إسلام ويب

مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته وسط بين التمثيل والتعطيل، فهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه من أسماء وصفات، ويثبتون ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يمثلون ذات الله وصفاته بذوات خلقه وصفاتهم، كما أن لأهل السنة والجماعة قواعد التزموها في أسماء الله وصفاته، تخرجهم من المذاهب الفاسدة التي ذهب إليها أهل الزيغ والضلال.

مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين، وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم بدين.

وكل خير في اتباع من سلفوكل شر في ابتداع من خلف

قد كثر السؤال: من هم أهل السنة والجماعة؟ أهل السنة هم: من تميزوا بكيت وكيت، فتلك عقائدهم، وهذه خصائصهم، وهي التي تميزهم عن غيرهم من سائر فرق الأمة، ولذلك لما تكلمنا عن خصائصهم واحدة بعد الأخرى، بلغنا إلى الكلام عن الوسطية، وقدمنا لوسطية أهل السنة والجماعة بوسطية الأمة عموماً في سائر الأمم، ووسطية الملة في سائر الملل، تمهيداً للكلام الطويل عن وسطية أهل السنة والجماعة بين سائر فرق الأمة التي استوجبت النار في قوله عليه الصلاة والسلام: (وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، فما استوجبت هذه الفرق نار الله -عز وجل- الموقدة إلا بمخالفتها لخصائص أهل السنة وعقيدتهم ومعتقدهم في ربهم على جهة الخصوص، خاصة أسماء الله تعالى وصفاته، فلما خالفت هذه الفرق أهل السنة والجماعة في معتقدهم في ربهم وفي إلههم في أسمائه وصفاته استوجبوا في هذا الباب بالذات أن يدخلوا النار؛ ولذلك بين النبي عليه الصلاة والسلام أن الفرقة الناجية ما استوجبت رحمة الله ولا جنته إلا بسيرها على منهاج النبوة الأول.

وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن الفرقة الناجية: (من هم يا رسول الله؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وفي رواية قال: (هم الجماعة، قيل: ومن هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، وهذا تزكية لمنهج النبي عليه الصلاة والسلام، كيف لا وهو أعلم الخلق بربه، كما أن الله تعالى أعلم بذاته، وكذلك خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، وكذا سائر أصحابه المرضيين هم أعلم الخلق بالله عز وجل، وبرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، كما أنهم كذلك أعلم الخلق بلسان العرب ومدلولات الألفاظ ومعاني النصوص، ولذلك لم يثبت أن واحداً منهم -تبعاً لنبيهم عليه الصلاة والسلام- قال: ما معنى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وما معنى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، وما معنى الساق، وما معنى العين، وما معنى الضحك، وما معنى الغضب، وما معنى الرضا، وما معنى السخط الذي هو ثابت لله عز وجل، ولكن الخلف من الجهمية والمعتزلة والأشعرية لم يرق لهم تلك النصوص، فذهبوا يحرفونها ويعطلونها، ومنهم من ذهب إلى تأويلها وصرف النص عن ظاهره، فكانوا بين فريقين: فريق ذهب يزعم أنه ينزه الله تبارك وتعالى عن الشبيه والمثيل والند والمكافئ، فقال بإلغاء جميع الصفات، وهذا هو الإلحاد في الأسماء والصفات، ولذلك قال الله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، فالإلحاد هو: تعطيل اللفظ أن يجري على ظاهره، مع الإيمان الجازم به وتسليم الكيفية إلى الله عز وجل، وبعضهم إنما نفى ما عليه أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة، فذهب إلى التأويل، فقال: معنى اليد: النعمة، ومعنى العون: الرعاية، ومعنى الغضب: الرضا، ومعنى السخط غير ذلك، حتى صرفوا هذه النصوص - التي هي صفات ذات لله، أو صفات فعل لله عز وجل - عن ظاهرها، فكان منهم المعطل، وكان منهم المؤول؛ ولذلك قال ابن تيمية : من عطل فإنما يعبد عدماً، ومن مثل فإنما يعبد صنماً.

نعم. الذي أثبت هذه الصفات على ظاهرها لله عز وجل، وقال: المراد منها: أن الله تعالى له يد كأيدينا، وله عين كأعيننا، وله ساق كسوقنا، وله من سائر الصفات الذاتية والفعلية ما لنا من صفات؛ فلا شك أنه ينتهي به المطاف إلى تشبيه الله تعالى برجل منا، فمن كان أمره وشأنه ذلك فإنما يئول به الأمر إلى أنه يعبد رجلاً، وإن شئت فقل: يعبد نفسه.

