غزوة تبوك هي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد لاقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المشاق والمتاعب، وعانوا من قلّة الظهر والزاد، ولهذا سميت غزوة العسرة، ولذلك ففيها دروس وعبر عظيمة، ومن خلالها ظهرت حكم وتشريعات جليلة.
غزوة تبوك مواقفها ودروسها
سبب تسمية غزوة تبوك بهذا الاسم
بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد:فموضوع هذا الدرس عن آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهي غزوة تبوك، وإن الإنسان لينظر اليوم إلى حال إلى الأمة الإسلامية فيرى عجباً، ويقرأ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيرى فيها من العبر والعظات ما يجعل اقتفاء أثر تلك السيرة أمراً واجباًً علينا جميعاً، وحديثنا عن هذه الغزوة -إن شاء الله تعالى- سيكون حديثاً موجزاً؛ لأن هذه الغزوة تحتاج إلى عدد من الدروس، وما دمنا سنوجز فسنضطر أحياناً إلى الاختصار، سواء كان في السياق أو في بعض الدروس.وأقول في البداية: إن أول قضية سنعرض لها هو مجمل مختصر لسياق هذه الغزوة: هذه الغزوة سميت بغزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم متوجهاً إلى جهة الشام وكان في منطقة المنتصف بين المدينة ودمشق تقريباً قال صلى الله عليه وسلم: (إنا قادمون غداً إلى عين، فمن وصل منكم إليها فلا يمسها)، ولكن سبق إليها اثنان فمساها، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على العين وجدها تسرب سرباً ضعيفاً، فقال للرجلين: (هل مسستماها؟ قالا: نعم. فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد كانا يبوكانها -أي: يحركانها- ليزداد ماؤها، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تمس حتى تبقى عيناً فائضة، فسميت الغزوة من هذه الحادثة؛ لأنهما كانا يبوكان العين، أي: يحركانها.
تاريخ وقوع غزوة تبوك
وهذه الغزوة كانت سنة تسع من الهجرة في شهر رجب، وكانت في وقت القيظ والحر الشديد، حتى قال الواصفون لها: إن الحر كان قد اشتد، وطابت الظلال والثمار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يتأهبوا لغزو الروم، والروم في عرف ذلك الزمان كانت أقوى دولة في العالم، سواء من جهة موقعها الجغرافي، أو من جهة نفوذها، فقد كانت متنفذة على كثير من نصارى العرب في شمال الجزيرة، بل وفي جنوبها. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً بالنفير، ولما كان الأمر كذلك، وكان النفاق قد اشرأب- كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى- أخذ يتباطأ بعض المنافقين، وأخذ المسلمون الصادقون يتهيئون للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحظ على النفقة، فأنفق الصحابة ما لديهم من مال، وتنافسوا في ذلك، ثم تجمع ذلك الجيش الكبير الذي بلغ -على أصح الروايات- أكثر من ثلاثين ألفاً، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الجيش قاصداً الروم في بلاد الشام.وفي أثناء سيره صلى الله عليه وسلم جرت له معجزات، وجرت له أحداث كثيرة جداً، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما وصل بجيشه إلى عين تبوك أقام في تلك العين قرابة عشرين يوماً، ولم يلق قتالاً، وإنما أرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل، فغزاه خالد بن الوليد ، وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراحه على أن يدفع الجزية، ثم صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب أيلة، وأهل جرباء، وأذرح، وأعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية، أما الروم فإنهم لم يقع بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد أن بقي تلك المدة رجع إلى المدينة النبوية ظافراً منتصراً قد أظهر هيبة الإسلام أمام الروم وأمام غيرهم.
سبب غزوة تبوك، وسبب تسميتها بغزوة العسرة
كان للمسلمين في هذه الغزوة العظيمة دروس وأي دروس! ولما كان استعراض تلك الغزوة يطول بنا فإننا آثرنا أن نقف بعد هذا العرض الموجز السريع عدة وقفات تبين شيئاً من أحداثها. وأول وقفة نشير إليها هنا هي: سبب هذه الغزوة، ولماذا سميت بغزوة العسرة؟ قال سبحانه وتعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [التوبة:117]. وقد ذكرت عدة أسباب لهذه الغزوة، لكن المتأمل لها يجد أنها أسباب ضعيفة.فقد قيل: إن نصارى العرب قالوا لـهرقل : إن هذا النبي قد مات، فأدرك دينك واهجم على جزيرة العرب. فاستعد هرقل لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الجزيرة، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على قتالهم.وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أنك ذهبت إلى بلاد الشام لأنها بلد الأنبياء وبلد المحشر. فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هناك استجابةً لقول هؤلاء، ونزل في ذلك قول الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:76]، ولكن أيضاً هذا القول ضعيف؛ إذ كيف يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من يهود وهو يعرف كذبهم وخداعهم؟كذلك أيضاً قيل: إن الروم جمعوا جموعاً لحرب النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الرسول أن يواجههم هناك. كذلك أيضاً قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما غزا هذه الغزوة ثأراً لابن عمه جعفر بن أبي طالب الذي استشهد في مؤتة.وكل هذه الأقوال ليس لها سند صحيح، فكل هذه الأسباب إما أسباب ضعيفة، وإما أسباب باطلة لا تليق بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويأتي السؤال هنا: إذاً ما هو سبب هذه الغزوة؟ والجواب: الحقيقة أن المتأمل لأحداثها ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد يجد أن سبب هذه الغزوة هو مشروعية الجهاد في سبيل الله، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم أصحابه من بعده، وأراد أن يعلم هذه الأمة أنه لابد من الجهاد في سبيل الله امتثالاً لقول الله تعالى: َوقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]. وامتثالاً لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لملاقاة الروم لإثبات أن هذا الدين هو الدين الحق، وأن هذا الدين هو الذي يجب أن يسود في الأرض، وأن المسلمين واجب عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله، وأن لا يتركوا الجهاد أبداً، ومن ثَّم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا). إذاً: هو تخطيط من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخطيط دقيق في آخر غزوة غزاها، حيث أراد أن يعلَّم المسلمين أن الإسلام وأن الفتوحات يجب أن تنتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الذي فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما توقفوا رضي الله عنهم بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى في مكان، وإنما امتدت الفتوحات إلى بلاد فارس، وإلى بلاد الروم، وإلى مصر، وإلى مشارق الأرض ومغاربها، وصلوا إليها فاتحين مجاهدين في سبيل الله، ينشرون العدل والتوحيد والإيمان والحكم الإسلامي الذي يبنى على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم حين تخضع البلاد لحكم المسلمين ولهيمنتهم لا إكراه في الدين بالنسبة لأهل الكتاب في غير جزيرة العرب، ولهذا فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة علم أمته ذلك.وهذه الغزوة سميت غزوة العسرة؛ لأنها تميزت بجوانب مختلفة عن غيرها من الغزوات، ومن ذلك: أولاً: أنها كانت في شدة الحر، وفي لهيب القيظ المحرق، ولقد وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما وجدوه، حتى قال قتادة : خرجوا إلى الشام في تبوك في لهيب الحر على ما يعلم الله من الجهد، حتى ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، وهكذا.ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فنزلنا منزلاً، فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع من شدة الحر). ثانياً: أنه كان في هذه الغزوة سفر بعيد، وليست غزوة يصلون إليها خلال يوم أو يومين، كما قال تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [التوبة:42]، فكان السفر بعيداً. ثالثاً: أن العدو خطير، وهو الروم بجيوشهم وعتادهم وسلطانهم ونفوذهم، ولقد كانت قلوب المنافقين تتقطع في المدينة خوفاً من مواجهة الروم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. رابعاً: أن الجيش الإسلامي كان جيشاً ضخماً يحتاج إلى مؤن، ويحتاج إلى استعداد، والمسلمون في غاية الحاجة والفقر. ولهذه الأسباب كانت هذه الغزوة غزوة عسرة، وقد تربى فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيما تربية، ولهذا كانت هذه الغزوة فيها من العبر وفيها من الدروس وفيها من مواقع التربية الشيء الكثير.
بعض دلائل النبوة التي وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك
الوقفة الثانية: الآيات ودلائل النبوة التي وقعت في هذه الغزوة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في هذه الغزوة التي اشرأب فيها النفاق يؤيده الله سبحانه وتعالى بأنواع من المعجزات، ونذكر نماذج من ذلك: ففي بعض الأماكن وهم في سيرهم إلى تبوك أصبح المسلمون ولا ماء، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، فنشأت سحابة في الحال فأمطرت المسلمين حتى ارتووا، وكان ذلك آية من آيات صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ستهب في هذه الليلة ريح، فلا يخرجن أحدكم إلا ومعه رفيق له)، فهبت تلك الريح في تلك الليلة، والتزم المسلمون بذلك الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنين منهم، حيث ذهب واحد منهم وحده ليقضي حاجته، فأصيب بالخنق وهو يقضي حاجته فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد فشفي.وأما الثاني فحملته الريح إلى جبال طيء، ثم فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فدا الأسرى فيما بعد. كذلك أيضاً من الآيات المعجزات أن النبي صلى الله عليه وسلم ضلت ناقته، وبحث الصحابة عنها فلم يجدوها، فتكلم المنافقون وقالوا: هذا رسول الله يزعم أنه يوحى إليه من السماء ولا يدري أين ناقته، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (والله! إني بشر لا أعلم إلا ما يوحي الله إلي، وإن الله قد أوحى إلي الآن أن ناقتي في وادي كذا قد حبس خطامها في جذع شجرة)، فذهب الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الوادي فوجدوها كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها أيضاً أن المسلمين أصبحوا ولا ماء عندهم، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوه بماء قليل، فوضع يده المباركة فيه فنبع الماء من بين يديه عليه الصلاة والسلام. إنها آيات بينات، ومعجزات ودلائل تضيء لمن استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق خاصة في هذه الغزوة العظيمة التي بلغ فيها الجهد من المسلمين مبلغاً عظيماً، ولهذا كان من تلك الآيات البينات أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل قال له الرسول: (إنك ستجد أكيدر يصيد البقر)، أي: بقر الوحش. يقول أكيدر نفسه: فلما كان من الليل سمعت البقر- أي: بقر الوحش- تضرب بقرونها باب القصر. تصور الغزلان التي تستوحش من كل شيء جاءت إلى باب القصر لتضرب بقرونها، فقالت له زوجته: يا أكيدر ! أما تسمع؟ إن هذا لعجب! فقال لها: نعم. قالت: وهل يترك هذا؟ فحمل على فرسه، وأخذ معه بعضاً من أهل بيته، وذهب ليلحق ببقر الوحش فإذا خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه قد أقبل عليه فأمسك به.ومنها أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بأنواع من علامات الساعة، ففي هذه الغزوة أخبرهم ببعض العلامات، وذكر منها موته عليه الصلاة والسلام، وفتح بيت المقدس، وذكر منها: (موتان يصيب الناس كقعاص الغنم) .وذكر منها: (أن المال يكثر حتى يعطى الرجل مائة دينار ولا يزال ساخطاً). وذكر منها هدنة تكون بين المسلمين وبين بني الأصفر، كما أنه أيضاً قال عن عين تبوك: (لئن طال بك المقام لتجدن هذا المكان عيناً معيناً)، وهذا مشابه لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الآخر أنه: (لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً)، وهذا في صحيح مسلم .
