إسلام ويب

لا يجوز أن يشرك مع الله أحد من خلقه في مشيئته وإرادته سبحانه، أو صفاته وأفعاله؛ ولذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على قول الرجل: (ما شاء الله وشئت)، وقال: (أجعلتني لله نداً؟!).

باب قول: ما شاء الله وشئت وأمثالها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قول: (ما شاء الله وشئت):

عن قتيلة : (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله وشئت) رواه النسائي وصححه ].

يعني: ما حكم هذا القول هل هو جائز، أو أنه ممنوع، وإذا كان ممنوعاً فهل هو معصية أو شرك؟ فإن كان معصية؛ فإنه يكون ذاهباً بكمال التوحيد لمن وقع منه، وإن كان شركاً؛ فإنه إما أن يكون ذاهباً بالكمال أو بالكل، على حسب ما يقوم بقلب القائل، وحسب ما يصدر منه.

والجواب عن هذا: أن هذا لا يجوز، وأن قول: (ما شاء الله وشئت) من الشرك، ولكنه من الشرك الأصغر، وقد يكون من شرك الألفاظ، وإذا وافق القلب اللسان في ذلك فإنه أيضاً يكون من شرك الاعتقاد؛ فربما وصل إلى الشرك الأكبر.

وقوله في هذا في حديث قتيلة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يقولوا ذلك، وأن يقولوا: (ما شاء الله ثم شئت) يعني: منع من الشرك وأباح الشيء الذي يعوض عنه، وهو الإتيان بلفظ لا يدل على مساواة المعطوف بالمعطوف عليه، والمعطوف يكون مخلوقاً والمعطوف عليه هو الخالق جل وعلا.

سبق أن قلنا إن هذا لمن يفهم اللغة، أما الذي لا يفهم اللغة ويأتي بثم ومقصوده التسوية، والتشريك فيكون بذلك واقعاً في الشرك، غير أنه يجب أن يفهم الإنسان ما يتكلم به ويفهم كلام الله وكلام رسوله، وهو لا يفهم ذلك إلا إذا عرف اللغة العربية.

وهذا يدلنا على لطف الرسول صلى الله عليه وسلم، وشفقته على أمته، وحمايته جناب التوحيد وكل الطرق التي تفضي إليه، حتى في مثل هذه الألفاظ نهى عنها ومنع منها، فكيف لو حصلت استغاثة بمخلوق أو دعاء له، أو حصل ذبح له، أو نذر ماذا يكون؟ يكون مضاداً لدعوته صلى الله عليه وسلم، ومنافياً لها، ولهذا كانوا يعرفون هذه الأمور تماماً، ولم يقع منهم شيء من ذلك وإنما يقع شيء فيه خفاء لا يعرفه إلا الخواص، مثل هذا اللفظ.

الجواب عما ورد في القرآن من الجمع بين فعل الله ورسوله بالواو

قد يقول قائل: إنه جاء في القرآن ما يدل على جواز مثل هذا، أي: جواز العطف بالواو، مثل قوله جل وعلا: لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [الأحزاب:37]، فعطف بالواو على ما فعله الله جل وعلا يقصد به الرسول، وكذلك قوله جل وعلا: أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [التوبة:74]، فعطف الرسول على الله، وقد يحتج محتج بمثل هذا، ويقول: هذا يدل على الجواز.

فالجواب عن هذا: أن يقال: كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتضاربان ولا يتعارضان بل كلاهما حق وكلاهما يدل على التوحيد، ولا يمكن أن أحدهما يدل على خلاف التوحيد.

أما الجواب المفصل فنقول: هذا من الله، والله جل وعلا يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء، وقد أخبرنا جل وعلا أنه يقسم بما يشاء من مخلوقاته، أما نحن فممنوعون من مثل هذا، فيكون هذا مثل القسم الذي أقسم الله جل وعلا به في قوله جل وعلا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:1-3] إلى آخر الأقسام الكثيرة التي تقسم بالمخلوقات والتي تدل على عظمتها، وأنها آية من آيات الله.

الجواب الثاني: أن يوجد فرق بين ما في هذه الآيتين، وما في الحديث، فالحديث فيه: أن الفعل واحد (ما شاء الله وشئت)، أما هذه فأفعال مختلفة؛ وفعل الله غير فعل رسوله؛ فالله أغناهم من فضله ورسوله صلى الله عليه وسلم أغناهم بفعله حقيقة، ولكنه داخل تحت قدرته، وهو من نعم الله جل وعلا، وكذلك بالنسبة إلى زيد فالله أنعم عليه بالإسلام والهداية، والرسول صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بأن أعتقه، فالفعل هنا متغاير وليس مثل ما في الحديث.

