لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61]، وقال الله جل وعلا: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159].

فنزول عيسى أمر جاء به صريح القران، وجاء به صحيح سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه بعد ظهور الدجال وما يشيع في الأرض من فساد كبير، ينزل عيسى بن مريم واضعاً يديه على جناحي ملك شرقي المنارة البيضاء عند بيت المقدس، وبيده حربة يطعن بها الدجال فيموت الدجال ، فيحكم عيسى عليه السلام بالعدل فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويرى الناس في عهده الأمنة والبركة، وهذا من علامات الساعة الكبرى.

وهناك سؤال: لماذا كان عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان دون غيره من الأنبياء؟

والجواب: أولاً: لسنا مطالبين بهذا إلزاماً، لكننا نقول: إن كثيراً من العلماء تلمسوا الحكمة في هذا فذكروا أموراً لا نجد غضاضة في قولها، وربما كانت قريبة من الصواب، منها:

حتى يبين الله جل وعلا بطلان ما زعمته اليهود أنهم قتلوا المسيح بن مريم، وفي نزوله عليه الصلاة والسلام: إثبات لضلال أولئك اليهود؛ ولكي يعلموا أنهم لم يصلوا إلى عيسى ولم يتطاولوا عليه؛ لأن الله جل وعلا حفظه من كيدهم وشرهم.

الحكمة الثانية: في نزوله عليه السلام بيان لبطلان عقيدة النصارى في أن المسيح صلب وخلَّص الناس من خطاياهم، فبنزوله يثبت عدم صلبه وبذلك يبطل عقيدة من زعم من النصارى أن المسيح صلب، وكذلك من الحكم في نزول المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أن عيسى عليه الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء عهداً وأقربهم عهداً نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال كما في صحيح البخاري : (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم).

وكذلك من الحكم: في ذلك بيان أنه بشر، فلا بد أن يدفن في الأرض، فكان حقاً أن ينزل إلى الأرض كرة أخرى فيموت فيها كما يموت البشر، ثم يدفن فيها كما يدفن البشر.

عظات وعبر من قصة المسيح بن مريم

هذا مجمل ما أردنا بيانه في قصة المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام وفيه من العظات والعبر ما يأتي:

أولاً: أن الله جل وعلا منزه عن كل عيب ونقص, وأنه تبارك وتعالى غني عن كل ما سواه, وما سواه فقير إليه جل وعلا، وأنه من أعظم الفرية أن يزعم عبد من العباد أن الله جل وعلا اتخذ ولداً, وأن من موجبات الدعاء أن تعظم الله جل وعلا وتنزهه عن الصاحبة والولد، وتنزهه تبارك وتعالى عما وصفه به الظالمون، ولذلك فإن الله في القرآن ينزه ذاته العلية عما يقولون، قال الله تبارك وتعالى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:40-44].

الفائدة الثانية: أن الله جل وعلا يمن بالفضل على من يشاء من عباده، ويظهر أحياناً جل وعلا قدراته ولكن ليس كل عبد يفتح عليه في أن يعلم تلك القدرات، ففي كون المسيح يأتي من غير أب إتمام للحقائق الأربع وهي:

أن الله جل وعلا خلق آدم من غير أب ولا أم، هذه واحدة، وخلق حواء من رجل دون أنثى هذه الثانية، وخلق الناس جميعاً من أب وأم هذه الثالثة، وتبقى واحدة وهي أنه يخلق ويوجد عبد من أم دون أب، فكان المسيح بن مريم.

لذلك قال الحافظ ابن كثير رحمة الله تعالى عليه في تفسيره لهذا الأمر: تمت القدرة الإلهية وأظهر الله جل وعلا عظيم سلطانه وعظيم قدرته في كونه تبارك وتعالى فخلق الخلائق على أربعة قدرات أو على أربعة أنماط.

ذكر إبراهيم ودعوته لأبيه في السورة

الوقفة الأخيرة في سورة مريم مع قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:41-44].