وأما من ذهب يزعم أنه ينزه الله تعالى عن الشبيه والمثيل، فقال بالتعطيل المطلق الكامل ولم يثبت صفة لله عز وجل، فلابد أنه سيثبت الذات، وهذا شأن الجهمية، حيث أثبتوا الذات ونازعوا في الصفات، أما الأشاعرة فإنهم أثبتوا سبع صفات لله عز وجل، ونازعوا في سائر الصفات، وقالوا بتأويلها وصرفها عن ظاهرها، وأن المراد منها ليس ظاهراً، بل لم يرده الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام، تعالى الله عن قول الفريقين علواً كبيراً، ولذلك أهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة الذين جعلوا الله تعالى كالعدم، وبين المؤولة أو الممثلة الذين شبهوا الله تعالى بصفات خلقه فجعلوه واحداً منهم، فمذهب أهل السنة والجماعة أن صفات الله تعالى تثبت على ظاهرها، علماً يقينياً ضرورياً لا يحل لمسلم أن يخالف في ذلك، وفوضوا كيفية الصفة لله عز وجل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، يجيء حيث شاء وكيف شاء، لا يخوضون في ذلك بتعطيل ولا تأويل، وإنما يقولون: إن الله تبارك وتعالى يجيء ويأتي ويغضب ويفرح ويحب.. وغير ذلك من صفاته اللازمة لذاته سبحانه وتعالى، على مراده سبحانه وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يخوضون في ذلك بتأويل أو تعطيل؛ لأنهم يعتقدون أن المعطل إنما يعبد عدماً، وأن الممثل إنما يعبد صنماً، فقد برأهم الله تبارك وتعالى من هذا وذاك.

أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته

ذات الله وصفاته تختلف عن ذوات الخلق وصفاتهم

سئل مالك عليه رحمة الله، وسئل من قبله شيخه ربيعة الرأي ، وهو إمام المدينة في زمانه كما سئلت من قبلهما أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. قالت: الاستواء معلوم -فلا تفويض عند السلف في العلم- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، هذه القاعدة الأصولية الاعتقادية سار عليها سلفنا رضي الله تعالى عنهم إلى يومنا هذا، وستبقى قاعدة أصلية لكل من انتهج منهج السلف إلى قيام الساعة، وهذا الذي يقال في صفة إنما يقال في جميع صفات الباري تبارك وتعالى، فكيفية الصفة مجهولة لا يعلمها إلا الله عز وجل، أما العلم بها فإنه ثابت في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام اللذين هما مصدرا كل خير.. مصدرا الاعتقاد والتشريع، ومصدرا الحكم والإيمان وحسن الاعتقاد، وليس هناك مصدر وحي غير الكتاب والسنة.

الكيف مجهول والعلم بالصفة معلوم يقيناً؛ لأنه قد ورد في كتاب الله، ومعنى: (معلوم يقيناً) في دلالات ألفاظ العرب، وإلا فكيف يخاطبنا الله تبارك وتعالى بألفاظ لا معنى لها معلومة عندنا، كيف يقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ولا يدري المخاطب - النبي عليه الصلاة والسلام - ما معنى استوى؟ لابد أن لغة العرب فيها ما يشهد لمعاني الاستواء، فإذا كان الاستواء لله عز وجل، فهو العلو والارتفاع، ولذلك أطبق السلف رضي الله تعالى عنهم أن معنى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى : علا وارتفع، وأن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا إذا انقضى ثلث الليل الآخر. يقولون: نزول الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا لا يستلزم خلو العرش منه، وهذا الذي وقع فيه المبتدعة؛ لأنهم قاسوا ما يلزم الخالق على المخلوق. قالوا: نزولنا من مكان إلى مكان يستلزم خلو المكان الأول منا، فكذلك الله تعالى إذا نزل إلى السماء الدنيا فإنه ينزل من علو إلى سفل، ويخلو منه العرش!

