إسلام ويب

لله عز وجل أسماء وصفات يختص بها؛ فلا يجوز منازعة الله عز وجل فيها بالتسمي أو الاتصاف بها، ومن ذلك: قاضي القضاة وملك الملوك ونحوها، فمن تسمى أو اتصف بذلك فقد نازع الله تعالى فيما هو من خصائصه، وهذا فيه منافاة للتوحيد، ورفع للنفس فوق قدرها.

حكم التسمي بقاضي القضاة ونحوه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه.

في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله) قال سفيان مثل: شاهان شاه. وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه) قوله: (أخنع) يعني: أوضع ].

قوله: (باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه) يعني: ما حكم هذا؟ هل يكون هذا منافياً للتوحيد أو منقصاً لكماله؟! لأن كل شرك لا يخلو إما أن يكون منافياً للتوحيد أصلاً، أو يكون شركاً أصغر؛ فيكون ذاهباً بكماله، أو يكون معصية من المعاصي والذنوب والكبائر، وهذا أيضاً يكون منقصاً للإخلاص والكمال، ولتحقيق التوحيد، ويكون ذاهباً بتحقيقه، فيكون معرضاً بالإنسان لعذاب الله جل وعلا من جراء ذلك.

والتسمي بهذا الاسم لا يخلو من شيء من ذلك، فيكون صاحبه واقعاً إما في منازعة الله جل وعلا فيما هو مستحق له، ومن خصائصه، وهذا من أعظم الشرك، أو يكون رفع نفسه فوق ما وضعه الله عليه، وتكبر على عباد الله، فاستحق بذلك أيضاً العقاب، أو يكون مثلاً رغب أن يكون له سيطرة، ويكون له ما ليس لغيره من الرفعة والعظمة والتكبر على الناس، ولو لم يحصل له ذلك، فإذا كان هذا في قلبه فهو واقع في الإثم.

والقاضي هو الذي يفصل بالحكم سواءً كان الحكم حقاً أو باطلاً، فكل فاصل بحكم يكون قاضياً، أما الاتصاف بقاضي القضاة، فهذا لا يصدق إلا على رب العالمين؛ لأنه هو الذي يقضي بين خلقه، ويقضي بين القضاة، والقضاة: كل حاكم حكم بين اثنين فهو قاضٍ، سواء جعل حاكماً من قبل الإمام، أو أن أصحاب الخصومة اصطلحوا على أن يحكموه بينهم، وكذلك المسئول عن مسائل العلم، فإذا قيل: ما حكم كذا وكذا؟ فأفتى وقال: حكم كذا كذا، فهو قاضٍ بهذه الفتوى، فإن كان متبعاً للحق فإنه يؤجر على ذلك، وإن كان قال ذلك بالهوى أو بالجهل فإنه قائل على الله بما لا علم له به، وسوف يعاقبه الله.

إذاً: القضاء يدخل فيه الفصل بين المتخاصمين والمتنازعين، ويدخل فيه الإخبار عن حكم من أحكام الشرع إذا سئل عنه، وهذا أعم وأشمل.

وإذا أطلق الإنسان على نفسه أنه قاضي القضاة فمعنى ذلك: أنه قاضي العالمين وقاضي الخلق كلهم، وكل من هو قاضٍ وكل من هو مفتٍ فهو القاضي عليهم، وهذا لا يصدق إلا على الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي يفصل بين خلقه، وهو الذي يقضي بينهم يوم القيامة، ولا أحد يستحق هذا الاسم إلا الله، وهذا ليس في هذا الاسم فقط، بل كل ما أعطى هذا المعنى فإنه داخل فيه، وهذا مثل الذي يطلق عليه أنه سيد الخلق أو سيد الناس، أو أنه الحاكم على الخلق، أو أنه ملك الملوك، وسواء قيل ذلك باللغة العربية أو بغيرها، ولهذا قال سفيان راوي الحديث: مثل شاهان شاه يعني: أن شاهان شاه باللغة الفارسية هو: ملك الملوك، فكل من أطلق عليه شيء من ذلك فإنه مستحق بأن يكون أخنع وأغيظ اسم عند الله جل وعلا وأحقر وأذل، ويعاقبه الله جل وعلا إما في الدنيا عاجلاً، وإما أن يمهله في الدنيا ثم يعاقبه في الآخرة.

