إسلام ويب

لقد كانت قصة موسى عليه السلام أكثر القصص تكرراً في القرآن الكريم؛ وذلك لما فيها من العظات والعبر، فقد عانى موسى عليه السلام من بني إسرائيل أشد المعاناة، وذلك بسبب عنادهم وعصيانهم، واستمر مدة طويلة من الزمن إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً، إضافة إلى أن موسى عليه السلام عالج فرعون وجنوده أشد المعالجة؛ إذ كانوا قد بلغوا غاية الطغيان، ففي صفحات هذه المادة قصة موسى عليه السلام، والمواقف والأحداث التي تعرض لها.

أهمية قصص الأنبياء

الحمد لله نحمده ونستعينه ونشكره، ونثني عليه الخير كله ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد قص الله علينا في كتابه قصصاً طيبة من أخبار أنبيائه، ووصفها بأنها أحسن القصص، وهذا الوصف من الله تبارك وتعالى يدل على أنها أصدقها وأبلغها وأنفعها للعباد، فمن أهم منافع هذه القصص أن بها يتم ويكتمل الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وحينما نتحدث عن قصص المرسلين نحقق قول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]، ففي هذا القرآن من العظة والعبرة الشيء الكثير، سيما في أخباره الصادقة التي لا تتناقض ولا تختلف، والعظة للمؤمنين الذين يفهمون كتاب الله عز وجل غضاً طرياً كما أنزل، ففي قصص المرسلين العظة والعبرة، ولذلك تجد أن جزءاً عظيماً من القرآن الكريم يهتم بجانب القصة، وليست قصة تسلية ولكنها قصة عظة وعبرة، سيما حينما تتكلم عن منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

وسوف يكون كلامنا عن سيرة نبينا موسى عليه الصلاة والسلام.

أسباب اختيار قصة موسى عليه السلام

أولاً: تعتبر قصة موسى أكثر قصة تكررت في القرآن العظيم؛ لما فيها من العظة والعبرة، لاسيما في بني إسرائيل الذين طال عنادهم لموسى عليه الصلاة والسلام، واستمر مدة طويلة من الزمن إلى أن قضى الله عز وجل أمراً كان مفعولاً.

ثانياً: أن موسى عليه الصلاة والسلام عالج فرعون وجنوده أشد المعالجة، فلم يعرف التاريخ رجلاً أشد طغياناً منه؛ لأنه زعم الإلهية لنفسه، وأنكر إلهية الخالق سبحانه وتعالى.

وبالرغم من أن فرعون أنكر إلهية الخالق إلا أنه كان يؤمن بقرارة نفسه بإلهية الله عز وجل، وأنه هو ليس إلهاً، لكنه يريد أن يستعبد أمة، وهذا المنهج هو الذي يتكرر عبر التاريخ الطويل، فكل من أراد أن يستعبد أمة ويستذلها لابد من أن يبعدها عن الإيمان بالله عز وجل، كما فعلت الشيوعية التي سقطت في عصرنا الحاضر.

إذاً منهج الذين يريدون أن يذلوا الأمم هو أن يحولوا بينها وبين الله عز وجل، ولذلك فرعون -لعنه الله- كان يؤمن في قرارة نفسه بالله عز وجل، بدليل قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، فالله عز وجل فطر كل الناس على الإيمان به سبحانه وتعالى، ومعنى ذلك أن قول فرعون: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] إنما هو تغطية للحقيقة، والدليل على ذلك أن فرعون صرح في آخر لحظة من لحظات حياته لما أيس من مهمته وفكرته الخاطئة، فقال حينما أدركه الغرق: آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس:90] ومع أن فرعون كان جباراً ومفسداً في الأرض إلا أن رحمة الله عز وجل قد تدرك من كان على مثل هذه الشاكلة، فقد أرسل الله عز وجل له رسولين اثنين موسى وهارون عليهما السلام، وأمرهما باللين بالرغم من قسوة هذا الجبار العنيد فقال: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

ثالثاً: أن موسى عليه الصلاة والسلام أعظم أنبياء بني إسرائيل، ومن أولي العزم الذين هم أفضل الأنبياء، وهم خمسة عليهم الصلاة والسلام، وشريعته وكتابه التوراة مرجع أنبياء بني إسرائيل بعده وعلمائهم، وله من القوة العظيمة في إقامة دين الله والدعوة إليه والغيرة العظيمة ما ليس لغيره.

