إسلام ويب

من تعظيم الله عز وجل أنه من سأل به يعطى، ومن استعاذ به يعاذ، ولا يعمل بهذا إلا من امتلأ قلبه بتعظيم الله وحبه، وقد ذكر العلماء أنه يشترط في ذلك ألا يضر نفسه في الإجابة؛ ففي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار).

شرح حديث: (من استعاذ بالله فأعيذوه..)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يرد من سأل بالله.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح ].

(باب: لا يرد من سأل بالله) السؤال بالله يختلف، قد يكون السائل يسأل شيئاً فيه حق من مال مشترك، يكون له فيه شركة أو يسأل ذا سلطان مثلاً، فسؤال السلطان الحاكم ليس كسؤال الأفراد، فمثل هذا يجوز أن يسأل فيه، أما إذا كان له فيه حق فلا بأس أن يسأل، ولكن لا يسأل الشيء الذي يكون زائداً على حقه.

هذا من حيث العموم، والمقصود بالسؤال هنا سؤال المال، وقد سبق أن ذكرنا في بعض المناسبات أن سؤال الناس محرم، لا يجوز أن يسأل المخلوق إلا في حالة الضرورة، وحالة الضرورة كما جاء في حديث قبيصة الذي في صحيح مسلم، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بحالات ثلاث فقط، وما عدا ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أن المسألة سحت، ومعنى السحت الحرام المحرم، وهذه الحالات هي:

الحالة الأولى: إذا أصيب الإنسان بفاقة، يفتقر حتى ما يجد شيئاً، فتحل له المسألة حتى يجد ما يسد فافته، فإذا وجد ذلك يجب أن يكف عن المسألة، هذه واحدة.

الحالة الثانية: إذا أصيب الإنسان بجائحة في ماله، مثل أن يحترق ماله، أو ينتهب أو يغرق أو ما أشبه ذلك من الكوارث التي قد تصيب الإنسان في ماله، فمثل هذا يجوز له أن يسأل حتى يجد سداداً من العيش.

الحالة الثالثة: أن يتحمل الإنسان الأموال في سبيل الإصلاح بين المتنازعين والمختلفين والمتقاتلين من المسلمين، يتحمل أموالاً يدفعها لهم من باب الإصلاح، فمثل هذا -وإن كان غنياً- يجوز له أن يسأل حتى يجد الشيء الذي يسدده في المسألة، وما عدا ذلك فلا يجوز السؤال بحال، والسبب في منع السؤال أن فيه افتقار القلب إلى غير الله جل وعلا، والواجب على المسلم أن يكون فقيراً لربه جل وعلا، وفيه عبودية للقلب، فالعطاء والبذل قد يأسر القلب ويستعبده، والعبودية يجب أن تكون لله وحده، ولا يجوز أن تكون لمخلوق، فجاء الشرع والحكمة البالغة في سد هذا الباب، وجعل المسلم حراً بالنسبة لنظرائه من الناس.

أما بالنسبة لربه جل وعلا فهو عبد له، فتكون عبوديته كلها لله جل وعلا، ولا يكون شيء منها لغيره، هذا هو السبب في منع السؤال.

السؤال بالله يكون مثل هذا الذي ذكره المؤلف هنا، والسؤال ينقسم إلى أقسام: قد يسأل الإنسان شيئاً يلزمه شرعاً، مثل أن يسأل عن مسائل علم تلزمه، فمثل هذا لا يدخل في باب النهي، ولا يجوز أن يتوقف الإنسان؛ لأن الله أمر بذلك، فهو طاعة لله، ويقول جل وعلا: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فأوجب السؤال عن الذي لا يعلم، وهذا باب واسع، فكل ما يلزم الإنسان من أمور دينه فعليه أن يسأل، ولكن يتحرى من يسأله؛ لأنه من قبل كان العلماء يتحاشون عن الجواب كثيراً خوفاً من الله جل وعلا، والآن صار الكثير من الناس يجيب بلا مبالاة، قد يجيب بغلط، وقد يجيب بخطأ.

