إسلام ويب

لا يخفى على مسلم ما تعانيه الأمة من تشتت، وما يفعله العدو من انتهاك لمقدساتها واستباحة لدمائها وأعراضها، ولا يشك مؤمن أنه لا عزة للأمة ولا مخرج لها من هذا النفق المظلم إلا بالجهاد. لكن سنة الله في الجهاد أنه لا ينصر إلا عباده المؤمنين، ولذا كان لا بد من التعبئة الإيمانية حتى تثق الأمة بربها وتتأهل لاستحقاق النصر.

وجوب الإعداد الإيماني قبل الجهاد

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:ففي الحقيقة أن دروس الدار الآخرة دروس هامة جداً، وقد يظن بعض إخواننا أنها دروس بعيدة عن الواقع، ولكننا ندين الله عز وجل بأن هذه الدروس هي من صلب هذا الواقع المرير؛ لأننا نعتقد أن الأمة لن تعود إلى كرامتها وإلى عزتها وإلى مجدها إلا إذا عادت ابتداءً إلى الله، ووالله! لو قعدت ألف سنة تشجب فغير ممكن أبداً أن تزول المستوطنات التي في القدس الشريف بالشجب، بل ستبنى رغماً عن أنف مليار مسلم؛ لأن الأمة كلها لا تجيد إلا أن تقول في (المانيتات): نشجب ونستنكر، وحتى إن منا من لا يشجب ولا يستنكر!فيا أخي! نحن أمة غابت عن الله.. أمة ابتعدت عن الله.. أمة انغمست في الشهوات والملذات.. أمة أصبحت تعبد الدنيا إلا من رحم ربك.وأنا أقول لإخواننا دائماً: لو سألنا أنفسنا: من منا يا إخواننا! الذي يدعو في كل سجدة للأمة أن يردها الله إلى الدين، وأن يرد إليها الدين، وأن يرد إليها الأقصى الكريم؟!وفي الجواب أقول: هذه أمة بخلت بالدعاء، فهل تجود بالأموال والدماء؟! الجواب: ممكن أنها أيضاً لا تجود، إلا من رحم الله. فيا شبابنا! نريد أن نتعلم أن الجهاد لابد له من إعداد، وأول خطوة على طريق الإعداد هي الإيمان.وأنا أفهم الواقع فهماً جيداً جداً، لكن ربنا لما أمر بالجهاد أمر المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورسوله [الصف:10-11] فأمرهم بالإيمان مع أنه أثبت لهم الإيمان، وبعد الإيمان قال: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11] فأثبت لهم عقد الإيمان فقال: يا أيها الذين آمنوا هل تريدون أن أدلكم على تجارة تنجيكم من العذاب والخزي في الدنيا والآخرة: تؤمنون بالله، وبعد الإيمان بالله تجاهدون؛ إذ ليس ممكناً أن يرفع السيف من لا يعرف الله، وأصحاب النبي إنما انتصروا بالإيمان.وحتى لا يقول قائل: الشيخ في وادٍ والأمة في وادٍ أقول: الصحابة انتصروا؛ لأن الواحد منهم كان يدخل المعركة وهو يبحث عن الموت؛ والذي يدخل معركة وهو ينقب عن الشهادة وينقب عن الموت مؤمن بالله، والدنيا وإن طالت فهي قصيرة، إنما الآخرة هي الباقية.ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يقاتلهم اليوم رجل وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، قوموا لجنة عرضها السماوات والأرض)، كان أحد الصحابة قد أخرج تمرات يريد أن يأكلها حتى يقوي نفسه على القتال، فعندما سمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام حرك قلبه.وأنا أقسم برب الكعبة -وأنا أعي ما أقول- إن هناك ممن ينتسبون إلى الإسلام الآن لو خرج إليهم النبي فكلمهم لكذبوه! فانظر إلى الكلمة لما قيلت كيف عمل الصحابي؟! رمى التمرات، وقام وهو يقول: (بخٍ بخٍ؛ جنة عرضها السماوات والأرض؟!) ما بيني وبين الجنة إلا أن ألقي بهذه التمرات وأن أنطلق في صفوف القتال لأقاتل فأقتل لأكون من أهلها، فرمى التمرات وقال: والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة).هؤلاء هم أهل الإيمان يا إخواننا! والعلماء كم لهم من سنة وهم ينفخون في قربة مقطوعة؟! لا يوجد إيمان إلا من رحم ربك في أفراد قلائل، أسأل الله أن يجعلنا منهم.

