إسلام ويب

أساس الإيمان بالله جل وعلا هو معرفة أسمائه وصفاته، فمن عرف أسماء الله وصفاته فقد عرف الله ربه، ومن جحدها وقع في الكفر والعياذ بالله، وهذا ما وقع فيه كثير من المشركين، فالواجب أن نعرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته، ونؤمن بها من غير جحود أو تأويل.

حكم من جحد شيئاً من الأسماء والصفات

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات.

وقول الله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30] ].

قوله: [باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات] يعني: ما حكمه؟ وهل يكون مسلماً أو كافراً؟

والأسماء المقصود بها أسماء الله جل وعلا وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: بعد ثبوتها وورودها في النص، فالذي يجحدها يكون قد وقع في الكفر؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، وسبب النزول كما ذكر المفسرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالح كفار قريش يوم الحديبية أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكتابة الصلح، فكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال مفوضهم سهيل بن عمرو : لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ما نعرف الرحمان إلا رحمان اليمامة -يقصد بذلك مسيلمة الكذاب لعنه الله، فإنه كان يسمي نفسه رحماناً-، ولكن اكتب كما كنا نكتب: (باسمك اللهم)؛ لأن أهل الجاهلية هكذا كانوا يكتبون، فقال له أصحابه رضي الله عنهم: نقاتلهم؟ فقال: لا. أكتب (باسمك اللهم)، ثم لما كتب (باسمك اللهم) قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قريشاً. فقال: لا. لئن كنت رسولاً لله وصددناك عن البيت فقد ظلمناك، -أو لقد ظلمنا-، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً، فقال الصحابة: نقاتلهم؟ قال: لا، الله يعلم أني رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله فكتب كما أرادوا، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30]

وقوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] يعني: ينكرون هذا الاسم، وقيل أيضاً في سبب النزول غير هذا، وقد ذكر المفسرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة ويدعو فيقول: يا الله يا رحمن! فسمعه أبو جهل أو غيره فقال: يدعونا إلى أن نعبد إلهاً واحد وهو يدعو إلهين يقول: يا الله يا رحمن! فنزلت هذه الآية: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي [الرعد:30] ونزل قوله جل وعلا: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110].

وجاء قول الله جل وعلا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان:60]هنا الاستفهام استفهام إنكار وما الرحمن والإنكار هذا إنكار جحود، وهو كفر، وهذا الإنكار هو في طائفة منهم فقط، وإلا فقد وردت أشعار من أشعار الجاهلية فيها ذكر الرحمن والإقرار به وتسميته سبحانه به.

فإذاً يكون هذا إما من باب العناد؛ لأنهم ما كانوا يكتبونه، أو يكون أنكره طائفة منهم فقط، وغيرهم لا ينكره بل يقر به.

ومن المعلوم أن كفرهم أنواع، ولكن أعظمه في العبادة، أي: في كونهم يجعلون وسائط بينهم وبين الله جل وعلا يدعونها ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ومعنى (أنها تقربهم إلى الله زلفى) كما قال الله عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] يعني: ليشفعوا لهم، فإنهم يقولون: إنا ندعوهم ونتقرب إليهم ونطوف عليهم ونجلس عندهم لأجل أن يشفعوا لنا، كما يقول ذلك عباد القبور اليوم، فإنهم يذهبون ويستنجدون بالموتى ويطلبون منهم تفريج الكربات وإزالة الملمات وإغاثة اللهفات، بل يطلبون أعظم مما كان يطلبه كفار قريش وغيرهم من العرب، يطلبون منهم رفع الدرجات في الجنات، وهم أموات رميم قد أكل الدود لحومهم، بل وأصبحت عظامهم نخرة، وأصبحت تراباً، لا يستطيعون أن يجيبوهم، بل هم غافلون عن دعوتهم، وهم يزعمون أنهم يسمعون ويعقلون ويجيبون.

