إسلام ويب

دين الإسلام دين شامل كامل؛ فلم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين كل الدين، وما لم يفعله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس من الدين، ومن ذلك الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يفعله لا هو ولا صحابته ولا التابعون، وإنما أحدث بعد القرون المفضلة.

معنى الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وبيان متى نشأ

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فإن القلب يعتصر ألماً مما يرى من تحقق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: الفاسق، أو الفويسق يتكلم في أمر العامة).

فالمقصود من هذا الحديث العظيم هو: انقلاب الأحوال، فقد انقلبت السنة بدعة، والبدعة سنة، وأصبح الذين يرفعون أصواتهم بالاحتفال بالموالد، ويعملون أعمالاً من الصلاة وغيرها يدعون أن هذه هي السنة، وأن هذا هو حب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو توقير للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن النهي عن ذلك من أشنع البدع، بل من التعدي على شرع الله جل وعلا!

لذا فقد رأيت أن أعرج سريعاً على مسألة الاحتفال، تأصيلاً علمياً وليس وعظياً، فأبين فيه هذه المسألة: ما معنى الاحتفال بالموالد؟ ومتى نشأ هذا الاحتفال؟ هل هو في القرون الخيرية، أم بعدها؟ ثم أبين حكم هذا الاحتفال، ثم أذكر الشبه التي قيلت حول هذا الاحتفال، ثم نرد على أهل البدع بالتأصيل العلمي لا بالعاطفة والوجد.

فأقول: الاحتفال بالموالد معناه: الاجتماع مع إظهار السرور والفرح، والتوسعة من إطعام الطعام وغير ذلك، مما قد يحدث في يوم مولد نبي أو ولي.

ونشأة هذا الاحتفال لم يكن في القرون الخيرية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). على شك في الثالثة، بل هي من البدع التي جاءت بعد هذه القرون التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فقد نشأت في القرن الرابع، وكان أول من أحدثها هم العبيديون، ويسمون بالباطنيين، والفاطميين هؤلاء الزنادقة الذين أرادوا إفساد الدين تحت ستار حب وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يظهرون الكفر، بل كانوا متوارين متسترين.

هذا وقد أحدثوا في مصر ستة موالد: المولد النبوي، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد علي، ومولد فاطمة، ومولد الخليفة في ذلك الوقت، ثم توالت البدعة، وأخمدت السنن بانتشار هذه البدع.

حكم الاحتفال بالمولد

هل الاحتفال بالمولد سنة متبعة، أم هو بدعة منكرة تموت السنن بسببها؟

لا بد أن نقرر قاعدة مهمة أولاً، ثم نتكلم على حكمه، وهذه القاعدة هي: هل إظهار السرور والفرح في يوم مخصوص هو من القربات أم هو من الأمور المباحات؟

تأصيل هذه القاعدة هو الذي سيفصل وسيبين لنا هل الاحتفال بمولد نبي سنة، أم بدعة؟

إن إظهار السرور والفرح من القربات والعبادات التي تختص بأيام خصها الله جل وعلا، وأمر بها، وحث عليها، ودليل ذلك قول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل المدينة، فوجدهم يلعبون في يومين، فأنكر ذلك عليهم، فسألهم عن هذين اليومين، فقالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبدلكم الله خيراً منهما: يوم الأضحى، والفطر).

ومحل الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم إظهار السرور والفرح، والاجتماع وإطعام الطعام في يومين غير عيد الفطر وعيد الأضحى، فدل ذلك على أنه ليس من المباحات، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر على شيء مباح، ومن باب أولى ما كان من القربات والعبادات، ولذلك قال: (أبدلكم الله خيراً منهما: عيد الفطر، وعيد الأضحى). فهذا التأصيل يبين لنا أن إظهار السرور والفرح في يوم مخصوص من القربات العبادات.

الأصل في العبادات التوقيف

وإذا أصلنا ذلك بالدليل فإنه يستلزم أن نؤصل أصلاً ثانياً تابعاً لهذا الأصل، ألا وهو: إن كان من القربات والعبادات، فهل القربات والعبادات توقيفية، بمعنى: أن الأصل فيها المنع، أم هي جائزة لأي أحد بأن يتعبد الله بأي شيء يريد؟ الصحيح والراجح في ذلك: أن الأصل في العبادات التوقيف، فإذا قلنا: إنها عبادة، فلا بد من قول الله أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ أننا إذا أصلنا بأن العبادات الأصل فيها التوقيف، أي: الأصل فيها أن يتبع فيها الوحي: كتاب أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلابد من قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأقوى الأدلة وأصرحها على ذلك: قول الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