بروز خطر النفاق في غزوة تبوك
الوقفة الثالثة: هي أهم وقفة مع غزوة تبوك وأعظمها وأخطرها، ألا وهي بروز النفاق وخطره في هذه الغزوة. ونحن نعلم جميعاً أن النفاق إنما يوجد ويكثر ويشتد خطره حينما تكون مع المسلمين العزة والنصر، ففي مكة لما كان المسلمون مستضعفين لم يكن هناك منافقون، لكن لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وضرب الجاهلية والمشركين ضربته الكبرى في غزوة بدر بدأ النفاق، وقال عبد الله بن أبي ابن سلول : هذا أمر قد توجه. وأظهر نفاقه. ثم بعد ذلك ما زال النفاق ينقص قليلاً قليلاً حتى فتح الله على رسوله مكة، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، ودخلت القبائل في دين الله تعالى، فاعتز الإسلام وجاء نصر الله سبحانه وتعالى، فبدأ النفاق مرحلة جديدة.أيها الأخ في الله! إن من أخطر ما يمر بالمسلمين اليوم -والأخطار كثيرة- خطر النفاق الذي يتظاهر أصحابه بالإسلام وهم يحاربونه في الخفاء، ولهذا فإننا سنقف وقفات مع بعض أحداث هذه الغزوة، وننظر ماذا فعل المنافقون في هذه الغزوة، وسأقسم الكلام على النفاق إلى قسمين:القسم الأول: مواقف وأحداث من جانب المنافقين. والقسم الثاني: قصة مسجد الضرار.
نماذج من أحداث المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم
لقد وقعت من المنافقين أحداث عجيبة، وهاك نماذج منها:فأول موقف منهم هو أنه لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد صار هؤلاء المنافقون يثبطون المسلمين، ويقولون -كما قال الله تعالى حاكياً عنهم-: وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، فكان الواحد منهم يجتمع بالعدد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو منافق، ولا يُعلم بأنه منافق؛ لأنه يتظاهر بالإسلام- فيقول لهم: كيف يخرج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحر الشديد؟ الحادثة الثانية: أن بعض المنافقين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني ومن هؤلاء الجد بن قيس الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا جد ! هل لك في جلاد بني الأصفر؟) فقال الجد بن قيس : يا رسول الله! إنك تعلم أنني مغرم بالنساء، وإنني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن فأفتن عن ديني. فأذن لي يا رسول الله. فأنزل الله تعالى فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49] أي أنه قال: إنه يخاف من فتنة النساء وهو كاذب، فسقط في فتنة النفاق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.وهذا الرجل هو الذي قال لولده -وكان له ولد صحابي فاضل اسمه عبد الله-: ما لي وللخروج في الريح والحر الشديد والعسرة إلى بني الأصفر، فأنا أخالفهم في منزلي فأغزوهم، وإني لعالم بالدوائر! أي: ينتظر الدوائر برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له ولده صاحب العقيدة الصلبة: لا والله! ولكنه النفاق، والله لينزلن بك قرآناً. فضربه أبوه ضربة على وجهه بنعله، فانصرف عنه ابنه ولم يكلمه.ومن الحوادث أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتهيأ لتلك الغزوة علم أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن غزوة تبوك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم طلحة بن عبيد الله مع نفر وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم هذا ففعل، فاقتحم المنافقون جدران البيت وفروا. ومن الأحداث -أيضاً- أنه كان أولئك المتخلفون عن غزوة تبوك من المنافقين على قسمين: قسم منهم غلبهم الخوف والذعر والجبن والخور، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا بأن يكونوا مع الخوالف، وأذن لهم الرسول مع أنه يعلم نفاقهم، كما قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]. وقسم آخر من هؤلاء المنافقين قعدوا ولم يعتذروا، ولا شك أن قعودهم هذا فيه ما فيه من التثبيط للرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.ولم يكتف المنافقون بمثل هذا، بل سار بعضهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجفون بالجيش الإسلامي كلما سنحت فرصة.ومن ذلك أنه لما خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في أهل بيته أرجف المنافقون، فقالوا: ما ترك علي بن أبي طالب إلا استثقالاً له! فلما سمع بذلك علي بن أبي طالب أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أسمعت ما يقول أولئك؟! فقال صلى الله عليه وسلم له: أما ترضى -يا علي- أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، فرجع رضي الله عنه وأرضاه راضياً ممتثلاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومن ذلك أيضاً لمزهم للمتطوعين من المؤمنين في الصدقات، فلما جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه بأربعة آلاف دينار قال المنافقون: ما جاء بها إلا رياءً. ولما جاء صحابي آخر لا يملك إلا صاعين من تمر، فأبقى صاعاً لأولاده طعاماً وأتى بالصاع الثاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضعه بين يديه قال المنافقون: إن الله ورسوله غنيان عن صاعك هذا، فأنزل الله عز وجل: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79].ومن ذلك أيضاً أنه كان يقول بعض المنافقين للمسلمين: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض؟ والله! لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال. يقولون هذا إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، ولهذا كان هؤلاء الذين قالوا ما قالوا في أثناء الغزوة يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلص من أصحابه- أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء. فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:65-66].هكذا كانت أحوال المنافقين، ومن ذلك ما سبق ذكره قبل قليل حين أرجفوا بناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ضلت، ولم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أين هي إلا بعد أن أخبره الله سبحانه وتعالى.
إرادة المنافقين قتل النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك
وأخطر حادثة وقعت في هذه الغزوة هي ما فعلوه عند رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع منها وصل به المسير إلى عقبة، فتجمع عدد من المنافقين يزيدون عن العشرة وتلثموا، ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقود ناقته حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، فلحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة يريدون قتله، فلما رآهم عمار بن ياسر لحق بهم وصار يطاردهم بحربته حتى فروا، فأقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا عمار -وفي رواية: يا حذيفة !- هل تعلم القوم؟ قال: لا؛ إنهم كانوا ملثمين. فقال: هل تعلم ماذا كانوا يقصدون؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: لقد عزموا على أن يطرحوني في العقبة فيقتلوني).إنهم منافقون، وهكذا كانوا من قصة إلى قصة، ومن حادثة إلى حادثة يتنقلون فيها وهم داخل جيش المسلمين يصنعون ما ذكرنا من النماذج، وما أكثر النفاق في كل زمان وفي كل مكان! خاصةً حينما ترتفع للمسلمين رايةٌ وصحوة.