ولهذا يأتون إليهم بالقربات، ويجعلون لهم من أموالهم وأولادهم نصيباً، كما كان الكفار يفعلون وينذرون لهم النذور، ويغويهم الطواغيت الذين يجلسون عند صناديق النذور، ويحضونهم على تقديم الأموال فيها حتى يأخذوها ويأكلوها.

شرك الأولين وقع فيه المتأخرون وزادوا عليه

والعجيب أن هذه الأمور تقع في بلاد المسلمين، وربما كان معهم ممن معه أعلى الشهادات التي يأخذها من الجامعات الكبيرة، مثل جامعة الأزهر وغيرها، فيكون معهم، ويقرهم على هذا الشرك الأكبر الذي يكون صاحبه قد تجاوز الشرك بدرجاته بجهله، ثم مع ذلك يزعمون أنهم مسلمون.

فهذا من الأمور العجيبة، وقد سمعت كلمات عند قبر أحمد البدوي الطاغوت الكبير من بعضهم يسأل رفيقه فقال: أيهما خير: الله أو السيد أحمد البدوي ؟ فقال مجيباً له: السيد أحمد البدوي خير من الله؛ سيدي يجيب ويعطي، والله لا يعطي ولا يجيب! فمثل هذا الطغيان وهذا العمى في القلب وفي العمل وفي العقل يقع في بلاد المسلمين -وللأسف- على مسمع ومرأى من كثير من العلماء، وهذا يوجد في جميع البلاد، نسأل الله العافية، ففي أكثر البلاد توجد عبادة القبور والاستنجاد بهم ودعاؤهم صراحة، بل إن أحدهم يستقبل القبر ويدعوه: يا فلان! أريد كذا وكذا يا فلان! أنا وقعت في كذا وكذا ويقول: يا سيدي! أعطني كذا وكذا!

وربما يأتي ثم يكشف رأسه ويطأطئه ويقبل العتبات، وربما وضع خده على القبر وصار يتمرغ عليه ويذل له، يسأله سؤالاً لا يسأل بمثله الفرد الصمد رب السماوات والأرض، وكل هذا من الجهل الفظيع، ولكن لا يجوز أن يقع هذا الجهل، فالإنسان إذا وقع في مثل هذا فليس معذوراً، ولا يقال: إنه جاهل؛ لأن هذا لا يجوز أن يقع ممن عنده شيء من العقل؛ لأن المقبور الذي وضع تحت التراب كيف يجيب الدعاء؟! وكيف يسمع؟! ولو قدر أنه يسمع كيف يغيث؟! وكيف يجير؟! وهو إما معذب في قبره يكون عليه ناراً، وإما منعم إذا كان ولياً، ومع ذلك كله هو غافل عمن يدعوه، كما قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، وقوله: (إلى يوم القيامة) يعني أنه لا يستجيب له أبداً.

ثم ذكر ماذا يكون يوم القيامة فقال: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6] يعني: هؤلاء الذين يدعون وهم في الدنيا غافلون لأنهم في قبورهم إذا حشروا وجمعوا مع من عبدهم كفروا بهم وعادوهم ولعنوهم وتبرءوا منهم إلى الله وقالوا: أنت ولينا من دونهم.

فهذا هو الواقع كما ذكره الله جل وعلا، وهذا العمل هو شرك المشركين الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل المشركون الأوائل جعلوهم وسائط وشفعاء، ولم يصلوا إلى هذا الحد، فقد كانوا إذا أرادوا أن يسألوا المطر سألوه من الله، وإذا أرادوا أن يسألوا الرزق أو الولد سألوه من الله، ويقولون: اللات والعزى لا تفيد، وإنما تكون شافعة فقط وإذا وقعوا في كرب وفي شدة أخلصوا دعاءهم لله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] أي: يدعون الله فقط، ويتركون شركهم، ولكن إذا نجوا وجاء الرخاء عادوا إلى الشرك: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65] بخلاف هؤلاء؛ لأن أولئك أصح عقولاً وأتم أفكاراً، وكذلك نظرهم أحسن من نظر هؤلاء، فهؤلاء لا عقول ولا أفكار ولا أنظار، وإنما وقعوا في التقليد الأعمى، وجدوا آباؤهم يفعلون ذلك ففعلوا، حتى صار هذا الشيء متوارثاً، ولا أحد يجرأ على أن ينكر ذلك، وأمور عجيبة، يذكر أحد العلماء الذين كتبوا عن شيء من ذلك قصة وقعت له، فيقول:

