إسلام ويب

العقيدة الصحيحة هي الركيزة الأولى في بناء الأمة، وأساسها العلم والإيمان، وطريقها الوحي، وآية ذلك حياة الصحابة الكرام المليئة بصور البذل والتضحية، وفسادها طريق إلى الأزمات والمحن ونزع الأمانة من قلوب الناس.

ذكر حديث حذيفة في الأمانة النازلة في جذر قلوب الرجال

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثين، فقد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثني: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فتعلموا القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها في القلب كمثل الوكت، ثم ينام النومة الأخرى فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها في القلب كمثل المجل -أو المجل- كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، ثم أخذ كفاً من حصى فدحرجه على رجله، ثم قال حذيفة رضي الله عنه: فأصبح الناس يتبايعون فما منهم من أحد إلا وهو خائن، أو قال: فما أحد يؤتمن على شيء، حتى يقال عن الرجل: ما أظرفه! ما أعقله! ما أجرأه! ما أشجعه! وليس في قلبه حبة خردل من إيمان. ثم قال حذيفة رضي الله عنه: ولقد كنا في زمان ما كنت أبالي أيكم بايعت، فلئن كان مسلماً رده علي دينه، ولئن كان يهودياً أو نصرانياً رده علي ساعيه، وأما اليوم فلا أكاد أتبايع مع واحد منكم إلا فلاناً وفلانا).

هذا الحديث وإن كان قليل المبنى إلا أنه عظيم المعنى، ففيه يتكلم حذيفة رضي الله عنه عن الأمانة ورفعها وعن أصل وجود الأمانة.

ولقد فسر كثير من أهل العلم بأن الأمانة هنا هي الإيمان، وهي الطاعة، وهي التكاليف الشرعية، وكل ذلك جائز في شرح الحديث وفي تأويله؛ ولذلك بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى لهذا الحديث في كتاب الرقائق بباب (رفع الأمانة)، وبوب النووي في صحيح الإمام مسلم له كذلك (باب رفع بعض الأمانة من بعض القلوب)، ثم قال: (باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن عليها كعرض الحصير عوداً عودا).

هذا الحديث في مطلعه يقول حذيفة رضي الله عنه: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثين فقد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أولاً عن أصل الأمانة) وهو أن أصل الأمانة إنما ينزل في جذر قلوب الرجال، والجذر هو أصل الشيء، فالأمانة والإيمان أنزلها الله تبارك وتعالى في أصل قلوب الرجال.

وذكر الرجال ولم يذكر النساء من باب التغليب، وإلا فكل مخلوق ولد على الفطرة، أي: فطرة الإسلام، ولذلك ورد في الحديث في الصحيحين (ما من مولود إلا يولد على فطرة الإسلام، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فأصله على العهد والميثاق الأول الذي أخذه الله تبارك وتعالى عليه، فما من مولود يولد إلا وهو مقر بألوهية الله عز وجل وربوبيته في وقت واحد، إلا وهو موحدٌ، ولكن اللوث والوسخ إنما يدخل عليه بسبب والديه؛ فإنهما يهودانه؛ أي: يجعلانه يهودياً، أو نصرانياً أو مجوسيا، وأما أصل خلقه فإنه مسلم؛ لأن الأمانة نزلت في جذر قلبه وفي أصله.

(إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل بعد ذلك القرآن فتعلموا من القرآن وعلموا السنة)، وهذا ترتيب طبيعي للقلب النقي أن يمتلأ بالإيمان أولاً، ثم إذا كان حاله كذلك انتفع بالقرآن ثم انتفع بالسنة بعد ذلك، وأما من هجم على القرآن، وهجم على السنة ولم يكن عنده من الإيمان ما يسمح له بالانتفاع بآيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه سرعان ما يزول هذا العلم كله؛ لأنه إنما وقع على أرض ملساء لا يمكن أن يثبت فيها شيء، فالإيمان أولاً، والعقيدة الصحيحة أولاً، ثم يأتي من بعد ذلك: العلم، هذا الترتيب الطبيعي، ولذلك قال جرير بن عبد الله البجلي : كنا نتعلم الإيمان فإذا نزل القرآن تعلمنا منه وازددنا به إيماناً.

ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فإذا نزلت السورة قرأناها وتلوناها وتعلمنا حلالها وحرامها، ووقفنا عندما ينبغي أن يوقف عنده، ثم أتى من بعد ذلك أقوام أوتوا القرآن قبل الإيمان، فإنهم يقرءونه من فاتحته إلى خاتمته لا يعرفون زواجره ولا أوامره ولا نواهيه، ثم إنهم لم يتعلموا حلاله ولا حرامه ولا وقفوا عند ما يجب عليهم أن يقفوا عنده، ينثرونه نثر الدقل.