ما يستفاد من حديث قتيلة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن قتيلة : (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون: تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) رواه النسائي وصححه ].

في هذا الحديث من الاعتبارات: أولاً: كيف أن اليهود يعرفون مثل هذه الدقائق وينكرونها على المسلمين، وهم يقولون: (عزير ابن الله)، (يد الله مغلولة)، (نحن أغنياء والله فقير)، ويفعلون الأفعال التي تنافي وحدانية الله جل وعلا، ثم ينكرون على المسلمين مثل هذا الشيء الدقيق، فهذا يدل على أن صاحب الهوى قد يفهم شيئاً دقيقاً لأجل هواه لا من أجل الحق.

ثانياً: أن الحق إذا جاء -وإن كان من عدو- يجب أن يقبل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ونهى عنه، وهو إنما جاء من اليهود وهم أعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المسلمين، والحق ضالة المؤمن فيجب أن يقبله ويقول به، وإن كان صادراً من عدو.

ثالثاً: أن الإنسان ظلوم جهول قد يعرض عن الأمور العظائم التي يفعلها، وينتقد الأمور الدقيقة الضعيفة على غيره.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (عن قتيلة ) بمثناة، مصغرة، قتيلة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي وهو المذكور في الباب، ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي .

وفيه: قبول الحق ممن جاء به كائناً من كان.

وفيه: بيان النهي عن الحلف بالكعبة، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة. وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه.

وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله، ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع؛ وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة، فالطواف بها مشروع، والحلف بها ودعاؤها ممنوع، فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع، وإن خالفك من خالفك من جهلة الناس الذين هم كالأنعام.. بل هم أضل سبيلاً ].

شبيه بقول هذا اليهودي ما سمعناه من بعض النصارى، فإنهم يقولون في هذه المسألة: إن المسلمين عندهم بقايا وثنية حيث يذهبون إلى الكعبة ويتمسحون بها ويطوفون عليها. وهذا غريب من هؤلاء المشركين الذين يجعلون المسيح بن مريم ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة ويعبدونه، فهم يعبدون رجلاً كان في بطن امرأة حملاً، ثم وضع فصار رضيعاً ضعيفاً، إلى أن جاءت عليه الأطوار التي تأتي على الإنسان، ثم يقولون: هو ربهم، وأنه هو الذي يتصرف، ثم ينتقدون هذا الانتقاد، هذا من أعجب العجب.

والجاهل الذي لا يعرف حكم الإسلام، ولا يعرف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قد ينطلي عليه مثل هذا الكلام؛ لأن القائل نفسه يعلم أنه باطل، وأن مقصوده به التشويه، وكذلك يقصد به أن ينفر عن الإسلام من لا يعرفه، وإلا فإن أهل الإسلام يعلمون أن الكعبة مبنية من الحجر والطين، وأنها لا تضر ولا تنفع أحداً، وإنما يمتثلون أمر ربهم حيث أمرهم بقصدها والطواف عليها وبالتوجه إليها بالصلاة والدعاء.

فهذا مثلما ذكر الله جل وعلا أنه أمر الملائكة بأن يسجدوا لآدم فسجدوا طاعة لله وليس عبادة لآدم، فكذلك المسلمون يذهبون إلى الكعبة ويطوفون بها طاعة لله جل وعلا، ويعبدون رب الكعبة وليست الكعبة هي المعبودة، وإنما المعبود ربها الذي أمر بتعظيمها وبقصدها وبالطواف عليها.

أما التمسح بها فليس مشروعاً بل لا يجوز وهو من المحرمات، وإذا وقع فإنما يقع من الجهلة الذين لا يعرفون الحكمة، وإنما الذي يمسح هو الحجر الأسود والركن اليماني فقط، وأما غير ذلك فلا يجوز التمسح كما يقول هؤلاء الأعداء، وإنما يفعلون ما أمروا تعبداً لله جل وعلا وتقرباً.

وأما الوقوف بعرفات فهو عبادة أمروا بها تعبداً لله، وكذلك المبيت بمزدلفة، ورمي الجمار وسائر مواقف الحج والمشاعر، كلها عبودية للقلب وللبدن؛ فالقلب أولاً يخضع لله جل وعلا ممتثلاً أمره وليس لهذه المظاهر التي يزعم الأعداء أنها من بقايا الوثنية، إذ إنهم إما جاهلون بالحكم وبالواقع، أو أنهم عرفوا الحكم فكذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فعليهم جريمة الكذب وجريمة معاداة الحق.

مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى

قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت)، والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا قدرة له على أن يشاء شيئاً إلا إذا كان الله قد شاءه، كما قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29] وقوله: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30] ].

ومعلوم أن الذي يقول هذا القول ليس قصده أن مشيئة المخلوق كمشيئة الخالق؛ هذا لا يخطر ببال عاقل من العقلاء، وإنما الذي ينكر مجرد الجمع بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق؛ لأن الجمع يقتضي تشريكاً فقط، يعني: أن مشيئة المخلوق تشارك مشيئة الخالق ولو مشاركة ضعيفة، فنهي عن هذا وجعل ذلك من الشرك، هذا هو الذي دل عليه الحديث.

أما كون الإنسان له مشيئة ومشيئته جعلها الله جل وعلا مملوكة له، فهذا لا ينكر وهذا معلوم، ولكن هذه المشيئة ضعيفة تناسب ضعف المخلوق، فلا يجوز أن يجمع بينها وبين مشيئة القادر على كل شيء رب العباد جل وعلا، يجب أن يكون العبد عبداً لله موحداً منزهاً لله عن جميع المشاركة حتى في الألفاظ التي توهم مجرد مشاركة ولو ضعيفة حتى يكون عبداً لله حقاً.

والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بكمال التوحيد فبين جميع ما يجب على العبد أن يفعله أو يقوله، وكذلك جميع ما يجب أن يمتنع منه.

الرد على نفاة المشيئة من القدرية والمعتزلة

قال الشارح رحمه الله: [ وفي هذه الآيات والحديث: الرد على القدرية والمعتزلة نفاة القدر، الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه، وسيأتي ما يبطل قولهم في: (باب ما جاء في منكري القدر) إن شاء الله تعالى، وأنهم مجوس هذه الأمة ].

القدرية ما قالوا ذلك لأنهم يقدسون الإنسان، ولا لأنهم يجعلونه مشاركاً لله جل وعلا في ذلك قصداً، وإنما قالوه من باب الجهل والفرار من باطل اعتقدوه فوقعوا في باطل آخر أكبر منه، وهو أنهم قالوا: لو قلنا إن مشيئة الله جل وعلا عامة شاملة، وأن العبد ليس له مشيئة إلا بعد مشيئة الله؛ فهي داخلة في مشيئته؛ فلو قلنا هذا للزم من ذلك أن نقول إن الله يشاء الكفر من العبد ثم يعذبه عليه، ويكون ذلك ظلماً.

هذا الذي دعاهم إلى قولهم: إن العبد له مشيئة غير داخلة في مشيئة الله، ومعلوم أن مثل هؤلاء مثل الذي استجار من الرمضاء بالنار، فهم فروا من شيء متوهم يريدون تنزيه لله ووقعوا في الشرك في الربوبية؛ حيث جعلوا هناك أشياء مخلوقة لغير الله جل وعلا.

فإذاً: يكون المخلوق مشاركاً لله جل وعلا في الخلق، وهذا أعظم وأكبر مما فروا منه، فإن الله جل وعلا خلق الإنسان وجعل له قدرة واختياراً.. فخلق له القدرة على اختيار الفعل التي هي المشيئة، وخلق له قدرة التي هي مناط القيام بالفعل، وبها يفعل، وخلق له أيضاً إرادة التي هي المشيئة فجعلها ملكاً له، وأمره بما يستطيع، فإذا فعل ذلك فإنه يفعله بإرادته وقدرته، وإذا تركه فإنه يتركه بإرادته وقدرته، وعلى ذلك يستحق العبد إذا ترك ما أمر به وفعل ما نهي عنه.. يستحق الثواب إذا امتثل الأمر واجتنب النهي؛ لأنه وقع بإرادته وقدرته.

عقيدة أهل السنة في القدر

قال الشارح رحمه الله: [ وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره، واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شيء مما يوافق ما شرعه الله، وما يخالفه من أفعال العباد وأقوالهم؛ فالكل بمشيئة الله وإرادته، فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد، كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].

وفيه: بيان أن الحلف بالكعبة شرك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على قوله: إنكم تشركون ].

أقره على تسميته ذلك شركاً ونهى عنه، وليس معنى هذا أن اليهودي ينبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمه، ولكن هذا يكون من الأمور المسموح بها أولاً، ثم بعد ذلك نهي عنها، وقد جاء أنه كان يجوز أن يحلفوا بغير الله أولاً ثم نسخ ذلك ونهوا عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وقال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وله أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً، ما شاء الله وحده) ].