التعبئة الحقيقية للجهاد هي برجوع الأمة إلى الدين

إن التعبئة الحقيقة للجهاد هي أن نرد الأمة من جديد إلى الله، هو هذا الطريق الذي ندين الله به: أن تُربى الأمة على القرآن والسنة، حتى لو قعدنا ألف سنة؛ لأنه لا طريق إلا هذا الطريق، فلا برلمانات ولا انتخابات أبداً، الطريق للتغيير هو طريق النبي محمد بن عبد الله؛ فقد بدأ بمجموعة وأفراد قلائل، كان يجتمع بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، فرباهم على القرآن وعلى السنة، وعلى الإيمان واليقين؛ حتى أخرج من هؤلاء الرجال الأبطال من أقام على أكتافهم للإسلام دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، أذلت هذه الدولة المسلمة الأكاسرة، وأهانت هذه الدولة القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق! فبهؤلاء وعلى أكتافهم أقام النبي علم الإسلام، فهذا هو الطريق الذي إذا سلكناه وصلنا إلى ما وصلوا.فعليك يا أخي أن تربي، وليس لك دخل بالنتيجة، حتى ولو قعدت مائة سنة أو مائتي سنة؛ فالنتيجة ليست لك وليست لي وإنما وظيفتك أن تعمل فقط، ولا يهمك هل الشريعة تطبق في مصر أو لا تطبق؟ فإن ربنا لن يسألك عن تطبيق الشرع، وإنما سيقول لك: أنت عملت ماذا؟ أنت بذلت ماذا؟ أنت كنت سلبياً أو كنت إيجابياً؟ بذلت لدين الله على قدر استطاعتك أو كسلت؟فعليك أنت أن تعمل وتجتهد، فتربيتك لنفسك هي على درب الفتح إن شاء الله، وتربيتك لأولادك بذر في طريق الفتح، وتربيتك لزوجتك بذر في طريق الفتح، وتصحيح العقيدة والإيمان بذر في طريق الفتح، هو هذا السبيل.فعلينا أن نعمل ولو قعدنا مليون سنة، والواقع الآن خير شاهد؛ فإن كنا دائماً ممن يدندن دائماً على الواقع وعلى فقه الواقع وعلى فهم الواقع فإن الواقع يصدق ما نقوله الآن، فلا طريق إلا هذا الطريق، وأما النتائج فهي على الله، قال عز وجل: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] فعليك أن تكون صحيح الإيمان، وأن تدعو غيرك إلى الرحمن جل وعلا وإلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام بحكمة ورحمة وموعظة حسنة.

مراحل تغيير المنكر

وأريد أن أقول يا إخوان: إن العنف دائماً يهدم ولا يبني، فإذا قال قائل: فماذا أعمل؟ وأنا أريد أن أغير المنكر؛ وقلبي يحترق، فكيف أغيره؟ فنقول: إن قدرت أن تغير بيدك بحيث إن المعروف الذي يترتب على إنكارك يكون أكبر من المنكر نفسه فغير بيدك، فإن كان هذا الولد أو هذه البنت لك عليها سلطان فأنكر عليه ولو بالقوة، أما إذا كان إنكار المنكر سيترتب عليه منكر أكبر فلا تغيره؛ لأن ربنا أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.فلا تحسب نفسك عنترة بن شداد ؛ وإنما كن فاهماً للواقع وفاهماً للشرع، فإذا لم تستطع التغيير باليد فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع لك مخرجاً فقال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه).فعليك أن تمسك هذا الولد أو هذه البنت وتكلمهما بكلمتين طيبتين، وترغبهما وترهبهما وتذكرهما بالله.