قصة مسجد الضرار
أما القسم الثاني فيما يتعلق بالمنافقين فهي تلك القصة العجيبة الغريبة المتعلقة بمسجد الضرار، ومسجد الضرار هذا مسجد بناه المنافقون قبل ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، حيث كان هناك رجل نصراني عربي اسمه أبو عامر الراهب ؛ سمي الراهب لأنه كان نصرانياً، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق، فهذا النصراني ذهب إلى هرقل ملك الروم وجلس معه يخططان لضرب المسلمين في داخل الجزيرة العربية، واتفقا على خطة معينة، فقال أبو عامر الراهب، لمن يسير على خطاه من المنافقين في المدينة: إنني لا أستطيع أن أرسل لكم الرسل يفضحون ويُعلم بحالهم، فما رأيكم لو أنكم بنيتم مسجداً؟ هذا المسجد يكون ظاهره أنه للصلاة، ولا يشك أحد فيه، ويكون في الحقيقة مكاناً نجتمع فيه، وإذا أرسلت إليكم رسولاً يجدكم في ذلك المسجد. فبنوا المسجد، وأتى المنافقون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله! إنا بنينا مسجداً للضعفة، وللناس في الليلة المطيرة والشاتية، وإننا نريد منك -يا رسول الله- أن تصلي فيه، يريدون أن يجعلوا من صلاة رسول الله صلى الله علي وسلم شهادة لهم وتغطية للدور الحقيقي الخفي الذي يريدون أن يقوم به هذا المسجد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عصمه الله من أن يصلي فيه، فقال لهم: (إنا مسافرون غداً إلى تبوك، ونصلي فيه إذا رجعنا إن شاء الله)، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أعلمه الله بحقيقة هذا المسجد، وأنزل فيه قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:107-110]. فلما نزلت هذه الآيات أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عدداً من الصحابة إلى ذلك المسجد فأمر بهدمه وإحراقه بما فيه.وهكذا حال مساجد الضرار التي ظاهرها للصلاة وللخير والدعوة، ولكن في باطنها ضرارٌ وكفرٌ وتفريقٌ بين المؤمنين وإرصادٌ لمن حارب الله ورسوله من قبل، وما أكثر مساجد الضرار في عالم المسلمين اليوم! وما أشد حاجتنا وحاجة المسلمين إلى أن نتدبر هذا الأمر ونتدبر هذه العظة من هذه الغزوة! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: لأنه مسجد تعالوا لنغير القائمين على المسجد ونضع فيه إماماً من عندنا ومؤذناً من عندنا. وإنما أمر بإحراقه؛ لأنه بني على أساس فاسد، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه أن ما أنشئ لغير وجه الله لا يكون فيه الخير أبداً.
قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك
الوقفة الرابعة مع هذه الغزوة وقفة مع قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وقصتهم مشهورة رواها البخاري في صحيحه عن كعب بن مالك أحد الثلاثة، ولما كانت القصة معروفة لدى الجميع فإنني أحب أن أقف معها وقفات، فأقول: أولاً: هؤلاء الثلاثة مؤمنون صادقون تخلفوا لأسباب من ضعف الإيمان في ذلك الوقت، وبقوا في المدينة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذر من اعتذر من المنافقين، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذرهم، إلا هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! ما لنا من عذر. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر هؤلاء الثلاثة، فهجرهم المسلمون لا يكلمونهم ولا يسلمون عليهم، وجرى لهم ما جرى، حتى أنزل الله عليهم التوبة، فتاب الله سبحانه وتعالى عليهم، كما قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118]. ونحب أن نقف مع قصة هؤلاء الثلاثة عدة وقفات؛ فإننا أحوج ما نكون في هذه الأيام إلى أن نقف هذه الوقفات، فأول هذه الوقفات هي مع أسباب تخلفهم.إن المتأمل لهؤلاء الثلاثة يرى عدة أنواع من الأسباب، أما أولهم -وهومرارة بن الربيع- فإن سبب تخلفه أنه كان له حائط -بستان جميل-، وكان في ذلك الوقت قد أزهر وأينع وأثمر، فصار ينظر إليه ويتردد هل يذهب مع الرسول أو يبقى مع حائطه حتى فاته الغزو. وأما الثاني -وهو هلال بن أمية- فكان له أهل قد تفرقوا، ففي ذلك الوقت اجتمع أهله وجمع من أقاربه في المدينة، فأحب أن يمكث معهم ويأنس بهم، وتردد في الذهاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاته الغزو.وأما الثالث -وهو: كعب بن مالك- فإن سبب تخلفه هو التردد، فقد كان كل مرة يريد أن يتأهب، ثم يحاول أن يتأهب فما يصنع شيئاً، فيعود مرة ثانية، وهكذا في اليوم الأول والثاني والثالث حتى فاته الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن أحد الصحابة -وهو أبو خيثمة - تداركه الله سبحانه وتعالى برحمته فلم يجعله مع هؤلاء الثلاثة، وإن كانت له قصة مشابهه لقصتهم، فإن أبا خيثمة لما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ذهب إلى بيته، فوجد أن زوجتيه قد صنعت كل واحدة منهما عريشاً ورشته بالماء، وأتت بالطعام الطيب، فلما وقف نظر إلى هذه الزوجة وقد أحسنت في صنعها وهيأت أطايب الظلال والثمار، ونظر إلى الأخرى فإذا بها قد صنعت مثل ذلك، فتوقف، واستيقظ الإيمان في قلبه رضي الله عنه فقال: سبحان الله! رسول الله صلى الله عليه وسلم في الريح وحر القيظ وأبو خيثمة مع زوجتيه في ظل بارد وثمر طيب، والله لا يكون هذا، والله لا دخلت بيت إحداكن إلا وقد هيأت لي ما أتزود به. ولم يدخل بيت واحدة منهما حتى هيأتا له زاده وراحلته، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما زال يسير ويسير حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في تبوك بين أصحابه، فأقبل رجل من بعيد، فقالوا: يا رسول الله! هذا راكب قد قدم. فقال صلى الله عليه وسلم: (كن أبا خيثمة)، فلما أقبل إذا به أبو خيثمة رضي الله عنه وأرضاه.