إذاً: فالإيمان أولاً قبل القرآن وقبل السنة كذلك، بل لا بد أن يحصن المرء تحصيناً عظيماً خاصة في هذه الأيام، فإذا كان حذيفة رضي الله عنه الذي عاش في القرآن الأول يقول: ثم حدثنا رسول الله عن رفع الأمانة -أي: من قلوب الرجال-؛ فكيف حالنا نحن في هذا الزمان؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه)، ينام الرجل مرة فيقبض بعض الأمانة من قلبه (فيظل أثرها في قلبه مثل الوكت) والوكت هو: الأثر اليسير والسواد القليل، إذا نزع شيء من هذا النور، ومن هذا الإيمان، ومن هذه الأمانة من ذاك القلب يظل أثرها أسود له علامة تدل على أنه كان هنا نور ولكنه ذهب، ثم ينام الرجل النومة الثانية فتقبض بعض الأمانة من قلبه كذلك، ولكن أثرها في هذه المرة أعظم من أثرها في المرة الأولى، فيظل أثرها في القلب كالمجل، أي: كأثر السيف الذي يمسكه الفاعل ويضرب به في الأرض وليس له عادة به، فإنه يحدث له في كفه بعض الفقاقيع؛ لأنه لم يتعود على ذلك، فإنه كان معتاداً على الرفاهية والنعيم، كان معتاداً على الإيمان، ولكنه لما نزع منه الإيمان ونزعت منه الأمانة نكتت في قلبه مثلما ينكت في يد العامل الذي لم يكن معتاداً على مثل هذا النوع من العمل، فيظل أثرها في قلبه مثل المجل، ثم شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تشبيهاً بليغاً، فقال: كجمر دحرجته على رجلك، كجمر أتيت به ثم دحرجته على رجلك، فما الذي تراه من جراء هذا الفعل؟ الذي تراه أن جلدك ينتفخ ويبدو عالياً وليس فيه شيء إلا قليل من الماء، هذه هي الفقاعات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضرب هذا المثل زاد في المبالغة في تشويه هذه الرجل، فأخذ كفاً من حصى فأجراه على رجله، إذا كان في رجلك أو في يدك بعض الفقاقيع فأتيت بحصى فأجريتها على هذه التورمات فلا شك أنها تؤذيها غاية الإيذاء، وتشوهها غاية التشويه، وكأنه أراد أن يقول: إن الإيمان إذا نزع من القلب أولاً في النومة الأولى فيمكن علاجه بأيسر طريق: بالرجوع والتوبة إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في حصول الإيمان كما كان أولاً، وأما في المرة الثانية فيصعب جداً؛ لأن القلب قد تشوه تماماً فيحتاج إلى وقت طويل لإعادته كما كان ولا يكون كما كان، لأن هذه الساق التي دحرجت عليها الحصى لا بد وأن يذهب الحصى ولكن يبقى الأثر على مر الدهور والأيام، ولذلك لو أن واحداً حدث له هذا وصنع بنفسه ما صنع لا بد وأنه يقول في كبر سنه: هذا الأثر الذي في ساقي إنما كان ذلك وأنا صغير، قد حدث معي كيت وكيت، فيبقى أثره موجوداً، وكذلك الحال في الإيمان الذي فقد من القلب، فلا يزال القلب حينئذ يئن من فقدان بعض الإيمان وعدم انتفاعه به.

ثم يقول حذيفة رضي الله عنه: (وإن الناس يتبايعون)، أي: يبيعون ويشترون بعضهم من بعض، ولكن لا يثق الواحد منهم بالأخر، إن الرجل إذا نزل السوق الآن ليشتري هل يأمن أن يعامله البائع بإيمان وأمان، فإن الأمانة من شعب الإيمان، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، وهذا يدل على أن الأمانة إنما هي شعبة من شعب الإيمان.

إن الرجل لو نزل السوق الآن يكاد يحرص كل الحرص على أن يأخذ بضاعة نصف مزجاة، نصف معيبة؛ لأنه حرص ألا يأخذ بضاعته كلها معيبة؛ لرفع الأمانة ورفع الإيمان من قلوب الرجال وقلوب النساء كذلك.

ثم يقول: (وإن الرجل يقال عنه: ما أجلده! ما أعلمه! ما أعقله! وليس في قلبه حبة خردل من إيمان).

إن الرجل الآن بالتعبير الشعبي ( الفهلوي) هو الذي يقال له: إن هذا الرجل هو الذي يصلح أن يعيش في المجتمع، إن هذا الرجل هو الرجل النافع، وهو العضو الصالح في المجتمع، أما أنا وأنت فأعضاء فاسدون غير مرغوب فينا ولا في حياتنا؛ لأننا بقدر الإمكان نتمسك بإيماننا وديننا، وهذا من بلايا الزمان الذي يخون فيه الأمين ويؤتمن فيه الخائن، الزمن الذي يؤمر فيه بالمنكر وينهى فيه عن المعروف، الزمن الذي يقال فيه للصالح: أنت طالح، الزمن الذي يقال فيه للطالح: أنت الرجل الصالح، أمور قد اختلفت وانعكست.

