إسلام ويب

لقد خلق الله تعالى النفس البشرية وجعل لها سبلاً تزكو بها حتى تصل إلى مراتب الفوز والفلاح، ومن وسائل تزكية النفوس توحيد الله تعالى، واتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاعتصام بهما، وتحقيق معاني أسماء الله الحسنى، والابتعاد عن كل ما يغضب الله سبحانه، واستشعار رقابة الله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى.

إقسام الله تعالى بمخلوقاته العظيمة على فلاح من يزكي نفسه

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

من حلف بغير الله فليقل لا إله إلا الله، هذا فيما يتعلق بالتشريع بالقسم واليمين، أما بالنسبة لله عز وجل فإن له أن يحلف بما شاء من مخلوقاته، أما الإنسان فلا يحلف بشيء من المخلوقات إنما يحلف بالخالق وصفاته، والخالق سبحانه وتعالى إذا أراد أن يقسم على شيء فهو -أولاً- لا يقسم إلا على شيء عظيم، فإذا أراد أن يقسم على شيء عظيم اتخذ خلقاً من خلقه كذلك هو عظيم.

ولذلك لما أراد الله عز وجل أن يقسم على مسائل الإيمان والعمل الصالح قال: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، وهذا قسم، وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، أي بني هذا الجنس، كل بني الإنسان في خسر، ثم استثنى من هذا الجنس: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

وأقسم الله عز وجل بالتين فقال سبحانه وتعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:1-4]، فأراد الله عز وجل أن يبين لك أنك خلقت في أحسن تقويم، فأقسم على ذلك بشيء من مخلوقاته، وهو: التين، والزيتون، وطور سينين، والبلد الأمين، أقسم بهذا كله، لأجل أن يلفت نظرك أن ما سيأتي بعد هذا القسم أمر عظيم جداً وهو أنه خلقك في أحسن تقويم.

وأقسم تبارك وتعالى بالفجر فقال سبحانه: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5] ثم بين بعدد ذلك في بقية السورة الأشياء التي أقسم عليها في أول السورة.

وهكذا إذا نظرت في كتاب الله عز وجل، كقوله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ [النازعات:1]، وَالْمُرْسَلاتِ [المرسلات:1] وغيرها من الأقسام، تجد بعد هذه الأقسام شيئاً عظيماً جداً لأجله أقسم المولى عز وجل.

ولذلك لم يقسم الله تبارك وتعالى على شيء قسمه على النفس فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، ثم يأتي بعد ذلك الغرض من القسم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فلأجل زكاة النفس ودسها أقسم الله في هذه السورة بالأيمان المتعددة التي لم يقسم على شيء قسمه عليها، ليبين الله تبارك وتعالى لك أن هذه النفس عظيمة جداً، ولأجلها أقسم بأيمان متعددة أنه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فالنفس في الإنسان واحدة، لكن الإنسان يسعى لأجل زكاة نفسه، أو يسعى لدسها في التراب، وإرغامها في الوحل، ولذلك أخبر المولى عز وجل بعد أن أقسم مراراً، أن هذه النفس مَنْ حرص على تزكيتها، ونمائها، وزيادتها، وطهارتها، فهذا هو المفلح، وهذا هو الفالح، وهذا هو الناجح، وهذا هو الرابح، بخلاف من علم بمعصية الله، فجعل من نفسه التي كان بإمكانه أن يزكيها؛ جعل من نفسه نفساً خبيثة مدسوسة في التراب والوحل، وهذا بسبب المعصية التي اقترفتها يده، وبطنه، وفرجه، وعينه، وجميع جوارحه، أقسم الله عز وجل على ذلك وبين أن من أرد الفلاح فعليه أن يسلك طريقة تزكية نفسه، ومن أراد غير ذلك فليسع إلى تدسيتها.

معنى التزكية

وإذا أردنا أن نعرف ما هي التزكية فلابد أن نعرف أن الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة، ولذلك قال الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103] ماذا تعمل: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، فالزكاة إذا أخذت من المال كانت طهرة لهذا المال، كما أنها طهرة لنفس المزكي، يعني: هي طهارة وطهرة تعود على المزكي وعلى المال المخرج كذلك، فإن المال إذا كنزه صاحبه ولم يخرج زكاته لابد وأنه سيئول إلى زوال، بل ويتحول إلى نقمة يوم القيامة فيعظ صاحبه ويقول: أنت ضيعتني ضيعك الله عز وجل، أما إذا أخرج من هذا المال الزكاة فإن هذا المال يجعل بقية المال طاهراً نقياً يهنأ به صاحبه في الدنيا والآخرة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] أي وادع لهم: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، ولذلك يسن لجابي الزكاة أن يدعو للمزكي بالخير والبركة: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103]، أي: وادع لهم يا محمد، إن دعاءك خير وبركة تعود عليهم، أي: على أهل الزكاة.

فالزكاة: هي النماء والزيادة، والمرء الذي زكت نفسه ونمت وارتفعت وعلت بطاعة ربها يشعر صاحبها أن روحه تحلق في السماء السابعة، تحلق تحت العرش وتحوم حوله، بخلاف من دس نفسه، وعمل بالمعصية، ولم يكترث باقترافه للذنوب والآثام، فإنه يشعر أن روحه في أسفل سافلين، تحوم حول الحشوش والأنتان، فشتان بين النفس الزكية، والنفس المدسوسة، فإذا أراد الواحد منا أن يزكي نفسه، وأن يعمل على نمائها، وأن يعمل على زيادتها، وأن يعمل على صلاحها، وأن يعمل على رفعتها، فلابد أن يسلك طريق الطاعة، وطريق الطاعة له سبل، وأسس، وقواعد، ينبغي أن يتخذها لنفسه أولاً بأول.

أساس تزكية النفس توحيد الله تعالى

فأول أساس وقاعدة تزكو بها النفس ويلزم صاحبها أن يتبع ذلك إنما هو توحيد الله تبارك وتعالى، فالتوحيد الخالص لله عز وجل هو الذي تزكو به النفوس، ولذلك شتان بين نفس المشرك أو المنافق أو الفاسق، وبين نفس المؤمن الكامل الإيمان، فإن نفس المشرك في أسفل سافلين، وأما نفس المؤمن فهي في أعلى عليين، ولذلك هناك أسس عملية لتزكية النفس، ويسبقها أسس عقدية، وهذه الأسس العقدية التي تلزم لتزكية النفس هي: توحيد الله عز وجل، والاعتصام بالكتاب والسنة -أي: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم- وكذلك: الإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان باليوم الآخر، هذه أسس اعتقادية ينبغي على المرء أن يحققها؛ بتوحيده لله عز وجل التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة الشرك ولا الفسق، وهذا هو الذي قام بهذا التوحيد، لابد وأنه قد حقق معنى لا إله إلا الله، ومن اعتصم بالكتاب والسنة، لابد وأنه قد حقق المتابعة، والانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشق الثاني من شهادة التوحيد وهي: شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلابد وأن نؤمن بمعنى (لا إله إلا الله)، وكذلك لابد أن نؤمن بمعنى (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالأولى تقتضي تمام التوحيد لله عز وجل، والثانية تقتضي تمام الاتباع والانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعد ذلك الإيمان بالقضاء والقدر، فلو أنك علمت يا عبد الله أن كل شيء مقدر من عند الله عز وجل، الخير والشر من عند الله، لهنأ بالك، وتحقق عندك الحديث: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)، فالمؤمن هو الذي إذا أصابته نعمة من عند الله حمد الله عليها، وإذا نزل به البلاء حمد الله كذلك؛ لأن الله عز وجل قال في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، إن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة).