إنه كان عند شيخ في طنطا يدرس عليه في مسجد أحمد البدوي الذي يسمونه السيد، والحقيقة أنه كان جاسوساً لدولة الرافضة، هذا الذي عرف عنه، وما عُرف أنه سيد، وذكر أحد المؤرخين أنه زاره بعض من يعظمه يوم جمعة في بيته، فلما قربت الصلاة والخطبة قال: الصلاة، فذهب معه، فجلس في المسجد ولم يصل، وإنما بال فيه وخرج، والعجيب أن هذه جعلت منقبة له، كونه بال في المسجد وخرج، يقول: فما أحد جرؤ أن ينكر عليه؛ لأنه ولي من الأولياء.

والمقصود أن هذا الذي يذكر عن شيخه أنه كان يدرسه، يقول: فجاء وقت المولد واجتمع الناس الفلاحون وغيرهم، وكأن الناس في عرفات من كثرتهم، وهم مع أطفالهم ونسائهم، ولهم ضجيج وصخب، يقول: فأصبح الماء الذي يُتوضأ به مختلطاً مع القاذورات من كثرة الأوساخ والأشياء التي ترمى فيه، يقول: فلما أراد هذا الشيخ أن يصلي أتى وتوضأ بهذا الماء، فقلت له: كيف تتوضأ بهذا؟! قال: اسكت، ثم أراد أن يكون إماماً لي في الصلاة، فقلت: لا. ولن أصلي معك، فقال: يا بني! والله لو كنت استسيغه لشربته، هؤلاء جاءوا إلى السيد أحمد البدوي وهو يرفع كل السيئات عنهم، يقول: وإني أخشى عليك أن يصيبك، كل هذا لأنه أنكر عليه أن يتوضأ بهذا الماء القذر الخبيث النجس نجاسة ظاهرة، وهذا في حوض السيد أحمد البدوي .

يقول: وبعد أيام مرض مرضاً شديداً، فأتيت إليه وقلت له: ها أنا في صحة وعافية وأنت في مرض تقاسي الحمى تكاد تموت، فأين نفع السيد أحمد البدوي ؟! ولكنهم لا يعقلون، نسأل الله العافية! وإلا فهذا شيء لا يحتاج إلى مثل هذه الأمور؛ لأنه أمر ظاهر.

والإنسان يجب أن يكون متميزاً بعقله عن الحيوانات وعن غيرها، ويعرف من الذي خلق، ويعرف من الذي تجب العبادة له، فكيف يعبد إنساناً مثله؟! بل ليس مثله؛ لأن الميت ليس مثل الحي، الحي ينفع ويتصرف، والميت لا ينفع ولا يتصرف، بل هو مرتهن بعمله، ولكن إذا جاءت الفتنة وجاء البلاء وجاء التقليد الأعمى زال العقل وذهب، ويصبح الإنسان كأنه لا عقل له.

شرك المشركين ليس خاصاً في نفس الأسماء والصفات

شرك المشركين ليس في نفي الصفات والأسماء، بل كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المالك لكل شيء الذي يحيي ويميت، وكانوا يؤمنون بهذا، وهذا من الأسماء والصفات، وإن كان يُسمى توحيد الربوبية؛ لأنه مرتبط به تماماً، وإنما أنكروا هذا الاسم إما عناداً وتكبراً، وإما لأنهم ما كانوا يعرفونه، ولكن غيرهم من العرب كانوا يعرفونه كما جاء في أشعارهم وفي خطاباتهم وكلامهم، مما يدل على أنهم يقرون بهذا الاسم.