ولذلك يقول حذيفة : (وإني كنت في زمن لا أبالي أيكم بايعت، فلئن كان مسلماً رده علي دينه، ولئن كان يهودياً أو نصرانياً رده علي ساعيه) ، وهذا الكلام يعني أن حذيفة رضي الله عنه في أوليات حياته وفي زمن حياة النبي صلى الله عليه وسلم قد كان الأمان والإيمان قد انتشر انتشاراً عظيماً، بحيث إن الواحد إذا أراد أن يبيع أو يشتري لا يبالي مع من يتبايع؛ لأنه لو كان مسلماً لأمره إسلامه بعدم الغش وألزمه بالأمانة في البيع والشراء، ولئن كان يهودياً أو نصرانياً ووقع منه بعض الغش لقام وليه وسيده ومولاه برد الحقوق والمظالم على أصحابها، فالأمر على الستر والأمان والأمانة والعفاف، ولكن حذيفة رضي الله عنه عاش طويلاً فأدرك في آخر أيامه أقوماً قد ظهر فيهم الغش وعدم الأمانة.

قال: وأما اليوم فأنا لا أبايع منكم أحداً إلا فلاناً وفلانا، كأنه يقول: رفعت الأمانة فما بقي هناك أمان حتى في البيع والشراء، حتى في حياة الناس، وفي أمورهم الدنيوية، لم يبق هناك أمان حتى في البيع والشراء، هذا الحديث بمنطوقه ومفهومه يدل على أن بعض الغش وقع في أخريات زمن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فإذا كان حذيفة لا يأمن في ذاك القرن الأول أن يتبايع مع أحد من الناس إلا أناساً قلة يعرفهم هو بنفسه فما بالكم بأهل هذا الزمان الذي ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، الناس كثير ولكن قل من يُرضى منهم، وقل من صلح حاله منهم، وقل من يصلح لصحبة، ويصلح لصداقة ويصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصلح للدعوة إلى الله عز وجل، الناس كإبل مائة، من كل مائة بعير لا يصلح للحمل عليه إلا بعير واحد، لا تكاد تجد فيها راحلة؛ أي: صالحة لحمل الرحال.

التشريع وأثره في حل المشاكل والأزمات

ولذلك في هذا الزمان وما نراه من تأخر المسلمين وتسلط الكافرين عليهم في كل الميادين؛ اختلفت أنظار الناس في وصف حال المسلمين، فمنهم من قال: إن السبب هو أزمة المواصلات، ومنهم من قال: بل السبب أزمة اقتصادية، أزمة اجتماعية، أزمة شعبية، كثرة في العدد، وتسمع من حثالة العقول أزمات مفتعلة مفتراة، ثم هم لا يتحدثون عن الأزمة الحقيقية، أزمة الإيمان، ورفع الإيمان والأمانة من كثير من القلوب، لا يتحدثون عن هذا ولا يتحدثون عن تمتين الصلة بالله عز وجل، لا يتحدثون عن لزوم الطاعة لله تبارك وتعالى وتحري مرضاته في كل قول وفعل وعمل، لا يتحدثون عن هذا، وإنما يفترون أزمات مفتعلة، ولو سلمنا أن هذه أزمات موجودة في الأمة لقلنا: إن حلها قد وجد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أو لا يفقهون، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له).

هذا الحديث الواحد يحل أزمتين من أزمات المسلمين بل من أزمات الخلق أجمعين، فلو أن الغني فاض بماله على الفقير، ولو أن الراكب تصدق بمقعد على الواقف في الطريق الذي ينتظر المواصلات لحلت أزمة الفقر ولحلت أزمة المواصلات، تجد الأمم في الصباح يقفون على الطرق وفي الشوارع لانتظار المواصلات، وفي الوقت الذي تجد فيه أن باصاً قد حمل فوق طاقته عشرات المرات وأن الذي يقف على باب الباص يعادل ما يملأ باصاً آخر، في الوقت الذي تجد فيه أصحاب السيارات الفارهة ليس فيها إلا واحداً فقط، فما الذي يمنع هذا إن كان مسلماً أن يحمل معه من وقف على قارعة الطريق إلى العمل، ما الذي يمنعه؟!

إن الذي يمنعه قلة إيمانه، ولو أنه كان مؤمناً حقاً وعلم بهذا الحديث لا بد وأن يعمل به، إن الرجل يبيت متخماً من كثرة الطعام، وجاره يتلوى من الجوع وهو لا يفكر فيه، أهذا خلق من أخلاق الإسلام؟! أهذا إيمان بالله ورسوله؟

وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام إذا طبخ أحدنا مرقة فيُكثر ماءها ويتعاهد جيرانه، ولا يبيت الرجل المؤمن شبعان وجاره جائع، هذا خلق الإسلام، إننا نقول: إن فلاناً لا يجد لقمة العيش، لماذا؟ لتفريط الغني في حقه، أزمات كلها مفتعلة، ولذلك لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن معظم الأمراض مصدرها البطن قال: (ما ملأ ابن آدم وعاءً قط شراً من بطنه) ولذلك حتى الأطباء يقولون: إن معظم الأمراض مصدرها البطن.

وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم وجعل لنا الحجاب الواقي من هذه الأمراض فقال: (اتقوا الملاعن الثلاث، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: البراز في موارد الناس وفي ظلهم وفي طريقهم).

فقوله: (اتقوا الملاعن): أي: التي تجلب اللعنة وتسببها، وموارد الناس: هي مواردهم المائية، ولو أنك نظرت الآن -ونحن في بلد النيل- لوجدت بلداً يحوطه الماء من كل جانب ولكن هذا الماء ملوث.

لأننا -قبل غيرنا من اليهود والنصارى في بلاد أوروبا- مددنا الأنابيب التي تدفع الفضلات في عرض البحر وفي وسطه فتلوث الماء كله فنتج عنه أمراض لم نسمع بها في الأمم السابقة، أليس هذا الحديث علاجاً واقياً من وقوع الأمراض، ولو أننا عملنا بهذا الحديث فقط فلا نحتاج بعد ذلك إلى وزارة الصحة أو غيرها، إن كل بلية نزلت بالمسلمين حلها في نصٍ أو في شطر نص من كتاب الله عز وجل أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن الإسلام قد احتاج من أبنائه الآن ما احتاجه منهم أولاً، فلماذا تمكن الإسلام ومكن المسلمون من إقامته على وجه الأرض قديماً ولم نتمكن منه نحن، بل نحن الآن نحتضر، لماذا هذه الهوة الواسعة بيننا وبين السلف، أتظن أنهم كانوا أكثر منا عددا؟ أتظن أنهم كانوا أكثر منا مالا؟ أتظن أنهم كانوا أو كانوا أو كانوا؟

الجواب: لا، فلو نظرنا إلى العدد لوجدنا أنهم بالنسبة لنا قلة قليلة جداً، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟)؛ لأن هذا الأمر لم يكن في زمن النبوة، بل ولا في زمن الخلافة، ولذلك سأل الصحابة عنه؛ لأنهم لم يروه في زمانهم، فقالوا: (أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).

نحن اليوم كذلك فعلاً نحب الدنيا ونكره الموت؛ لأنه لا عمل صالح لنا يؤهلنا للقدوم على الله عز وجل، إن الله تبارك وتعالى سيسألك عن هذا الدين، ولذلك في حديث معقل بن يسار الذي أخرجه مسلم : (ما من راع يسترعيه الله رعية يموت حين يموت وهو غاش لها إلا أدخله الله النار وحرم عليه الجنة).

كل منا راع ولكن كل واحد منا فرط في رعيته، فرط فيما أمره الله تبارك وتعالى به، ولذلك -أيها الإخوة الكرام- هذا وصف دائنا، وكم قلنا وكم قال الدعاة هنا وهناك بالليل والنهار، دعوا أقوامهم ودعوا المسلمين إلى الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ولكن قل من يستجيب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إلى متى هذا الذل وهذا الهوان؟! إلى متى يرتفع اليهود أبناء القردة والخنازير بنعالهم فوق رءوس أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!

لقد فعلنا كل شيء يغضب الله تبارك وتعالى، إذ اكتسبنا كل معصية وقعت في أمة من الأمم وقد اجتمع فينا الشر كله، ولذلك عاقبنا الله تبارك وتعالى بعدله، فإن الله لا يظلم الناس شيئاً.

صور من بذل الصحابة وتضحيتهم من أجل الدين

إن الإسلام قد طلب من الناس في أول الأمر أن يبذلوا دماءهم فبذلوها، وطلب منا الآن أن نبذل دماءنا فضننا وبخلنا وجبنا.

فهذا طلحة بن عبيد الله كان يقي النبي صلى الله عليه وسلم من تلك السهام؛ لأنه يعلم أن الضحية سيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بظهره وبطنه ودماغه وكل شيء في بدنه.

وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي ضرب المثل الأعلى بعد رسول الله في هذه الأمة في كل ميادين الحياة، لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة من مكة إلى المدينة، وذهب إلى أبي بكر فقال: الصحبة الصحبةَ يا رسول الله، فأحضر بعيرين له وللنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخذا طريقهما في صحراء مكة وتبعهما سراقة بن مالك بن جعشم وأبو بكر ينظر إليه تارة فيسبق النبي ويتأخر عنه مخافة عليه، فلما اقترب سراقة منهما بكى أبو بكر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: علام تبكي يا أبا بكر ؟ قال: إن سراقة تبعنا يا رسول الله، فوالله لست على نفسي أبكي إنما أبكي عليك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم أكفناه بما شئت وكيف شئت، فساخت فرس سراقة في الصخر حتى استقرت على بطنها، فأتاهما سراقة يمشي على رجليه.

