إسلام ويب

ديننا الحنيف دين الكمال والشمول، فقد جاء بما فيه خير وصلاح البشرية جمعاء، ولا أدل على ذلك من اهتمام الإسلام بالعلاقات التي تكِّون المجتمع الواحد المتماسك والدولة المتماسكة؛ بدءاً من الأسرة، وانتهاءً بالأمة كلها، فقد جاء الإسلام بالعلاقات التي تربط الأسرة ببعضها، وتربط المجتمع ببعضه؛ حيث أمر الإسلام ببر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وبذل الإحسان، والعطف على المحتاج، والمؤاخاة بين المسلمين، وغير ذلك مما فيه صلاح الدنيا والآخرة.

صفات المجتمع المسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكون مجتمعاً تسوده المحبة والإخاء في ذات الله تعالى، كما وصفهم سبحانه بقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، وكما وصفهم سبحانه وتعالى بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].

ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله الذي أرسله هدى للعالمين، فكان مثلاً يقتدى به في أخلاقه وفي سلوكه، كما قال عز وجل عنه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فقد تربى على تلك الأخلاق التي رباه الله عليها، فقاد أمة استحقت قيادة هذا العالم، بسبب ما حباها الله فيه من محبة وإخاء وتعاطف.

أيها الإخوة! إن الحديث عن العلاقات الاجتماعية في القرآن أو في الإسلام طويل، ويكفينا حينما نقرأ القرآن أننا نجد كثيراً من الصفات التي يدعونا الله عز وجل إلى الأخذ بها؛ حتى نكون مسلمين حقاً، ولعل الآيات التي في أول سورة البقرة ما يبين لنا صفات المجتمع المسلم، وذلك في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5]، وكثيراً ما نجد في القرآن الكريم تربية عالية للأمة الإسلامية، ولو قرأنا سورة الحجرات لوجدنا فيها كثيراً من الصفات الراقية التي يجب أن يتحلى بها المسلم؛ وحينئذ يكون مسلماً حقاً.

مفهوم العلاقات الاجتماعية

أما المراد بالعلاقات: فهي الصلات التي تربط كل فرد من أفراد الأسرة، وكل أسرة بأسرة، وكل بلد ببلد، وفي آخر الدائرة تربط المسلم بالمسلم في أي مكان من الأرض، هذه هي العلاقة، والمجتمع معناه: مجموعة تلك الأسر التي تنتظم من أولئك الأفراد الذين رباهم الإسلام، فكوّنوا الأسرة المسلمة، وتكون من مجموع هذه الأسر المجتمع الإسلامي.

نظرة إلى المجتمع الجاهلي قبل الإسلام

قبل أن نتطرق إلى العلاقات الاجتماعية في الإسلام، نريد أن نلمح لمحة من المجتمع الجاهلي الذي سبق الإسلام، والذي كان إرهاصاً لميلاد دين جديد، حيث بلغ السيل الزبا، وحيث وصلت الأمة العربية في ذلك العصر إلى وضع هو دون مستوى الحيوان في كثير من أحيانه، فإن الحيوان لا يئد بنته، ولا يقتل ولده، ولكن هذه الصفات قد امتاز أو اشتهر بها المجتمع الجاهلي فيما قبل الإسلام، فكانت علاقة الأب بأولاده علاقة سيئة، وقد قص القرآن علينا أخبارها في قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59].

فكان الواحد منهم يشعر بالخجل حينما يبشر بأنه ولدت له بنت، فيسود وجهه أمام القوم، ثم يذهب إلى ابنته ليدسها في التراب -أي: ليدفنها- وهي حية، إلى أن جاء الإسلام فحاسب أولئك، وأفاد بأنهم يوم القيامة سيسألون عما فعلوا، كما قال عز وجل: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9]، بل كانوا يقتلون حتى الأولاد الذكور في كثير من الأحيان، فإذا كان الرجل قليل ما في اليد -أي: ليس عنده مال- فإنه يقتل أولاده خشية الفقر، ويقول: إن ماله لا يكفي لأولاده؛ وهذا لأنهم فقدوا الاعتماد على الله أولاً؛ ولأنهم فقدوا العاطفة التي منحها الله عز وجل حتى للحيوان، فيخبر الله تعالى عنهم أنهم يقتلون أولادهم خشية الفقر، أو خشية الإملاق، ثم جاء الإسلام فأبدل هذه الخشية بالاعتماد على الله تعالى، وتكفل برزق الأبناء مع رزق الآباء، كما قال تعالى: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، بل قدم رزق الأولاد على رزق الآباء في آية أخرى فقال سبحانه: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، وعلى هذا فلا يجوز في الإسلام أن يعتمد الإنسان على ماله أو على قوته، ولذا أخبر الله عز وجل أنه سيحاسب أولئك الذين قتلوا أولادهم خشية الفقر.