رابعاً: أن بني إسرائيل أقرب الأمم إلى الإسلام، فلم يأت بعدهم إلا هذه الأمة، فأمرت هذه الأمة أن تأخذ منهم العظة والعبرة، سيما أن قصة بني إسرائيل تحتوي على الكثير من الدروس العظيمة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول لقومه ولنا: (لقد كان فيمن كان قبلكم)، والمراد بذلك بنو إسرائيل.

أما بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام ولحياته ولمنهجه فقد كان تكملة لحياة بني إسرائيل؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام هو -أيضاً- بعث إلى بني إسرائيل، فآمن به من آمن، وسموا أنفسهم النصارى؛ لأنهم ناصروا عيسى عليه السلام، فتعتبر حياة عيسى تكملة لحياة موسى عليه الصلاة والسلام.

وقوع ما كان يحذره فرعون

حياة موسى كحياة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بدأت بشدة، ومن منطلق قسوة، ولكنها بدأت -أيضاً- بتحدٍ عنيف من الله عز وجل لهذا الطاغية، فقد تحدى الله عز وجل فرعون بتحديات كثيرة، ففرعون رأى في منامه رؤيا، فسأل عن ذلك المنجمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً في بني إسرائيل سوف يولد يكون سقوط عرشك على يده. فقرر قتل الأبناء الذكور كافة واستبقاء النساء، ثم بعد ذلك لما رأى أنه سوف يقضي على النسل صار يقتل الذرية من الذكور عاماً ويبقيهم عاماً آخر، لكنه بالرغم من هذه الفكرة يولد موسى عليه الصلاة والسلام في العام الذي يقرر فيه القتل، لا في العام الذي يستبقي فيه الذكور، وهو الرجل الذي سيسقط حضارة الفراعنة، ويقيم العدل في المعمورة، ويقضي على الطغيان الذي مضت عليه السنون الطويلة، وهذا زيادة ونكاية في التحدي لفرعون.

والعجيب أن الله عز وجل يأمر أم موسى عليه الصلاة والسلام أنها إذا خافت عليه أن تلقيه في اليم، وهذا خلاف القاعدة المتبعة التي يستخدمها الناس للمحافظة على أطفالهم، فلا يوضع الطفل في البحر إذا خيف عليه، وإنما يوضع في غرفة وتقفل عليه الأبواب، هذه هي القاعدة المتبعة في حماية الأطفال من البلاء والفتن، فمتى كان الإلقاء في اليم يعتبر أمناً لطفل من الأطفال ما زال رضيعاً؟! لكن في هذا مزيدٌ من التحدي لفرعون: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7] وأراد الله عز وجل أن يري فرعون وأن يعلم الناس أن كل الاحتياطات التي تتخذ لابد من أن يبطل مفعولها حينما يريد الله عز وجل أمراً من الأمور.

ويزيد هذا التحدي فيذهب من اليم إلى قصر فرعون، وفرعون -كما هو معلوم- متعطش لدماء بني إسرائيل، ثم يدخل قصر فرعون هذا الطفل الذي يتأكد فرعون أنه إسرائيلي لا محالة؛ لأن علامات التكتم موجودة وظاهرة، وذلك حينما وضع في تابوت، فيلقي الله عز وجل عليه المحبة، وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيته سيكون على يدي هذا الطفل حينما يكبر، ولا يشعرون مكر الله عز وجل بهؤلاء الماكرين الطغاة الظلمة، قال تعالى: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [القصص:9]، ولذلك يتربى هذا الطفل في قصر فرعون وفي رعايته وفي كنفه وفي حجره كما يتربى ولد أي إنسان، لكنهم لا يعرفون عاقبة أمرهم.

ثم نجد أن رعاية الله عز وجل تتابع موسى عليه الصلاة السلام متابعة دقيقة، فيحرم الله عز وجل عليه المراضع، فكلما عرض على مرضعة لترضعه يأبى أن يقبل ثديها حتى يصل إلى أمه لترضعه وتأخذ عليه الأجرة، وهكذا تدركه عناية الله عز وجل منذ أيام الطفولة، وهكذا يربي الله عز وجل أولياءه المتقين، يقول الله عز وجل: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص:12-13] وبناءً على ذلك نقول: إن الله عز وجل إذا أراد أن ينفذ أمراً من أوامره لا يمكن لأي إنسان أن يقف في وجه هذا الأمر أو يحول دون تنفيذه؛ لأن الله عز وجل له الأمر من قبل ومن بعد.