إذاً: فالدين لا بد أن يأذن به الله، والشرع لا بد أن يشرعه الله جل وعلا، إما في كتابه وإما على لسان نبيه، قال عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وعلى هذا فالله لم يأذن بهذا الاحتفال في كتابه، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

وقد يأتي متنطع فيقول: لكن الله تعالى لم يقل: وما سكت عنه النبي فلا تفعلوه. فنقول: نعم، لكن الله قد قال ذلك ضمناً، ويتضح ذلك إذا ضممنا دلالة هذه الآية مع دلالة الحديث الذي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد). وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: باطل، فمن أحدث في هذا الدين الذي أتيتكم به شرعاً ووحياً، وفعل فعله لم آتي بها، فهو باطل مردود على صاحبه.

إذاً: المسكوت عنه في العبادات لا بد أن نجتنبه؛ لأنه ليس من الدين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا)، أي: أحدث وأتى بأمر الذي لم آت به، فهو بدعة مردودة على صاحبها، وهذه كلها أدلة من الأثر.

وأما من النظر: فإن العبادة والقربة قد عرفها أهل العلم تعريفاً جامعاً مانعاً، فقالوا: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. وما أحبه الله لا نعرفه إلا عن طريق الوحي؛ لأننا مأمورون بأن نحب ما أحبه الله جل وعلا.

هل جاءنا عن طريق الكتاب أو السنة الاجتماع والاحتفال بالمولد؟

الجواب: لا والله.

إذاً: هذا العمل لا يحبه الله جل وعلا، وأكون متنطعاً لو قلت: إن هذا العمل يحبه الله، فهل أوحى الله إلي بذلك؟! وهل أوحى لمن قال: إن الله يحب هذا الاحتفال وأمر به؟ نقول: لا والله ما أمر الله به، إنما هو مردود عليك؛ فإن الله لو أحبه لأمر نبيه أن يأمرنا بأن نحتفل به، وأن نفعل هذا الاحتفال بهذه الطريقة التي يفعلونها.

إذاً: التأصيل الأول: يبين لنا جلياً أن الاحتفال قربة وعبادة تختص بأيام خصها الله جل وعلا، وأمر بها وحث عليها.

والتأصيل الثاني: يبين لنا أن كل عبادة لا بد لها من دليل، ولا دليل على جواز الاحتفال بالمولد النبوي.

الأدلة على حرمة الاحتفال بالمولد النبوي

فإن قيل: ما هي الأدلة التي تدل على حرمة الاحتفال بالمولد النبوي؟

فنقول: الأدلة على ذلك كثيرة من الأثر ومن النظر.

أما من الأثر:

فقول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ [آل عمران:31]، أي: إن كنتم تتقربون إلى الله بمحبته وبمحبة رسوله فعليكم باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاحتفال، ولو كان من سنته لعمله الصحابة أو عمله التابعون، أو عمل به الذين تابعوهم بإحسان إلى يوم الدين.

وأيضاً: قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32]، فهل أمر الرسول بالاحتفال بمولده؟ وهل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاجتماع له، وإطعام الطعام، وفعل ما يُفعل احتفالاً بمولده؟

الجواب: لا والله ما أمر الرسول بذلك! فنحن مأمورون بأن نأتمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نبتدع في دينه؛ لأن الله جل وعلا قال منكراً على النصارى الذي يجتهدون في العبادة بدون أدنى دليل: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27].

أيضاً من الأدلة الأثرية: ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

قوله: (أحدث) أي: يتعبد لله بعبادة لم يأت بها، ولم يأمر بها في كتابه ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والاحتفال بالمولد لم يأمر الله به في الكتاب، ولم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، فهو إذاً بدعة ضلالة مردودة على صاحبها.

ومن الأدلة أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية قال: (وكل ضلالة في النار).

فقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي)، أي: ألزمكم أن تأتموا بسنتي، أن تستنوا بسنتي ولا تتعدوها، وأن تستنوا بسنة أصحابي، ولذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنة بعد سنته إلا سنة الصحابة رضوان الله عليهم، وبالأخص الخلفاء الراشدين، ولذلك قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فهل الخلفاء الذين هم أخلص لرسول الله، وأحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتبع لسنته، وأطوع لأوامره احتفلوا بمولده؟ وهل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه جمع الناس للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل فعل ذلك عمر ؟ وهل فعل ذلك عثمان ؟ وهل فعل ذلك علي بن أبي طالب ؟ وسعد بن أبي وقاص ؟ والزبير وبقية العشرة المبشرين بالجنة؟ فإذا لم يفعلوا، ألا يسعكم ما وسع الصحابة؟ وهل أنتم أفقه بشرع رسول الله من صحابة رسول الله؟! وهل أنتم أخلص حباً لرسول الله من صحابة رسول الله؟ لو كان خيراً لسبقونا إليه:

وكل خير في اتباع من سلفوكل شر في ابتداع من خلف

إن كنتم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان فأنتم وأنفسكم، وحسابكم على الله جل وعلا، وإن قلتم: لا، فيسعكم ما وسع الصحابة، فاجلسوا كما جلسوا، واحتفلوا كما احتفلوا بمولده صلى الله عليه وسلم، وسنبين كيف احتفلوا بمولده عليه الصلاة والسلام.

ومن الأدلة التي تبين حرمة الاحتفال بالمولد النبوي: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فالعلاقة بين هذا الحديث وبين الاحتفال بالمولد النبوي علاقة وطيدة، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً منكراً: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)، وفي رواية: (حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول اللهَ! اليهود والنصارى؟ قال: فمن). أي: فمن غير هؤلاء الناس؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم). بل وحشر معهم، والنصارى هم الذين اخترعوا وابتدعوا في دينهم عيد ميلاد المسيح، ونحن إذا احتفلنا بعيد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم فنكون قد تشبهنا بهم، ووقعنا في النهي الصريح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فإن هذا نهي صريح، وهو خبر يراد به الإنشاء، أي: لا تتشبهوا بهؤلاء.

وأما من النظر فمن وجهين:

الوجه الأول: أن إيمان العبد لا يستقيم إلا بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والعبد إنما يتقرب إلى الله بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال -كما في الصحيحين- (ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم كل الحرص على أن يرشد الأمة إلى ما ينفعها وإلى ما يقربها إلى الله جل وعلا كما بين ذلك أكثر الصحابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً يقربهم إلى ربهم إلا ودلهم عليه، وما ترك شراً يبعدهم عن ربهم إلا حرم عليهم ذلك الشر، وأرشدهم إلى البعد عنه. فهل يعقل أن النبي الكريم لا يرشد الأمة إلى تعظيمه ومحبته حتى يتقربوا بها إلى الله جل وعلا؟

فلو كان الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من مظاهر محبته ولم يرشدنا إليه فقد قصر صلى الله عليه وسلم وحاشاه!

ولو كان الاحتفال بمولد النبي يدل على محبة النبي صلى الله عليه وسلم فقد قصر أبو بكر في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قصر عمر وعثمان وعلي .

فلما لم يُبلِّغ النبي صلى الله عليه وسلم ويرشدنا إلى ذلك، ولما لم يفعل الصحابة ذلك دل على أنه ليس من مظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماع وإطعام الطعام والاحتفال بالمولد النبوي على هذه الطريقة المبتدعة المحدثة.

الوجه الثاني: باب سد الذرائع، وحسم المادة، وإغلاق الوسائل إلى المحرمات، فإن الاحتفال بالمولد النبوي يؤدي إلى اختلاط النساء والرجال، وهذا يفضي إلى مفسدة عظيمة، ويفضي إلى محرمات منكرة من وجوه:

الوجه الأول: اختلاط الرجال بالنساء. ويُعرف هذا في مصر التي هي من أكثر البلاد التي تعرف الموالد، فإنه يشتهر فيها اختلاط النساء بالرجال، مع شرب الدخان، والرقص والتمايل، والكلام الذي يغضب الرب جل وعلا، وهذا بدافع الاحتفال بمولد النبي، ومحبة وتعظيم النبي والولي.

الوجه الثاني: أنه ينتج عن هذه الاحتفالات الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعة من مرتبة النبوة إلى مرتبة الربوبية. فهم في يوم الاحتفال بالمولد النبوي يأتون بالقصائد والمدائح، ويغلون في النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله). ولما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا. أو قالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان). فمنع من الإطراء والغلو فيه صلى الله عليه وسلم.

ولذلك تجد في الاحتفالات القصائد والمدائح التي فيها الغلو برسول الله إلى مقام الربوبية، بل إلى مقام الألوهية، وقصيدة البردة شاهدة على ذلك، وكثير منهم يتلو هذه القصيدة أمام الناس دون أدنى حياء من هذا الشرك المميت، يقول صاحب البردة:

فإن من جودك الدنيا وضرتهاومن علومك علم اللوح والقلم

قال ابن رجب معقباً على قول هذا الرجل: ما ترك لله شيئاً!