فلعلك -يا عبد الله- لا تدري ما البلية التي نزلت بك، فربما كانت تحمل بين طياتها منحة من الله عز وجل، واعلم إن كنت صاحب ذنوب فمن مصلحتك في الدنيا والآخرة أن تبتلى وأن تصبر على هذا البلاء، حتى يكفر الله عنك الذنوب والخطايا، وإن كنت صاحب طاعة -بينك وبين المعصية بعد المشرقين- فاعلم أن البلية التي نزلت بك إنما هي منحة من الله عز وجل؛ ليرفعك بها ويرفع درجاتك كذلك، فأنت في خير وفي نعمة على كل حال، لكن هذا لا يتحقق إلا للمؤمن الذي حقق التوحيد والمتابعة للنبي عليه الصلاة والسلام.

وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام هو أتقى الخلق، وأحسن الخلق على الإطلاق، ومع هذا فقد ابتلي، ونزلت به المصائب تترا، هل لأنه عصى الله؟ معاذ الله أن يكون كذلك ولكن الله تعالى رفعه بتلك المصائب والبلايا فوق العالمين في الجنة، كما رفعه في الدنيا؛ لماذا؟ لأنه قد زكت نفسه، وعمل وحرص طيلة حياته -حتى قبل البعثة- على زكاة نفسه، وعلى توحيد ربه، ألا تدرون أنه كان يخلو في الغار يعبده سبحانه وتعالى؟ لماذا؟ كل هذا طهارة للنفس، وزكاة لها.

فالنبي عليه الصلاة والسلام زكى نفسه، وعمل طيلة حياته على تزكية نفوس أصحابه، ولذلك نقرأ ونسمع عنهم العجب العجاب، في قيامهم، وذكرهم وتسبيحهم وتهليلهم، وإنما ذلك كله بسبب زكاة نفوسهم، ولو كانت خبيثة -معاذ الله- فما الذي كان يقربهم إلى الله عز وجل هذا القرب، ويدنيهم منه هذا الدنو؟

فالبون شاسع بيننا وبينهم؛ لأنهم قوم عملوا على زكاة أنفسهم، ونحن قوم حرصنا كل الحرص على أن ندسها في التراب، وأن نرغمها في الوحل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فالتوحيد الخالص لله عز وجل هو العامل الأساسي في زكاة النفس، ورقيها وعلوها، وطوافها حول العرش، ولذلك يعرف ابن تيمية عليه رحمة الله العبادة بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، فكل ما يحبه الله ويرضاه فهو عبادة، وكل ما يبغضه الله ورسوله فهو معصية نهى عن الاقتراب منها وعن ارتكابها.

أثر التزكية في تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى

والتزكية في بدايتها ونهايتها لا تخرج عن مقام تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل؛ لأن المرء لو علم الحلال والحرام؛ فأتى الحلال واجتنب الحرام، فهذا منتهى الطاعة، ومنتهى العبودية لله عز وجل، فهذا الذي يؤدي بالعبد إلى زكاة النفس، وهنا نقول: إن تزكية النفس تساوي العبودية الكاملة لله عز وجل، وإنما يتحقق ذلك بالحرص على إتيان الواجبات، والمستحبات، والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، والقيام بتحقيق توحيد الله عز وجل وعدم إدخال الشرك أو أي شائبة شرك في هذا التوحيد الخالص لله عز وجل.

ولذلك قال الله عز وجل: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، لتعلم أن تزكية النفس إنما هي من الله عز وجل، ولكن ليس معنى ذلك أنك تترك أسباب هذه التزكية، بل إذا علم الله تبارك وتعالى منك الحرص والرغبة الصادقة في زكاة نفسك أعانك على ذلك، فكانت هذه التزكية مخلوقة لله عز وجل، ولكنك كنت سبباً في جلبها، أي: في جلب هذه التزكية وهذه المنفعة من الله عز وجل، ولذلك قال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور:21]، فهذه التزكية فضل من الله ورحمة، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، وقال سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، فالشيطان هو سبب في دس النفس وخبثها، والله تبارك وتعالى إنما أمرك بتزكية نفسك فلابد أن تسعى للأسباب المحصلة لهذه التزكية، ولذلك لا يتصور أن يقول عبد: ما دام الخير والشر من الله عز وجل، فإنني أرغب في الخير ولكنني لا أسلك له مسلكاً؛ رجاء أن يمن الله علي ابتداء، فنقول: إذا صح عندك أنك تتمنى الولد دون زواج، أو تتمنى المال دون عمل، لو صح عندك هذا فإن الجنون قد أصابك، إذ كيف تتمنى أن يكون لك ولد ولم تسع للزواج ولم يكن لك زوجة؟! لا يقول بذلك إلا إنسان مجنون؛ أنه يتمنى على الله الولد، فإذا تيسرت له سبل الحصول على الولد قال: لا أنا لا أريد الزواج، ولا أريد الارتباط بامرأة ولكني أريد الولد، وجلس في بيته ينتظر الولد من الله عز وجل. هذا خبل وجنون! بل لابد وأن تسعى في إعداد بيت سوي، حتى ينتج عندك في النهاية ولد صالح من جراء تلك الأسرة، فلابد من اتخاذ السبب.

ثمار الإيمان بالغيب في تزكية النفس

فكذلك إذا أردت أن تزكي نفسك فلابد وأن تسعى في تحصيل هذه التزكية، وعلى رأسها توحيد الله تبارك وتعالى، وكذلك أركان الإيمان فهي سبب عظيم جداً في تزكية النفس؛ لأنها أمور غيبية، والنفس إذا كانت خبيثة فإنها لا تؤمن بالغيب؛ أنتم تعلمون أن هناك من ينكر عذاب القبر، بل من المسلمين من ينكر البعث والحساب والنشور، ومن الناس من ينكر الجنة والنار، وهم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان؛ لأنهم فقدوا أعظم ركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالغيب، الإيمان باليوم الآخر، نعم هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان.

وقد لقيت رجلاً يقول: إن هذا القرآن ألفه محمد، ولذلك: أنا آخذ من هذا القرآن ما يحلو لي وأدع ما لا يحلو لي.

قلت: وكله كلام الله، قال: لا، بل كله كلام محمد!

قلت: ما اسمك؟ قال: هشام ، قلت: هشم الله قلبك قبل رأسك، فإنك قد بلغت ما لم يبلغه أبي بن خلف ، وإنك قد بلغت ما لم يبلغه فرعون، قد أنكرت كتاب الله عز وجل، فهل بعد هذا من كفر؟

ولذلك في حديث جبريل الطويل: (قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره)، وفي رواية أخرى بزيادة: (وأن تؤمن بالبعث، وبالحساب، والجنة، والنار)، وغير ذلك من أمور الغيب..

لو أن مسلماً أنكر أمراً من هذه الأمور اليقينية القطعية، فكيف يكون مسلماً، وهذه كلها أمور غيبية؟ فالله تبارك وتعالى بالنسبة لنا غيب، فهل يؤمن به ذلك الجاحد؟ إذا أقر بوجود الإله سبحانه وتعالى فلابد أن يصدق كلامه، ويؤمن بخبره كذلك، ولكنه يأخذ ما حلا له، وهذا يخرم الإيمان في الصميم، ويفسد الإسلام على صاحبه، فيخرج من ملة الإسلام، ويدخل في الكفر من أوسع الأبواب؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة.