أنبأ الله في هذه الآيات عن الدعوة والسبيل الذي اتخذه نبي الله جل وعلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وإبراهيم عليه الصلاة والسلام عبد اصطفاه الله وما من أصحاب ملة إلا وزعموا أن إبراهيم منهم, فاليهودية زعمت ذلك، والنصرانية زعمت ذلك، حتى إن أهل الإشراك زعموا أن إبراهيم منهم، والله جل وعلا نزهه عن ذلك كله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، ونبينا صلى الله عليه وسلم في عام الفتح عندما دخل الكعبة وجد المشركين قد وضعوا صورة إبراهيم وصورة إسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (قاتلهم الله! ما لشيخنا وللأزلام)، ثم تلا: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، إلى آخر الآية.

بيان كيفية الدعوة من خلال قصة إبراهيم عليه السلام

وهذه الآيات تبين كيفية الدعوة إلى الله جل وعلا.

فالدعوة هي أعظم مهمة، وأجل رسالة، ولذلك أناطها الله بالأنبياء والمرسلين، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، ولقد بعث الله أنبياءه ورسله للدعوة إليه، قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

فشخصية من تدعوه تلعب دوراً كبيراً، فهي تحدد كيف تدعوه؟ فإبراهيم عليه السلام دعا أباه، ودعا عبدة أوثان، ودعا عبدة كواكب، وكان في كل مرة يستخدم الأسلوب المناسب في الدعوة.

ففي دعوته لعبدة الأوثان والرعاع قال: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67]، وفي دعوته لأبيه اتخذ الأسلوب الأمثل في حق والده عليه قال: يَا أَبَتِ [مريم:42] ثم يكمل شيئاً فشيئاً حتى نهره أبوه، ثم قال بعد ذلك: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47]، وقال في دعوته: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:45].

فاختار كلمة عذاب؛ لأنها نكرة حتى لا يعلم مقدراه، واختار كلمة الرحمن حتى يكون أرفق بالوالد، ولم يقل يمسك عذاب من الجبار أو من القوي أو من العزيز فكلها أسماء لله ولكنه اختار أسلوباً قريباً من نفسية والده.

وعندما دعا أصحاب الكواكب تنازل معهم إلى ما يريدون، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77]، أي: معاملة لهم بعقليتهم، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78]، فأقروا أنه يريد ملتهم فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام:78]، وهنا توقف وأقام عليهم الحجة، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79]، فأقام عليهم الحجة، وسواء اهتدوا أم لم يهتدوا فإنه لم يكلف بهدايتهم، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور:54].

فلذلك انظر إلى من تدعوه قبل أن تعرف ماذا ستقول له.

وإن هناك سؤالاً يطرح نفسه كثيراً وهو: هل الوسائل والطرائق في الدعوة تتعدد أم لا تتعدد؟

والحق الذي ندين الله جل وعلا به أن ما تدعو إليه واحد لا يتغير، فإنك تدعو إلى الكتاب والسنة، أما أسلوبك في الدعوة فإننا نرى أنه متوقف على شخصية من تدعوه، فلكل إنسان مفتاح إلى شخصيته، وإلى قلبه، ولو طرقت قلبه من ذلك الطريق لقبل منك, فنبينا عليه الصلاة والسلام علم أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قبل إسلامه كان رجلاً يحب الفخر، فقال في يوم الفتح يرغِّب أبا سفيان في الدخول في الإسلام قال: (ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، وهو عليه الصلاة والسلام يعلم أن دار أبا سفيان لا يمكن لها أبداً أن تتسع لأهل مكة ولكن ترغيباً منه لـأبي سفيان في أن يدخل في دين الله.

وبعث صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم وهو كافر بالكتاب كافر بالسنة قال له في رسالته: (من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم)، فوسمه ووصفه بأنه عظيم الروم حتى يكون أدعى في قبول دين الله جل وعلا.