وقارن بين هذه العزيمة وبين تردد كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكيف جرى لهذا ما جرى رضي الله عنهم أجمعين. الوقفة الثانية مع قصة الثلاثة هي أن هؤلاء خلفوا، ومعنى أنهم خلفوا: أنهم لم يبين حالهم، كما أخبر كعب بن مالك بذلك، أي أن أولئك المنافقين عذرهم الرسول ووكلهم إلى سرائرهم، لكن هؤلاء الثلاثة خلفوا، ولم يحسم ويقطع في الحكم فيهم إلا بعد خمسين ليلة، حيث أنزل الله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118]، وليس المقصود به: التخلف، كما قد يفهمه بعض الناس من ظاهر الآية. وقد كان في المتخلفين الثلاثة شيخان كبيران، وهما: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد مرور أربعين ليلة هؤلاء الثلاثة بأن يعتزلوا نساءهم قال كعب بن مالك لامرأته: الحقي بأهلك. وهلال بن أمية قال لامرأته: الحقي بأهلك. لكنه كان شيخاً كبيراً، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! هل تأذن لي أن أخدم هلالاً؛ إنه والله ليس له خادم، وهو شيخ ضائع، فهل تكره -يا رسول الله- أن أخدمه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس، على أن لا يقربك، قالت: وأين هو من ذاك؛ إنه لم يزل يبكي ليلاً ونهاراً).ولهذا فإن هؤلاء الثلاثة الذين امتحنوا هذه المحنة وهجرهم المسلمون جرى لهم من المحنة القاسية ما لا يمكن أن يصفه واصف، فـهلال بن أمية ومرارة بن الربيع اعتزلا المسلمين، وصارا يبكيان ليلاً ونهاراً، أما كعب بن مالك فكان أجلدهم، وكان يأتي يصلي الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دروس ووقفات في قصة الثلاثة
هؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرى لهم ما جرى أنزل الله سبحانه وتعالى توبتهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، ومن الواجب أن يقف الإنسان مع هذه الدروس وقفات.
وجوب استغلال فرص الطاعة والقربة
من تلك الوقفات والدروس أن الرجل ينبغي له إذا حانت له فرصة القربة والطاعة لله سبحانه وتعالى فعليه أن ينتهزها ولا يتردد، وهذا مأخوذ من قصة تردد كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
العقوبة بالهجر
ومن الدروس أيضاً أن هؤلاء الثلاثة قد عاقبهم الله سبحانه وتعالى بهذا الهجر، فبقية المنافقين تخلفوا، لكن ما عوقبوا، لكن هؤلاء الثلاثة عاقبهم الله حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما أخبر الله سبحانه وتعالى.ومن هنا فإن هذه سنة الله سبحانه وتعالى مع عباده المؤمنين الصادقين، فإذا وقع الواحد منهم في ذنب كان من علامة محبة الله له أن يعجل الله عقوبته، وهذا ما يوجب أن يكون الإنسان حذراً من ذنوبه مستيقظاً.
تنكر الأشياء للعاصي
ومن الدروس أيضاً قول كعب بن مالك في قصة تخلفه: (حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف)، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا التنكر يجده الخائف والحزين والمهموم في الأرض، وفي الشجر والنبات، حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس، ويجده أيضاً المذنب العاصي بحسب جرمه، حتى في خلق زوجته وولده وخادمه ودابته، ويجده في نفسه أيضاً، فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو، ولا كأن أهله وأصحابه ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب، وعلى حسب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة. فالمؤمن الصادق هو الذي إذا وقع في المعصية أحس بالذنب وتنكرت له نفسه وأحس بالوحشة، ولا ترجع له نفسه إلا بتوبة صادقة وعمل صالح.
استغلال أعداء الإسلام للخلاف إذا وقع بين المسلمين
ومن الدروس أيضاً أن أعداء الإسلام يستغلون الخلاف بين المسلمين، فإذا ما رأوا بين المسلمين فرقة استغلوا هذا استغلالاً مشيناً، ويؤخذ هذا من قصة ملك غسان، فإنه لما سمع بقصة كعب بن مالك أرسل له رسالة، وجاء الرسول النبطي إلى المدينة يقول: أين كعب بن مالك ؟ فلما دلوه عليه بالإشارة أعطاه الخطاب، فإذا خطاب ملك غسان يقول له فيه: يا كعب ! إنا سمعنا أن صاحبك -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد هجرك وقلاك، وإنك لست في دار مذلة، فالحق بنا نواسك. يقول كعب : (فلما قرأتها رأيت أن هذا من البلاء) لكن ماذا صنع كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه؟ استغفر ربه، وذهب إلى التنور وأحرق الرسالة. فانظر إلى أعداء الإسلام كيف دخلوا إلى كعب في لحظة هجر النبي صلى الله علي وسلم له، وهكذا يدخلون على المؤمنين حينما يقع بينهم شيء من الخلاف، فليتق الله المسلمون، ولتتقوا الله -أيها المؤمنون- فيما بينكم، ولتكونوا يداً واحدة حتى لا ينفذ أعداء الإسلام إليكم.
تخلي المؤمن عن لذاته وشهواته في حال الجهاد
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة باعتزال نسائهم درس لكل مؤمن أنه في حال الجهاد وفي حال العبادة عليه أن يتخلى عن لذاته وشهواته، فلما مضت أربعون ليلة على أولئك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعتزلوا نساءهم حتى يتفرغوا للعبادة، وهذه سنة الله، كما في وقت الحج وكما في وقت الصيام وغيره.