ولذلك كانت أصول الإيمان مسألة عظيمة جداً، فأنت تؤمن بالنبي محمد ولم تره، هذا إيمان عظيم جداً، وتؤمن بالكتب السابقة ولم ترها، أو رأيت بعضها ولم تر البعض، مع أنك مكلف أن تؤمن بجميع الكتب، ما علمت منها وما لم تعلم، ومكلف كذلك أن تؤمن بالرسالات وبالرسل والأنبياء، وبالقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله عز وجل، فإن تقاعست وتأخرت عن هذا الإيمان ولم تحققه أتم تحقيق، فلابد وأنه ينخرم إيمانك ويبطل إسلامك، ولذلك فإن الإيمان بأركان الإيمان، ابتلاءات عظيمة جداً من الله عز وجل؛ لينظر هل تتوقف في الإيمان بها، أم تسارع وتبادر بتزكية نفسك، واعتناق ذلك واعتقاده أحسن اعتقاد، وأن تجزم على ذلك قلبك؟

ولذلك أيها الإخوة الكرام! إن توحيد الله عز وجل هو أزكى ما يمكن أن يعتقد العبد ليصلح به نفسه، ولذلك قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص:65-66]، وفي الحديث الشريف حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، كان أول ما أمره بالإيمان بالله، وتوحيده، فقال: (يا معاذ إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، لأنهم اعتادوا أن يعبدوا آلهة متعددة، أن يعبدوا عيسى، وأن يعبدوا عزيراً، وأن يعبدوا معبودات أخرى من دون الله عز وجل، فكونك تأتي وتهدم هذه الآلهة، وهذه الأصنام والأوثان، وتقول لهم: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة:73]، فلا شك أن هذا ضرب في صميم عقيدتهم، ولذلك قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].

التوحيد أول دعوة الرسل وأول ما افترض الله على عباده

قال الإمام ابن القيم : التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى، فتوحيد الله تبارك وتعالى هو أحسن وأولى ما افترضه الله عز وجل علينا؛ لأن المرء يزكي نفسه بالتقرب إلى الله بكل ما افترضه عليه، ولذلك لا يمكن أن تتقرب إلى الله بأحسن مما فرض عليك، وفوق هذه الفروض كلها فرض التوحيد، فإن كنت موحداً صحت أعمالك، وإن كنت مشركاً فسدت أعمالك وإن كنت صالحاً في ذاتك، فلو أن المرء كان مخلصاً موحداً نفعه بعد ذلك العمل الصالح، من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وغيرها من الأعمال الصالحة، وإن كان المرء مشركاً فمهما صلى، وصام، وزكى، وحج، فلا يمكن أن ينتفع بذلك؛ لقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، فكل عملك حابط ذاهب ما دمت لم تحقق معنى التوحيد لله عز وجل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22].

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا): أي: شركاء مثلاء، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): أن هذه الأنداد وهذه الأصنام وهذه المعبودات، إنما هي معبودات زائفة، والإله الحق هو الله تبارك وتعالى.

وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: (كم إلهاً تعبد؟

قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء.

قال: إلى من تلجأ إذا نزل بك الضر؟

قال: إلى الذي في السماء).

نعم هم لا يلجئون إلى الله تعالى إلا إذا نزلت بهم البلية العظيمة، أما في وقت الرخاء فإنهم يقعون في الشرك من أوسع أبوابه، فقال سبحانه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17].

دور النفس في جلب التزكية

هذا الإله خلق الخلق أجمعين، فهل أحد من الخلق خلق شيئاً؟ الجواب: لا، أفلا تذكرون، أفلا تعقلون أيها الناس!

ولذلك جاء عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: يا فلان من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ من خلق كذا وكذا؟ فتقول: الله، فيقول: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟ قال: فإذا بلغ الشيطان ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا).

فاستعيذوا بالله: أي قولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وانتهوا: أي جاهدوا أنفسكم على دفع وطرد هذه الوسوسة، وهذا يدل على أن للنفس والقلب عاملاً كبيراً جداً في جلب التزكية، ودفع المضرة، قال: (فاستعيذوا بالله وانتهوا) فأسند إليك فعل الانتهاء: وهو مجاهدة النفس في دفع هذه الوسوسة وهذا البلاء الذي تسلط به الشيطان على القلب والنفس.

وفي رواية أخرى بزيادة: (قل آمنت بالله ورسوله)، ولذلك هذه الأسلحة الثلاثة هي التي يحارب بها العبد الشيطان: أن يكون موحداً لله، مستعيذاً به، لاجئاً متضرعاً إليه في السراء والضراء، وأن تجاهد نفسك في دفع هذه الوساوس، وكذلك أن تقر وتعترف بالإيمان بالله ورسوله وتقول: (آمنت بالله ورسوله).

موت القلب بالشرك والكفر

قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل:18-21] مع أنهم يمشون في الأرض، ولكنهم في حكم الأموات؛ لأنهم كفروا وجحدوا نعمة الله، وجحدوا خلق الله، وادعوا الخلق لأنفسهم، ولذلك رماهم الله تبارك وتعالى بموت القلب، قال تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل:21]، فقلب الكافر قلب ميت وإن كان حياً يمشي على الأرض؛ لأنه لما جحد الخالق وجحد الإله، استحق أن يضرب تبارك وتعالى قلبه بالران الذي لا يعرف معه معروفاً ولا ينكر به المنكر، بل ربما أمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وهذا غاية الضلال، وغاية الختم على القلب، حتى لا يرى بعد ذلك خيراً ولا يرى إلا الشر.

قال تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل:21-22]، يبين أن السبب الذي وقع فيه الكفار، وختم على قلوبهم أنهم لم يحققوا التوحيد، فنصح الله تبارك وتعالى أولياءه وعباده بأن إلهكم واحد، فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [النحل:22]، وآيات القرآن الكريم حافلة بالرد على أهل الكتاب الذين نسبوا لله تبارك وتعالى الولد والزوجة، فقال الله عز وجل: لَوْ كَانَ فِيهِمَا [الأنبياء:22] أي في السماوات والأرض، آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22]، وقال سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]؛ لأنه لو كان في الأرض والسماء إلهان لتمنى كل إله أن يرتفع على صاحبه: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91]، تمنى كل إله أن تكون له الغلبة، والقوة، والسطوة، والقدرة، فكانت هناك منافسة، وإذا كانت هناك منافسة فلابد وأن تفسد السماوات والأرض، ولذلك قال: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى هو إله السماوات وإله الأرض، كذلك هو الآمر والناهي والحاكم فيهما بما يشاء وبما يريد.

تركيز القرآن على تثبيت العقيدة

وأبرز ما تركز آيات القرآن الكريم على تثبيت عقيدة التوحيد، وإيقاظ الفطرة في قلوب العباد، فالإنسان إذا انطمست فطرته وأظلم قلبه انحرف عن التوحيد وادعى الاستغناء عن خالقه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ [يونس:22]، فإذا نزلت السفينة في عرض البحر أتتها ريح عاصف تقصف بها وتغرقها: وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس:22] أي عندما نزل بهم الضر دعوا الله مخلصين غير مشركين، لا يدعون الآلهة إنما يدعون إلهاً واحداً؛ لأنهم في موطن الخطر يقرون ويعترفون أن الله تعالى إله واحد: لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس:22]، أي: أنهم في موطن الخطر يلجأون إلى الله عز وجل.

بل هذا ليس للمشركين وحدهم ولكن حتى المسلمين كذلك؛ فالواحد منا لا يلجأ إلى ربه بالدعوات الحارة إلا إذا نزل به الضر، ولا نلجأ إلى الله تعالى لجوء صدق إلا إذا بكينا بحرقة؛ لأننا في موطن الخطر، فلجأنا إلى الله تبارك وتعالى بصدق، فكذلك الكفار: لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ [يونس:22] أي من هذه العاصفة وهذا الموج الذي أتانا من كل مكان لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس:22] فنشكرك، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس:23]، والله تباك وتعالى يعلم أنهم لا يشكرون، وإنما يبغون ويفسدون بغير الحق، ولكن ليقطع عليهم الطريق أنهم دعوا الله أن ينجيهم فيكونوا له من الشاكرين فلم يفعل الله عز وجل، ففعل ليقطع عليهم الحجة: أن قد أنجيتكم من العذاب، والهلاك، والغرق، ومع هذا لم توفوا أنتم بما وعدتم،لم تشكروا ولكنكم كفرتم وبغيتم وأفسدتم في الأرض بغير الحق: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس:23] عقاباً لكم: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:23].