تأييد الله للمستضعفين

تعتبر حياة موسى عليه الصلاة والسلام في بدايتها حياة تتسم بالشدة، لكنها تمتاز بالتحدي من الله عز وجل لفرعون ولآل فرعون الذين قال الله عز وجل فيهم: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].

إن على المستضعفين في الأرض أن يستشعروا بأن القوة ليست للبشر وإنما هي لله عز وجل، فمهما أظلمت الحياة، ومهما انتفخ الطغيان في الأرض، ومهما تجبر وتكبر، ومهما علا وارتفع فإن له نهاية؛ لأن الطغيان كالزبد يذهب جفاءً، كما أخبر الله عز وجل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].

ولربما يرهب الناس -كما هو في عصرنا الحاضر- من الطغيان الذي سيطر على جل المعمورة، وأصبح المؤمن يعيش فيها مخفوض الرأس، وأصبح طغاة البشر ووحوش البشرية يرفعون رءوسهم ويلغون في دماء المسلمين، ولربما دب اليأس إلى واحد من الناس، سيما ضعفاء الإيمان، والذين لم يقرءوا تاريخ البشرية، أو الذين ضعف يقينهم بموعود الله عز وجل وأنه سيعيد للأمة الإسلامية في يوم من الأيام تاريخها المجيد ومجدها التليد، سيما بعد هذه الإرهاصات الشديدة التي لا يكاد المسلم يرى فيها الإسلام قد ارتفع في أرض من أرض الله إلا ويفاجأ بالقمع والذلة والإرهاب لهذه الأمة الإسلامية، فقد يدب اليأس إلى واحد من المسلمين، ثم بعد ذلك تكون الحيرة وعدم الثقة بنصر الله عز وجل.

يقول الله عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5] وهذا أمر صعب، أمم لا يستطيع أحد فيها أن يقول كلمة الحق التي يعتقدها في قرارة نفسه، بل إنه يخشى من ظله، أمة تعيش على الاستعباد والذلة لمدة من الزمن، ولكن الله عز وجل جعلهم أئمة، فما مضت سنون قليلة حتى كبر هذا الطفل الذي ولد ليكون منقذاً للبشرية وقتئذ، ليقضي على ذلك الحكم الجائر، ويخلص الأمة المستضعفة في الأرض، ولما انحرفت تلك الأمة عن الجادة وحادت عن طريق الحق والاستقامة واستمرت في طغيانها أزالها الله عز وجل وخلفتها أمم خير منها لتكون لها الإمامة في الأرض، يقول الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6].

منهج موسى عليه السلام في التغيير

عاش موسى عليه السلام في تلك البيئة الظالمة الغاشمة التي هي بيئة مصر والتي كان يتسلط فيها فرعون والأقباط معه على المستضعفين من بني إسرائيل، ولكنه لم يقر هذا الظلم، بل سعى سعياً حثيثاً إلى التغيير وإصلاح مجتمعه، ومنهج المرسلين والمصلحين لا يبدأ بالإصلاح الديني فحسب، لكنه يبدأ في الحقيقة بالإصلاح المادي، فحينما يقوم المصلحون بإنقاذ مجتمعاتهم من أخطاء يقع فيها أقوامهم يقومون بإنقاذهم مما هم فيه من الذلة والمهانة، حينئذٍ يستطيعون أن يكسبوا الناس إلى صفهم قبل أن يتسلموا القيادة والريادة، وهذا هو المنهج الذي ربى الله عز وجل عليه موسى عليه الصلاة والسلام، فقد كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر مستذلين مستضعفين، ولذلك انتصر موسى عليه السلام للإسرائيلي ليدفع عنه شر القبطي، يقول تعالى: فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:16] ولاشك أن قتل النفس إثم، لكن حينما تكون هذه النفس آثمة فإنها تستحق القتل؛ لأن قتل المفسدين في الأرض يعتبر نوعاً من الإصلاح، والله تعالى يقول: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251] ويقول تعالى أيضاً: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41].