أهمية الصدق
أما الدرس الأخير من دروس هذه الغزوة فهو أهمية الصدق، فإن هؤلاء الثلاثة لما صدقوا صدقهم الله سبحانه وتعالى. يقول كعب بن مالك: فلما أنزل الله توبتي علمت أن هذا هو الصدق، فعزمت على أن لا أقع في أي شيء من الكذب بقية عمري.وهكذا كان رضي الله عنه وأرضاه، فالصدق منجاة، فيجب على المسلم الصدق مع الله، والصدق مع النفس، والصدق مع الناس، وليحذر من الكذب والدوران والتمويه وغير ذلك، فإنه لا يمكن أن يفيد صاحبه أبداً. فقد جاء المنافقون وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! لدينا أعذار، ولدينا كذا، ولدينا كذا، فكان عاقبة ذلك أن جعل الله ذلك نفاقاً في قلوبهم، أما أولئك الصحابة الذين صدقوا ربهم سبحانه وتعالى فإن الله تبارك وتعالى قد أنزل عليهم توبة فرحوا بها فرحاً عظيماً. يقول سعيد بن زيد : لما نزلت هذه الآية أتيت إلى بني واقفة -أهل هلال بن أمية ؛ لأن هلال بن أمية واقفي- فبشرته، فسجد لله شكراً، فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه؛ لما كان فيه من الجهد؛ ولأنه امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صائماً لا يفتر عن البكاء.أما كعب بن مالك فإنه لما نزلت توبته نزع ثوبيه اللذين كان لا يملك غيرهما وأعطاهما البشير، ثم استعار ثوبين وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهكذا عاقبة الصدق، حتى لو أن الإنسان امتحن، ولو أن الإنسان واجه ما واجه، إلا أنها عاقبة خير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـكعب بن مالك: (أبشر -يا كعب- بخير يوم من أيامك)؛ لأنه يوم التوبة الذي تاب الله سبحانه وتعالى فيه على هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم.
دروس من غزوة تبوك
وفي الختام فإنني أختم الحديث عن هذه الغزوة التي استعرضنا فيها جوانب معينة ولم نستعرضها كاملاً بعدد من الدروس العامة في هذه الغزوة.
وجوب الجهاد في سبيل الله عز وجل
أولها: وجوب الجهاد في سبيل الله، فإن الله تعالى قال عن هذه الغزوة في سورة براءة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38-39]، فيؤخذ من هذا وجوب الجهاد في سبيل الله، والرسول صلى الله عليه وسلم علمنا في هذه الغزوة أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام، وعلمنا في هذه الغزوة أن الأمة إن لم تجاهد في سبيل الله فستكون العاقبة كما الله تعالى: لَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [التوبة:39] أي: عذاباً بالذل في الدنيا، وعذاباً بالهوان وغزو الأعداء لنا في هذه الدنيا، وعذاباً في الآخرة، وقال عز وجل: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].ولهذا فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا حينما يقرؤون هذه الآيات تتحرك في قلوبهم أشجان الجهاد في سبيل الله، فهذا أبو طلحة الأنصاري لما صار شيخاً كبيراً جداً قرأ سورة التوبة، فلما بلغ قول الله سبحانه وتعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] قال لأولاده: (جهزوني؛ إني أرى ربنا قد استنفرنا شيوخاً وشباناً) فقال له بنوه: يرحمك الله، لقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر بن الخطاب حتى مات، ونحن نغزو عنك! فقال أبو طلحة رضي الله عنه وأرضاه: (لابد أن أركب) وركب وغزا في البحر، فمات وهم في السفينة، ومكثوا تسعة أيام يبحثون عن جزيرة ليدفنوه فيها فما وجدوا المكان إلا بعد هذه الأيام التسعة، فدفنوه في إحدى الجزر، ووجدوا جسده لم يتغير رضي الله عنه وأرضاه.وحين تنظر إلى واقع المسلمين اليوم تجد الواحد منهم إذا بلغ سن الكهولة نزلت به وبدنياه تلك المثبطات، فتثبطه عن الجهاد في سبيل الله، ويقول: الجهاد للشباب ولا شك أن الشباب مرحلة قوة، لكن -أيضاً- الشيوخ يجب أن يكون لهم دور في خدمة هذا الدين والدعوة إليه والجهاد في سبيله في مواطن الجهاد.
أهمية الجهاد في سبيل الله بالمال
الدرس الثاني: أهمية الجهاد بالمال.فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الجهاد في هذه الغزوة، وأنفق الصحابة نفقة عظيمة، فقد أنفق أبو بكر في هذه الغزوة كل ماله، وأنفق عمر رضي الله عنه وأرضاه نصف ماله، وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه جيش العسرة، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، وقال: (اللهم! ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ)؛ لأنه جهز رضي الله عنه وأرضاه جيشاً كاملاً.والمال لا شك أن له أهميته الكبرى في الدعوة إلى الله في كل وقت وفي كل زمان، ومن هنا فإن من أعجب ما في هذه الغزوة هو حال أولئك الذين لم يجدوا النفقة، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم، وهم البكّاؤون الذين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! ما عندنا نفقة ولا مال، ونريد أن نجاهد معك فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكني لا أجد ما أحملكم عليه)، كما قال الله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92]، فانظر إلى هذه النفوس المؤمنة، وكيف كان الواحد منهم يرجع وهو يبكي، وأما رؤوس النفاق فكانت فرائصهم ترتعد، وكانوا يبحثون عن المعاذير الكاذبة خوفاً، وهؤلاء يسح الدمع من أعينهم على وجوههم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد ظهراً يركبهم عليه، فشتان شتان بين المؤمنين الصادقين والمنافقين المخادعين، أسأل الله السلامة والعافية.
وجوب النفير على من استنفره الإمام
الدرس الثالث: أن الإمام إذا استنفر المسلمين وجب عليهم جميعاً النفير.وهذه من الحالات التي يكون الجهاد فيها فرض عين، فإذا استنفر الإمام الشرعي الأمة للجهاد وجب على الجميع الجهاد، وهذه إحدى الحالات الثلاث التي يكون الجهاد فيها فرض عين.