ولهذا ينبغي للإنسان أن يتحرى في المسألة الشيء الذي يكون فيه تبرئة لدينه، ولا يكون مثلما يقول بعض العوام: إن ذمته تبرأ إذا سأل، إذا سأل شخصاً برئت ذمته ولو أجابه خطأ، هذا غير صحيح، ولكن هو مخطئ، والمفتي مخطئ، كلاهما مخطئ.

من يسأل بالله إما أن يكون مضطراً مثلما سبق، فهذا يجب أن يعطى، ولكن ما يعطى الشيء الذي يضر بالمسئول أو يضر أهله، يعطيه الشيء الذي لا يضره، وواجب عليه أن يعطيه، والله جل وعلا قد أمر بالصدقة، وحث عليها، ومدح الباذلين الذين يؤثرون على أنفسهم غيرهم، فهذا من أفضل الأعمال وأعظمها، فكيف إذا وجه إليه السؤال؟

وإما أن يكون يسأل محرماً، كأن يسأل مثلاً مالاً، ويعرف أنه يريد أن يشتري به خمراً أو يشتري به دخاناً، فهذا لا ينفع؛ لأنه أعانه على الإثم.

وأما إذا كان يسأله مالاً ليأكل، أو ليلبس، أو ليدفع عنه الدين الذي لزمه؛ فهذا يجب أن يعطى إذا سأل بالله، ولكن ما يعطيه المعطي الشيء الذي يضره، يعطيه ما فضل عن حاجته، وهذا إذا لم يلتزم محرماً أو قطيعة رحم.

معنى قوله: (من استعاذ بالله فأعيذوه)

قوله: (من استعاذ بالله فأعيذوه)، كأن يقول: أعوذ بالله من شرك، أو أعوذ بالله من شر فلان؛ فيجب أن يعاذ.

وهذا كله تعظيماً لله جل وعلا، لأن إعطاءه حينما سأل بالله، وإعاذته مما استعاذ بالله؛ هو من تعظيم الله جل وعلا، وتوقيره ومعرفة حقه.

ولهذا جاء في الحديث: (ملعون من سئل بالله فلم يعط) هذا معناه أنه جعل هذا العمل من الكبائر، وكذلك الاستعاذة مثل ذلك؛ ولهذا لما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة، دخل عليها ومد يده إليها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: (لقد عذت بعظيم إلحقي بأهلك)، فتركها.

وهكذا إذا استعاذ إنسان بالله جل وعلا من شر الإنسان أو من شر غيره وهو يستطيع ذلك، فإنه يجب أن يعيذه، إلا أن يستعيذ بالله في أمر محرم كترك واجب، يعني: كأن يلزمه بترك الصلاة، فيستعيذ ويقول: أعوذ بالله منك، ومثل هذا لا يترك ولا يعاذ؛ لأن الله جل وعلا لا يعيذ عاصياً، وإنما يعيذ من كان مطيعاً لله جل وعلا.

معنى قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه)

قوله: (من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه) الدعوة هنا مطلقة سواء كانت في طعام -يعني: وليمة عرس- أو غيرها مما يريد إكرامه بها، وهذا من حق المسلم على المسلم، إذا دعاه يجيبه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابته، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب الداعي حتى قال: (لو دعيت إلى كراع لأجبت)، يعني الشيء القليل الحقير، وهو القدوة لأمته صلوات الله وسلامه عليه.

ولكن قد يكون في الدعوة منكر، فإن علم أن فيها منكر فإنه لا يلزمه الإجابة، إلا إذا علم أنه يستطيع إنكار المنكر وإزالته فإنه يجيب لذلك، أو أن يعلم أن الداعي ماله حرام، فإذا علم أن ماله حرام لا تلزمه الإجابة، أو عرف أنه من أهل البدع والمعاصي الذين يهجرون، فهذا أيضاً لا يجيبه، أما إذا كان ظاهره الإسلام، وليس عنده بدع، وإن كان هناك شبهات في ماله فالشبهة لا تمنع من إجابة دعوته، يجاب لأن الشيء الذي يكون عاماً غير معين لا يمنع من معاملته، ولا يمنع كذلك من إجابة دعوته، فالرسول صلى الله عليه وسلم أجاب يهودياً إلى طعامه، وكذلك أكل من الشاة التي صنعتها اليهودية، وكذلك كان يتعامل مع اليهود، فتوفي صلوات الله وسلامه عليه ودرعه مرهونة عند يهودي بستة آصع من شعير لأهله، واليهود معروفون بأنهم يتعاملون بالربا، وأنهم يأكلون السحت، فلا يمنع ذلك معاملتهم، هذا من ناحية المعاملة العامة.