فقام موسى عليه السلام بإقرار العدل حتى تكون له يد عند القوم قبل أن يصل إلى المهمة الكبرى التي أعدها الله عز وجل له، فانتصر للحق من الباطل، وقضى على رجل الباطل المستذل لخلق الله المستعبد لهم في الأرض.

هجرة موسى عليه السلام إلى مدين وقصته مع المرأتين

هذه المرحلة تبدأ من الهجرة الطويلة من مصر إلى فلسطين، وبالرغم من أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يكن له علم بالطريق لكنه لجأ إلى الله تبارك وتعالى وقال: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]، ويسير في طريق طويلة مهاجراً إلى الله عز وجل، ليس هروباً -وإن كان عنده شيء من الخوف من آل فرعون- لكنه بأمر من الله عز وجل يهاجر من مكان إلى مكان، ثم يسير في صحراء سيناء مدة من الزمن حتى يصل إلى بلاد مدين.

وهناك في بلاد مدين وجد قوماً كثيرين من الناس يسقون مواشيهم، ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفان غنمهما عن الماء، فقال موسى عليه السلام لهما: ما شأنكما تمنعان الغنم من ورود الماء؟ ولم لا تستقيان مع السقاة؟

قالتا: من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاة مع أغنامهم عن الماء، ولا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء، ولا نريد مخالطة الرجال، وأبونا رجل مسن لا يستطيع بضعفه أن يباشر سقاية الغنم، ولذلك اضطررنا إلى أن نستقي بأنفسنا. قال تعالى: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]

هاتان المرأتان قيل: إنهما ابنتا شعيب عليه الصلاة والسلام. وقيل غير ذلك، فقد أخبرتا كيف تخرج المرأة، وكيف تمارس عمل الرجال، إنها لا تفعل ذلك إلا عند الضرورة والحاجة، ومبرر خروج هاتين البنتين أن أباهما شيخ كبير، فلا يستطيع أن يرعى الغنم، ولم تخرج هاتان البنتان إلا في حشمة، فلم تفكرا في مزاحمة الرجال حينما خرجتا للضرورة الملحة، فقد كانتا بعيدتين عن مزاحمة الرجال، حتى إذا انتهى الرعاء وسقى كل الرجال غنمهم قامت بعد ذلك هاتان المرأتان بسقي الغنم، فلا تخرج المرأة إلا عند الحاجة والضرورة الملحة، وإذا خرجت فيجب أن تتقيد بقيود المرأة المؤمنة المسلمة، بحيث لا تزاحم الرجال ولا تقضي حاجتها إلا حينما ينتهي الرجال، لكن على هؤلاء الرجال أن يكون عندهم أنفة وأن تكون عندهم رجولة، بحيث يعطون هذه المرأة حقها حتى لا تتأخر كثيراً حينما تضطر أن لا تزاحم الرجال.

وقد خدع أعداء الإسلام المرأة اليوم، فزعموا أن الإسلام ظلم المرأة، وأن الإسلام يهضمها حقها، وأن المجتمع المحافظ -كمجتمعنا- مجتمع معطل النصف لا يتنفس إلا برئة واحدة، فهم ينطلقون في الظاهر مطالبين بحقوق المرأة وحريتها المهضومة كما يزعمون، ولكن هؤلاء القوم يريدون في الحقيقة أن يصطادوا المرأة في الماء العكر، ويريدون منها أن تفسد أخلاقها، وأن تسقط في الحضيض، ويريدون أن يدمروا هذه الأمم تدميراً، فكم اتهمت صحفنا اليوم الإسلام بالتأخر والتقوقع والتخلف، واتهمت الحجاب بأنه من مخلفات القرون البائدة، واعتبرت المجتمع الذي يصون كرامة المرأة ويحافظ على كيانها مجتمعاً متخلفاً يجب القضاء عليه في أقرب وقت ممكن.

فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذه الشعارات الزائفة التي تهدف إلى اغتيال عفة المرأة وشرفها، حتى وإن كان الذين يروجونها من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية.

لقد ظلمت المرأة في عصرنا الحاضر ظلماً لم يشهد له التاريخ مثيلاً، فحملوها الأعباء والتكاليف الشاقة التي لا يمكن أن يقوم بها إلا الرجال، وخلطوها مع الرجال على مدرجات الجامعة، وفي فصول الدراسة، وفي الأسواق، وداخل مكاتب الوظيفة، وفي كل أمر من الأمور.