قوله: (أجعلتني لله نداً)، الند: هو المثيل والنظير الذي يكون مناظراً لنده، يقال: (هذا ند) إذا كان مثله، ونديده إذا كان مساوياً له، ولا يلزم أن تكون المساواة من كل وجه بل ولو في صفة من الصفات.

قوله: (أجعلتني لله نداً)، هذا من باب الإنكار عليه وأن هذا من الشرك، كما قال صراحة: (أجعلتني لله نداً؟) فدل على أن هذا شرك، وهو من الشرك الأصغر الذي يجب أن يتنزه عنه، ووجوده يكون منقصاً لتوحيد الإنسان.

ثم أرشده إلى التوحيد الخالص فقال: (بل ما شاء الله وحده)، أي: قل: ما شاء الله وحده ولا تعطف عليه أي شيء، وهذا أكمل مما لو قال: (ما شاء الله ثم شئت)، مع أنه جائز ولكن قوله: (ما شاء الله وحده) أكمل وأبعد عن المشاركة عن الشرك في الوجود؛ وأرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الأمر الذي وقع هو بمشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، أعني: المشيئة المقدور له فعلها بنفسه، ولكن لا يقع شيء في الكون إلا بمشيئة الله.

فالله هو الذي أقدر المخلوق على أن يفعل هذا الشيء؛ فإنه لا تكون له حركة ولا سكون إلا بإرادة الله جل وعلا: مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الأنعام:59] فالله جل وعلا أراد ذلك وشاءه، والشيء الذي لا يريده ولا يشاؤه لا يمكن أن يقع؛ غير أن الله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، والسبب لا يجوز أن يكون هو المعتمد عليه، والمنظور إليه، بل ينظر إليه على أن الله جعله سبباً، فترجع الأمور كلها إلى الله جل وعلا، وهذا منها، فإذا فعل مخلوق فعلاً يجب أن يُنظر إلى أنه وقع بإرادة الله، والله هو الذي أقدر هذا المخلوق عليه، وقد شاء الله وقوعه، ولولا مشيئته ما وقع؛ لأنه وإن كان السبب تاماً فإن له موانع جعلها الله جل وعلا فإذا أراد أن لا يقع لم يقع.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا يقرر ما تقدم: من أن هذا شرك لوجود التسوية في العطف بالواو.

وقوله: (أجعلتني لله نداً)، فيه بيان أن من سوى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله نداً لله، شاء أم أبى، خلافاً لما يقوله الجاهلون بما يختص بالله تعالى من عبادته، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه و(من يرد به الله خيراً يفقه في الدين).

حديث الطفيل (إنكم لأنتم القوم ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: ولـابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها، قال: (رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفرٍ من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد.

فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)] .

وجوب تمييز أفعال الله عن أفعال خلقه

إن من أعظم الذنوب التي توعد الله جل وعلا عليها العقاب الشرك، والشرك يكون بالفعل ويكون بالاعتقاد، ويكون بالقول بالألفاظ، والألفاظ قد لا يعتقد الإنسان معانيها، ومع ذلك تكون شركاً.

وهذا الحديث من هذا النوع، أي: من نوع الشرك بالألفاظ؛ لأن الذي يقول: ما شاء الله وشئت لا يعتقد أن مشيئة المخلوق مساوية لمشيئة الخالق جل وعلا، ولا أنه يوجد بها ما يوجد بمشيئة الله جل وعلا، هذا لا يعتقده عاقل، ولكن مجرد الجمع بين المشيئتين في اللفظ يجعل ذلك شركاً؛ لأنه يجب أن تميز أفعال الله جل وعلا عن أفعال خلقه؛ لأن الله جل وعلا لا شريك له في ذاته، ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، ولا في حقوقه التي يستحقها على عباده، كل هذه يجب أن يكون مفرداً بها لا يشرك فيها معه أحد.

والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الخالص، وجاء في بيان حق الله جل وعلا على عباده بأنواعه؛ لهذا أنكر مثل هذا الشيء الدقيق.