وهذا كلام في غاية البطلان والفساد، إنما الحق أن ما يلزم الله عز وجل من أسماء وصفات لا يمكن قياسه على ما يلزم المخلوقين؛ وما ذلك إلا للأصل الأصيل، وهو أن ذات الله تعالى تختلف عن ذوات الخلق، فكذلك - لزوماً وتبعاً وتضمناً - تختلف صفاته عن صفات الخلق، فإذا قلت: إن إتياني ونزولي يستلزم خلو المكان الأول مني فإن ذلك ليس بلازم لله عز وجل، ولذلك أطبق السلف -لم يخالف واحد في ذلك- أن نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا لا يخلو منه العرش، ومن تخيل أن نزول الله تعالى يستلزم خلو العرش منه؛ فإنما جعل في مخيلته صورة لله عز وجل تشابه وتماثل وتكافئ صور المخلوقين، وهذا بلا شك كفر وإلحاد لا خلاف بين السلف على ذلك؛ ولذلك عصم الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة بأن وضعوا أصولاً لأنفسهم ولمن أتى بعدهم، إذا سلكوها لم يضلوا ولم يتيهوا كما تاه غيرهم، من هؤلاء الذين تاهوا صاحب (جوهرة التوحيد) الذي يدرس إلى الآن في المعاهد الأزهرية باسم (السلفية والسنة)، وهو كلام في غاية الفساد والنكران.

قال صاحب الجوهرة:

وكل نص أوجب التشبيهاأوله أو فوض ورم تنزيهاً

وهذا كلام باطل، كيف يجتمع التنزيه مع التفويض والتأويل؟ فتفويض العلم والمعنى إنما هو سبيل أهل الضلال والانحراف، وأهل السنة والجماعة لم يفوضوا إلا الكيفية فقط، أما تفويض العلم فليس من منهجهم، ولا من بنات أفكار مدرستهم، وكذلك تفويض المعنى، فإنهم يعلمون معاني الصفات، والفرق بينهم وبين غيرهم من أهل الضلال والانحراف في معرفة المعنى أنهم يثبتون المعنى لله عز وجل على ما يليق بجماله وكماله.

نعم. يقولون: الله تعالى له يد وله ساق وله عين وله.. وله، لكن على المعنى الذي يليق بذاته العلية سبحانه وتعالى، فيده ليست كأيدينا، وعينه ليست كأعيننا، ونفسه ليست كأنفسنا، وغير ذلك من سائر الصفات، والله تعالى يغضب ليس كغضبنا، ويفرح ليس كفرحنا، ويجيء ليس كمجيئنا، ويأتي ليس كإتياننا، ويذهب ليس كذهابنا.. وغير ذلك من الثابت لله عز وجل من أسماء وصفات.

وقد ثبت عنهم لما سئلوا عن هذه الصفات أنهم قالوا: أمروها كما جاءت، يعني: نحن نؤمن بها إيماناً جازماً، ونعلمها علماً يقيناً من واقع كلام الله تعالى وواقع كلام رسوله، كما أننا نعلم معناها لا تفويض في هذا ولا ذاك، ولكن أمروها أي: لا تخوضوا فيها بتأويل أو تعطيل أو تمثيل أو تكييف، وذلك لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلما لم يكن بوسع أحد أن يتكلم في ذات الإله تعالى كذلك ينبغي ألا يكون في وسعه أن يتكلم في صفات الله تعالى، بل يجب عليه أن يؤمن بها وأن يمرها كما جاءت ولا يخوض فيها، هذا منهج أهل السنة والجماعة.

وللأسف الشديد كثير من طلاب العلم لا يعرف موقف سلف الأمة من صفات الباري تبارك وتعالى، إذا سألته: ما معتقد أهل السنة والجماعة في صفات الله تعالى وأسمائه سكت ولم يعطك جواباً، وهذه بلية عظيمة جداً؛ لأن أعظم ما يتقرب به المرء إلى الله عز وجل هو معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ لأن المرء إذا عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته حسنت عبادته، وعبد الله تعالى طمعاً ورغبة ورهبة، وسار إلى الله تعالى بجناحين لا يحل له أن يسير بأحدهما، يعبد الله بجناح الخوف الدال عليه جميع أسمائه وصفاته التي تشتمل على العذاب والانتقام وغير ذلك من صنوف الانتقام والعذاب، كما أنه لا يقنط من رحمة الله، دليله في ذلك أسماؤه وصفاته الثابتة في الكتاب والسنة، التي تدل على رحمته وعفوه وصفحه وقبوله التوبة من التائب وغير ذلك.

فإذا عبد المرء الله تعالى بالأسماء والصفات كما عبده سلف الأمة صحت عبادته، وصحت عقيدته التي لا نجاة للعبد بين يدي الله عز وجل إلا بها، فالعقيدة أولاً وآخراً، لا نجاة للعبد إلا بصحة العقيدة، وإذا صحت صح ما بعدها، وإذا فسدت فلا ينفعه سائر عمله وإن كان صحيحاً؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، ومن أعظم الشرك الإلحاد في أسماء الله وصفاته.