وكذلك احتاج الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم بذل المال فلم يضنوا به مع الحاجة والفقر، فهذا أبو بكر يأتي بكل ماله -لما علم أن الإسلام في حاجة إلى المال- ووضعه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهل بيتك يا أبا بكر ؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.

ولذلك لا غرابة بعد ذلك أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر).

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي بشطر ماله، فلما وجد أبا بكر قد أتى بجميع ماله قال: والله يا أبا بكر لا أسابقك إلى خير قط، فإني ما سابقتك إلى شيء إلا قد سبقتني إليه.

وهذا أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل رضي الله عنه لما نزل قول الله تبارك وتعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92] كان له بستان عظيم جداً بجوار المسجد النبوي في ذلك الوقت، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: والله -يا رسول الله- إن أحب مالي إلي بيرحاء هذا البستان، فخذه فضعه حيث أمرك الله عز وجل.

هذا رجل من الصحابة وهو نموذج فريد لبذل أحب ما يملكون من مال لله سبحانه، فمن منا يمكن أن يصنع ذلك؟

الجواب: لا، لماذا؟

لفقدان الإيمان أو قلته، ولو كان عندنا من الإيمان الشيء الكثير لدفعنا إلى أن نصنع كما صنع الصحابة، وأن نعلي كلمة الله كما أعلاها الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

وهذه أم سليم الرميصاء رضي الله عنها زوجة أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، كان الضيف ينزل بالنبي عليه الصلاة والسلام فيقول: (هل فيكم من يضيف هذا؟ فيسكت القوم أجمعون -وهذا دليل على أنه ليس في بيوتهم شيء-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا طلحة! خذ هذا وضيفه، فلما صدر إليه الأمر ما كان منه إلا أن ينصرف بضيف رسول الله إلى بيته، فلما دخل على أم سليم ، قالت: من هذا يا أبا طلحة ؟ قال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرني أن أضيفه، فقالت: نعم الضيف، ولكن ليس عندي إلا طعام الأولاد، فاجتهدت في أن ينام الأولاد، فلما أفلحت في ذلك أحضرت الطعام ووضعته بين يدي أبي طلحة ، وقالت: إن هذا الطعام لا يكفي إلا لواحد فقط يا أبا طلحة، فإذا وضعته بين يدي الضيف فأطفئ السراج، واصنع بيدك وفمك ما يصنع الآكل حتى توهمه أنك تشاركه في الطعام والشراب، ففعل ذلك أبو طلحة رضي الله عنه حتى أكل الضيف جميع الطعام، فلما أصبح الصباح وغديا على رسول الله في صلاة الفجر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا طلحة! لقد عجب الله من صنيعكما تلك الليلة)

ما الذي دفع أم سليم إلى هذا الفعل وما الذي دفع أبا طلحة إلى هذا الفعل؟

إنه الإيمان بالله عز وجل، هذه الحلقة المفقودة عندنا الآن هي التي دفعت الصحابة رضي الله عنهم إلى نصرة هذا الدين بأموالهم وأنفسهم.

وهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي قال: كنت أعتمد بكبدي على الأرض من شدة الجوع، ولكنه إذا نودي للبذل والعطاء كان من أسرع الناس استجابة لشدة إيمانه بالله عز وجل.

وكما احتاج الإسلام إلى بذل النفس وبذل المال احتاج كذلك إلى أشياء أخرى كثيرة، احتاج منهم إلى بذل العلم وطلب العلم، فكانوا أشجع الناس، وأصبر الناس على أهوال الصحراء وشدتها، ولذلك كان الواحد منهم يرحل في الحديث الواحد ما بين مكة والمدينة، أو ما بين المدينة ومصر، لأجل حديث واحد، ومع توافر وسائل المواصلات لدينا الآن فإننا لم نقم قيامهم، وإنما فرطنا أعظم تفريط، فربما يكون العالم بين يديك ولكنك تكسل أن تسأله سؤالاً، فكان الواحد منهم إذا علم أن هناك حديثاً قد حمله عن النبي صلى الله عليه وسلم رجل في أقصى البلاد ذهب إليه.

فهذا مسروق وأبو وائل يقولان: لو علمنا أن آية في كتاب الله مع فلان -أي: أن تأويلها وتفسيرها عنده- ثم لم يمكن الوصول إليه إلا بشق الأنفس لفعلنا ذلك. لماذا؟

لأنهم علموا قيمة ما يطلبون، وأما نحن فإن الواحد منا الآن بإمكانه إن يرفع سماعة الهاتف ويتصل بعلماء الأرض شرقاً وغربا، ولكننا لا نفعل ذلك؛ لأننا لسنا في حاجة إلى العلم، فالعلم كله بين يديك وكل بيوتنا قد امتلأت بالكتب، وقل من يمد يده، يمنعه الحياء أن يمد يده إلى البخاري أو مسلم أو تفسير ابن كثير ، لا بد أن يكون هناك خلل في القلب، وخلل في العقل، فإن الصحابة رضي الله عنهم -بل سلفنا جميعاً- بذلوا المهج في طلب العلم، ولذلك تراهم قد صنفوا في كل أصناف المعرفة.