نماذج قرآنية على فضل التوحيد ونبذ الشرك

فالإنسان في حالة الرخاء، قد ينسى نعمة الله عليه فيجحدها أو يكفرها، والقرآن قد ذكر نماذج عظيمة تدل على فضل توحيد الله ونبذ الشرك، وأن التوحيد هو السبب الأعظم للنجاة من كل بلية ومصيبة، وهو التكليف الأشرف الذي شرف الله عز وجل به العباد.

التوحيد شجرة طيبة

ففي النموذج الأول قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24].

الشجرة إذا استحكمت جذورها في الأرض وامتدت، وعلت فروعها في السماء فمن يخلعها؟ الأمر في غاية العسر، وفي الغالب أن الشجرة إنما تقطع قطعاً من سطح الأرض، أما جذرها فهو ثابت في الأرض؛ لأنها مستحكمة كالكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة كما يقول ابن عباس في هذه الآية: هي قولك لا إله إلا الله، أي: لا إله ولا معبود بحق إلا الله، وإلا فالمعبودات والآلهة كثيرة جداً؛ لكنها كلها مزيفة إلا إلهاً واحداً، وهو الله سبحانه وتعالى.

فقولك: (لا إله) نفي لجميع الآلهة، (إلا الله) إثبات لإله واحد وهو الإله الحق سبحانه وتعالى.

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم:24-26] وهي الشرك، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26] ليس لها أصل، فالباطل لا أصل له، وأما الكلمة الطيبة فـأَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24]، ولذلك الكلمة الطيبة باقية دائمة، والكلمة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض ليس لها قرار ولا ثبات ولا تمكين في الأرض، فلذلك ضرب الله عز وجل للتوحيد مثلاً بالشجرة الطيبة، وضرب للشرك مثلاً بالشجرة الخبيثة ليس لها قرار، فالشرك سرعان ما يزول، أما التوحيد إذا تمكن من قلبك فإنه يرفع نفسك ويزكيها إلى السماء، فتشعر أنها تحلق تحت العرش: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

حال المشرك في الدنيا والآخرة

والنموذج الثاني قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:30-31].

انظر إلى هذا المثل العظيم للإيمان والكفر، للتوحيد والشرك، يقول تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]؛ لأن هذا يؤدي إلى الشرك.

ما هي النتيجة وما هي الثمرة لو فعلتم ذلك؟ كنتم: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ [الحج:31]، لو أنكم اجتنبتم الرجس من الأوثان، وعبادة الأصنام، والأزلام، فإنكم قد حققتم توحيد الله أعظم تحقيق.

وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ [الحج:31]، لو أن رجلاً خر من الدور الثاني، أو الدور الثالث، أو الدور الرابع، فوقع على أم رأسه، فما الذي يحدث له؟ سيموت ويقبر، فما بالكم بمن يخر من السماء؟!

وفي الحديث: (أن بين السماء الدنيا وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام للراكب المسرع)، تصور أنك تهوي من السماء -على فرض أنها السماء الدنيا وليس السابعة- على أم رأسك مسيرة خمسمائة عام في هذا الطريق الطويل، ثم بعد ذلك: فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، بعيداً في الأرض، في الظلمات التي لا يمكن بعد ذلك أن يرى له معها أثر، هذا مثل لخبث الشرك وأنه يفعل بصاحبه هكذا، وإن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.

انشراح صدر المؤمن وضيق صدر الكافر

والنموذج الثالث: قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125]، هذه إرادة دينية شرعية، من أراد الله عز وجل له الهداية شرح صدره للإسلام، فقبله بتكاليفه، وأحكامه، وفرائضه، وسننه، ومستحباته، ومندوباته، كل ما ثبت لديه عن الله وعن رسوله قال: على العين والرأس، سمعاً وطاعة: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، فشعار المسلم أن يرفع لواء الحمد ولواء السمع والطاعة لله عز وجل، لا يقول في شيء شرعه الله: لم وكيف؟ لأن (لم وكيف) تودي بالعبد إلى الشك في أوامر الله وفي أخبار الله عز وجل، مما يؤثر على حسن إيمانه وتوحيده، إن لم يؤثر على أصل الإيمان والتوحيد.

نعم، ينبغي على المرء أن يعبد الله تبارك وتعالى على مراد الله، لا على مراده هو، إذا شرع الله عز وجل لك الظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً، فلا تقل: لماذا شرع الله هذا، ولم اختلف العدد من المغرب إلى الظهر؟ هذه حكمة الله تبارك وتعالى، وأنت تعلم أن من أسمائه الحسنى أنه الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه بحكمة وعدل وإنصاف، فإن الله تبارك وتعالى لما شرع لك شرعه بين لك بعض الحكم من بعض الأفعال، وبعض الأقوال، وبعض الأوامر والنواهي، وأخفى عليك بعض الحكم أو جُلَّ الحكم؛ لينظر: هل تؤمن بها أم لا؟

فهناك أحكام وأمور تعبدية ينبغي للمرء إذا خفيت عنه الحكمة منها أن يقول فيها: سمعنا وأطعنا، إذا ثبت أن هذا دين الله وشرعه فعلى العين والرأس، وملء القلب كذلك، نعم ينبغي للمرء إذا خفيت عنه الحكمة أن يقول فيها: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، إذا ثبت أن هذا دين الله وشرعه فعلى العين والرأس، وملء القلب كذلك.

نعم؛ ينبغي للمرء أن يأخذ شرع الله بالتسليم المطلق، والانقياد والإذعان التام له سبحانه وتعالى، فإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك قد حققت التوحيد الكامل لله عز وجل.

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، لم يقل: ليصْعَد، وإنما: يصَّعَّد؟ وهذا من شدة المبالغة وقوة المبالغة.

وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ [الأنعام:125]، كيف يصعد في السماء؟ إن علماء الطبيعة يقولون: إن الذي يريد أن يصعد في السماء كلما صعد شيئاً ضاق نفسه، خاصة إذا اخترق هذا الحجاب أو الطبقة التي فيها الأكسجين، ودخل في الطبقات الأخر حيث يقل فيها الأكسجين، فهو يشعر أن قلبه وروحه يقتلعان من بدنه ويخرجان منه، فهو يشعر بضيق كما قال الله تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].

والله تبارك وتعالى إذا علم من العبد أنه يريد الهدى هداه، ولذلك قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، ولكن ليعلم الله تبارك وتعالى منك صدق الإخلاص واللجوء إليه، وأنك حقاً تبحث عن أسباب الهداية، وأسباب التقوى؛ فإذا كان كذلك، وعلم الله تبارك وتعالى منك الصدق في ذلك يسر لك أسباب الهداية وأسباب التقوى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا [محمد:17]، لابد أن يأتي منك البحث عن السبب، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17].

أعمال الكفار .. سراب وهباء

النموذج الرابع: قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39].

يأتي عمل الكافر يوم القيامة هباء منثوراً، وهو يظن أن له أعمالاً عظيمة جداً، ولكنه إذا أتاها ونظر إليها يوم القيامة وجدها لا شيء، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:39-40].

النور من الله عز وجل، فإذا كنت حريصاً وتزداد حرصاً على أن تحصل أسباب النور والهداية، منحك الله الإعانة على ذلك، أما إذا أطلقت لنفسك العنان للوقوع في الكفر والإلحاد، والإنكار، وسب المولى عز وجل، وسب الرسول، وسب الدين فإن الله تبارك وتعالى يجعل صدرك ضيقاً كما قال تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].