نعم. وضع السلف رضي الله عنهم قواعد شتى أجتذب منها البعض، وهذه القواعد إذا اعتصم بها العبد أخذت بناصيته إلى بر الأمان في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال السلف: توحيد الله عز وجل في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وأفعاله عما سواه أمر لازم لا نجاة للمرء إلا بذلك. فإذا قلت: إن الله تعالى يجيء كما أجيء، ويفعل كما أفعل، وينزل كما أنزل، فإنك لم تكن موحداً لله في أفعاله، بل جعلت أفعال الله شبيهة بأفعالك، والعكس بالعكس، فلا تكون أنت إذاً من أصحاب التوحيد الحق إلا أن تقول: إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويفعل ما يريد وهو على كل شيء قدير، وقدرته تختلف عن قدرة الخلق، ومشيئته تختلف عن مشيئة الخلق، ورضاه يختلف عن رضا الخلق، وتقول ذلك في كل صفاته وأسمائه وأفعاله، فحينئذ تكون موحداً؛ ولذلك قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، وقال الله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، هل يشاركه أحد في أسمائه؟ الجواب: لا، فهو متفرد بالأسماء والصفات لا يشاركه ولا يماثله ولا يكافئه في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله أحد من خلقه، وإلا كنت ممثلاً ومشبهاً، فحينئذ يلزمك أن تقول: إنني أعبد آلهة متعددة، أو أنك تعبد نفسك، وقال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وهذا في النفي، وفي نفس الآية: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فالله تعالى نفى عن نفسه المماثلة، وهذه أرجى آية في باب الأسماء والصفات؛ لأنها اشتملت على نفي النقص عن الله عز وجل، وإثبات الكمال المطلق له سبحانه، وقوله: (شيء) يفيد صيغة عموم تشمل جميع الأشياء المخلوقة، وكل ما دون الله تبارك وتعالى مخلوق، وهو شيء؛ ولذلك انتفت المماثلة بين جميع الأشياء وجميع المحدثات والصنائع وبين الله عز وجل الذي خلق هذه الأشياء وأوجدها، وهكذا نزه الله تبارك وتعالى نفسه عن المثيل والشبيه والند والكفء، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ حتى لا تتخيل عند قراءتك للأسماء والصفات أنها تشبه أسماء وصفات المخلوقين، ثم قال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ، فأنت سميع والله سميع، وأنت بصير والله بصير، لكن سمع الله يختلف عن سمعك، وبصر الله يختلف عن بصرك، ونقول هذا في سائر أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، فالله تبارك وتعالى سمعه قد أحاط بكل شيء، وعلمه قد أحاط بكل شيء، وقادر على كل شيء، ومالك لكل شيء، أما أنت فلا تسمع إلا بعض ما يحيط بك، ولا تعلم إلا بعض ما يحيط بك، ولا تفقه إلا بعض الفقه، ولكن الله تبارك وتعالى فوق ذلك كله، علمه لا نهاية له، سمعه لا نهاية له، بصره لا نهاية له، فهو سميع بسمع، عليم بعلم، قدير بقدرة؛ رداً على المعتزلة الذين قالوا: إن الله سميع بغير سمع، عليم بغير علم، قدير بغير قدرة، وهذا كلام في غاية التناقض والتهافت والبطلان، كيف يكون سميعاً بغير سمع، وقديراً بغير قدرة، وعليماً بغير علم؟

ولذلك أوجب النبي عليه الصلاة والسلام لسائر من خالف أهل السنة والجماعة في أصول الاعتقاد النار، وهم أحق بها وأهلها.

إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله بلا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف

والأصل الثاني: أن أهل السنة والجماعة أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام في صحيح سنته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وعمدتهم في ذلك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] نفياً وإثباتاً على المعنى اللائق بالله عز وجل.

نفي أهل السنة والجماعة ما نفاه الله عن نفسه

الأصل الثالث: أنهم نفوا عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه من السِّنة والنوم والتعب والكلام والملل وغير ذلك، مما لا يليق إلا بالمخلوقين؛ لأن هذه الصفات صفات نقص لا تليق إلا بالمخلوقين، أما الله تبارك وتعالى فإنه أهل لكل جمال وكمال.