هذه هي العلاقة الجاهلية بين الأب وأولاده، وإن كان هناك من يتغنى بالأولاد، ويكمل التعطف عليهم، كما قال بعضهم:

إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض

لكن ذلك خلاف ما جاء من عادة النسبة لعادات الجاهلية، بل إن القرآن الكريم هو الذي أخبرنا بوضعهم مع أولادهم.

معاملة الجاهلية للزوجة

أما بالنسبة للزوجة فلقد كان وضعها أسوأ من وضع الولد، ولقد كانت متاعاً ممتهناً لدى هؤلاء؛ بل لقد كانت تورث ولا ترث، فقد حرموها من الميراث، حتى جاء قول الله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]، فصاروا يورثون المرأة في الإسلام بعد نزول هذه الآية، وأما قبل ذلك فكانوا في الجاهلية يرثونها هي، فإذا مات الزوج فإن أكبر أولاده أو أقرب أولاده إليه يلقي عليها رداءً، فإذا وقع عليها الرداء يصير أحق بها من سائر إخوانه، ويتملكها ويتزوجها إذا لم تكن أماً له!!

علاقة العرب مع بعضهم في الجاهلية

أما بالنسبة لعلاقة العربي بالعربي فإنها على شقين: علاقة العربي بقبيلته، فيرى كل ما تفعله قبيلته حسناً، فعلاقته بها مبنية على الحمية الجاهلية وعنصريتها، وحالهم فيها كما قال الشاعر:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

ولكنها بالنسبة للقبيلة الأخرى كانت أيضاً علاقة سيئة، ونحن نقرأ في التاريخ الجاهلي تلك الحروب الدامية التي خاضها العرب مع بعضهم في سبيل أشياء تافهة؛ لأنهم فقدوا الوازع، وفقدوا الضمير، وفقدوا الإنسانية، فأصبحوا أقل مستوى من الحيوان، فمثلاً: نجد أن حرب البسوس التي دامت ما يقرب من أربعين عاماً تطحن في العرب كان سببها تافهاً، وهكذا كانت كثير من الحروب التي كادت أن تكمل العرب، لولا أن الله تعالى تداركهم بالإسلام فأنزل هذا القرآن لينقذهم مما كانوا عليه، ولذلك فإن الله يأمرنا بشكر نعمته فيقول: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]، وعلى هذا فإننا نعتبر الإسلام نعمة كبرى من الله تعالى، لا على المسلمين فحسب؛ ولكن على العالم أجمع، فقد أخرجهم به من الظلمات إلى النور.

تنظيم الإسلام للمجتمع المسلم وبناؤه للعلاقات الاجتماعية

أيها الإخوان! أما عندما نتحدث عن الإسلام كيف يبني المجتمع المسلم؟ وكيف يبني علاقته؟ فإنه وضع أسساً يطالب المسلمون بتطبيقها، ولو طبقوها لقضوا على جميع مشاكلهم، ولأصبحوا كذلكم المجتمع المسلم الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، وبوحي من الله سبحانه وتعالى، ولو طبق المسلمون تلك القواعد التي جاء بها الإسلام لصنعوا مجتمعاً فريداً.

أمر الإسلام بحسن تربية الأولاد

الإسلام يبني علاقة الأب مع أولاده على المحبة والعاطفة، ولكنه يبني العاطفة على أنها لا تطغى على العقل فتضيع التربية، وإنما يجب أن يكون العقل له قيمته، وهذه العاطفة لها قيمتها.

ويبدأ ذلك من اختيار الزوجة الصالحة، واختيار الزوجة الصالحة سبب في صلاح هؤلاء الأولاد؛ لأنها هي التربة التي توضع فيها هذه البذور، وحينئذٍ فإن هذا الأب مطالب باختيار الزوجة الصالحة أولاً، ثم اختيار الاسم الحسن، ثم بالتربية بعد ذلك؛ بحيث لا يرفع سوطه عنهم أبداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما نحل والد ولده أفضل من خلق حسن).

ولهذا فإننا نجد تربية الأولاد تشغل جانباً وحيزاً كبيراً في القرآن العظيم وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ثم يبين أن صفات المؤمنين أنهم يؤدبون أولادهم، ثم بعد ذلك يمدون أكف الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى بأن يصلح هذه الذرية، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، ولكن ذلك يكون بعد العمل.