وأما المنكرين له وكفرهم به بقولهم: لا نعرف الرحمن، فسمى الله جل وعلا هذا كفراً فقال: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] فعلى هذا إذا أنكر إنسان المعنى الذي أخذ منه الاسم وهو الصفة يدخل في هذا.

فمثلاً: أنكر أن تكون لله رحمة يتصف بها، أو أنكر أن تكون لله عزة أو أن تكون لله حكمة أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا.

ثم إذا ورد في القرآن شيء من ذلك أو في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم صار يؤوله تأويلاً غريباً على اللغة وغريباً على الوحي الذي نزل ليعمل به، فيقول -مثلاً-: الرحمة رقة تكون في القلب تعتري الراحم يحدث منها الميل إلى المرحوم، وهذه الرقة فيها ضعف، ولا يجوز أن نصف الله بذلك، هكذا يعلل، أما الحكمة فهي العمل لغرض من الأغراض، والله لا يجوز أن يعمل لغرض؛ لأنه تعالى غني عن ذلك، وهذه من صفات الأجسام، فمن وصفه بالرحمة أو الحكمة أو ما أشبه ذلك فإنه يكون مشبهاً.

فيكون هذا الإنكار بُني على أصل فاسد خبيث، وهو أنه لا يعرف أن من هذه الأسماء أو من هذه الصفات إلا ما يعرف من المخلوق، فصار أساس ذلك التشبيه؛ لأنهم شبهوا أولاً ثم كفروا ثانياً بالتعطيل والنفي، ثم شبهوا ثالثاً في كونهم ألحقوه بالناقصات، تعالى الله وتقدس.

وهذا بلاء أصاب الأمة على أيدي أناس مدسوسين فيها مشبوهين لا يعرف أصلهم، بل يجوز أنهم من اليهود أو من المجوس أو من النصارى أو من الماسونية الخبيثة التي تريد أن تفسد الأديان أو من غيرهم، وهذا هو الواقع، فيكونون يجتهدون ويدرسون هذه الأفكار ثم ينظرون إنساناً جريئاً ويأمرونه بإخراجها، ثم تنسب هذه الأفكار إلى هذا الرجل، والواقع أن خلفه مؤسسات وجمعيات، وليس هذا من ابتكار هذا الرجل، فإذا قيل -مثلاً-: (جهمية) فالجهمية ينكرون الأسماء والصفات، ويُنسبون إلى جهم بن صفوان رجل من أهل ترمذ، وهل هذه أفكاره فقط أو أنه ظهر بها من جمعيات ومؤسسات تريد بذلك إفساد الإسلام؟!

وكذلك أيضاً الذين تبنوا غير ذلك من الأفكار مثل الرافضة ومثل الخوارج ومثل المعتزلة والقدرية وغيرهم، ولا ينكر أن يكون هناك رجل له دور كبير في هذا الشيء المعروف، والذي يتتبع الحوادث وكتب التاريخ يجد من ذلك شيئاً واضحاً، فمثلاً: إنكار القدر، المشهور في الكتب أن أول من تكلم في القدر رجل يقال له: معبد الجهني من جهينة من العرب، ولكن تقرأ -مثلاً- في تاريخ ابن جرير فنجده يقول: أول من تكلم بإنكار القدر رجل يقال له: سيسويه رجل مجوسي من الأسوار ونقرأ في كتاب آخر ونجد أنه يقول: أول من تكلم بالقدر رجل يقال له كذا نصراني من النصارى.

وقد عُرف أن أول من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم له وصي، وإنه ما مات نبي إلا وله وصي هو عبد الله بن سبأ ، وهذا رجل يهودي جاء من صنعاء، يقال له: عبد الله بن وهب بن سبأ فجاء وألب الجهال والطغام حتى قاموا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلوه -كما هو معروف-، وكل هذا بإغرائه وإغوائه، وقد صار إلى جهات متعددة، من أجل ذلك ذهب إلى العراق، وذهب إلى الشام، وذهب إلى مصر، ولم يعدم أنصاراً من هذه البلدان، فكون له أنصاراً، ثم كان مثل الشيطان يوقعهم في البلاء، ثم كان يفر ويذهب ولا يعرف إلى أين كان يذهب، وإذا ذهب إلى مكان أفسد فيه.