مثل المشرك كالعبد المشترك بين رجلين متشاكسين

المثل الخامس: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29] هذا مثل رغم قلة مبناه، إلا أنه عظيم المعنى جداً، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ [الزمر:29] عبد اشترك فيه اثنان، كل واحد يملك نصفه، فهو عبد للاثنين، إذا قال له أحدهما: قم، قال له الآخر: اجلس، إذا قال له أحدهم: لا تفعل، قال له الثاني: افعل، أي حيرة يقع فيها ذلك العبد؟ حيرة عظيمة جداً ، وطاعته لهذا السيد وذاك واجبة، وليست طاعته لأحدهما بأولى من طاعته للآخر، فإذا أمره واحد بأمر أمره الآخر بعكس ذلك، فهذا العبد في حيرة عظيمة وشقاء وتعاسة.

هذا مثل المشرك الذي أشرك مع الله تعالى آلهة أخرى؛ فإن الله أمره بالخير، والإيمان، والتوحيد، والصدق والعفاف، والنقاء، والصلاة، والصيام، والزكاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر الطاعات.

ولو أنه عبد مع الله الشيطان فهل يأمره الشيطان بما أمره به الله تعالى ورسوله؟ الجواب: لا، لابد وأن يأمره الشيطان بضد ذلك وخلافه، فكيف يستقيم للعبد حينئذ أن يطيع مولاه وسيده الذي في السماء وأن يطيع الشيطان؟ كيف يتسنى للعبد أن يرضي الله تبارك وتعالى مع أن ما يرضي الله لا يرضي الشيطان، والعكس بالعكس، كيف ذلك؟ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ [الزمر:29]، ويا ليتهم شركاء متفقون، بل هؤلاء شركاء متشاكسون، كل منهم يقف لصحابه بالمرصاد، ربما يدور في نفس الشريك الأول أن يأمر العبد بشيء معين، ولكنه إذا علم أن الشريك يأمر بنفس الشيء الذي يدور في نفسه، أمره بغير ذلك، لماذا؟ لأنه مشاكس، معاكس، فهو لا يريد أن يتفق أبداً مع شريكه الثاني في ذلك العبد.

وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29] هذا العبد ملك لهذا السيد، وليس مع هذا السيد شريك آخر، هذا السيد يقول له: يا فلان افعل ولا تفعل: حاضر، قم ولا تقم: حاضر، كل ولا تأكل: حاضر، عبادة يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بها، بطاعة مولاه وسيده، فكذلك الله عز وجل له المثل الأعلى، لو أنك حققت العبودية الحقة لله عز وجل دون غيره من بقية الآلهة لكنت حريصاً كل الحرص على طاعة مولاك، وإن كانت هذه الطاعة فيها سخط الخلق أجمعين، لماذا؟ لأنك لا تحرص إلا على رضا الإله الحق سبحانه وتعالى.

انظروا إلى هذا المثل: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [الزمر:29]، لا يستويان، الْحَمْدُ لِلَّهِ [الزمر:29] أنهما لا يستويان بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].

حصر العبادة والاستعانة بالله عز وجل

ولذلك حصر الله تبارك وتعالى عبادته والاستعانة والاستعاذة به فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قدم التحذير قبل الفعل، ولو قدم الفعل على التحذير لاحتمل غيره، ولم يقل: نستعين إياك، وإنما قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] أي: لا نعبد إلا أنت، ليس معك معبود آخر ولا نستعين إلا بك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

فهذا أسلوب حصر قد حصر العبادة لله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، لأنك إذا قلت: نعبد إياك لجاز أن تقول: نعبد إياك وغيرك، لماذا؟ لأن هذا السياق لا يدل على الحصر، وإنما يدل على الاستيعاب، وهو قابل لأن يستوعب أشياء أخرى ومعبودات أخر، ولكن هذا السياق: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] معناه: ليس هناك معبود بحق إلا أنت، ولذلك لا نعبد إلا أنت، وكذلك لن نستعين إلا بك، فكذلك قد حصر الله عز وجل في هذه الآية الاستعانة به فقال: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ولو قال: ونستعين بك لجاز أن تقول: نستعين بالله وبغيره، ولذلك فإن تقديم لفظ: (إِيَّاكَ) يدل على الحصر، فإن الله تبارك وتعالى هو الذي يستعان به ويلجأ إليه ويتضرع إليه، ويعاذ به، وهو الذي يعبد دون غيره من المخلوقات.

هذا بالنسبة لبعض النماذج التي وردت في القرآن الكريم، وإلا فالقرآن كله يدل على توحيد الله عز وجل، كل آية في كتاب الله تدل على توحيده تبارك وتعالى، وأنه الإله الحق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، ولذلك قال الكفار لنبينا عليه السلام، انسب لنا ربك؟ من هو؟ ابن من؟ زوجته من هي؟ أولاده من هم؟ انسب لنا ربك؟ تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، فأنزل الله عز وجل على نبيه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، فهو منزه عن الزوجة والولد، متفرد بالوحدانية سبحانه وتعالى، ليس هناك إله حق إلا هو سبحانه وتعالى، ليس له زوجة، وهو غير مولود وليس له ولد: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].

ثمرات التوحيد في تزكية النفوس

أما إذا كنت موحداً لله عز وجل، فما ثمرة هذا التوحيد في تزكية نفسك؟

لا شك أن من حقق التوحيد لله عز وجل، وعلم أنه الإله الواحد، وأن هذا الإله متصف بصفات، هذه الصفات قد أوجب الله علي أن أؤمن بهذه الصفات، وأن هذه الصفات ليست مخلوقة لله عز وجل، وإنما هي تنقسم إلى: صفات ذات، وصفات أفعال.

فصفات الذات: هي لازمة لذات الله عز وجل لا تنفك عنه، فإن الله تبارك وتعالى يرى، ويسمع، وهذه صفات لازمة لذاته تبارك وتعالى.

وكذلك له صفات فعلية، كصفة الكلام، والمجيء، والمشي، والهرولة، وغير ذلك من الصفات؛ ولكن هذه الصفات فعلية، إذا أراد تبارك وتعالى أن يتكلم تكلم بما شاء وكيف شاء، فلا نقول: إن كلام الله مخلوق؛ لأن صفة الكلام ثابتة لله عز وجل، وكل صفاته وأسمائه ليست مخلوقة بل هي لازمة لذاته سبحانه وتعالى على القدر الذي يليق به سبحانه وتعالى، أي: على الكمال والتمام، فهنا إذا آمنت حق الإيمان بأن الله تبارك وتعالى من أسمائه الرزاق، وهو يرزق عباده فأنت مؤمن، ولذلك توحيدك لله عز وجل يستلزم أن تؤمن إيماناً جازماً بأسمائه وصفاته.

ثمرات التزكية الناتجة عن الإيمان باسم الله الرزاق

ما هي ثمرة التزكية اللازمة والناتجة عن إيماني بأسماء الله وصفاته؟

ضربت مثلاً: لو أنني علمت أن الله تبارك وتعالى الرزاق ذو القوة المتين، وأن خزائن السماوات والأرض بيده، وأن الرزق في السماء لا في الأرض، فعلام أخاف إذاً؟ الرزق بيد الله، ليس بيد أحد من الخلق.

والبعض من الناس إذا سئل: هل أنت تؤمن بالله؟ وتؤمن بأن الأرزاق بيد الله؟ فيقول: نعم. ولكن إذا قال له مديره أو رئيسه: يا فلان أنت قد تغيبت فوق الحد القانوني لك، ولذلك أنا سأفصلك من العمل، يأتي في آخر اليوم قد ارتعدت فرائصه، وعندما يسأل: لماذا يا فلان؟ يقول: لأن فلاناً سيقطع عيشي، سيقطع رزقي!