فالمسألة هي مسألة مؤامرة على الإسلام، وفي ملة رجال مدين الذين لم يدركوا الإسلام لم تكن المرأة تختلط مع الرجال لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، إذاً ليس هذا هو منهج الإسلام فقط عند خروج المرأة للحاجة والضرورة الملحة، لكنه منهج الملل والأديان كلها منذ أن خلق الله البرية وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، أما الذين يطالبون بحقوق المرأة في عصرنا الحاضر ويزعمون أن لها حقوقاً مهضومة، وأنها معطلة، وأن حريتها قد تعدى عليها الرجال في ظل الإسلام فهم مجرمون يقول الله عز وجل عنهم: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]

فعلينا أن نحذر سموم هؤلاء، وأن لا نغتر بدعاياتهم الكاذبة وشعاراتهم الزائفة، فإن الأمر واضح، فالملل كلها تعتبر بقاء المرأة في بيتها -إلا عند الحاجة- صيانة لها، وإن الجاهليات منذ خلق الله البشرية إلى يوم القيامة هي التي تريد أن تتخذ من المرأة وسيلة للدمار والإفساد وإشاعة الفاحشة في أوساط المجتمعات المحافظة.

القوة والأمانة في شخصية موسى عليه السلام

أما موسى عليه الصلاة والسلام فقد كان رجلاً يعدّه الله عز وجل للرسالة، فكان لابد من أن ينكر هذا المنكر الذي شاهده في بلاد مدين كما أنكر المنكر في مصر، ولابد من أن تأخذ المرأة بنصيبها في منأى عن الرجال، فاستعمل قوته التي منحه الله عز وجل إياها فسقى لهما، ثم رجعت الفتاتان إلى أبيهما مسرعتين، فيستغرب الأب كيف وصلتا في وقت مبكر، وكيف استطاعتا سقي الغنم في هذه المدة الوجيزة، مع أنهما لا يخالطن الرجال، ومن عادتهما الإبطاء! فسألهما عن السر فأخبرتاه عن قصة الرجل الصالح الذي استعمل قوته فسقى لهما، فما كان من رجل مدين إلا أن أرسل إحدى البنتين -وهي- أيضاً -ضرورة ثانية- لتأتي بهذا الرجل الذي سقى لهما؛ لأنه لم يكن له أبناء ذكور.

وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد جلس في ظل شجرة عند ذلك الماء يتوسل إلى الله عز وجل، ويسأله من فضله أن يمن عليه بمن يؤويه من هذا الظلم الذي هرب منه في أرض مصر، فيقول مناجياً ربه سبحانه وتعالى: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، ثم يسعفه الله عز وجل بعودة إحدى هاتين البنتين اللتين سقى لهما تمشي على استحياء، فعلى المرأة المسلمة أن تمشي بحياء وخجل محتشمة غير متبرجة، فإن الحياء يعتبر هو الصفة البارزة في المرأة، ويعتبر الحياء -كذلك- من أخص خصائص أمة الإسلام، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لكل أمة خلقاً، وإن خلق أمتي الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً).

ولما سأل عليه الصلاة والسلام ابنته فاطمة رضي الله عنها عن أحسن ما تكون المرأة. قالت: (أن لا ترى الرجال ولا يرونها).

فالحياء صفة لازمة للمرأة دائماً وأبداً حتى قبل الإسلام فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، فليست تمشي في وسط الطريق، وليست تمشي متبرجة، وليست تمشي وقد فقدت أهم مقومات المرأة وهو الحياء، وليست تمشي متبخترة متبرجة متطيبة تفتن الرجال، لكنها تمشي على استحياء، ثم تقول لموسى عليه السلام بأدب وحياء: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25].