الرؤيا قد تكون سبباً في حكم شرعي

وهذه رؤيا رآها أحد المسلمين وهو الطفيل ، ولكن الرؤيا قد تكون سبباً لأمرٍ يشرعه الله، كما صارت الرؤيا سبباً في مشروعية الأذان، ففي حديث عبد الله بن زيد (أنه انصرف من عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهتم بأمر الصلاة كيف يتحينون لها وقتاً! ولا كان ينادى لها، فمنهم من يقترح أن يكون هناك ناقوس يضرب به أو نار، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كره هذه الأمور، فذهب ورأى في منامه أنه جاءه آت ومعه بوق فقال له: ألا تبيع هذا؟ قال: وماذا تصنع به؟ قال: أنادي به للصلاة، قال: أولا أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر .. إلى آخر الأذان، ثم ذكر له الإقامة، فذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنها رؤيا حق، ألقها على بلال فإنه أندى منك صوتاً).

فكان هذا سبب مشروعية الأذان، وهذه الرؤيا سبب النهي عن مثل هذا القول، أن يجمع الإنسان بين ما هو من فعل الله وما هو من فعل المخلوق في كلمة واحدة وذلك (بالواو) كقول: ما شاء الله وشئت، أو: هذا بك وبالله، أو أن هذا فعلك وفعل الله، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا يكون من الشرك بالألفاظ؛ لأنه جمع بينه وبين فعل الله جل وعلا.

وهذه المحاورة التي حصلت في الرؤيا بين الطفيل وبين جماعة من اليهود وجماعة من النصارى تدل على أن الرؤيا ليست خيالية، بل هي أمور واقعية، وتدل كذلك على تعصب أهل العقيدة الباطلة، فإنهم يتعصبون لعقيدتهم، وتدل على فهم أصحاب الباطل، فإنهم يفهمون الدقائق ومع ذلك لا ينفعهم.

وهنا لما قال لهم: (إنكم لأنتم القوم) يعني: إنكم عندكم كمال غير أن فيكم عيباً، وهو: أنكم تقولون: عزير ابن الله، وعزير رجل صالح جعلوه ابن لله، لأن الله جل وعلا علمه التوراة، فهذا من أعظم الشرك بالله جل وعلا، ومن أعظم التنقيص من المخلوق لله جل وعلا، فإنه جهول ظلوم، جهل عظمة الله ولم يقدره حق قدره، فعدلوا عن هذا الإنكار وهذا العيب العظيم إلى شيء يسير ولكنه من نوعه، قالوا: (وأنتم لأنتم القوم) يعني: عندكم من الكمال والاستعداد (لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد) يعني: أن هذا هو عيبكم حيث لم تخلصوا لله جل وعلا.

وكذلك قال النصارى لما قال لهم: (إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله) وهذا من جنس قول اليهود، ومن أعظم الشرك والتنقص لله جل وعلا، كيف يكون الرب جل وعلا له ابن وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؟ تعالى الله وتقدس، هو الأول بلا ابتداء، وهو الآخر بلا انتهاء: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل الخلق فقراء، وكانوا عدماً فأوجدهم، ولابد أن يصيروا إلى العدم فهم فقراء، فهذا من جهل الإنسان وظلمه، وإذا اجتمع الجهل والظلم فإنه يتحتم ويجتمع البلاء كله، نسأل الله العافية.

فلما قص الرؤيا على الرسول صلى الله عليه وسلم بادر إلى إنكار هذا القول الذي يصدر منهم، فقال: (إنكم تقولون كلمة كنت أعرفها، ولكن كان يمنعني من إنكارها كذا وكذا)، وجاء في رواية: (يمنعني من إنكارها الحياء) ومعنى ذلك: أنه كان يمنعه من إنكارها أن الله لم يوح إليه فيها شيئاً، وإلا فمجرد الحياء لا يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنكار المنكر، غير أنه لا يقول إلا بأمر الله جل وعلا، وهذه الرؤيا من أقسام الوحي، وقد جاء أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وإذا كانت صالحة فهي حق، ولكن هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني أن تكون الرؤيا سبباً لتشريع أمر من الأمور، أما بعد ذلك فلا يجوز أن يثبت بالرؤيا حكم من الأحكام، وإنما تكون الرؤيا إما بشارة وإما نذارة، يعني: تبشر الإنسان إذا كان من أهل الخير المحبين، أو تنذره إذا كان من أهل المعاصي، وقد فسر قول الله جل وعلا: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64] بالرؤيا الصحيحة الصادقة، والرؤيا إذا كانت من إنسان صالح ويصدق الحديث فغالباً ما تكون صادقة، أما إذا كان لا يصدق ويكذب في الحديث فرؤياه لا تصدق ولا تكون صحيحة.