ثم أيضاً نجد أن الله تعالى يتكفل بعد ذلك لهؤلاء الآباء الصالحين الذين بذروا بذوراً حسنة في هذه الأرض وفي المجتمع الإسلامي بأن يهب لهم الأولاد الصالحين.

وحينما يحصل صلاح الأبناء وصلاح الآباء فإن الله تعالى يرفع الأبناء يوم القيامة درجة، ولا يخفض الآباء هذه الدرجة، فيرفع الأبناء حيث يصلون إلى درجة آبائهم، فتقر حينئذٍ عيونهم بهذه الذرية الصالحة، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، أي: رفعناهم إلى درجة الآباء في الجنة، وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]؛ لأن تنزيل الآباء عن الأبناء شيء من الظلم بالنسبة للبشر، ولكنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى ليست ظلماً؛ لأن الله عز وجل منزه عن الظلم، فهو يرفع الأبناء إلى درجة الآباء، ولا يخفض الآباء إلى درجة الأبناء حينما يكون الأبناء أقل صلاحاً من الآباء.

ثم بعد ذلك يبين الله تعالى أن السعادة وقرة العين إنما تكون حينما يصلح الآباء مع الأبناء، فيقول الله عز وجل: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]، هذا إضافة إلى ما يناله الأب من البر بالنسبة لهؤلاء الأولاد الصالحين، وما تناله الأم أيضاً من البر بالنسبة لهؤلاء الأولاد الصالحين.

أما بالنسبة لحياة البرزخ فإن فيها سعادة لهذا الأب الذي يربي هؤلاء الأولاد؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له)، فحينئذ يكون الإسلام قد طالب الأبناء بالنسبة لآبائهم، أو الآباء بالنسبة لأبنائهم في هذا الجانب.

ثم أيضاً على هؤلاء الآباء وعلى هذه الأمهات أن يكونوا عوناً لأبنائهم على البر، وذلك بحسن المعاملة والرقة وحسن العشرة والعدل، والعدل هو أكثر ما يحبب الآباء إلى الأبناء.

أمر الإسلام للأبناء ببر آبائهم

أما بالنسبة للجانب الآخر، وهو حق الآباء على الأبناء، وهو البر والإحسان، فقد أمر الله عز وجل وقضى وحكم بأن يبر هؤلاء الأبناء بأولئك الآباء، كما قال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، ومعنى القضاء هنا: الإيجاب، وإن كان هناك من يخرج عن هذا القضاء فإنه قضاء شرعي؛ لأنه أمر ووصى وأوجب، وليس معنى ذلك أنه قضى كوناً؛ لأنه وجد من خالف هذا الأمر.

وكثيراً ما يقرن الله عز وجل حق الوالدين بحقه كما في هذه الآية، وكما في آيات أخر كقوله سبحانه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، والرسول صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في الجهاد في سبيل الله فقال له: (أحي والداك؟ فقال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).

ومعنى البر بالنسبة للأبناء: أن يحسنوا علاقاتهم بآبائهم، وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم من الطاعة في حدود طاعة الله تعالى، أما إذا كانت طاعة الوالدين أو أي مخلوق مخالفة لطاعة الله تعالى؛ فإنه لا طاعة حينئذٍ لمخلوق في معصية الخالق؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8]، ولقد نزلت هذه الآية حينما أسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فغضبت أمه، وكانت على الكفر، فقالت: يا سعد ! والله لا أكلمك أبداً، ولا آكل طعاماً حتى تكفر بمحمد! فصار يتودد إليها مرة بعد أخرى لتأكل الطعام، وهي مصرة، حتى كادت تخرج روحها من شدة الجوع، ولكنه لا يريد أن يترك دينه، فلما رآها على هذا الوضع قال: (يا أماه! والله لا أترك ديني، ولو كانت لك مائة نفس فخرجت كل واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني، فإن شئت كلي، وإن شئت فلا تأكلي)! فحينئذٍ يئست منه فأكلت، فأنزل الله تعالى قوله: وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8]، بعد أن قال في أول الآية: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8].

وإهمال حق الوالدين خطر كبير، ولذلك فإن الله تعالى نهى عن التأفف في وجوههما فقال: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]، وإذا كان هناك من الآثام والمعاصي للوالدين أكثر من ذلك فإنه أكثر خطراً وأعظم إثماً.

الإسلام وصلة الرحم

ثم تأتي بعد ذلك صلة الرحم، والمراد بصلة الرحم: القرابة غير الوالدين، ولهم حق كبير أيضاً في الإسلام، ولذلك فإن الله تعالى لعن الذين يقطعون الرحم فقال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، والرحم هم: الإخوة وأبناؤهم، والأعمام وأبناؤهم، والأخوال والأقارب، سواء كانوا من طريق الأم، أو من طريق الأب والأجداد وإن علوا، فهؤلاء كلهم يدخلون في الرحم، ولذلك فإن قطيعة الرحم تعتبر من أكبر الآثام، وحقيقة صلة الرحم أن تصل من قطعك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها).