حكم التسمي بسيد الناس

وأما سيد الناس أو سيد الخلق فهذا لا يجوز أن يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو سيد بني آدم صلوات الله وسلامه عليه، والسيد في اللغة العربية: الذي ساد وتقدم غيره، وصار له من المعاني ما جعلته يسود ويتقدم بها على غيره، وهذا لا يوجد إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم الألقاب التي تدل على العظمة

وكل الألقاب التي يتلقب بها الناس مما تدل على العظمة فإنها مكروهة ومبغضة، ولم تكن عادة العرب تعظيم بعضهم لبعض بالألقاب وبالأسماء التي تدل على ترفع بعضهم على بعض، وإنما جاءت هذه من العجم؛ لأنهم هم الذين يستعبد بعضهم بعضاً، ويكون بعضهم عبداً لبعض، أما المسلمون فكلهم سواء، وليس بعضهم معبود ولا عابد لبعضهم، وإنما كلهم يعبدون الله جل وعلا، ولهذا لما قدم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى رستم قائد الفرس، وكان على كرسي مرتفع وبجواره مجالس لا يجلس عليها أحد، والناس وقوف عنده، ذهب قاصداً وجلس بجواره على الكرسي، فأنكر ذلك واستعظمه، فسحبوه، فقال لهم: (كنا نتحدث أن عندكم عقولاً، والآن تبين لي أنكم لا عقول عندكم، ولو كنتم أخبرتموني أولاً أن بعضكم عبيد لبعض لكان أحسن من صنعكم هذا).

والمقصود: أن الأسماء التي فيها تعظيم للمخلوق وترفع على غيره كلها مكروهة.

حكم إطلاق أسماء الله الخاصة به على غيره

أما إذا كانت الأسماء لا يصح إطلاقها ولا يصح معناها إلا لله جل وعلا، فإطلاقها على غيره من العظائم، وهو منافٍ لتوحيد الله جل وعلا، وفيه منازعة لله جل وعلا، فإن ملك الملوك هو الله جل وعلا، وهو الذي يرجع إليه الأمر كله، وهو الذي بيده الملك، كما قال جل وعلا: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].

فكل ملك أو رئيس فملكه عارية، وسوف يُنتزع الملك منه، وسوف يُنزع من الملك ويُعطى لغيره، وإنما ملك في مدة محدودة أعطاه الله جل وعلا إياها، فملك الملوك هو الله، ولهذا لما تسمى بعض الملوك المساكين بهذا الاسم أخزاهم الله جل وعلا وأذلهم في الدنيا قبل الآخرة.

حكم الترفع على الغير

كذلك إذا كان الإنسان يترفع على غيره بفعل دون الأسماء فسوف يُذم ويلقى جزاءه، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى أن يقوم الناس على الرجل وهو جالس، ويقول: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).

وكان صلوات الله وسلامه عليه لا يدع أحداً من أصحابه يسير خلفه، وإنما يسيرون عن يمينه وعن شماله، ويقال: إن السير خلف الإنسان فتنة للمتبوع ومذلة للتابع. فعباد الله بعضهم من بعض، لا يجوز أن يترفع بعضهم على بعض.

حكم المدح

كذلك مدح الإنسان فإنه يكون فتنة؛ لأن فيه أنه قد يُعطى من الثناء ما ليس فيه، فربما استأنست نفسه بذلك، ثم يطلب ذلك ويصير آثماً بهذا الطلب الذي يطلبه، والخلق كلهم عباد لله جل وعلا، وأكرمهم أتقاهم، ومن كان لله أتقى فهو عند الله أرفع وأكثر مثوبة.

جزاء الذي لا يعرف قدر نفسه

الذي يكون أنفع للخلق هو الذي ينفعهم النفع الحقيقي الذي هو الدلالة على الله جل وعلا، وفاعل ذلك يكون أكثر أجراً، ومع ذلك يجب أن يكون عارفاً بقدره، وقدر الإنسان أنه عبد لا يخرج عن العبودية في حال من الأحوال، فإن ترفع عن كونه عبداً لله فإن الله يضعه ويعاقبه، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك) وأخنع: من الخناعة، وهي: الوضاعة، يعني: أوضع، وهذا الوضع قد يكون في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا جاء في الحديث: (إن المتكبرين يوم القيامة يحشرون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم جزاء تكبرهم) هذا في المحشر، وما بعد المحشر فهو أشد منه وأفضع؛ فإنهم من أصحاب جهنم. نسأل الله العافية.

وعلى هذا يتبين لنا معنى قوله: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله) ، فالمالك والملك هو الله جل وعلا مالك كل شيء، وهو الملك الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، فمهما أعطي الإنسان في هذه الدنيا من معاني أو أموال أو سلطات فإنها زائلة، وسوف ينتقل منها إلى قبره فريداً وحيداً، فيصبح كالفقراء، بل هو ربما كان أحقر من الفقير بالتبعات التي تكون عليه.