معنى قوله: (ومن صنع لكم معروفاً فكافئوه)

قوله: (ومن صنع لكم معروفاً فكافئوه)، المعروف هنا مطلق، والمعروف ما عرف بأنه إحسان سواء بذل مال أو عمل بالبدن أو غيره، يعني: يتوسط له في أمر من الأمور، ويسعى معه، فكل ما فيه نفع فهو معروف، ومكافأة صانع المعروف من باب كون الإنسان لا يجعل قلبه متعلقاً بشخص، مأسوراً لشخص، هو من هذا الباب.

(من صنع لكم معروفاً فكافئوه)، فإن لم يكن الإنسان مستطيعاً للمكافأة فيلجأ إلى ربه جل وعلا بأن يكافأ هذا الذي صنع له المعروف، فيدعو له ويجتهد في الدعاء: (حتى يرى أنه قد كافأه)، أو حتى تُروا بضم التاء ومعناه: تظنوا، أما إذا جاءت التاء مفتوحة (حتى تروا) فمعنى ذلك: حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه، فيدعو له حتى يعلم أنه كافأه بالدعاء الذي يدعو له، ومعنى ذلك أنه يجتهد في دعاء الله جل وعلا له، هذا إذا لم يجد المكافأة.

والشاهد هنا: تعظيم الله جل وعلا في إجابة السائل به، فإنه من تحقيق التوحيد، فإذا سئل المسلم بالله يجيب ويعطي، ويشترط أن هذا الشيء يستطيعه ولا يضره؛ لأن الضرر في الشرع ممنوع (لا ضرر ولا ضرار).

فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ظاهر الحديث النهي عن رد السائل إذا سأل بالله، لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل، بحسب ما ورد في الكتاب والسنة، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب، فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوباً، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه ما يدفع حاجته على حسب حاله ومسألته، خصوصاً إذا سأله بالله من لا فضل عنده، فيستحب أن يعطيه على قدر حال المسئول بما لا يضر به ولا يضر عائلته، وإن كان مضطراً وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته.

ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم والجود، وضدهما من البخل والشح، فالأول: محمود في الكتاب والسنة، والثاني: مذموم فيهما.

وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه، وكثرة ثوابه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:267-268] ].

يقول العلماء: الفحشاء هنا المقصود بها: البخل، أي: أنه يأمر بالبخل وعدم النفقة.

الآيات الحاثة على الإنفاق

قال الشارح رحمه الله: [ وقال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177].

فذكره بعد ذكر أصول الإيمان، وقبل ذكر الصلاة، ذلك -والله أعلم- لتعدي نفعه، وذكره تعالى في الأعمال التي أمر بها عباده وتعبدهم بها، ووعدهم عليها الأجر العظيم، قال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ [الأحزاب:35]].

ذكر في هذه الآية والآية التي قبلها فضل التصدق وإنفاق المال، ومعنى إيتاء المال على حبه ذوي القربى: كون الإنسان يحب المال ويؤتيه، وهو يحبه ويطمع في البقاء، ويحتاج إليه، فهذا من البر، ويدخل فيه الواجب والمندوب، يعني: الصدقة التي هي فرض مثل الزكاة داخلة فيه من باب أولى، وكذلك الصدقات التي هي تطوع داخلة فيه، وخص هذا بأنه إيتاء المال لمستحقيه، وبدأ بذي القربى وهذا يدل على أن النفقة والصدقة على القريب مثل الأخ وابن الأخ وما أشبه ذلك أفضل من الصدقة على البعيد، لأن الصدقة على القريب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صدقة وصلة).