ثم يسير معها موسى عليه الصلاة والسلام، ويظهر بعد ذلك أدب الرجال وحياؤهم كما ظهر في النساء، فكانت هذه الفتاة تسير أمامه تدله على الطريق، فرأى أن الريح سوف ترفع ثوبها لتكشف شيئاً من ساقيها، فقال: أنا أسير أمامك وأنتِ تسيرين خلفي وتدليني الطريق يميناً أو شمالاً. ففهمت هذه المرأة أن هذا الرجل أمين إضافة إلى أنه رجل قوي، فالقوة شاهدتها في موسى عليه الصلاة والسلام حينما زاحم الرجال وغلب أشداء الرجال بقوته الجسمية، ورفع الغطاء الذي يوضع على البئر ليسقي لهاتين البنتين، أما الأمانة فقد رأتها منه حينما جعلها تسير وراءه بدل أن تسير أمامه حتى لا تكشف الريح ثوبها فيرى شيئاً من بدنها، فلما جاءت إلى أبيها قالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، وهكذا ربى الله عز وجل موسى عليه السلام ليكون رسولاً إلى أعظم طاغية وطئ الأرض وأشد جبار عرفه التاريخ.

وبناءً على ذلك لابد لكل من تولى أمراً من أمور المسلمين -سواءٌ الولاية الكبرى أو ما دونها، حتى رعاية الغنم- لابد له من أن يتسم بهاتين الصفتين: القوة والأمانة، أما القوة فتتمثل في قول الحق وقوة الجسد وقوة العقل، أما الأمانة فتتمثل في التقى والصلاح والاستقامة، وإذا فقدت القوة والأمانة ضاعت الدولة، وتجرأ عليها أعداؤها، وأصبحت عرضة للدمار والسلب والنهب؛ لأن قيادتها غير حكيمة وغير أمينة، فالولايات الكبرى والسلطة العامة لا تنقاد إلا للرجل الصالح القوي الأمين، فالقوة قوة العقل والتفكير وقوة الجسد والقوة في قول الحق ودحر الباطل، والأمانة معناها أن يخلص في قيادة هذه الأمة، وإذا لم تتوافر هذه الصفات في الولاة وانتشرت الفوضى في أوساط الرعية وعمت البلبلة وسيطر الظلم كانت العاقبة الحرمان من الجنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).

ولذلك لا عجب من أن يكون أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل، الذي يحكم في الناس بشرع الله عز وجل، ويرفض كل ما يتنافى مع شرع الله عز وجل، ويعتبر الولاية مسئولية عظيمة ينبغي أن يقوم بها على أكمل وجه، وأنها تكليف لا تشريف، ويعتبرها عبئاً ثقيلاً كما اعتبرها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلما بويع له بالخلافة صعد المنبر وقال خطبة علم من خلالها القادة إلى يوم القيامة مدى عِظم مسئولية الخلافة التي تحملوها، فقال في مستهل خلافته: (أيها الناس! إني قد وليت عليكم وليست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني) ثم يبين ميزان العدل في الأرض، وهي الميزة التي لابد من أن يتصف بها كل من ولي أمراً من أمور المسلمين فقال: (القوي منكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).

هنا تبرز القيادة الصحيحة التي تنطلق من الوحي ومن مشكاة النبوة، والتي تعتبر مضرب المثل في التواضع، والحرص على العدالة، والتزام التقوى، وإدارة شئون الحكم طبقاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فيرون أن الخلافة عبئاً وأمانة يقومون على أداء مهامها بما يرضي الله سبحانه وتعالى.

أما الذي يعتبر أمر المسلمين غنيمة وفرصة للتمتع والتكبر والغطرسة فقد خان الأمانة، وعرض نفسه يوم القيامة للخزي والندامة، ويعتبر ذلك علامة من علامات الساعة، وحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

فإذا كان أمر المسلمين بأيدي الفسقة والمارقين من الدين فمعنى هذا حلول النكبات المتتابعة على الأمة، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك خصالاً إذا فعلتها هذه الأمة حل بها البلاء، وذكر من هذه الخصال: (إذا ساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم) فإذا كان ذلك حينئذٍ يقول عليه الصلاة والسلام: (فانتظروا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً، وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع) أي: كالمسبحة حينما ينقطع خيطها فتخرج خرزة بعد الأخرى حتى تنتهي. ومعنى ذلك أن النكبات سوف تتابع على هذه الأمة إذا كان زعيم القوم أرذلهم وساد القبيلة فاسقهم.