الكف وعدم الخوض في إدراك حقيقة الكيفية لله تعالى وتفويض علم الكيفية إليه سبحانه

الأصل الرابع: أهل السنة والجماعة كفوا ولم يخوضوا في إدراك حقيقة الكيفية لله تعالى، وفوضوا علم الكيفية إلى الله عز وجل، كما قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، مهما بلغوا من علم فإنهم لا يحيطون علماً بصفات الله تعالى وأسمائه؛ وذلك لأنهم لم يحيطوا بذاته، والكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات، فمن أجاز لنفسه الكلام في ذات الله أجاز لنفسه الكلام من باب أولى في صفاته سبحانه، ولما امتنع الأول امتنع الثاني ولابد.

صفات الله تعالى توقيفية

الأصل الخامس: صفات الله تعالى توقيفية، أي: أننا لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، ولا ننفي عنه إلا ما نفاه نصاً عن نفسه، كما أننا ننفي عنه جميع صفات النقص التي لا تليق إلا بالمخلوقين، كذلك لا نثبت لله إلا ما أثبته له رسوله، ولا ننفي عنه إلا ما نفاه عنه رسوله وسائر صفات النقص التي لا تليق إلا بالمخلوقين.

اعتقاد ثبوت كمال الضد لله تعالى

الأصل السادس: منهج السلف في نفي النقص عن الله اعتقادهم ثبوت كمال الضد، إذا أثبتنا أن الله تعالى لا يظلم يلزم من ذلك أن نثبت له كمال العدل؛ لأن العدل هو المقابل للظلم، فإذا كان الله تعالى لا يظلم فإنه متصف بكمال العدل، إذا كان الله تعالى لا يتصف بالسِّنة والنوم، فلابد أن نثبت الضد وهو كمال الحياة والقيومية لله عز وجل.

فنفي صفات النقص تستلزم ثبوت كمال الضد لله عز وجل، وهذه طريقة السلف رضي الله تعالى عنهم.

الاتفاق على مراعاة الألفاظ الواردة في صفات الله وأسمائه

الأصل السابع: اتفاقهم على مراعاة الألفاظ الواردة في صفات الله وأسمائه دون التزيد عليها، خلافاً لأهل البدع، لما أرادوا بزعمهم أن ينزهوا الله عز وجل، قالوا: ننفي عن الله الجهة والجسم والحيز والحد والحركة والانتقال وغير ذلك! هذا كلام عظيم جداً، لو أن واحداً من السلف سمعه لخر ميتاً؛ لأن هذه المصطلحات في جنب الله لم يتداولها أحد منهم، ولذلك هل الذي يقول بهذا يزعم أنه ينزه الباري تبارك وتعالى، هل يجرؤ أن يدخل على ملك من ملوك الدنيا أو رئيس أو زعيم من زعمائها ورؤسائها، فيقول: لست كلباً ولا حماراً ولا خنزيراً، هل يستطيع أن يقول له ذلك؟ لا يمكن وإلا قام فقتله بغير تردد، فكذلك الله تعالى يوصف ابتداء بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمسك اللسان عن ذكر مصطلحات وألفاظ لم يعرفها السلف.

صفات الله تعالى كلها صفات كمال وجلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه

وأصل من الأصول: صفات الله تعالى كلها صفات كمال وجلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وصفاته سبحانه إما ذاتية كاليد والعين والساق والرجل والأصابع وغيرها، فكل هذا ثابت في الكتاب والسنة بأسانيد صحيحة، لكن لا مجال الآن لسردها، وقد سردناها في هذا المكان في دروس الاعتقاد مراراً وتكراراً، إيماناً منا بأن هذا الباب هو أعظم باب يمكن أن يهتم به المسلم.

كذلك من صفات الله صفات فعلية متعلقة بفعله سبحانه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، منها الإتيان والمجيء والنزول والاستواء والغضب والضحك والرضا والسخط.. وغيرها، وصفاته كما قلنا متعلقة بأفعاله، وأفعاله لا منتهى لها سبحانه؛ ولذلك قال تعالى: وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، وقال سبحانه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وقال تعالى: اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40].