وكذلك مدح في الآية الثانية المتصدقين والمتصدقات، وهذا يدل على أنه حتى النساء يتصدقن ولو كان ذلك من بيت الزوج بالمعروف الذي يتعارف عليه، ويأذن فيه ولا يضره، أو من الشيء الذي يخصها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهن بالصدقة وقال: (تصدقن ولو من حليكن)، وكلمة (ولو) تدل على أن هذا الشيء ليس واجباً وإنما هو تطوع يتطوعن به.

قال الشارح رحمه الله: [ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء؛ نصحاً للأمة؛ وحثاً لهم على ما ينفعهم عاجلاً وآجلاً ].

قوله: (حتى النساء) لأن المعروف في الشرع أن النساء لسن أهل مال واكتساب وعمل، وإنما هن مقصورات في البيوت، ومكفيات النفقة وما يلزمهن، هذا معنى قوله: حتى النساء.

ثناء الله على الأنصار بالإيثار

قال الشارح رحمه الله: [ وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار رضي الله عنهم بالإيثار، فقال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] ].

الإيثار معناه: أن يبذل الشيء وهو محتاج إليه، فهو يؤثر على نفسه، يعني: يعطي الشيء الذي هو بحاجة إليه، والأنصار رضوان الله عليهم كانت هذه صفتهم، فأثنى الله جل وعلا على من يؤثر غيره على نفسه؛ لأن الحاجة قائمة ولكنه يقدم فيها غيره من المسلمين.

قال الشارح رحمه الله: [ والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة، وقد قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8-9] ].

يعني: هذا معنى الإيثار، قوله: (ويطعمون الطعام على حبه) أعم من الإيثار؛ لأن الإنسان مجبول على حب المال، وهذا شيء ثابت في طبيعة الإنسان أنه يحب المال، وإذا أنفق من المال وهو يحبه فهذا دليل الإيمان والرغبة في الآخرة، وقد أثنى الله جل وعلا على من كانت هذه صفته.

من حقوق المسلمين

قال الشارح رحمه الله: [ والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جداً، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغَّب، وبالله التوفيق.

قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه) هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، إجابة دعوة المسلم، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين].

الظاهر أنه إذا دعا الإنسان أخاه يجب عليه أن يجيبه، وقد يكون هذا فيه سؤال وقسم، فيقسم عليه أنه يغديه أو يعشيه أو يقيم اليوم عنده كما يحصل لكثير من الناس الآن، ويتحرج بعض الناس من هذا، وهذا في الواقع إذا كان المقصود الإكرام فإنه لا يلزم إجابته، ولا يلزم الذي أقسم كفارة إذا لم يجبه؛ لأنه أراد إكرامه، وهذا لأن أبا بكر رضي الله عنه لما قص أحد الصحابة رؤيا رآها عند النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر : دعني أفسرها، وفسرها ثم قال: أقسمت عليك أن تخبرني هل أصبت أو لم أصب؟ فلم يخبره.

وكذلك لما أمره أن يبقى في الصف، ومعروف أن أمر الرسول واجب، فلما أمره بذلك، قال: ما كان لـابن أبي قحافة أن يصلي بالناس والرسول صلى الله عليه وسلم خلفه.

فإذا عرف الإنسان أنه يريد الإكرام بذلك فلا يلزم إجابته، ولا يلزم المقسم الكفارة في ذلك، أما إذا كان لا يقسم إلا على شيء يريد منه الأمر فيه والنهي عنه، فهذا يجب على المسلم أن يبر قسمه؛ لأن هذا من حق المسلم على المسلم، ولو لم يفعل ذلك لزمته الكفارة.

قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه) ، ندبهم صلى الله عليه وسلم إلى المكافأة على المعروف، فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله تعالى ورسوله كما دل عليه هذا الحديث، ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئيم من الناس، وبعض اللئام يكافئ على الإحسان بالإساءة كما يقع ذلك كثيراً من بعضهم، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

بخلاف حال أهل التقوى والإيمان فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة؛ طاعة لله، ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:96-98]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35]، وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادة ].