قوله: (من جودك الدنيا وضرتها) أي: أن الدنيا والآخرة -في زعمه- من جود النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ومن علومك علم اللوح) أي: اللوح المحفوظ والقلم، فأين علم الله جل وعلا؟! وأين ملك الله جل وعلا؟! فهذا غلو يصل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الربوبية، بل إلى الإلهية، ناهيك عن أنهم يقولون: بأن النبي لم يخلق من طين، فهو ليس كالبشر، بل خلق من نور، إلى آخر هذه المفاسد التي تصل بهم إلى الشرك، فهم يشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويرتقون به من منزلة البشرية إلى منزلة الربوبية.

الوجه الثالث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقيره ومحبته لا تظهر إلا في يوم واحد، وهو اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الاحتفال في شهر ربيع من كل عام تظهر محبة النبي، ويظهر تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره بإقامة السرادقات، وإطعام الطعام وإنشاد هذه القصائد والمدائح، ثم بعد ذلك لا سنة تتبع، ولا تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا توقير لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إذا جئت لأحدهم وقلت له: قال رسول الله كذا وكذا. فإنك تجده يضرب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، ويأخذ بقول شيخه والعياذ بالله! فأين محبة رسول الله؟ وأين تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وأين توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

فهذه الأدلة الأثرية والنظرية تحرم الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة: الاجتماع في المساجد، وإطعام الطعام، وإنشاد القصائد والمدائح، واختلاط النساء بالرجال.

شُبه المجيزين للموالد، والرد عليها

وحتى ندحض شبه هؤلاء المبتدعة نقول: بعد إمعان النظر وجدنا أن لهم شبهاً يتشبثون بها، فمن هذه الشبه:

الشبهة الأولى: قالوا: الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، لكنها بدعة حسنة. وهذه شبهة أوهى من بيت العنكبوت، والرد عليها هين، فإن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم قال: (كل بدعة ضلالة). و(كل) هنا نص في العموم، سواء كانت بدعة حسنة، أو سيئة عندكم، فكلها ضلالة. (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي البدعة ضلالة، وهم يقولون: هناك بدعة حسنة! فقد خالفوا رسولهم صلى الله عليه وسلم، فليتقوا الله وليعظموه، وليعظموا قوله: (كل بدعة ضلالة)، وقوله: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد). أي: باطل، وهذا الاحتفال ليس منه، وما فعله الصحابة الكرام، ولا فعله رسول الله ولا أمر به، فهو ليس من الدين، بل هو بدعة، وكل بدعة ضلالة.

الشبهة الثانية: وهذه شبهة تحتاج إلى إعمال نظر، فقد قالوا: قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم احتفالاً شكراً لله على مننه، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء، فسألهم عن هذا الصيام؟ فقالوا: يوم نحتفل به -فالاحتفال على منة الله شكراً لله- لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم). فاحتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك اليوم بأن صامه، شكراً لله على نجاة موسى عليه السلام.

فنقول: نعم، هذا حقيقة، ولن نتحدث معهم فقهياً، هل صوم يوم عاشوراء كان قبل ذلك في مكة أم لا؟ وذلك للخلاف المشهور.

ولكن نتنزل معهم فنقول: الرد عليهم من وجهين:

الوجه الأول: من الذي فعل ذلك؟ أليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله -على قول بعض الأصوليين- مشرع، وعلى قول جمهرة من أهل الأصول هو ناقل للشرع. فإذا صام بوحي من الله جل وعلا فهل يكون ذلك بدعة؟ حاشا لله! وإنما هذه أصبحت سنة، وأصبح شرعاً أوحاه الله إلى رسول ففعله، فنحن نقتدي برسول الله؛ لأن هذا وحي من الله وهو شرع، ثم هل رسول الله احتفل وجمع الناس وأطعم الطعام كما يفعلون؟ فالفارق بين صيام النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء وبين فعلهم بعيد؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا بوحي من الله، وهم فعلوه بوحي من الشيطان، والفارق كما بين السماء والأرض، فرسول الله إذا فعل فقد سن، وهذه سنة لا بد أن نتبعها.

الوجه الثاني: نتنزل معهم أيضاً فنقول لهم: إذا كان قد احتفل رسول الله، فنحن نقول لكم: احتفلوا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم كما احتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنجاة موسى، لكن لا تتعدوا احتفاله.