وكذلك المؤمن فلا تظلم من تدعوه، بل ائته بالأسلوب الحسن بالطريق الأمثل وبخاصة عند دعوة الشباب فربما رأى منظراً أعجبه فقلَّد شخصاً بعينه فلما قلده لأول وهلة أو لأول نظرة لو لأول حدث فلو أتيته بالحكمة وذكرته بالله ووصفت له ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من هدي قويم لقبل منك، دون الدخول في العنف والمواجهة المباشرة، فعندما تدعو رجلاً لا يدعو إلى ضلال ولا يدعو إلى فجور ولكن ضلالته وفجوره على نفسه ذلك يختلف اختلافاً كثيراً عندما تدعو رجلاً من أئمة الضلال ممن يؤلفون الكتب أو ممن يلمزون في الدين أو ممن يسخرون من أهل الدين أو تصدروا للصد عن سبيل الله جل وعلا.

فعلمك بمن تدعوه يلعب دوراً كبيراً فيما ستقول له من كلام, فأبوك في المنزل لا يعقل أن تناديه وأن تخاطبه أو تدعوه بالطريقة التي تدعو بها أصحابك أو تدعو بها أقرانك أو تدعو بها في المسجد، وإنما اتخذ أكمل السبل فلا يمكن إذا ابتليت بأب لا يصلي بأن تناديه من الدور الثاني مثلاً: هيا قم صلِّ! فهذا لا يقبل، ولكن إذا قربت سيارتك من الدار وفتحت باب مقعد الجلوس ثم ذهبت إليه وقلت له: يا أبي! اعتقد أنه حان وقت الصلاة، بأسلوب مؤدب ويرى السيارة مجهزة، ويرى الباب مفتوحاً فإنه سيقبل ويستحيي أن يقول لك: لا, لكن أن تناديه أمام أمك وأمام إخوانك وتظهر لأمك ولإخوانك أنك الرجل الكامل في البيت، وما سواك أنهم من أهل النار، أو أن تناديهم لأنك قد ملكت السلطان المبين وهم على ضلال وزيغ فهذا لا يعقل أبداً, وأنت بذلك صددت الباب قبل أن تفتحه, أنت أغلقت على نفسك الطرق إلى قلب والدك, وحرمت نفسك من أجر هداية والدك أو غيره ..

فالمقصود: ينبغي أن يختار الإنسان الأسلوب الأكمل والأمثل في الدعوة مع قيد واحد ألا يكون ذلك الأسلوب أمراً محرماً, فلا تأتي لشخص يحب الخمر فتهدي إليه كأساً من الخمر وأنت تزعم أنك تدعوه إلى طاعة الله! فهذا الضلال بعينه أما سوى ذلك فإننا لا نرى والله تعالى أعلم حرجاً في أن تتعدد الوسائل في الدعوة إلى الله.

هذا ما أردنا بيانه في قصة مريم .

نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا.

الأسئلة

بيان فضل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على حواريي عيسى

السؤال: أيهما أفضل: الحواريون أم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: الحواريون: هو نعت لأصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52].

وهم قوم أثنى الله جل وعلا عليهم في كتابه إلا أنهم رغم ما هم فيه من علو المقام ومن صحبة نبي كريم هو عيسى عليه الصلاة والسلام إلا أنهم ليسوا بأفضل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكما أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو خير النبيين فكذلك أصحابه رضي الله تعالى عليهم أجمعين -بلا استثناء- هم خير أصحاب النبيين على الإطلاق.

ولذلك كان أبو بكر أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين؛ لأنه أفضل هذه الأمة، وكذلك عمر ، وعثمان ، وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين, والمقصود: أن للحواريين فضلاً، وللصحابة فضل، ولكن فضل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعظم قدراً من فضل الحواريين عليهم من الله الرضا.