معنى (ادفع بالتي هي أحسن) يعني: ادفع الأذى والإساءة التي نالتك من غيرك بالحسنة، والمعنى: (ادفعها بالحسنة) بأن تحسن إلى من أساء إليك، وهذا لا تتحمله نفوس كثير من الناس، لا يستطيع ذلك، ويقول: كيف يسيء إلي ثم أحسن إليه؟! وإنما يستطيع ذلك من يرغب فيما عند الله، ويعلم أن الدنيا لا قيمة لها، فيكتسب بكل ما يستطيع رضا ربه جل وعلا، وكذلك رفعة الدرجة عنده، ولهذا قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35] يعني: ذو حظ عند الله جل وعلا، وهم الذين يرغبون فيما عنده، ويعملون على تحصيله بعدم الانتقام لأنفسهم، وعدم أخذ حقوقهم، بل يتركونها لله، ومع ذلك يحسنون إلى من ظلمهم وأساء إليهم، رجاء ما عند الله، وليس خوفاً منهم، وإنما يرغبون فيما عند الله فيحسنون إلى من أساء إليهم.

وهذا ليس واجباً على الإنسان، وإنما يستجب، فإن الله جل وعلا يقول في آية أخرى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] إذا جازيت المسيء بالسيئة فقد جازيته وصرت مثله، ولكن أنت لا تتميز عنه إلا بأن تعفو عنه، وإن صار عندك خير وفضل عفوت وأحسنت، وهذا لا يصل إليه إلا الأبرار.

[ قوله: (فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له) أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة مكافأة للمعروف: فيدعو له بحسب معروفه.

قوله: تُروا -بضم التاء أي: تظنوا- أنكم قد كافأتموه، ويحتمل أنها مفتوحة بمعنى: تعلموا، ويؤيده ما في (سنن أبي داود ) في حديث ابن عمر : (حتى تعلموا) فتعين الثاني للتصريح به.

وفيه: (ومن سألكم بالله فأجيبوه) أي: إلى ما سأل فيكون بمعنى: أعطوه، وعند أبي داود -في رواية أبي نهيك - عن ابن عباس : (من سألكم بوجه الله فأعطوه)، وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث: (ومن سألكم بالله)، كما في حديث ابن عمر ].

روى النسائي : (من صنع إليك معروفاً فقلت: جزاك الله خيراً فقد أبلغت في مكافأته)، وهنا يقول: (فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)، وقلنا: إن المعنى أن تبادروا في الدعاء وتبالغوا فيه حتى يحصل العلم لكم بأنها قد حصلت المكافأة، هذا معناه، فلا ينافي هذا ما ذكره النسائي أنه إذا قال: جزاك الله خيراً فقد كافأه؛ لأن كون الإنسان يقول: جزاك الله خيراً، قد تقبل وقد لا تقبل، والخير يعم الدنيا والآخرة، ومن أعظم الخير أن يدخله الجنة، والدنيا كلها ما تساوي شيئاً بالنسبة للخير الذي يكون في الآخرة.

فالمعنى واضح في قوله: (من قال: جزاك الله خيراً فقد حصلت مكافأته)، وواضح بأن خير الآخرة وإن كان قليلاً فهو أعظم من الدنيا كلها، كما في الحديث الصحيح: (لموضع سوط في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس)، الدنيا كلها لا تساوي موضع سوط، فإذاً: لا منافاة بين ما رواه النسائي وبين هذا الحديث.

مسائل باب: لا يرد من سأل بالله

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: إعاذة من استعاذ بالله ].

معنى (إعاذته) أنه إذا استعاذ بالله من شر المخاطب الذي يخاطبه أو من غيره وقال: أعوذ بالله من شرك؛ فإنه يجب أن يكف عنه الشر، هذه إعاذته، تكف عنه شرك أو تكف عنه شر من تستطيع كفه.

[ الثانية: إعطاء من سأل بالله.

الثالثة: إجابة الدعوة.

الرابعة: المكافأة على الصنيعة.

الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.

السادسة: قوله: حتى تروا أنكم قد كافأتموه.]



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [121] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net