فكيف احتفل صلى الله عليه وسلم؟ صام، فصوموا أنتم يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم احتفالاً، ولا تتعدوا احتفال النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تكونوا قد اقتديتم برسول الله، بل ولكم في ذلك أصل من الشريعة، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الإثنين، فسئل عن ذلك فقال: (ذلك يوم ولدت فيه). فاحتفل بمولده في كل السنين، لكن بالصوم بنية الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، ولك في ذلك أصل من الدين، ولن تكون مبتدعاً، بل ما تعديت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وما احتفل به.

الوجه الثالث: أن الصحابة رضوان الله عليهم لو كانوا فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا احتفالاً، وأنه يصح لهم الاحتفال بمولده، وإطعام الطعام والاجتماع في المساجد ونثر القصائد والمدائح لفعلوا ذلك؛ وهم أولى بكل خير، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.

الشبهة الثالثة: جاء في الصحيحين أن أبا لهب لما بشر بمولد محمد صلى الله عليه وسلم أعتق سهيلة أمة له، فرآه بعض أهله في رؤيا فقالوا: ما فعل الله بك؟ قال: ما رأيت خيراً منذ فارقتكم، إلا أن الله خفف علي بعتقي بـسهيلة، أو بعتقي لهذه الأمة.

فقالوا -وانظروا إلى دقة النظر، وشبه إبليس-: هذا كافر احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فأعتق أمته، فشكر الله له هذا الاحتفال فخفف عنه العذاب، فكيف بالمسلمين؟! وهذه شبهة شديدة شيطانية.

ونجيب عليها من أوجه:

الوجه الأول: من الذي روى هذا الحديث؟ أليس الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين رووا هذا الحديث؟ فهل هم أفقه بهذا الحديث من الصحابة؟! فلو فقه الصحابة من هذه الرواية أنه يصح الاجتماع والاحتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه، وعلى هذا نقول لهم: عندما لم يفقهوا ذلك يلزمكم أمران:

الأمر الأول: أنهم أفقه من الصحابة، فهل يقرون بهذا؟ فلو أقروا فقد كذبوا وأتوا بهتاناً وزوراً! فإن هؤلاء أنزل الله عدالتهم من السماء.

الأمر الثاني: أنهم أجهل من الصحابة، وهذا هو الحق. إذاً يسعهم ما وسع الصحابة، والصحابة لم يفعلوا ذلك.

الوجه الثاني: أن أبا لهب لم يعتق جاريته لكونه محمد رسول الله، وإنما أعتقها لأنه بشر بولد، وإلا فهو لما بعث رسول الله عاداه وكفر به.

فإذاً: كان عتقه للولد لا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون البنات، ويئدون البنات، فلما بشر بولد أعتق للولد، لا لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرجع الأمر إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا.

فإذاً: قياسهم هذا قياس مع الفارق.

الوجه الثالث: نتنزل معهم، ونقول: إن الله قد خفف له ذلك لاحتفاله، فهل كل عام يأتي بعبد ويعتقه؟! أو كان يأتي بأمه يعتقها لوجود النبي صلى الله عليه وسلم؟! ما حدث ذلك، فأنتم خالفتم حتى الكافر.

فقياسكم مع الفارق، فأنتم كل عام تقفون وتجتمعون من أجل هذا الاحتفال، فأصبح القياس قياساً مع الفارق، بل هو قياس باطل.

الوجه الرابع: أنها رؤية منام، والأحكام الشرعية لا تؤخذ من المنام.

بيان التعظيم الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم

إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يكون باتباع سنته، قال الله تعالى ممتحناً الذي زعموا حبه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، فإن أردتم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم فوقروا سنته، وعظموا سنته، وافعلوا ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا تتنطعوا بعيداً عن السنة وتقولون: هذا تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم.

هذا آخر ما مررنا عليه من أقوالهم وشبههم التي طرحوها، وقد رددنا رداً علمياً، وأصلنا تأصيلاً واضحاً لهذه البدعة المنكرة المميتة للسنة، ويخلص بنا الأمر إلى أن الاحتفال بالمولد النبوي من إطعام الطعام، والاجتماع في المساجد، وإنشاد القصائد والمدائح بدعة منكرة، مأزور صاحبها غير مأجور، والسنة في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أن نصوم كل يوم إثنين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , بدعة الاحتفال بالمولد النبوي للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net