أقسام الرؤيا

والرؤيا التي تقع للناس على أقسام ثلاثة:

- قسم يكون مما يزاوله الإنسان في حياته ويعيش عليه، فتكون روحه مشدودة به، ونفسه مشغولة به، فإذا نام صارت النفس تشتغل بهذه الأمور التي كان قلبه عاكفاً عليها، ومتعلقاً بها، وهذه الأمور يجب أن يستغفر الإنسان ويتوب منها، فقد يكون ممن يزاول التجارة فيراها في المنام، وهكذا.. ويخشى على من كان بهذه المثابة أنه إذا حضره الموت، واشتد مرضه، أن يصبح هذا أمامه يشتغل به، ويخشى أن يموت على ذلك، لهذا نقول: يجب أن يستغفر من هذه الأمور، ويتوب منها؛ لأن الإنسان خلق لعبادة الله جل وعلا، ما خلق لعبادة الدنيا.

النوع الثاني: أمور من الشيطان يخوف بها الإنسان، وهذه ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر العلاج فيها: أن الإنسان إذا رأى شيئاً يزعجه ويخيفه أنه ينفث عن يساره ثلاثاً، ثم يتعوذ بالله من الشيطان، ثم يغير حالته التي كان عليها في النوم، فإذا كان على جنب يتحول للجنب الثاني، ثم لا يذكر ذلك لأحد، ولا يحدث به أحداً فإنه لا يضره؛ لأن هذا من كيد الشيطان وأعماله.

القسم الثالث: الرؤيا، وهي عبارة عن أمثال يضربها الملك الموكل بالرؤيا، حيث يأتي إلى روح النائم ويضرب لها أمثالاً، وقد يكون فيها كلام، وقد يكون فيها أمور يعرفها، وقد يكون فيها أمور لا يعرفها، وهذه هي الرؤيا التي تكون إما بشارة وإما نذارة، ومع ذلك لا يعتمد عليها، ولكنها قد تكون بشارة يستبشر بها الإنسان ولا يعتمد عليها، وإنما الاعتماد على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله كمل لنا الدين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج إلى رؤيا ولا إلى غيرها.

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم التي أنزله الله إياها

وفي هذا الحديث: أن هذا الكلام إذا قيل حتى لأشرف الخلق الذي هو رسول الله صلى عليه وسلم فإنه يكون شركاً، يعني: إذا شركت المشيئة أو الفعل مع الله جل وعلا في كلمة واحدة وعطفت بالواو فإنه يكون شركاً، ولا فرق بين كونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من الخلق، يجب أن يتنزه منه، ويبتعد عنه.

وفي هذا دليل واضح على أن الله جل وعلا هو وحده الذي يملك كل شيء، وهو وحده المتصرف في كل شيء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك مع الله شيئاً، وإنما هو رسول كلفه الله جل وعلا بإبلاغ الرسالة إلى عباد الله، هذه هي مهمته أكرمه الله جل وعلا بطاعته، ولهذا كان يناله الأذى من الناس، ويناله كذلك المرض، ويناله ما ينال غيره من المؤذيات الطبيعية، وهو كذلك يأخذ بالأسباب التي أمر الله جل وعلا بها، يلبس الدرع ويأخذ السلاح، ويقاتل العدو بالسلاح، ويستعد لذلك، حتى إنه مرة ظاهر بين درعين، أي: لبس درعاً على درع، وفي يوم أحد أصيب صلى الله عليه وسلم بما أصيب به، فكسرت البيضة على رأسه، ودخلت حلقة المغفر في وجنته وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكسرت رباعيته، وصار الدم يسيل على وجهه وهو يسلته بيده ويقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟!) فأنزل الله جل وعلا عليه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].

وكذلك يوم خيبر حصل ما حصل عليه وعلى صحابته من الجوع، وكذلك المرض الذي سببه الحمى ووباء المنطقة؛ لأنها كانت وبيئة بالحمى وغير ذلك من الأمور التي تحصل.

فإذاً: النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلهاً ولا رباً، وإنما هو بشر مكلف بعبادة الله جل وعلا، وإبلاغ الرسالة، ولهذا يخاطبه الله جل وعلا ويقول له: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن:21] ويقول له: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] ويقول له: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188] في آيات كثيرة يأمره الله جل وعلا أن يخبر بالواقع الذي هو فيه.