العلاقات الزوجية في الإسلام

بعد ذلك يأتي دور العلاقات الزوجية في الإسلام، والعلاقات الزوجية في الإسلام متينة ومهمة؛ لأنها تبنى على ميثاق أخذه الله عز وجل على الرجال والنساء، كما أخذته النساء على الرجال، فإن الله تعالى قال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، وفي قراءة: (وأخذنا منكم ميثاقاً غليظاً)، وإذا مددنا (نا) فيكون الذي أخذ الميثاق على هؤلاء الرجال هو الله عز وجل، وإذا قلنا: (وأخذن) فهي نون النسوة.

وعلى هذا فإن المرأة قد أخذت هذا الميثاق الغليظ على هذا الرجل، وهذا الميثاق الغليظ تجب المحافظة عليه، وحينئذٍ فإن للعلاقات الزوجية شروطها وآدابها؛ لتكون هذه العلاقة وثيقة ومتينة، وذلك حينما يكون الزواج بتراضٍ، ويا حبذا لو كان بنظر إلى المخطوبة! وهكذا توافر الصفات التي دعا إليها الإسلام، وحينئذٍ تبنى العلاقات الزوجية على المودة والرحمة، كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، وإذا لم تبن على هذين الأمرين جميعاً فعلى الأقل على الرحمة، فإذا فقدت المودة فلن تفقد الرحمة، وأما حينما تفقد المودة وتفقد الرحمة فهناك وسائل يجب أن يسلكها الزوجان: من الإصلاح، والتغاضي عن العيوب، وحينما لا يمكن ذلك يأتي دور الحكمين، كما قال عز وجل: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، وحينما لا يكون السبيل إلى ذلك يأتي دور الفراق: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء:130].

هذه العلاقة تستحق الوفاء بالشروط التي اشترطت بين الرجل والمرأة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، والمراد بالفروج: العلاقة الزوجية.

ثم بعد ذلك تأتي العشرة وحسن العشرة، فيشعر الرجل بأن له مثلما عليه؛ لأن الله تعالى يقول: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، ثم يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، ويقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فالعشرة بالمعروف حق للزوجة، كما أنه حق للزوج على الزوجة، وهناك حق كبير للزوج على الزوجة أجمله الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) وذلك لما له عليها من الحقوق.

وكذلك يجب للزوجة حسن المعاشرة، والعاطفة والمحبة من الرجل؛ حتى تكون المحبة والعاطفة متبادلة بين الطرفين.

حقوق الجار في الإسلام

بعد ذلك تأتي حقوق أخرى كحق الجيران، وحق الجيران حق فرضه الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].

ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)، ويقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، ويقول: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه)، أي: غدراته وخيانته.

ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت الحق للجار مهما كان هذا الجار، حتى ولو كان كافراً فإن له حق الجوار؛ فإن الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد، أما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم ذو القرابة؛ فله حق الجوار، وله حق الإسلام، وله حق القرابة، وأما الذي له حقان فهو الجار المسلم؛ فله حق الجوار، وله حق الإسلام، وأما الذي له حق واحد فهو الجار غير المسلم.

حق الضيف في الإسلام

ثم بعد ذلك يأتي حق الضيف في الإسلام، وهو حق محترم كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (فليكرم ضيفه جائزته: يومه وليلته)، وهذا أقل حق في الضيافة، وأتمه ثلاثة أيام بلياليها.

العلاقة في الإسلام بين الحاكم والمحكوم

ثم بعد ذلك يأتي الحق بين الحاكم والمحكوم، وهذا حق أيضاً جاء به الإسلام، فإقامة حكم الله في الأرض مطالب به كل المسلمين، وهذا يتطلب أن تقوم الخلافة لله عز وجل في الأرض، وأن يكون هناك من يرعى هذا الأمر من أمور المسلمين، وهذا الحاكم الذي يقوم بهذا الأمر له حق وعليه حق، أما الحق الذي عليه فهو أن يحكم هؤلاء الناس بحكم الله عز وجل، بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنه كافر مرتد.

وعلى المسلمين أمر يقابل هذا الأمر، فعليهم الطاعة لهذا الحاكم في حدود طاعة الله تعالى، فإذا لم تكن هناك طاعة لله في طاعته فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , العلاقات الاجتماعية في الإسلام للشيخ : عبد الله الجلالي

https://audio.islamweb.net