وهل رزقك بيد ذلك الرجل؟ أنت وهو والخلق أجمعون في قبضة الله عز وجل، والرزق كله بيد الله، فكم من عامل ترك عمله رغماً عنه بقدر الله، وفي اليوم الثاني رزق بعمل در عليه من المال عشرات أضعاف ما كان يأتيه من العمل السابق: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17].

والله تبارك وتعالى يمن على عباده؛ لأنه صاحب المنة والفضل على عباده، لئلا يكفروا، ولذلك قال الله في كتابه: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، ولم يقل: ورزقكم في السماء، وإنما قال: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات:22] لأن تقديم شبه الجملة المكون من الجار والمجرور يدل على الحصر، وأصل الجملة: رزقكم في السماء، لكن الله عز وجل لو كان ساق هذا السياق، لاحتمل اللفظ أن يكون رزقك في السماء وفي غير السماء، ممكن أن يكون في يد المدير أو في يد الزعيم، ولكن الله تبارك وتعالى حصر الرزق عنده فقط، فقال: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات:22]، حتى لا تتوهم القلوب والأنفس أن هذا الرزق بيد غير يد الله عز وجل.

قال: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات:22]، يعني: فليس هناك رزق إلا وهو في السماء، فجميع الأرزاق مصدرها من عند من بيده خزائن السماوات والأرض، ولا يمكن أبداً أن يكون الله خالقاً للخلق أجمعين ويجعل أرزاق الخلق في يد غيره فيضيعوها، ولذلك حصر الرزق بيده سبحانه وتعالى.

الخوف على الرزق يجب أن لا يقعد بنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

في الحديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، ويأمر بكتب أربع كلمات: أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد)، يعني: أن رزقك وعملك مكتوبان، وهذا أكثر شيء يخاف عليه الناس.

وبعض الناس تقول له: يا فلان: هل ستأتي لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ فيقول لك: يا أخي دعنا نربي الأبناء، هذا الزمن لا يسمح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا خذلان وانتكاسة للقلوب؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط في زمن من الأزمان، بل هو واجب في حق كل واحد على قدر ما يستطيع.

وفي حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، فإذا لم أستطع بيدي فبلساني، فإذا لم أستطع بلساني فبقلبي، وهل من المعقول ألا يستطيع أحد أن ينكر المنكر بقلبه؟ أنا لو مررت على أناس يعصون الله تبارك وتعالى، فإذا لم أستطع أن أغير هذا المنكر بيدي ولا بلساني، أليس في مقدوري ألا ألقي عليهم السلام؟ أليس بمقدوري أن أعبس ويتغير وجهي إذا نظرت في وجوههم؟ أليس بمقدوري أن أبغض ذلك من قلبي على الأقل، حتى تكون هناك براءة أمام الله عز وجل.

لو أنك جلست مع قوم سوء فخاضوا في الغيبة والنميمة، ولم يكن في مقدورك أن تبدل وأن تغير هذا الحال؛ أليس بمقدورك أن تنصرف أنت عن هذا المنكر؟! لذلك يقول أهل العلم: إذا لم تستطع أن تنهي المنكر فأعرض عنه، هذه كلها أمور ينبغي أن يعقدها المرء في قلبه، ويتقرب إلى مولاه بها.

من تزكية النفس: طلب الرزق بالطاعة

في الحديث: (أن روح القدس) أي جبريل عليه السلام، (نفث في روعي) أي في نفسي، (وقال: يا محمد، اعلم أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، واعلموا أنما عند الله لا ينال إلا بطاعته).

فإن كنت مطيعاً لله عز وجل ساق إليك الخير، وإن كنت كافراً جاحداً مشركاً ربما ساق إليك الخير أكثر من المؤمن الموحد، ولكن هذا حظك ونصيبك في الدنيا، والله تبارك وتعالى حكم عدل، ولذلك اغتر الناس بأن الله من على الكافرين والملحدين والمشركين بنعم عظيمة جداً، وفتح عليهم بفتوحات الدنيا من أولها إلى آخرها، يقولون: إن الله تبارك وتعالى ما من عليهم بهذا إلا لحبه إياهم، وهذه انتكاسة أخرى عظيمة، فإن الله عز وجل إنما يفتح بأبواب الخير الدنيوية على الكفار والمشركين؛ لأن هذا جزاء أعمالهم في الدنيا، فإذا أتوا على الله عز وجل يوم القيامة فليس لهم عنده حظ ولا نصيب.

أما المؤمن فحظه الأوفى ونصيبه الأوفر عند الله عز وجل؛ لأنه قد أعد له في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولو كانت النعم العظيمة والمال الوفير ممدوحاً عند الله، لكان أول من كان غنياً وثرياً الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، بل قد ورد أن معظم الأنبياء كانوا فقراء، كانوا يعملون ويكدون ويتعبون ويأكلون من كسب أيديهم، ومن عمل أيديهم، كنبي الله داود، وزكريا، ومحمد عليه الصلاة والسلام، فإنه كان يرعى الغنم والإبل وغير ذلك ليتكسب ويقتات ويأكل من عمل يده.

من تزكية النفس: التذلل لله عند الغنى والفقر

إذاً: هذا المال ابتلاء من الله عز وجل فلو أن الله عز وجل رزقك إياه فاجأر إليه أكثر مما لو كنت فقيراً، ويكفي: (أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً)، وفي رواية أخرى: (أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم) ، أي بخمسمائة عام، لأن المرء لا تزول قدمه يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن علمه، وعن ماله، وعن عمره، وعن شبابه، فيسأل عن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، فصاحب الملايين سيقف أمام الله عز وجل يوم القيامة، ويسأله: من أين اكتسبت هذا الدينار، وفيم أنفقته؟ ثم من أين اكتسبت الدينار الثاني وفيم أنفقته؟ ثم الدينار الثالث والرابع وهكذا.. وهذا عذاب، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، يعني مجرد أن يقول الله: لم فعلت، وكيف فعلت؟ فهذا عذاب، حتى وإن لم يعذبك، فمجرد أنه يناقشك فهذا عذاب.

ولذلك جاء في حديث عبد الله بن عمر من طريق صفوان بن محرز عند البخاري ومسلم : (أن صفوان بن محرز اعترض عبد الله بن عمر أو أن رجلاً اعترض ابن عمر فقال له: أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول شيئاً في النجوى؟ قال: بلى، سمعته يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه: يا فلان، أتذكر ذنب كذا في يوم كذا وكذا؟ يقول: نعم يا رب. أتذكر ذنب كذا يوم كذا وكذا؟ يقول: نعم يا رب، حتى يوقن العبد أنه أشرف على الهلاك، فيقول الله تبارك وتعالى: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)، انظروا إلى هذه المحاسبة بين الخالق والمخلوق.

ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا سيحاسبه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، أي: ولو بنصف تمرة تقدمونها لله عز وجل.

ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (سبق دينار مائة ألف دينار عند الله عز وجل) ؛ لأن الذي تصدق بالدينار تصدق به عن حاجة إليه، وأما الذي تصدق بمائة ألف دينار فهذا فائض عنده فلا يؤثر فيه، أما الذي يدفع الدينار مع حاجة ماسة إليه فهذا أعظم عند الله تعالى ممن يتصدق بمئات الآلاف عن ظهر غنى.