إذاً لابد في كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين من أن يكون قوياً أميناً، ابتداءً من رعاية الغنم التي هي مهنة موسى عليه الصلاة والسلام بادئ ذي بدء إلى رعاية العالم، وما أكثر ما ينطلق رعاة الغنم ليكونوا هم قادة العالم، فكثيراً ما يربي الله عز وجل أنبياءه على رعي الغنم، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم. كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).

فمعنى ذلك أن رعاية الغنم هي البداية لقيادة الأمم، فإذا كانت رعاية الغنم تحتاج إلى القوة والأمانة فمن باب أولى رعاية البشر، حتى يطبق شرع الله في الأرض، ولذلك جعل الله تعالى صفات من ولاه أمراً من أمور المسلمين ومكن له في الأرض إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نجد أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما طلب شيئاً من حكم مصر قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، فالحفظ والعلم والقوة والأمانة هي الصفات التي يجب أن يتصف بها كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين.

قبسات من حياة موسى عليه السلام أجيراً

ولما علم رجل مدين أن موسى عليه الصلاة والسلام يتصف بالقوة والأمانة اتفق معه على أن يكون راعياً للغنم مدة ثماني سنين، وإن أتم عشراً فذلك فضل من موسى عليه الصلاة والسلام وليس بواجب، أما الأجرة فإنه يزوجه إحدى ابنتيه.

وليس عجيباً أن يكون مهر هذه البنت خدمة تساوي عشر سنوات أو ثماني سنوات؛ لأنها امرأة صالحة، وحينما تضطر إلى الخروج تخرج على استحياء، وحينما تريد أن تكلم الرجال للحاجة والضرورة إنما تكلمهم على استحياء، ولا تسقي حتى يصدر الرعاء، ومن هنا ندرك الفرق الشاسع بين المرأة الساقطة والمرأة الكريمة، فالمرأة الساقطة لا تساوي شيئاً في مهرها، ولذلك لا عجب حينما نسمع أن المرأة في بريطانيا التي سقطت في أوحال الرذيلة أصبحت لا تساوي جنيهاً إسترلينياً في مهرها، وأن المرأة في البلاد المحافظة يبذل في سبيل الحصول عليها الشيء الكثير، فحينما تكون هذه المرأة كريمة محافظة على دينها وأخلاقها فإنها تستحق أعظم مهر، ولا يعني ذلك أن الأمة يجب أن تغالي في المهور بمقدار تمسك المرأة بدينها، بل إن الأمة في عصرنا الحاضر بصفة خاصة مطالبة بتيسير تكاليف الزواج وتقليل المهور، وذلك لتعدد وتنوع الوسائل التي تهدف إلى إبعاد الشباب عن دينهم، وإفساد أخلاقهم، ونشر الفاحشة في أوساطهم، فهناك الإعلام المدمر، وهناك المجلات والصحف السقاطة، وهناك الرفقة المنحرفة، ومن أنجع الحلول لتخليص الشباب من ذلك هو تحصينهم بالزواج.

وكثيراً ما يشتكي العمال من أصحاب العمل الذين يهضمون حقوقهم، ولربما لا يؤدون رواتبهم وأجورهم، ولربما ينهبون عرقهم، ولربما يستغلون ضعفهم كونهم في بلاد غير بلادهم وفي غربة، ثم يؤدي ذلك إلى ظلم عريض وشر مستطير، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وليس معنى ذلك أعطاء الأجير أجره وهو في حال العرق، ولكن المقصود هو المبادرة في إعطاء الأجير أجره، وعدم ظلمه بتأخير الأجر الذي يستحقه، وقد جاء الوعيد العظيم من الله تبارك وتعالى فيمن ظلم أجيره بأخذ شيء من حقوقه، جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن الله عز وجل: (إن الله عز وجل يقول: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ...) وذكر منهم (رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره).

إن الشريعة الإسلامية كفلت حقوق العمال كاملة غير منقوصة، بخلاف الشيوعية التي تدعي المحافظة على حقوق العمال، فالإسلام يأمر بأن يعطى الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ويأمر صاحب العمل أن لا يهضم هذا الأجير شيئاً من حقه، كما أن صاحب العمل يطالب الأجير نفسه أن يؤدي الحق الذي التزم به، ولذلك الله تعالى يقول: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ [القصص:29] أي أن موسى عليه الصلاة والسلام التزم لرجل مدين بالوفاء بحقه كما التزم رجل مدين بأداء أجره، فسلم له زوجته التي اتفق معه على أن يكون مهرها خدمة عشر سنين.