الأصل في الكبائر التوبة

وأقول لك أيها الأخ كلمة لو دفعت لي أموال الأرض فإنها لا تزن هذه الكلمة، هذه الكلمة هي لشيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه، يقول: (الأصل في الكبائر التوبة، وليس إقامة الحد!). يعني: إن وقعت في كبيرة وربنا ستر عليك فاستر على نفسك، وتب إلى الله.فإن قال قائل: هذا ماعز جاء بنفسه إلى النبي بعدما ارتكب كبيرة الزنا، ولم تأتِ به شرطة ولا هيئة أمر بمعروف، وإنما جاء يقول للنبي: طهرني يا رسول الله! فجاء معترفاً؛ والاعتراف سيد الأدلة، فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه)، فدل هذا على أن الأصل في الكبائر التوبة، وليس إقامة الحد.فرجع ماعز ولم يقدر، لأنها قلوب تربت على الإيمان؛ أما اليوم فأحدنا يركب الحافلة العامة، وتراه يقطع السفنج، أو يسرق حديدة أو يسرق مسنداً ويقول لك: هذا مال سائب! وآخر يذهب إلى الوظيفة فيقعد ساعة ويعود، ويقول لك: على قدر فلوسهم! سبحان الله! فانظر الفرق الكبير؟! فـماعز رجع مرة ثانية وقال: (يا رسول الله! طهرني) فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية: (ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه) فيرجع ماعز ثم يجيء في اليوم التالي ويقول: (يا رسول الله! طهرني). فيقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه) ويرجع ماعز وهو مصر على قوله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبه جنون؟! قالوا: لا، يا رسول! فقال: هل شرب خمراً؟ فقام واحد من الصحابة فاستنكهه فلم يجد منه رائحة الخمر، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإقامة الحد عليه).فلما وصل الأمر إلى ولي الأمر واعترف بهذه الصورة أقيم عليه الحد.ومن أعجب ما قرأت أنه جاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد هرب يا رسول الله ونحن نرجمه. فقال المصطفى: (هلا تركتموه؟!) يا سبحان الله! انظر إلى عظمة هذا الدين!فإذا منّ الله عليك بأنك تستطيع أن تغير المنكر بيدك بدون مفاسد فغير، ولكن بالضوابط، فإذا لم تستطع فغير بلسانك بكلمة طيبة رقيقة، فإذا لقيت واحداً في معصية فذكره بالله، وذكره بالجنة والنار.وأنا أريد أن أقول: جل الناس في قلبوهم الخير يا إخواننا! والله ما من مكان نتحرك إليه إلا ونرى الخير، وما من مكان نذهب إليه إلا نرى الشباب قبل الشيبان يتسابقون إلى الرحمن، والله إننا نجد آلافاً مؤلفة من الشباب يحضرون بين أيدينا في كل مكان نذهب إليه، بل يحضر عشرات الآلاف بدون مبالغة؛ فالناس مقبلة على الله، والناس ملوا من المعاصي والذنوب، وملوا من الكذب والدجل السياسي والإعلامي، وأصبح الناس يريدون أن يرجعوا إلى الله. فهل يرجعهم غيركم أيها الدعاة؟!القاعدة لو بقيت كلها مسلمة لصلحت أحوال الأمة؛ وتصور لو أن الغالبية في مصر أسلمت لله إسلاماً حقيقياً، وأذعنت وانقادت وآمنت، فإن الحكومة التي نريد أن تطبق فينا شرع الله لن تأتي من المريخ، وإنما تأتي من هذه القاعدة، فإذا كانت القاعدة تقول: إسلام، فلا حاكم على ظهر الأرض يستطيع أن يقول: لا، أنا أريد أن أحافظ على الكرسي، فإذا كانت القاعدة تريد إسلاماً فسيكون إسلاماً، ومن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فإذا لم تقدر أن تغير بلسانك فغير بقلبك.

شروط التغيير بالقلب

التغيير بالقلب يكون بشرطين:الشرط الأول: أن يرى الله منك بغضك لهذا المنكر، فلا تقعد أمام التلفزيون تشاهد الفيلم الداعر أو المسلسل الفاجر وحين يجيء فيه مشهد راقصة عارية تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! فأنت بهذا تضحك على نفسك، وهذا كلام لا يليق على الإطلاق.فأول شرط من شروط الإنكار بالقلب أن يحترق قلبك عند أن ترى منكراًوالشرط الثاني من شروط التغيير بالقلب: أن تفارق المكان الذي يرتكب فيه المنكر؛ لأنك عاجز عن تغييره، فإذا كنت قاعداً في مجلس فيه الغيبة والنميمة التي أصحبت فاكهة المجالس فانههم، وقل لهم: اتقوا الله يا إخوان! وكل واحد يمسك لسانه، فإن لم يستجيبوا لك أو لم تستطع أن تغير فقم من هذا المجلس.وبعض الناس ورع عن الحرام، لكنه لسانه ينهش في أعراض الأحياء والأموات، فاتقوا الله! أيها الإخوة؛ فإن الأمر كما قال جل وعلا: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، فكل كلمة تسجل على قائلها.فإذا رأيت جماعة مصرين على الغيبة أو النميمة فقم فوراً، وانتبه أن تجلس، قال عز وجل: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، ومن رحمة ربنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إنكار القلب جهاداً، وفي هذا تسلية للمسكين الذي لا يقدر أن يغير بيده ولا بلسانه، فمن كان كذلك فليغير بقلبه؛ وهذا رحمة من الله بك أنك لو أنكرت المنكر بقلبك فأنت أيضاً مجاهد في سبيل الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن). وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التعبئة الإيمانية قبل التعبئة الجهادية للشيخ : محمد حسان

https://audio.islamweb.net