حدثت مناظرة في زمن العباسيين. قال أبو عبد الله الرباطي حضرت يوماً مجلس الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان، وحضر هذا المجلس إسحاق بن راهويه من أهل السنة والجماعة، فسئل ابن راهويه عن حديث النزول أي: (أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا إذا انقضى ثلث الليل الأول، إذا بقي ثلث الليل الآخر) كما في روايتين فسئل عنه: أصحيح هو يا أبا يعقوب ؟! قال: نعم. قيل له: يا أبا يعقوب ! أتزعم أن الله تعالى ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ قال: أثبته أنت فوق أولاً حتى أثبت لك النزول، فقال له رجل: أثبته فوق، فقال له إسحاق : قال الله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، قال الأمير عبد الله بن طاهر : هذا يوم القيامة، يعني: مجيء الله تعالى ثابت يوم القيامة، فقال إسحاق : أعز الله الأمير ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ انظروا إلى هذا النور الإيماني الرباني الذي يزينه الله تعالى في قلوب عباده الصالحين!

وعند الترمذي قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: اجتمعت الجهمية إلى عبد الله بن طاهر يوماً فقالوا له: أيها الأمير! إنك تقدم إسحاق - أي: ابن راهويه - وتكرمه وتعظمه، وهو كافر يزعم أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة ولا يخلو منه العرش.

وهذا محض افتراء؛ لأن إسحاق لم يقل بأن العرش يخلو من الرحمن، فغضب عبد الله بن طاهر ، وبعث إلي، فدخلت وسلمت فلم يرد علي السلام، لأن هؤلاء الملاحدة قالوا: إنه كافر. قال: ولم يستجلسني أي: ولم يأذن لي بالجلوس على عادة الجبابرة والظلمة أنهم لا يأذنون لأهل العلم والإيمان بالجلوس، ويدعونهم وقوفاً، ثم رفع عبد الله بن طاهر رأسه وقال لي: ويلك يا إسحاق ! ما يقول هؤلاء؟ قال: قلت: لا أدري، قال: تزعم أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة ولا يخلو منه العرش؟ فقال: أيها الأمير! لست أنا قلته قاله النبي عليه الصلاة والسلام فيما حدثنا أبو بكر بن عياش عن إسحاق عن الأغر بن مسلم أنه قال: أشهد على أبي بكر وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له).. إلى آخر الحديث، قال: فلما ذكرت له النبي عليه الصلاة والسلام وأنه قائل ذلك سكن غضبه، ثم قال لي: اجلس. فجلست، فقلت: مرهم أيها الأمير! يناظروني، فقال الأمير لهؤلاء الجهمية: ناظروه. فقلت لهم: يستطيع أن ينزل ولا يخلو منه العرش، أم لا يستطيع؟ قال: فسكتوا وأطرقوا رءوسهم، فقلت: أيها الأمير! مرهم أن يجيبوا، فسكتوا، فقال: ويحك يا إسحاق ! ماذا سألتهم؟ قلت: أيها الأمير! قل لهم: هل يستطيع الله تعالى أن ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو منه العرش أم لا؟ فقال: فأيش هذا يا أبا يعقوب ؟! قلت: إن زعموا أن الله لا يستطيع أن ينزل إلا أن يخلو منه العرش فقد زعموا أن الله عاجز مثلي ومثلهم وقد كفروا، وإن زعموا أنه لا يستطيع أن ينزل ولا يخلو منه العرش فهو ينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء ولا يخلو منه المكان، فانقطعت حجة الجهمية وثبت نور الإيمان في هذا المجلس الذي تحرش لأهل الإيمان فيه أهل البدعة والضلال، وهكذا غير مناظرة في باب أسماء الله وصفاته، ولكن المقام لا يسمح بسردها.

الكلام في الصفات كالكلام في الذات والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر

ومن أصول أهل السنة والجماعة كذلك في معتقدهم: أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتاً حقيقية لا نعلم كيفيتها، فلابد أن نعتقد كذلك أن هذه الذات متصفة بصفات حقيقية لا مجازية تليق بهذه الذات العلية، ونحن لا نعلم كيفيتها.

وكذلك من منهجهم: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، وهذا الكلام يرد به على الأشاعرة الذين أثبتوا بعض الصفات ونفوا البعض الآخر، كما أن الأصل السابق وهو أن الكلام في الصفات فرع عن الذات رد على الجهمية الذين أثبتوا الذات ونفوا الصفات، وكذلك أسماء الله تعالى لا حصر لها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت -وهذا الشاهد- أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، وكل اسم لا محالة يدل على صفة، فإذا كانت أسماء الله تعالى لا تقع تحت حصر، فكذلك صفاته من باب اللازم؛ لأن كل اسم يدل على صفة، والسلف رضي الله عنهم لا يخوضون في صفات الله تعالى بالتشبيه والتمثيل ولا بالتحريف والتعطيل حملاً للألفاظ على ما يجوز لها في اللغة، ولكن يحملون هذه الآيات والأحاديث الواردة في أسماء الله وصفاته على ما يليق بجماله وكماله شرعاً ومعنى.

ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق

والسلف كذلك يعتقدون أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق، فالله تعالى له اليد ولي يد، فالقدر المشترك بيني وبين الله في الاسم فقط، والقدر الفارق هو في حقيقة وماهية وكيفية هذه اليد، هذا ثابت في صفات المخلوقين، بل في صفات المخلوق الواحد أحياناً، فأنت لا تجد يده اليمنى كيده اليسرى، فكيف تجعلون يد المخلوق عموماً كيد الخالق خاصة، كيف ذلك؟ لابد أن يكون بين كل شيئين قدر فارق وقدر مشترك، وكذلك الله تعالى له ذات وأنت ذات، لكن الاتفاق في مطلق الاسم، وأما في الحقيقة والكيفية فذات الله تختلف عن ذوات المخلوقين والعكس بالعكس، والله تعالى له صورة ولك صورة، والاتفاق في الاسم والاختلاف في الكيفية والحقيقة، وهكذا ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك أي: في مطلق الاسم وبينهما كذلك قدر فارق، فإذا كان هذا في المخلوقين فهو بين الخالق والمخلوق من باب أولى.

هذه بعض الأصول التي سلكها سلفنا رضي الله عنهم فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، ولذلك مذهب السلف في أصول الدين وسط بين التمثيل والتعطيل، كما أن هذه الأمة وسط بين الأمم كلها، فهم لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذات الله بذوات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء، ويعتقدون أن كل ممثل معطل، وأن كل معطل ممثل؛ لأنهم لم يفهموا أسماء الله وصفاته إلا ما يفهمون من أسماء وصفات المخلوقين؛ ولذا قال شيخ الإسلام : الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

قواعد التزمها أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

قواعد كذلك التزمها أهل السنة والجماعة حتى لا تزل أقدامهم كما زلت أقدام أهل البدع والضلال.

الإثبات المفصل أو المجمل في كل صفة كما ورد بها القرآن الكريم

القاعدة الأولى: الإثبات المفصل أو المجمل في كل صفة كما ورد بها القرآن الكريم في قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وفي قوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110].

التنزيه وعدم التكييف والتشبيه

القاعدة الثانية: التنزيه وعدم التكييف والتشبيه، أهل السنة والجماعة يعتقدون أن إثبات الصفة لله عز وجل على ما يليق به هو التنزيه الحق، خلافاً للجهمية المعطلة الذين زعموا أن التنزيه إنما هو التعطيل وتحريف الكلم عن مواضعه؛ ولذلك قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ [الصافات:180]، وقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].

عدم التأويل المفضي إلى التعطيل

القاعدة الثالثة: عدم التأويل المفضي إلى التعطيل، ويتحقق هذا في قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، والتعطيل إلحاد في أسماء الله وصفاته.

العلم بالله والمعرفة به من خلال صفاته

القاعدة الرابعة: العلم بالله تعالى والمعرفة به من خلال صفاته، لا من خلال الاجتهاد، ويتحقق هذا في قول الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].

فالدعامة الأولى تضمنت الإيمان بكل صفة لله تعالى، والثانية تضمنت تنزيه الله تعالى بإثبات صفاته وعدم مشابهتها لصفات الخلق، والثالثة تضمنت إثبات كل صفة على الحقيقة، كما ورد بها النص من غير صرف لها إلى معنى آخر غير الظاهر منها، والرابعة: تضمنت أن السلف كانوا يعلمون معاني الصفات، ولم يفوضوا فيها، ويفرقون بينها بحسب ما دلت عليه مما تعرفه العرب من لسانها، فالعلم غير الحياة، والإتيان غير الاستواء على العرش، واليد غير الوجه، فلما خاطبنا الله تعالى بذلك كله علمنا معاني هذه الصفات، وفي هذا إبطال لقول الملحدين في أسماء الله وصفاته في حكايتهم عن مذهب السلف كما حكى صاحب جوهرة التوحيد، وزعم أن السلف مذهبهم التفويض، كذب ورب الكعبة، وهذا القول من أكذب ما ينسب إلى السلف.