فإذا كان ليس له مع الله شيء فكذلك غيره من الملائكة والرسل ومن هو دون الرسل والأنبياء كالأولياء، فإنهم دونهم لا يصلون إلى مقام الأنبياء، فإذاً: لا يملكون شيئاً مع الله، فلا يجوز أن يدعوا، ولا يجوز أن ينادوا ويقال لهم: بحسبكم .. أو إننا نستغيث بكم .. أو نسألكم كذا وكذا .. من الأمور التي هي بيد الله جل وعلا، ولا يكونون واسطة بين العباد وبين ربهم جل وعلا؛ لأن الله علام الغيوب، وهو قريب ممن دعاه، ولم يجعل بينه وبين عباده واسطة، بل قال جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] فهو قريب من عبده، وأقرب ما يكون الرب جل وعلا من عبده وهو ساجد، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: أقرب ما يكون الرب إلى عبده إذا ظهر منه الذل والانكسار والخضوع لله جل وعلا، فإن السجود مظهر للذل والخضوع، وكلما كان متذللاً لربه خاضعاً له فإن الله جل وعلا يكون قريباً منه.

المقصود أن هذا حق الله؛ فيجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، الدعوة وطلب النفع والضر، وكذلك التصرف في الكون كله الدقيق والجليل فإنه لا يكون شيء في المخلوقات كلها إلا بإذن الله جل وعلا بعد إرادته ومشيئته.

متى تثبت الأحكام الشرعية بالرؤى

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (عن الطفيل أخي عائشة لأمها) هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة ، أخو عائشة لأمها، صحابي له حديث عند ابن ماجه ، وهو ما ذكره المصنف في الباب، وهذه الرؤيا حق، أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بمقتضاها، فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله وحده، وهذا الحديث والذي قبله: أمرهم فيه أن يقولوا: ما شاء الله وحده، ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص، وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: ثم شاء فلان؛ لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه، فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص.

قوله: (كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها) ورد في بعض الطرق: أنه كان يمنعه الحياء منهم، وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه، خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك نهياً بليغاً، فما زال صلى الله عليه وسلم يبلغهم حتى أكمل الله له الدين، وأتم له به النعمة، وبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) قلت: وإن كانت رؤيا منام فهي وحي، يثبت بها ما يثبت بالوحي أمراً ونهيا، والله أعلم ].

فلا يثبت بالرؤيا حكم إلا إذا كانت من النبي صلى الله عليه وسلم أو عرضت قصة الرؤيا عليه مثل هذه، ثم أثبت بها شيئاً، أما من غيره فلا يثبت بها حكم أصلاً، وهذا باتفاق العلماء، وإنما قد تكون الرؤيا قرينة من القرائن التي يثبت بها الدليل فتكون من جملة الأدلة، وهناك أدلة غيرها فتكون مرجحة فقط كما في رؤيا ثابت بن قيس بن شماس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا جاءت الوفود يقدمه النبي صلى الله عليه وسلم فيخطب، ولما كان القتال مع مسيلمة الكذاب وأصحابه تحنط، ثم تقدم وصمد حتى قتل رضي الله عنه، ثم في الليل رآه أحد أصحابه فقال له: اذهب إلى أمير الجيش خالد بن الوليد فقل له: إن درعي عند فلان قد ألقى عليها برمة، وتجدون عند خبائه فرساً تستن برباطه، ثم قل له إذا قدم على أبي بكر : إن عليّ كذا لفلان من الدين، وإن عبدي الفلاني عتيق، وإياك أن تقول هذه أضغاث أحلام!

فلما أصبح غدا على خالد وأخبره، فذهبوا إلى المكان الذي وصفه فوجدوا درعه كما وصفه ملقىً عليها برمة فأخذها، ولما أتى خالد إلى أبي بكر أخبره بذلك فنفذ وصيته، وليس هذا عمل بالرؤيا، وإنما لأنها صارت هناك قرينة وأدلة يعتمد عليها، وفي جميع الأوقات لا يثبت فيها حكم من الأحكام، وإنما تكون دليلاً على شيء، إما بشارة أو نذارة أو غير ذلك.

أما الرؤيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي وحي، واختلف العلماء في معنى قوله: (الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: إن معنى هذا أنه بدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصادقة قبل أن يأتيه الوحي، لما كان يخلو في غار حراء ويتحنث، يعني: يتعبد، فكان إذا رأى رؤيا جاءت كمثل فلق الصبح، كأنها شيء واقعي يراه عياناً، وكانت هذه المدة ستة شهور، ثم جاء بالوحي بعد ذلك، فهذه الستة الشهور إذا نسبت إلى ثلاث وعشرين سنة صارت جزءاً من ستة وأربعين جزءاً، وهذه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أظهر الأقوال في هذا الحديث، أنها (جزء من ستة وأربعين جزءاً) والله أعلم.