ثمرات الإيمان باسم الله الرقيب في تزكية النفس

إذا كنت تؤمن بأن الله تبارك وتعالى هو الرازق فاعقد على ذلك قلبك، واعلم أنه ما كان لك لن يأخذه غيرك، وما كان لغيرك فمهما بذلت من جهد فلن يصل إليك: ولو اجتمع الخلق أجمعون على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد قدره الله عليك، فاعلم إن ذلك من عند الله أولاً، ولكنه جعل هؤلاء أسباباً لمنع الرزق عنك، وإذا كان الله تبارك وتعالى يقدر لك الخير فلو اجتمع الناس على أن يمنعوا هذا الخير عنك لا يمكن لهم ذلك أبداً؛ لأنهم في قبضة المولى عز وجل، يصرفهم عنك ويخيب سعيهم ورجاءهم، فاعلم أنك في قبضة المولى عز وجل، وإيمانك بأن الله تبارك وتعالى هو الرازق لابد أن يظهر عملياً في حياتك.

إذا كنت تعلم أن الله تبارك وتعالى هو الرقيب على عباده، وعلى أفعالهم وعلى أقوالهم، وجعل من الملائكة كذلك حفظة لأعمال الخير والشر، فإذا كنت تستشعر أن الله تبارك وتعالى يراك، وسيحاسبك، وهو قادر على عذابك، وأنه رقيب عليك مطلع على أعمالك وأقوالك، فإذا كنت حقاً مستشعراً لهذا فهل تقترب من الذنب والمعصية، إن سبب وقوعك هو عدم استشعارك بأن الله تعالى يراك، وهذا هو الإحسان لله عز وجل: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فلتكن هذه عقيدتك سواء كنت ترى الله، أو كنت لا تراه، فإن الله تبارك وتعالى لابد أن يكون داخلاً في اعتقادك وأنه يراك ويسمع قولك، بل ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما تحدث به نفسك، وما توسوس به نفسك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد.

وإذا كنت تحقق معنى الرقيب في نفسك، فاعلم أنه ينبغي لك أن تقلع عن المعصية، ولذلك الذي يقع في المعصية لابد وأنه قد غاب عنه في حين المعصية أن الله رقيب، وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]، وإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199]، وأن الله قوي جبار منتقم، غابت عنه هذه المعاني كلها، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزين وهو مؤمن).

لا يمكن أن يزني العبد وهو مستشعر أن الله تبارك وتعالى يراه؛ فلو جيء بأجمل نساء العالم، ووضعت في غرفة، وبجوار هذه الغرفة غرفة أخرى قد أوقدت ناراً، وجيء برجل فرأى النار، ورأى تلك الحسناء فقيل له: ازن بهذه ثم اعلم أنك بعد فراغك من هذه الفاحشة ستلقى في الغرفة الأخرى، فلا يمكن أن تتحرك له شهوة أبداً؛ لأنه يرى العذاب أمام عينيه.

فإذا استشعر العبد عذاب الله تبارك وتعالى الذي سيراه في الآخرة فلا يمكن أبداً أن يجترئ على المعصية، ولا يمكن أن يتخلف عن أداء الزكاة، ولا يمكن أن يؤخر الفرض إلى وقت الفرض الآخر، وإن الناس -وخاصة النساء- إنما يقدمون على معصية الله عز وجل لغياب الحساب عنهم؛ لأنهم لا يستشعرون أن الله تبارك وتعالى رقيب عليهم يحاسبهم ويعاقبهم، وهو شديد الحساب، سريع العقاب، فلما غابت عنهم تلك المعاني وقعوا في الفاحشة، ولكنهم لما أفاقوا من فعلتهم لجئوا إلى الله تبارك وتعالى، فرجع لهم إيمانهم مرة أخرى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)، فكل معصية يقدم عليها العبد لابد وأنها بسبب غفلة عند ذلك العبد.

والمعاصي لها تأثيرات عظيمة جداً في قلب طالب العلم، وفي نفسه وذاكرته وعقله، فإنه كلما ازدادت معصيته قل علمه أو ذهب، أو لم يثبت في ذاكرته، ولذلك يقول الشافعي رحمه الله تعالى:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي

ويقول الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، فالتقوى ملازمة للعلم، والعلم ملازم لها، بل إن من ثمرة التقوى أن يعلمك الله تبارك وتعالى العلم الشرعي النافع، انظر إلى أسماء الله: الغفور، الرحيم، التواب، هذه الأسماء لو أنك استشعرت معانيها فما هو الأثر السلوكي في تزكية نفسك حينئذ؟ الأثر السلوكي أنك لا تقطع الرجاء بالله عز وجل؛ لأنه الغفور الرحيم، ولأنه التواب، فأنت ترجو من بيده المغفرة وبيده الرحمة وبيده التوبة، وتحسن به الظن أيما إحسان، ولذلك قال المولى عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)، وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً)، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا هو يحسن الظن بالله عز وجل)، ويقول الله تعالى كما في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي في فليظن بي ما شاء، إن خيراً فخير وإن شراً فشر).

فعلينا أن نحسن الظن بالله عز وجل، ولكن حسن الظن لابد أن يحملنا على حسن العمل، ولذلك ليس هناك رجاء وحسن ظن إلا ولابد أن يسبقه عمل؛ لأن عائشة رضي الله عنها لما (تلت قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] ظنت أن هذه الأعمال هي المعاصي، فقالت: يا رسول الله أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق ، إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وجهاد، يخافون ألا يتقبل منهم)، فزادهم خوفهم من الله عملاً صالحاً.

وانظروا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي غفر الله عز وجل له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا كان يقوم الليل كله لا يفتر، وتورمت قدماه، ولما قيل له: يا رسول الله، رفقاً بنفسك، قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، وهذا يدل على أن عبادته لربه كانت عبادة شاكر لله عز وجل.

الإيمان بأسماء الله وصفاته يزكي النفوس ويرتقي بها إلى عليين

أيها الإخوة الكرام! لابد من الوقوف عند كل اسم من أسماء الله عز وجل، وصفة من صفاته، واعتقادها إيمانياً، وعملياً كذلك، وبعض الإخوة الطيبين يخاف من الله تبارك وتعالى لدرجة اليأس والقنوط من رحمة الله، نعم هو اقترف ذنباً بل وقع في كبيرة، ولكنه تاب وعاد إلى ربه، وأناب إليه، ولكنه لا ينسى ذلك قط مما يؤثر على علاقته بالله عز وجل، فمن فرط يأسه من رحمة الله يترك العمل؛ لأنه إذا كان معذباً لا محالة، فلم العمل إذاً؟

وهذا كما حصل لذلك الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً وذهب إلى الراهب وسأله: هل لي من توبة؟ قال: لا، ليس لك توبة، فقتله هو أيضاً.

فلابد من الإيمان بأسماء الله وصفاته، لأن الإيمان بأسماء الله وصفاته يجعل في النفس ملكة عظيمة تراقب المولى عز وجل، وتحاسب نفسها كل يوم، وأنتم تعلمون أن السلف -وهم الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون- كانوا يحاسبون أنفسهم أولاً بأول، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جبل من جبال العلم والإيمان، كان يحاسب نفسه، ويقول لها: يا نفس توبي، وهكذا نقل عن كثير من السلف أنهم كانوا يحاسبون أنفسهم، ولذلك قال عمر بن الخطاب : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا!

فالواحد منا إذا حاسب نفسه دل ذلك على قوة المراقبة في قلبه، ولذلك يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: منذ أربعين سنة لم أتكلم بكلمة ولم أعمل عملاً، إلا وقد أعددت له بين يدي الله جواباً.

كان السلف قبل أن يتكلموا أو يفعلوا؛ كانوا يحاسبون أنفسهم ليكون العمل خالصاً لله عز وجل، وعلى منهاج النبي عليه الصلاة والسلام، فالإيمان بأسماء الله وصفاته يرتقي بالنفس إلى أعلى عليين.

تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله وأثرها في تزكية النفوس

ثم يأتي من بعد ذلك الاعتصام بالكتاب والسنة، أي تحقيق معنى أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، فالذي مضى هو تحقيق لقولك لا إله إلا الله، وهذا الذي سيأتي هو تحقيق لقولك: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فما معنى أنك تؤمن بأن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول الله؟

إن محبتك لهذه الكلمة ليست بالقول، ولكنها بالقول والعمل، والعمل شيء مهم جداً، والعمل يقتضي أن تكون متبعاً، ومنقاداً، ومذعناً للنبي عليه الصلاة والسلام، كلما وصلك عنه خبر صحيح فإنه تشريع ودين في حقك يلزمك الإتيان به، ولذلك قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31]، أي فاتبعوا النبي محمداً يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].

الاعتصام بالكتاب والسنة وأثره في تزكية النفوس

فالمحبة اتباع واقتداء، والمحبة اعتصام بالكتاب والسنة، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي بسند صحيح من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله عليه الصلاة والسلام موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله)، وهذه هي الوصية التي أوصى بها الله جميع أنبيائه، ورسله، وعباده الصالحين، كما أوصى الأنبياء والرسل أقوامهم كذلك، فإن خير ما يتقرب به العبد إلى ربه أن يكون متقياً له عز وجل، والتقوى لا يمكن أن تتحقق لديك إلا إذا عرفت من تتقي، وإلا فكيف يعرف بالله من لا يعرفه؟ وكيف يدل على الله أبعد الناس عنه؟ فلابد أن تعرف أولاً من تتقي، وماذا تتقي، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)، فسيرى فتناً مظلمة بعضها يأتي خلف بعض، وبعضها في إثر بعض، وهذا الذي نعيشه الآن، وما المخرج من هذه الفتن؟ قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) يعني: صاحبها في النار.

هذا الحديث حديث عظيم جداً يحتاج إلى محاضرات لشرحه وبيانه، فالنبي عليه الصلاة والسلام، قد أوصى أصحابه، وأوصى أمته، أن يمتثلوا وأن يقوموا بواجب السمع الطاعة -بعد تقوى الله عز وجل- لمن تأمر عليهم مادام موحداً، وما دام يأمرهم بالطاعة، وينهاهم عن المعصية، ويحافظ عليهم وعلى دينهم، ويذب عن هذا الدين بالليل والنهار، فإنه قد وجب له في هذه الحالة السمع والطاعة على رقاب العباد جميعاً، قال: (وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي)، هذا العلاج، بين لك الداء وأنك ترى فتناً، ثم بين لك العلاج، وهذا العلاج من شقين: حث وأمر، ثم تحذير ونهي، حث وأمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وأمرك أن تتمسك بها وأن تعض عليها بالنواجذ، ثم حذرك ونهاك أن تكون مبتدعاً في دين الله عز وجل، وأن تقترح نوعاً من أنواع العبادة، ثم توهم الخلق أن هذا تشريع الله عز وجل يتقربون به إلى مولاهم حتى الموت وليس كذلك.

ولابد للمرء أن يعبد الله تبارك وتعالى بما شرع؛ لأن الله تبارك وتعالى شرع لنا من الدين ما وصى به جميع الأنبياء والمرسلين، وهو أن يعبد الله بما شرع، وألا يتفرق الناس في دينهم، فهنا لابد وأن نعلم أن العلاج والمخرج من الفتن هو التمسك بالكتاب والسنة.

اعتصام السلف بالسنة ومبادرتهم في العمل بها

ولذلك ضرب السلف رضي الله عنهم أجمعين أعظم وأروع الأمثلة في التمسك بالسنة، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم الآن يقول: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، فقال: ولده بلال والله لنمنعهن، يتخذنه دغلاً، قال: أو أقول لك إن رسول الله قال، وتقول: والله لنمنعهن، والله لا حدثتك حتى الموت)، هذا الرجل أحب الله ورسوله فوق حبه لولده، ولذلك خاصمه، وأبعده عنه وعن رحمة الأبوة؛ لأنه رد على الله عز وجل وعلى رسوله أمره: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال: والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً.

امرأة تأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعها ابنتها، فيقول لها النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى سوارين من ذهب في يد البنت: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أتحبين أن يسورك الله بسوارين من نار)، فلم تقل: لا، ولكنها بادرت وسارعت بخلع هذين السوارين، وألقتهما على الأرض وقالت: هما لله ورسوله. فما الذي حملها على ذلك؟ إيمانها بالله، وتوحيدها الخالص لله عز وجل.

رأى النبي عليه الصلاة والسلام بعض النسوة بعد أن خرجن من المسجد -أي: مسجد المدينة- قد سرن في عرض الطريق -كما نشاهد اليوم النساء الغافلات الجاهلات يخرجن إلى الأسواق والطرقات والشوارع، بجوار بعضهن البعض حتى يغلقن الطريق أمام المرارة- فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام ذلك منهن قال: (ليس للنساء عرض الطريق)، فلما سمعت النساء بهذا النهي والتحذير التصقت كل واحدة منهن بالجدار، أي بحافة الطريق حتى يتعلق ثوبها بالجدار، تصديقاً وإيماناً وإذعاناً لما جاء عن الله ورسوله.

كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا نزل منزلاً مع أصحابه تفرقوا في الشعاب والأودية فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن تفرقكم هذا من الشيطان قال أبو هريرة : فوالله ما نزلنا منزلاً بعد أن سمعنا قوله إلا وانضم بعضنا إلى بعض، حتى لو طرح علينا الثوب الواحد لعمنا أجمعين)، لقد حقق الصحابة رضي الله عنهم معنى: محمد رسول الله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

حكم إسقاط المرأة جنينها نكاية بزوجها

السؤال: امرأة كانت غاضبة من زوجها وكانت حاملاً، فكادت زوجها، ونكاية به أسقطت جنينها، والآن هي نادمة، فماذا عليها؟

الجواب: هذا الفعل من أعظم الجرم، وهو كبيرة من الكبائر، لأنه قتل نفس، فينبغي على هذه المرأة أن تتوب إلى الله عز وجل بصدق وإخلاص، وأن تعتذر إلى زوجها، وينبغي أن تصدق في توبتها إلى الله عز وجل، فما ذنب هذا الجنين الذي مات؟! هل هذه المرأة استشعرت أنه سيأتي يوم القيامة ويمسك بها ويجرها إلى لله عز وجل، ويقول: يا رب سل هذه لم قتلتني؟ ألم تستشعر المرأة هذا؟ والله لو أنها آمنت بالله حق الإيمان ما فعلت هذا، ولكنها فعلت ذلك في لحظة ضعف شديد، وغفلة وسطوة من الشيطان عليها، فيبغي عليها أن ترجع بنفس المقدار الذي خرجت به إلى الإيمان وزيادة، وأن تسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتها على الإيمان، والعمل الصالح، وأن لا تعود إلى هذا الفعل مرة أخرى ولا إلى غيره.

حكم دراسة الفلسفة

السؤال: سمعت كثيراً في محاضرات الفلسفة: حدوث العالم، قدم العالم، ولم أستطع فهم هذه المصطلحات، فهل قدم العالم مناف للتوحيد، علماً بأني طالب بقسم الفلسفة، نرجو التوضيح؟

الجواب: إن كان هذا الأخ في قسم الفلسفة فليتق الله تبارك وتعالى في نفسه، وليتحول في العام القادم إلى قسم آخر، وليكن قسم اللغة العربية، فإن الفلسفة كفر وإلحاد وزندقة؛ لأنها بمثابة السحر، ولا يتقرب منه إلا العلماء الذين يقتربون منه من أجل إبطاله وإفساده، أما أنت أيها الأخ الكريم فينبغي عليك أن تفر من هذا القسم فرارك من الأسد.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أثر التوحيد في تزكية النفوس للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net