عقوبة من تسمى بقاضي القضاة وملك الملوك ونحوه

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة إشارة إلى النهي عن التسمي بقاضي القضاة قياساً على ما في حديث الباب، لكونه شبهة في المعنى فينهى عنه .

قال المصنف رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله). قال سفيان : مثل: (شاهان شاه).

وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه).

قوله: (أخنع) يعني: أوضع ].

قوله: (أغيظ) يعني: أن من فعل هذا الفعل فإن الله يغاظ عليه أي: يغضب عليه غضباً شديداً، ومن غضب الله عليه عذبه؛ وذلك لأنه نازع الله جل وعلا بهذا التسمي، ونازعه فيما هو من خصائصه، ومن أظلم الظلم منازعة الله جل وعلا في خصيصة من خصائصه.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى؛ فهو ملك الأملاك لا ملك أعظم ولا أكبر منه، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير، وهو الله تعالى، ينزع المَلِكَ من ملكه تارة وينزع المُلْكَ منه تارة، فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه، وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له، بيده القسط يخفضه ويرفعه، ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى، وما تكتبه الحفظة عليهم، فيجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما ورد في الحديث : (اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله).

قوله : قال سفيان -يعني: ابن عيينة - : مثل شاهان شاه، عند العجم عبارة عن ملك الأملاك، ولهذا مثل به سفيان لأنه عبارة عنه بلغة العجم.

قوله: (أغيظ): من الغيظ، وهو مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضاً إلى الله مغضوباً عليه. والله أعلم ].

وهذا يدل على أن الله يوصف بأنه يغيظ على بعض من يشاء، وأنه يوصف بالغيظ على بعض من يشاء من عباده، كما يوصف بأنه يبغض بعض خلقه، كما أنه يحب بعض خلقه، وكذلك يغضب على بعض خلقه، وهذه أوصاف تخص الله جل وعلا ولا يشابه المخلوق في وصفه؛ فصفة المخلوق تليق به، أما صفة الله فهي تخصه، وإن اشتركت صفة المخلوق وصفة الخالق جل وعلا في الاسم أو في المعنى العام قبل الإضافة والتخصيص فهذا لا يقتضي تشبيهاً، ولا يقتضي مساواة، فالله له ما يخصه والمخلوق له ما يخصه.

حكم القيام للأشخاص

قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (وأخبثه) وهو يدل أيضاً على أن هذا خبيث عند الله، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم؛ لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله.

قوله: (أخنع يعني: أوضع)، هذا هو معنى (أخنع)، فيفيد ما ذكرنا في معنى (أغيظ) أنه يكون حقيراً بغيضاً عند الله.

وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم، كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير ، فقال معاوية لـابن عامر : اجلس؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: حسن ].

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) يتمثل أي: أنهم يقومون له وهو جالس تعظيماً له، إما أن يقوموا على رأسه أو أمامه تعظيماً له.

وقوله: (فليتبوأ مقعده من النار) تبوأ أي: اتخذ مكاناً باء به، والمعنى: أنه يكون له مقعد من النار جزاء تعاظمه، وجزاء كونه أحب أن يكون نظراؤه من العباد أشباه العبيد له، فكانوا يعظمونه ويخضعون له.

والقيام عبادة، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فأمر بالقيام له، والقيام في الصلاة قنوت فهو عبادة، وكل عبادة لا يجوز أن يكون جنسها لمخلوق، فالقيام من جنس الركوع، ومن جنس السجود، ومن جنس الطواف، ومن جنس كشف الرأس في الإحرام تعبداً لله جل وعلا، فكل ما هو عبادة لا يجوز أن يكون لمخلوق من المخلوقين، فإن أحب المخلوق أن يكون له شيء من ذلك فهو طاغوت من الطواغيت الذين يدعون إلى عبادة أنفسهم، بل يكون أسوأ الطواغيت؛ لأن الطواغيت كثيرون جداً، ولكن رؤساءهم أنواع، ومنهم الذين يحبون أن يُعبدوا أو يدعون إلى عبادة أنفسهم.

ومن ذلك الانحناء، فكون الإنسان إذا لقي آخر ينحني له ويطأطئ رأسه فإن هذا نوع من السجود ونوع من الركوع، والركوع سجود، فلا يجوز أن يكون هذا لمخلوق؛ لأن هذا من خصائص الخالق جل وعلا، فمن رضي بذلك فهو من هذا النوع يتبوأ مقعده من النار.