الإرشاد إلى كيفية التصرف مع الإخوان إذا كانوا غير ملتزمين

السؤال: يقول: إنه شاب مبتلى بإخوان غير ملتزمين ولكن أباه -حسب قوله- رجل صالح، وإنهم ابتلوا بشيء من الآلات التي تكون سبباً في وجود الفساد، فكيف التصرف معهم؟

الجواب: مسالة أن الإنسان يبتلى بإخوان غير صالحين قل من يسلم منها، وهي تضاعف المسئولية على الوالد وتضاعف المسئولية على الابن الصالح في البيت.

ولذلك يقع واجب عظيم على الإخوان الذين منَّ الله عليهم بالهداية في بذل الجهد في دعوة إخوانهم من الشباب الذين يسكنون معهم في بيت واحد وتحت سقف واحد، فأما كون المؤمن يبتلى بآلة في بيته وراءها شر مستطير، فإننا نقول أولاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم نقول: إن وقعت وكانت ووجدت فإن السبيل يكون بأن تضرب الصفح ذكراً عنها في المواجهة المباشرة, ولكن حاول أن تكسب إخوانك شيئاً فشيئاً ولا تملي عليهم زيداً أو عمرو فلو قلت لهم: قال الشيخ فلان! أو يفعل الشيخ فلان فإنهم لا يجدون غضاضة في أن يتجرءوا عليك؛ لأنهم بشر، ولكن ادخل إلى قلوبهم من باب وصف هدي محمد صلى الله عليه وسلم فإنني لا أظن أن مؤمناً يخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فلا يملك المدعو إلا إن يغض الطرف ويسلم بالأمر، وإن لم يفعل فإن أقل القليل أنك تسلم من ردة فعله, ثم أبدا بالأقرب منهم إلى الهدى فإذا كنتم اثنان فإن جهد الاثنين ليس كجهد الواحد، فإذا ضممتم إليكم ثالثاً فإن جهد الثلاثة ليس كجهد الاثنين، وهكذا شيئاً فشيئاً مع إلانة القول لهم حيناً والوعيد حيناً آخر بحسب الحال.

فإن كانوا مجتمعين غلِّب جانب الرقة وإن كان واحداً غلب جانب الوعيد؛ لأنه لا يملك أن يرد عليك، لكن إن كانوا كثيرين فلا تأتيهم بالوعيد فربما تسلطوا عليك، وإنما ائتهم بالرقة والحنان واتخاذ أسلوب الوعد علّ الله جل وعلا أن يمن عليهم وعلى شباب المسلمين بالهداية.

وصية للنساء

السؤال: هل من وصية للنساء بمناسبة الحديث عن مريم بنت عمران؟

الجواب: سبق وصية النساء في الدرس، ولكن لا ضير في التذكير كرة أخرى، فإننا نوصي المؤمنين والمؤمنات وأنفسنا أولاً بتقوى الله جل وعلا والرغبة فيما عنده، والرهبة مما عنده تبارك وتعالى، وأن يكون الإنسان على هدي قويم من الله، وأن يعلم انه سيبتلى بالفتن فالنبي صلى الله عليه وسلم زار البقيع في آخر أيام حياته فقال لأهل البقيع: (ليهنكم ما أنتم فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها)، هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته قبل 1400 عام، فما بالك بالفتن في هذه الأيام وهذه السنين وهذه الأعوام؟! نسأل الله لنا ولكم السلامة, المهم أن يستمسك الإنسان بحبل الله المتين، وأن يرجع إلى الله جل وعلا بالدعاء فإن الدعاء كما بينا: هو العبادة والله جل وعلا قال: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43].

فالتضرع إلى الله أمر مطلوب، فأوصي المؤمنين والمؤمنات بتقوى الله والتضرع إلى الله جل وعلا، وأن يتقي الله المؤمن فيما بين يديه، وأن يتقي الله المؤمن فيما يأتيه، وفيما يتركه، عصمنا الله وإياكم من الزلل، وألبسنا الله وإياكم من الإيمان الحلل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وقفات مع سورة مريم للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net