وأما نحن الآن فمع توافر هذه الوسائل فإننا قد جعلناها خلف ظهورنا، ولم نأبه بها، بل أزيد من ذلك وأكثر أن الواحد منا ربما وظف ما آتاه الله من علم لخدمة أعداء الإسلام، وبعض أهل العلم قد استخدموا العلم في الأعراض والأغراض الدنيوية: في المكسب، في الكرسي، في المال، في الشهوة، بل منهم من وضع نفسه وذاته في خدمة أعداء الإسلام فخرج بالفتاوي التي هي أشبه بالبلاوي التي حلت بالأمة، والأمة سارت خلف بعض هذه الفتاوي، ليس من باب إيمانهم بالله، ولكن من باب: ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالماً.

كما كانت بنو إسرائيل تفعل، فإنهم استحلوا محارم الله بأدنى الحيل، فهذه حيلة ولكنها لا تنفع بين يدي الله عز وجل، بل إننا نرى أن كثيراً ممن وظف الكتابة والقدرة على التحكم في القلم أنه في النكاية بالإسلام وأهله، وأنتم ترون الآن هنا وهناك كل يوم يخرج علينا رجل -وإن شئت فقل: امرأة- يتكلم بالطعن في الإسلام وأهله؛ لأن هذا الوقت يسمح لمن كان في قلبه ضغينة وحسد للإسلام وأهله أن يتفوه به؛ لأنه لا رقيب ولا حسيب، ولذلك أنت ترى مثلاً ذلك المدعو حسن طلب يصنف كتاباً كله كفر وينضح بالفسق والزندقة والإلحاد يسمى: آية جيم.

وأخر يصنف كتاباً يسب فيه الصحابة، ويذكر أن مجتمع النبي عليه الصلاة والسلام ومجتمع الخلفاء الراشدين كله كان مجتمع زنا وخنا وفجور، ويصف الخلفاء الراشدين بأبشع الأوصاف التي لو وصف به هو أو أبوه لقاتل دون ذلك حتى آخر قطرة من دمه، أهو أحسن من عمر؟! أهو أحسن من المغيرة بن شعبة؟!

وأخيراً -وليس بآخر في هذه السلسلة- ظهر الآن رجل في كلية الألسن يسب الله تعالى ورسوله علناً في محاضرته، وربما يخرج علينا عما قريب بكتاب ينضح فيه من بئره ما شاء، من الذي يحاسب هؤلاء؟

إن سكوت المسئولين عن أمثال هؤلاء هو الذي أودى ببعض الشباب -غيرة على دينهم- أن ينتقموا لله عز وجل ولرسوله، إن ما نحن فيه قد شارك فيه الجميع، إن هذه الهوة قد نزل فيها الكل، والله تبارك وتعالى سيحاسب الجميع على هذا التفريط.

وقد احتاج الإسلام قديماً إلى الدعوة إلى الله عز وجل فقام الصحابة خير قيام، فانظر إلى بلال وهو عبد، كان يسحب على رمضاء مكة تارة على بطنه وتارة على ظهره من أجل أن يكفر، فكان يقول: أحدٌ أحد، انظر إلى هذا الجلد وإلى هذا الصبر، لقد حققوا قول الله عز وجل وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

نعم إنهم قد حققوا الإيمان بالله وقد عملوا بمقتضى هذا الإيمان وصبروا على الأذى فيه، وتواصوا فيما بينهم بالحق والصبر، إنهم قد حققوا ذلك، حتى رآه أبو بكر رضي الله عنه فاشتراه وأعتقه.

يقول عمر رضي الله عنه مكافأة لهذا العبد: أبو بكر سيدنا أعتق سيدنا. انظروا إلى هذا التواضع الجم من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي له شأن وباع وإذا ذُكر ذكر العدل كله وذكرت الشهامة كلها، أن يقول في حق عبد: هو سيدنا.

ولذلك هذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، وهو نموذج فريد من نماذج الصحابة الذين بذلوا لله عز وجل، لما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه ما سمع من القرآن والحديث شرح الله صدره للإسلام فأسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا ذر! أذهب إلى قومك فمرهم وانههم، فقال أبو ذر : والله لا أفعل حتى ألقي بها بين ظهرانيهم حول الكعبة، فخرج فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فاجتمع عليه صناديد الكفر والشرك في مكة فضربوه حتى أدموه، ولم يحجزهم عنه إلا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: يا قوم! ألا تدرون أن هذا من غفار وأنها قرية بالشام وأنكم في طريق تجارتكم تمرون بها، فربما انتقموا منكم أو منعوكم من التجارة. فلما علموا ذلك وأن هذا يؤثر على مصلحتهم في دنياهم كفوا عنه.

هذا هو الإيمان بالله الذي دفعه إلى فعل هذا.

وهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه (أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد مسه أذى المشركين، فقال: يا رسول الله! ألا تدعو لله لنا؟ ألا تستنصر لنا -أي: تطلب النصر من الله تبارك وتعالى-؟ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وقال: إن الرجل فيمن كان قبلكم كان ينشر بالمناشير ما بين لحمه وعصبه وعظمه لا يرده ذلك ولا يصرفه عن دينه).

انظر إلى هذا التأصيل الإيماني العقدي، أنت تريد أن أدعو الله لك أن يصرف عنك هذا، بل هذا سنة عظيمة من سنن الله تبارك وتعالى الكونية: أنه لا بد من صقل هذه القلوب وصقل هذه النفوس لتتحمل بعد ذلك في ذات الله عز وجل، ثم قال: (وإن الرجل ليوضع المنشار في مفرق رأسه فينشر نصفين حتى يلقى على الأرض قطعتين لا يرده ذلك عن دينه -ثم تأتي البشارة بعد هذا النكد وبعد هذا الألم-، وليتمن الله تبارك وتعالى هذا الأمر -أي: هذا الدين- حتى يدخل في كل بيت حجر أو مدر، وإن الراكب ليسير من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه).

نعم المستقبل لهذا الدين، ولكن صبراً صبراً أيها المسلمون، فإن الكفر يتهاوى يوماً بعد يوم، وإن الباطل قصير عمره وإن الحق باق بقاء الدهر كله.

انظروا إلى هذا النموذج العظيم، ثم من بعده البشارة العظيمة بالنصر والتمكين، فلا بد وأن يختم لأهل الإيمان به وكذلك للإسلام والمسلمين، إنهم قد بذلوا أحسن بذل في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

انظر إلينا نحن ترى عجباً، ولا أتورع أن أقول: إن معظم الدعاة إنما يفعلون ذلك رياء وسمعة كل يبتغي شهرة، ويبتغي مالاً، يبتغي منصباً؛ لأن الأمر لا بد فيه من وقفة مع النفس والذات، فإن القلوب والنفوس قد امتلأت كبراً وعجباً، وإن البعض منا إنما يدعو إلى نفسه لا يدعو إلى الله تبارك وتعالى، ولو أن هؤلاء الدعاة في مشارق الأرض ومغاربها تكلموا لله عز وجل، واستمع المدعو إلى هذا الكلام وإلى هذه الدعوة التي يسمعها لله لتغير الحال، ولكن الكل إلا ما ندر وقل إنما حرص على نفسه هو، ودعا إلى نفسه، وهذا أمر يدعو إلى الأسى والمرارة والحزن؛ لأن الأمر لو كان لله لتغير والله، فإن الصحابة رضي الله عنهم إنما فعلوا لله وبذلوا لله وضحوا لله، فكافأهم الله تبارك وتعالى مع قلة عددهم وعدتهم، ولكن بفضل إخلاصهم من الله تبارك وتعالى عليهم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

أهمية الإيمان والعلم في مواجهة أزمات الأمة

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

إذا كنا -أيها الإخوة الكرام- جادين في نصر الإسلام وأهله فلا بد من عود حميد إلى الله تبارك وتعالى، وإنني أردت بهذا الكلام نصيحة لنفسي أولاً وللمسلمين ثانياً، أننا لا بد وأن نكون صادقين في العزم وفي الرجوع إلى الله تبارك وتعالى، هذا الذي تصلح به البلاد ويصلح به العباد، وغير ذلك مهما سعينا وبذلنا فإن الله لن يصلحنا أبداً إلا بالإخلاص ثم بالعقيدة الصحيحة السليمة.

إن الأمة تمر الآن بأزمة في إيمانها، إن الأمة لا تعاني قط من أي أزمة أخرى، إلا أزمة الإيمان وأزمة العقيدة الصحيحة، ولذلك بوب البخاري عليه رحمة الله -وهو أول باب في البخاري- قال: باب بدء الوحي. ثم ثناه بكتاب الإيمان، ثم ثلث بكتاب العلم، كأنه أراد أن يقول: إن أول واجب على المسلم أن يتعلم إيمانه.. أن يؤمن بالله، وطريق الإيمان العلم، ولما كان مصدر ذلك الوحي فقد بدأ البخاري كتابه بكتاب بدء الوحي، ليدل على أن الوحي والإيمان والعلم مرتبط كله، أو مرتبط بعضه ببعض تمام الارتباط، وأنه لا غنى لواحد منهما عن الآخر، وقد عبر القرآن الكريم عن الإيمان أحسن تعبير، بل عبر عنه بأساليب شتى، فتارة يعبر عنه بأخذ العبرة من الحوارات التي دارت بين الأنبياء وبين أقوامهم، وتارة بضرب الأمثال، وتارة بذكر القصص، وتارة بالأمر بالإيمان كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

نعم الإيمان هو النور الذي وقر في القلب وهو العمل، ولذلك يقول أهل السنة والجماعة: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.