التحذير من دخول ديار المعذبين والمغضوب عليهم
الدرس الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل على ديار ثمود في الحجر قال: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون) أي: لا تدخلوا على القوم الذين قد عذبهم الله سبحانه وتعالى. وهذا فيه درس، وهو أنه لا ينبغي أن يأتي الإنسان إلى ديار المعذبين والمغضوب عليهم، وأنه يجب عليه إذا مر بهم أن يسرع، أخذاً بهذا من هذه القصة، وقارن ذلك بما يفعله أهل الآثار اليوم الذين يقدسون آثار الكفرة والمعذبين، وينفقون في سبيلها الملايين والأموال، والناس يذهبون إليها سائحين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون) أي: لا تدخلوا على القوم الذين عذبوا مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
وجوب الثبات على طريق الدعوة
الدرس الخامس: أن كثيراً من الناس يسير في ركب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ثم إذا طال عليه الطريق، أو رأى بعض المشاق تردد، وهذا في الحقيقة مما ينبغي أن ينتبه له الجميع، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [التوبة:42]، وكثير من الناس أو بعض الناس يطول عليهم الطريق، فإذا طال عليهم الطريق بدأت تسقط عزائمهم ويترددون، وبدأت في نفوسهم ألوان من الضعف والخور، وهذا لا ينبغي، ولا يجب أن يكون عليه مؤمن صادق أبداً، فإن المؤمن الصادق هو الذي إذا رأى البلاء ورأى طول الطريق قال كما قال الله سبحانه وتعالى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، ويلزم الثبات على الطريق مهما طال الطريق، ومهما عظم البلاء والامتحان، ومهما حاول أعداؤنا، ومهما حاربنا أعداؤنا، إنه الثبات على الطريق حتى يلقى العبد ربه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن ألهمه الله سبحانه وتعالى ذلك.
الصراع مع النصارى صراع عقائدي
الدرس السادس: أن نصارى العرب كانوا مع الروم في حربهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسأل: هل نفعت القوميات؟ والعروبة والقومية التي تقول: يجب أن نجتمع على اللغة العربية، أو على الأرض، أو على التراب هل نفعت؟ إن المتأمل في تاريخ المسلمين قديماً وحديثا يجد أن الصراع صراعاً عقدياً، فهاهم نصارى العرب يتعاونون مع أعداء الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم معهم في العقيدة، فهل يعي المسلمون هذا الدرس؟ وهل يجعلون من أخوة الإسلام وأخوة الإيمان ما يجتمعون عليه ويوالون عليه ويعادون؟
دعوة الإسلام دعوة عالمية
الدرس الأخير: عالمية الدعوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسلمين من هذه الغزوة التي لم يقع فيها قتال أن هذا الدين يجب أن ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ومن هنا فإن حقيقة الجهاد الإسلامي وحقيقة الدعوة الإسلامية يجب أن يعيها الداعون في كل وقت، خاصة في هذه الأيام، فإنها لا تقيدها قيود، ولا تقيدها نظم الأمم المتحدة ولا غيرها، إنها دعوة إيمانية ترتبط بهذا الإسلام، وقد بشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ستبلغ ما بلغ الليل والنهار. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الدعاة إلى دينه والمجاهدين في سبيله، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر وما بطن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الأسئلة
سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مس العين التي في تبوك
السؤال: ما سر منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس العين التي في تبوك؟ وهل ذلك يعتبر معصية لأمر الرسول عمداً؟ وهل ما زالت العين موجودة حالياً؟ الجواب: أما سر منعه فظاهر الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن تبقى هذه العين عيناً معيناً ينبع منها الماء ويجري، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يمسها أحد، وكان أمره واجباً، لهذا فإن الذين لم يأتمروا بأمره صلى الله عليه وسلم قد عصوه عليه الصلاة والسلام. أما هذه العين فليس عندي علم عنها الآن، ولا أدري هل هي موجودة أم لا.
علة الأمر بالإسراع عند المرور بمدائن صالح
السؤال: لماذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بالإسراع وتغطية وجوههم عند المرور قرب مدائن صالح؟ ألا يكون الوقوف عندها هو من باب أخذ العبرة؟ وهل يجوز الآن زيارة تلك الأماكن من باب المعرفة بالشيء والاطلاع عليه؟ الجواب: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال الذي سأله السائل، كما جاء في بعض الروايات أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنما ننظر إليها لنعتبر ونتعظ. فقال صلى الله عليه وسلم: لا؛ إني أخاف أن يصيبكم مثل ما أصابهم)، فالعلة واضحة، وهي أن هذه ديار معذبين، ومن ثمَّ فلا يجوز للإنسان أن يمكث فيها، بل لابد أن يظهر على قلبه وعلى فعله الأثر من هذا العذاب، فكون الإنسان يذهب إلى هذا المكان ويضحك فيه ويلعب. وهو مكان قد أنزل الله فيه على قوم عذاباً بسبب كفرهم لا يليق. أما بالنسبة لمن أراد أن يزور هذه الأماكن فالأولى أن يمتثل لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه لا يذهب إليها، فإن مر بها فليمر بها وهو باكٍ متأثر حزين القلب، وليمر بها مسرعاً خوفاً من أن يصيبه ما أصاب هؤلاء.