رجوع بعض أئمة الكلام إلى منهج أهل السنة والجماعة

إن كثيراً من أئمة الكلام الذين تأثروا بفلسفة الغرب ومذهب المتكلمين منهم من خدم دين الله عز وجل، كما أن الله تعالى منَّ على بعضهم بأن ترك مذهبه الفاسد في صفات الله عز وجل، ورجع إلى عقيدة وكلام أهل السنة والجماعة أخيراً، منهم فخر الدين الرازي إمام كبير مشهور، وكان من أئمة الاعتزال، وكان ممن يؤول الكلم عن مواضعه. قال في توبته:

نهاية إقدام العقول عقالوأكثر سعي العالمين ضلال

فأرواحنا في وحشة من جسومناوحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرناسوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

لماذا؟ لأنه قضى حياته كلها في جمع أقوال من سبقوه من أهل الكلام، وترك النص جانباً؛ لأنه اعتقد أن هذا النص ليس مراداً على ظاهره؛ ولذلك بانت حسرته وندامته في هذه الأبيات التي كتبها.

ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، فقال: اقرأ في الإثبات، -أي: في باب إثبات الصفات- قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] أي: للدلالة على العلو والارتفاع: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، واقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، واقرأ فيه كذلك: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، واقرأ فيه كذلك: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

وقد صرح غير واحد من الخلف بعودتهم إلى مذهب السلف كـأبي الحسن الأشعري الذي انخلع من أشعريته وتأويله وصرفه النص عن ظاهره، وقال: إنما أنخلع من عقيدتي ومما قلت آنفاً، كما ينخلع هذا السيف من غمده، وأقول بقول أحمد - أي: وأقول بقول أحمد بن حنبل - فأنا على عقيدته، فصنف بعد ذلك كتباً في عقيدة أهل السنة على رأسها كتاب له اسمه الإبانة في أصول الديانة؛ ليثبت رجوعه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة وإلى انتهاج مذهب أحمد بن حنبل في أسماء الله وصفاته وغير ذلك.

وكذلك أبو المعالي الجويني والشهرستاني وغيرهم رجعوا عن أقوالهم.

قال الجويني : يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به. أي: لا تشتغل بالفلسفة ولا تحكم بالعقل؛ لأن سبب انحراف أهل الضلال في باب الأسماء والصفات أمور:

منها: أنهم جعلوا العقل حاكماً على النقل، فقدموا العقل على النقل فضلوا؛ لأن العقول قاصرة عن إدراك حقيقة الذات، وبالتالي فهي قاصرة عن إدراك حقيقة الصفة، فلما حكموا عقولهم وجعلوا النص تابعاً للعقل زلت أقدامهم بعد ثبوتها إن كانت ثابتة.

الأمر الثاني: أنهم جهلوا طريقة السلف وافتروا عليهم بنسبة التفويض إليهم، وهذا منكر وضلال، جمع بين الجهل والكذب والافتراء.

فقال هنا: ولو علمت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، أي: تركت علماء السنة وما قالوا به، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي!

بعد هذا العمر الطويل في الكلام وفي الفلسفة وغيرها، يموت على عقيدة أمه التي لا تعرف شيئاً، فعقيدتها في الله وافقت بفطرتها ما جاء في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

وقال الشهرستاني:

لعمري لقد طفت المعاهد كلهاوسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائرعلى ذقن أو قارعاً سن نادم

ثم قال: فلم أجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم.

قال الشافعي : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام والفلسفة.

وقال أيضاً: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العقل بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام.

هذا ملخص وجيز جداً لوسطية أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة فيما يتعلق بأسماء الله تعالى وصفاته، سطر ذلك لنا شيخ الإسلام ابن القيم في نونيته وقال:

والأول التنزيه للرحمن عنوصف العيوب وكل ذي نقصان

كالموت والإعياء والتعب الذيينفي اقتدار الخالق المنان

والنوم والسنة التي هي أصلهوعزوب شيء عنه في الأكوان

وكذلك العبث الذي تنفيه حكمتــه وحمد الله ذي الاتقان

وكذاك ترك الخلق إهمالاً سدىلا يبعثون إلى معادٍ ثان

كلا ولا أمر ولا نهي عليــــهــم من إله قادر ديان

وكذاك ظلم عباده وهو الغنيفما له والظلم للإنسان

وكذاك غفلته تعالى وهو علام الغيوب فظاهر البطلان

وكذلك النسيان جل إلهنالا يعتريه قط من نسيان

وكذاك حاجته إلى طعم ورزق وهو رازق بلا حسبان



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أصول أهل السنة والجماعة - عقيدتنا في الأسماء والصفات للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net