فإيماننا يزيد بالطاعات، فلا بد وأن يرى الواحد منا موطنه عند الله عز وجل إما بطاعته وإما بعصيانه، وأظن أن الكل يرى مكانه في الوحل ويرى منزلته عند الله في الدون لكثرة معاصيه وإقباله على الذنوب والآثام، وبعده عن الطاعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فنسأله تبارك وتعالى أن يردنا إلى دينه مرداً جميلا، وأن يمكن لهذا الدين تمكينا متينا.

انظر -يا أخي الكريم- إلى موقف الصحابة رضي الله عنهم، فقد حققوا كمال الإيمان وتمام الإيمان، فأتم الله تعالى عليهم النعمة وأكمل لهم الدين.

نعم هذا حالهم وهذا حالنا، فالفرق بيننا وبينهم أنهم آمنوا بالله، وأما نحن فإن حالنا على غير تلك الحال التي كانوا عليها، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم عدة أعوام في الدعوة في مكة، هل يعلمهم الصلاة والزكاة والصيام والحلال والحرام؟ أبداً، إنما يعلمهم الإيمان، ويعلمهم السمع والطاعة، ولذلك هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا جاء الرجل من البادية يأتي فيمسك بتلابيب النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: يا محمد! أعطني من مال الله فإنه ليس مالك ولا مال أبيك، فيقوم إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويسل سيفه ويقول: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر، اجلس. فيجلس عمر من كلمة واحدة، وكان عمر إذا قيل له: اتق الله بكى، والواحد منا لو تلي عليه القرآن من أوله إلى أخره لا يبكي ولا يتأثر به، لأن القلوب قد قست وتحجرت.

وهذا سعد بن الربيع وسعد بن معاذ وغيرهما من كبار المهاجرين والأنصار رباهم النبي عليه الصلاة والسلام على الإيمان، وعلى الإخلاص، وعلى التقوى، وعلى الورع، وعلى الزهد في الدنيا، فقاموا بذلك وضربوا المثل الأعلى في تحقيق الإيمان، انظر إلى سعد الذي إذا قيل له: لا تفعل يا سعد، يقول: سمعاً وطاعة لرسول الله، مع أن الأوس والخزرج دارت بينهم حروب طويلة.

انظروا إلى الجاهلية العمياء، ثم يصنع الله تبارك وتعالى على أيدي رسوله من هؤلاء أئمة في الدنيا والدين كذلك؛ لأنهم قد حققوا الإيمان بالله عز وجل، هذا المطلوب منا أيها الإخوة الكرام.

أهمية اجتماع الصف الإسلامي وضابط الدعوة إليه

وربما يقول قائل: إننا في حاجة إلى التجمع وإن العقيدة تقف حائلاً بيننا وبين ما نصبوا إليه.

وهذه الشبهة يثيرونها بين الحين والحين، وأنا أقر بأننا في أمس الحاجة إلى التجميع والاتحاد، خاصة في وجه ذلك الطغيان الكفري الجارف الذي يلاحقنا في كل زمان ومكان، خاصة في هذا الزمان وخاصة في هذا البلد، نعم نحن في حاجة إلى تجمع وإلى اتحاد، ولكن هل يثمر التجمع ثماره إذا اجتمع السلفي والشيعي؟!

هل تقبل أن يكون بجوارك من يقول: إن أبا بكر وعمر هما صنما قريش؟!

هل تقبل من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان ؟

هل تقبل من يقول: إن عائشة وقعت في الفاحشة حقاً؟!

هل تقبل من يكفر معظم الصحابة؟!

وهل تقبل من اتخذ دينه غناءً ورقصاً وطرباً ونغماً، واحتفالاً بالموالد، وطوافاً حول القبور؟!

لقد مررنا بتجارب عظيمة في شرق الأرض وغربها، فلما اتحدوا على غير أساس سرعان ما انهاروا، بعد أن تخلصوا من عدوهم المشترك، اجتمعت الكتائب بعضها على بعض فأمعنوا القتل والسيف في رقابهم، وفي صدروهم، فكانت النتيجة أن ضحك العالم أجمع، وبينوا للعالم أجمع أن هذا هو الإسلام، فقد ضربوا أسوأ مثل للإسلام وأهله.

فلا يمكن أبداً أن نجتمع إلا إذا اجتمعنا على العقيدة أولاً التي تثمر إيماناً خالصاً صادقاً قد زرع في القلوب وقد تمكن منها تمكن جذر الشجرة من باطن الأرض.

لا بد أن تتحد العقيدة أولاً، واتحاد العقيدة هو طوق النجاة من تلك الفتن، لا بد من الرجوع إلى الله تبارك وتعالى، ولكن لا بد أن يكون هذا الرجوع منضبطاً على أصول عقيدة الصحابة؛ لأنه بغير هذا الأصل سرعان ما ينهار هذا البناء فترجع الكرة خاسرة مرة بعد أخرى وتضيع الجهود التي تبذل؛ لأنها بذلت على غير أساس.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا وعليكم بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصادق الخالص.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإيمان قبل القرآن للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net