الطريقة السليمة للتدريب على الصبر والجهاد
السؤال: لقد كانت غزوة تبوك مدرسة ربى الرسول صلى الله عليه وسلم بها الصحابة على الصبر والجهاد، فما هي الطريقة السليمة لتدريب الشباب المسلم على الصبر والجهاد؟الجواب: إن المسلم الصادق في هذه الأيام والشاب الصادق في هذه الأيام يعيش في كل يوم أحداث تربية وجهاد في سبيل الله، وقد لا يوجد الجهاد الصريح إلا في أماكن متفرقة من عالمنا الإسلامي، لكن المسلم اليوم يواجه من أعدائه أنواعاً من الحرب وأنواعاً من التشريد والطرد، مما يقارب بعض ما لاقاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف تفسر هذه الحرب العالمية التي توجه إلى الإسلام في كل مكان باسم التطرف؟! لقد أصبح الشاب المسلم الملتزم بعقيدته وسلوكه يلاحق في كثير من بلدان المسلمين، فإن لم يقتل سجن، وإن لم يسجن طورد، حتى يطارد في رزقه وفي أمنه واستقراره، وهذا في كثير من بلاد المسلمين، وهذا كله موطن تربية، إنها تربية جهادية. لقد قال أحد الزعماء العرب: إن أخطر ما يواجه بلدنا هو التطرف الإسلامي!ثم قال: وإني أدعوكم - يخاطب شعبه- إلى أن تقتلوا كل متطرف بلا محاكمة! وإسرائيل أبعدت المجاهدين من أهل حماس، وتعيش مع منظمة التحرير العلمانية مرحلة سلام، أما المجاهدون المبعدون فلا؛ لأن المجاهدين تآمر عليهم اليهود وبقية العرب، فإسرائيل قالت للعرب لما قالوا لها: مشكلة المبعدين قالت لهم: هؤلاء المبعدون هم أهل التطرف الذين تحاربونهم في بلدانكم، لكنكم تحاربونهم بأساليب غير حضارية، ونحن نحاربهم بأسلوب حضاري، وهو إبعادهم عن البلد ونقول: اذهبوا إلى أي بلد تريدون، لكن أنتم تفعلون بهم ما هو موجود في بعض بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الأجر يشمل كل أنواع الجهاد
السؤال: هل الأجر المترتب على الجهاد في سبيل الله مقتصر على جهاد العدو، أم يشمل جهاد النفس والشيطان؟ الجواب: لا شك أن كل جهاد يؤجر عليه الإنسان، فمجاهدته لنفسه يؤجر عليها، وجهاده بالمال يؤجر عليه، وجهاده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤجر عليه؛ لأن كل ذلك جهاد، لكن الجهاد الأعظم هو الجهاد الذي هو موطن الشهادة الذي يقتل فيه الإنسان وهو يجاهد في سبيل الله، وهو قتال العدو، ولهذا فإن الأمور السابقة كلها تسمى جهاداً، لكن الجهاد في المصطلح الشرعي هو قتال الكفار، فمن قاتلهم لتكون كلمة الله هي العليا فهذا هو الجهاد الذي ورد الأجر العظيم فيه من الله سبحانه وتعالى.
حكم الهجر أكثر من ثلاثة أيام
السؤال: نفهم من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الهجر إلا لثلاثة أيام، فكيف هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا خمسين يوماً؟ الجواب: الهجر لثلاثة أيام هو إذا كان لغير سبب شرعي، أما إذا كان لسبب شرعي فيجوز أكثر من ذلك بشروط الهجر المعروفة، فلو هجر الأب ابنه أو الأخ أخاه لسبب شرعي فإنه يهجره أكثر من ثلاثة أيام، والنهي الوارد هو عن الهجر لغير سبب شرعي.
معنى قوله تعالى: (( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ))
السؤال: كلمة (خلفوا) تدل على أن شيئاً أجبرهم على التخلف، ولم نجد في عذرهم شيئاً، فما معنى ذلك؟الجواب: ليس المقصود أنهم تخلفوا، وإنما (خلفوا) أي: من الله سبحانه وتعالى فلم ينزل في شأنهم قرآناً إلا بعد، ولهذا ورد في بعض الأقوال أن قول الله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [التوبة:106]، قال بعض المفسرين - وإن كان هذا القول فيه ضعف-: إنهم الثلاثة. فكلمة (خلفوا) أي: خلف الأمر فيهم، فلم ينزل فيهم القرآن إلا بعد مضي خمسين ليلة.
سبب تخصيص حذيفة رضي الله عنه بأسماء المنافقين
السؤال: ما هو السبب الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه بالمنافقين ويكتم ذلك عن بقية الصحابة؟ الجواب: هذا علمه عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذين أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ورد في بعض الروايات -وإسنادها حسن- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر حذيفة أنهم فلان وفلان وفلان وفلان، حتى عدَّ منهم اثني عشر، وقال: (لا تخبر بذلك أحداً)، حتى إنه كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في زمن خلافته إذا جيء برجل قد مات وكان قد شك هل هو من أهل النفاق أم لا نظر، فإن وجد حذيفة صلى عليه صلى معه، وإن وجد حذيفة لم يصل عليه تنحى عمر مع حذيفة فلم يصل عليه وترك الناس يصلون عليه، فهذا الأمر اختصاص خصه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي الجليل ليكون صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تآمر أعداء الإسلام على المسلمين
السؤال: ما رأيكم فيما يحدث للمسلمين اليوم، وخاصة في البوسنة والهرسك؟ ولماذا لا يدعى للجهاد حتى ننقذ إخواننا هناك ونناصرهم؟ الجواب: الحقيقة أن سؤال السائل لا شك أنه دليل -إن شاء الله- على حرقة إيمان يجدها كل مؤمن في هذه الأيام، والمتأمل في قضية البوسنة والهرسك يجد أن العالم كله يكاد أن يكون متآمراً ضد المسلمين هناك، إما بالأصل وإما بالتبع، إما بالأصل وهذا الذي يقوم به الصرب لعنهم الله وقاتلهم، أو يقوم به من وراءهم من النصارى في أوروبا وأمريكا الذين يحافظون على النتائج، أو بالتبع من دول العالم الأخرى التي لا تستطيع أن تصنع شيئاً، ولا تريد أن تصنع شيئاً إلا إذا أذن أولئك الأسياد من خلال النظام العالمي الجديد الذي يقولونه، حتى رافضة إيران الذين هم حرب على الإسلام أشد من حرب اليهود والنصارى يطنطنون بالإسلام ومع ذلك ما صنعوا شيئاً، فنقول: هي مصيبة الأمة الإسلامية من أولها إلى آخرها، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقظ الأمة لتقوم بواجب الجهاد في سبيل الله وتبعد عنها هذه الذلة والمهانة التي يجدها كل مسلم وهو يشاهد تلك الأحداث الرهيبة تجري على إخوانه المسلمين هناك.والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.والحمد لله رب العالمين.