مسائل باب: قول ما شاء الله وشئت

معرفة اليهود بالشرك الأصغر

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل:

الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر ].

معرفة اليهود بالشرك الأصغر وكذلك النصارى مع أنهم يقعون في الشرك الأكبر، فكيف يعرفون الأصغر ويوجد منهم الأكبر؟

بسبب الهوى وإتباع شهوات الأنفس، فالإنسان إذا كان له هوى فإنه يفهم الدقائق وهو مرتكب للعظائم، وهذا في اليهود وفي المسلمين.

قوله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟! فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ..؟

[الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.

الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟) فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك .. والبيتين بعده؟! ].

رجلٌ يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بالشيء الذي يوافقه فقال الرجل: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجعلني لله نداً؟) وذلك أنه قرن مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشيئة الله، فصار مقتضى ذلك أنها مشاركة لها بهذا اللفظ، يعني: مشاركة بمقتضى العطف واللفظ، والمشاركة تدل على الشرك.

وهذا مجرد اللفظ فقط وإلا فالمعنى لا يعتقده هذا، ومع ذلك أنكره الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله تنديداً ونوعاً من الشرك؛ لأن الند هو المثل والنظير، فإذا كان كذلك فكيف بالذي يقول: (ما لي من ألوذ به سواك) يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقصد بها صاحب البردة البوصيري حينما يقول:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ بهسواك عند حلول الحادث العمم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

ولن يضيق رسول الله جاهك بيإذا الكريم تحلى باسم منتقم

فإن من جودك الدنيا وضرتهاومن علومك علوم اللوح والقلم

إلى آخر ما يقول: فإن هذا أمر عظيم جداً! فإنه جعل ما لله جل وعلا للرسول صلى الله عليه وسلم، بل صار يستغيث بالرسول من الله: (ما لي من ألوذ به سواك)، أين الله؟!

(إذا الكريم تحلى باسم منتقم)، يعني يقول: إذا غضب الله يوم القيامة فما لي إلا أنت ألوذ به، وهذا من أعظم الشرك، بل ما كان المشركون يقولون هذا ولا قريباً منه.

وكذلك قوله: (ولن يضيق رسول الله جاهك بي) يعني: هو يناديه يقول: لا يضيق جاهك يا رسول الله بي يوم القيامة! فأنا أحتمي به! فمعنى ذلك أنه يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم من دون الله، وهذا هو الشرك الأعظم.

وقوله: (فإن من جودك الدنيا وضرتها) هذا كذب واضح، الدنيا وضرتها التي هي الآخرة كلها لله، ما لأحد فيها شيء، لا للرسول ولا لغيره.

وهذه المنظومة كثير من الناس اتخذها له شبه الورد الذي يتقرب بقراءته وتلاوته إلى الله، مع أنها شرك أكبر، وليس معنى ذلك أن نحكم على الرجل الذي قالها -البوصيري - بأنه مشرك؛ لأننا لا ندري ماذا مات عليه، فيقول: أمره إلى الله، ولكن هذا القول وهذا الكلام الذي يقوله هو شرك، فإن كان مات عليه فإنه مات مشركاً، ولكن يرجى أنه تاب ورجع إلى ربه جل وعلا، وليس المقصود إنساناً بعينه أو كلاماً بعينه، وإنما المقصود الموازنة بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي قال له: (ما شاء الله وشئت) وبين قول الذين يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يصبحون ينادونه ويستغيثون به ويجعلونه هو ملاذهم وعياذهم من دون الله جل وعلا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بخلاف ذلك، ودينه يبطل هذا.

فلا يجتمع هذا الاعتقاد مع اعتقاد أن محمداً رسول الله، فإن معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته في أمره، واتباعه على شرعه، وأن الدين ليس إلا ما جاء به فقط، هذا هو معناه، فمن اعتقد غير ذلك فهو ضال.

هل قول: (ما شاء الله وشئت) شرك أكبر

[الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر لقوله: يمنعني كذا وكذا ].

الظاهر أن هذا كان في أول الأمر، لما كان ذلك جائزاً ولم يشرع النهي عنه، فهو مثل الحلف بغير الله، فإنه كان في أول الإسلام لا ينهى عنه، ثم نسخ، فالظاهر أن هذا مثله لما جاء الوحي نهى عنه.

أما أنه يكون شركاً والرسول صلى الله عليه وسلم يمتنع من إنكاره من أجل الحياء فمعاذ الله أن يكون ذلك! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمنعه من إنكار المنكر مانع.

[الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.

السادسة: أنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام ].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [109] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net