فيجب على الأمة الإسلامية أن تحافظ على هذه العقود التي تبرمها، سيما حينما يشهدون الله عز وجل عليها، ولذلك لما أبرم العقد بين رجل مدين وبين موسى عليه السلام أشهد الله عز وجل على هذا العقد فقال: وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28]، فأصبح الوفاء بهذا العقد أمراً لازماً لكلا الطرفين، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].

إذاً معنى ذلك أن نظام العمل وحقوق العمال وأحكام الإجارة والاستئجار وأداء الأجور كل ذلك موجود في الشريعة الإسلامية، وليس الدين الإسلامي محصوراً في العبادات فحسب كما يظنه طائفة من الناس الذين لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فقد ابتلي عصرنا الحاضر بمن يسمون بالعلمانيين قاتلهم الله أنى يؤفكون، وهم في الحقيقة لا يستحقون هذه التسمية، حيث إنهم ينسبون أنفسهم إلى العلم، وهم أجهل الناس بتعاليم الإسلام وتشريعاته، ويريد العلمانيون إقصاء الشريعة الإسلامية عن جميع مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وحصر الدين في العبادة، وشعارهم في ذلك: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) وهذا المعنى الذي يصرح به العلمانيون ليس قائماً في الحقيقة، فهم لم يتركوا الإسلام ليكون منهج عبادة، بل هو مطارد داخل دور العبادة، وكذلك داخل مساجد المسلمين، لا يتنفس أحدهم إلا وتحصى عليه أنفاسه في كثير من الأحيان.

والإسلام جاء ليكون منهج حياة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وتعبدياً، ولا يمكن أن يصلح حال المجتمع وتستقيم أوضاعه إلا بتحكيم الشريعة الإسلامية في كل صغيرة وكبيرة، وفي كافة مجالات الحياة المختلفة، فدين الإسلام منهج حياة متكامل، ولذلك تجد أن آيات القرآن الكريم حينما تتحدث عن النواحي الاجتماعية والعلاقات الزوجية فإنه يتخلل ذلك الحديث عن العبادة، فمثلاً: في سورة البقرة تحدثت بعض آياتها عن أحكام تتعلق بالزوجة مع زوجها، ثم تخلل ذلك الحث على عبادة من العبادات، قال الله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237] ثم قال تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:238-239]، ثم تعود الآيات مرة أخرى للحديث عن الحياة الاجتماعية والأحكام المتعلقة بين الزوجين وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240].

ونجد أن القرآن الكريم يتحدث أيضاً عن السياسة، قال تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الشورى:38]، وقال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، ويتحدث ويحذر من الحكم بغير ما أنزل الله فيقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، ويقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، ويقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

ويتحدث كذلك عن الأنظمة الاقتصادية فيقول تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].

فهذا يدل دلالة واضحة على أن الإسلام كل لا يتجزأ، وأنه يجب على المسلمين أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].

وبعد الانتهاء من استعراض حياة موسى عليه الصلاة والسلام قبل النبوة نقول: إن على الأمة الإسلامية أن تأخذ من هذه القصص العظة والعبرة، وأن تتخذ منها منهج حياة؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما أوردها من أجل ذلك، وحتى لا تقع هذه الأمة فيما وقعت فيه الأمم السابقة التي تنكبت عن المنهج الصحيح الذي رسمه الله عز وجل لها، ثم كانت العاقبة العذاب والنكال والخسارة والبوار، فإن في أخبار الأمم ما يكفي للعظة والعبرة فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

والقوى المادية التي تعلقت بها تلك الأمم من دون الله عز وجل ما استطاعت أن تحميها قيد أنملة من عذاب الله عز وجل حينما نزل، ولذلك الله تعالى يقول: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، فعلينا وعلى ولاة الأمر الذين استرعاهم الله عز وجل أمور المسلمين العامة والخاصة، وعلى كل فرد من أفراد هذه الأمة أن نتقي الله، فإن العاقل من اتعظ بغيره، وإن لله عز وجل سنناً لا تتخلف سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا وسيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قبسات من حياة موسى عليه السلام للشيخ : عبد الله الجلالي

https://audio.islamweb.net