فالمقصود: أن القيام على الإنسان الجالس تعظيماً له نوع من العبادة، ولهذا توعد فاعله بأنه يكون قد تبوأ مكاناً في النار، يجلس فيه ويتخذه مباءة، أي: مسكناً ومحلاً ومقاماً له، وهذا من أعظم الوعيد؛ لأنه نازع الله جل وعلا في حقه، والأول: نازعه في اسم من أسمائه، فتسمى: ملك الملوك، أو قاضي القضاة، أو حاكم الحكام، أو ما أشبه ذلك، وكل من نازع الله جل وعلا فيما يستحقه فهو ينصب نفسه معبوداً من دون الله جل وعلا، وجزاؤه أن يكون متبوئاً مقعده في جهنم.

صفات الله تعالى تمر كما جاءت بلا تأويل

قال الشارح رحمه الله: [ وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على عصا فقمنا إليه فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً) رواه أبو داود .

وقوله: (أغيظ رجل) هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيء مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك، وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل كما تقدم، والباب كله واحد، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة، وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده، كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم. والله المستعان].

قوله: (تمر كما جاءت) معناه: أن النص لا يفسر التفسير الذي يخرجه عن ظاهر لفظه، بل تفسيره ما يفهم من لفظه؛ لأن الغيظ والبغض والمحبة معروفة، وكل من سمع هذا عرف المعنى، ولكن يجب أن يعلم أن تغيظ الله وبغض الله وغضبه ليس كتغيظ المخلوق وبغضه وغضبه؛ لأن الله جل وعلا في ذاته لا يشبهه شيء، وكذلك أوصافه؛ والوصف يكون تابعاً للموصوف، والأسماء كذلك، وإن شارك المخلوق الرب جل وعلا في شيء من الأسماء في اللفظ أو في المعنى، مثل: ملك، فالإنسان يُسمى ملكاً، والله جل وعلا مالك يوم الدين وملك يوم الدين، كما جاء ذلك في القراءات، وكما يسمى المخلوق: رءوفاً، والله جل وعلا رءوف رحيم، وقد سمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم رءوفاً رحيماً فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فالرأفة والرحمة تليق بالمخلوق إذا أضيفت إليه، وإذا أضيفت إلى الله جل وعلا فهي خاصة به لا يشاركه المخلوق فيها، وكذلك سائر الأسماء على هذا الباب، فهذا معنى قوله: (تمر كما جاءت) يعني: على ظاهر ما يفهم من اللفظ، فلا يجوز أن تؤول التأويل الذي يخرجها عن معانيها، كما يفعله أهل التفرق والاختلاف وأهل البدع، بل هذا مسلك الصحابة ومن سار معهم؛ لأنهم يقدرون الله حق قدره، ويعلمون أن الله جل وعلا لا يشاركه مخلوق في خصائصه التي تخصه من الأسماء والصفات، كما أنه لا يشاركه أحد من الخلق في ذاته تعالى وتقدس.

مسائل باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

النهي عن التسمي بملك الأملاك

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل:

الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك ].

النهي مفهوم من قوله: (أغيظ اسم عند الله)، ومن قوله: (أخنع اسم)؛ لأن الشيء الذي يبغضه الله ويعذب عليه فإنه ينهى عنه، وهذا أبلغ مما لو جاء النهي بلفظ: لا تفعلوا ولا تسموا. ولهذا قال: النهي يقتضي التحريم؛ والسبب في إدخال هذا الباب في هذا الكتاب: أن الذي يفعل ذلك إما أن يكون قد ترك التوحيد رأساً فيكون كافراً؛ لأنه نازع الله جل وعلا، أو يكون فعل ذلك عن جهل وعدم إرادة لمنازعة الله جل وعلا، فيكون بذلك نقص في توحيده، فيجب أن يبتعد عن ذلك.

ما كان في معنى ملك الأملاك يأخذ حكمه

قال المصنف رحمه الله: [الثانية: إن ما في معناه مثله كما قال سفيان ].

يعني: أن مثل قاضي القضاة: حاكم الحكام ونحو ذلك، وقوله: (كما قال سفيان ) سفيان قال نفس هذا، فهو قال: مثل: (شاهان شاه) ولكن هذا في لغة أخرى، يعني: أنه إذا سمي اسماً بأي لغة من اللغات يدل على هذا المعنى فهو داخل في ذلك، وشاهان شاه: هو ملك الأملاك في لغة الفرس.

التغليظ في النهي عن التسمي بملك الأملاك ونحوه

قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه ].

غلظ في هذا لأن فيه منازعة لله جل وعلا في حقه؛ لأن هذا من حقوق الله جل وعلا التي يجب أن تكون خالصة له، والمخلوق حقه أن يكون عبداً خاضعاً ذليلاً، ولا يجوز أن يتعدى طوره.

قال المصنف رحمه الله: [الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه ].

وهذا كما سبق.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [111] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net