والغريب أنه لما قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخلافة قام أيضاً بتأليب الطغام والجهلة اتباع كل ناعق، وصار يقول لهم: إن علياً هو الإله، أو أن الله حل فيه، أو إن فيه جزءاً من الإلهية، فهو إلهنا، فكون جماعة من هؤلاء، فبعضهم ذهب وقابل علي بن أبي طالب، فلما خرج من بيته قاصداً المسجد قالوا له: أنت هو، قال: ومن أنا؟ قالوا: أنت إلهنا، قال: ويلكم! هذا الكفر، إن لم ترجعوا عن ذلك قتلتكم.

وفي اليوم الثاني قابلوه كذلك وقالوا له ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، ثم لما أوقعهم في هذه الواقعة فر وذهب إلى بلاد أخرى، وأمير المؤمنين رضي الله عنه غضب لله جل وعلا حماية للتوحيد ولعبادة الله، فأمسكهم وحفر حفراً وأوقد فيها النيران ثم قذفهم فيها غضباً لله جل وعلا، ومع ذلك ما رجعوا، بل تحملوا أن تأكلهم النار وهم أحياء ليبقوا على هذا الكفر، وهذا بإغراء هذا الرجل الخبيث وغيره، ويجوز أن يكون معه آخرون ممن هم من المفسدين.

و ابن حزم رحمه الله يقول في (الفصل) لما جاء إلى ذكر هذه الطائفة قال: هذا أمر معروف سببه، وهو أن العرب كانت عند الفرس وعند الروم -خصوصاً الفرس- من أحقر الأمم وأضعف الأمم، فكانوا يحقرونهم مع ما عندهم من تعظيم أنفسهم، فكانوا يرون أن الناس عبيد كلهم وهم الأحرار السادة.

وذكر على هذا شواهد من التاريخ، يقول: فلما ابتلوا على أيدي هذه الأمة الضعيفة التي كانوا يعتقدون ضعفها وحقارتها ابتلوا بإزالة ملكهم على أيديهم، وكثير منهم ما استساغ أنه يقبل هذا الدين، بل حنق حنقاً عظيماً، وأصبح يجتهد طاقته في مواجهة هذا الدين، ولكنهم عجزوا عن المواجهة بالقوة، ولم تبق إلا الحيل، فأسسوا المؤسسات التي يريدون بها إفساد العقائد.

كل هذا هو السبب في إنكار أسماء الله وصفاته؛ لأنهم عرفوا أن المسلمين ما داموا متمسكين بالوحي وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلن يقوم أمامهم قوة؛ لأن الله جل وعلا معهم، عرفوا هذا وتيقنوه وقالوا: ليس أمامنا إلا إفساد العقيدة، والطريقة أن يدخل جماعات من هؤلاء الإسلام في الظاهر وهم في الباطن ليسوا مسلمين بل أعداء للمسلمين حتى يتمكنوا من إفساد العقائد، ومعروف أن الداعية إذا جاء يدعو إلى مبدأ لا يُعدم من مجيب، ثم قد تكون الدعوة بأمور تظهر على حسب ما عند الداعية من قوة البيان والقدرة على الإغواء والضلال ولبس الحق بالباطل، كما هو معلوم، وهي سنة الله جل وعلا.

ثم هذه الأمور لابد من وجودها؛ لأن العداوة لابد منها، فالله جل وعلا لما أمر آدم عليه السلام بأن يهبط هو وزوجته من الجنة لما أكلا من الشجرة قال في إهباطهم: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36] أي: الذرية التي تخرج من آدم وزوجه يكون بعضها لبعض عدواً، وهذا إلى يوم القيامة؛ لأن الحق ما كلٌ يقبله، والذي يقبل الحق لابد أن يعادي صاحب الباطل، وكثير من الناس لا يعجبه أن يعبد الله، ولا أن يقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولذا فهو يسعى ويبذل جهده وأمواله في إفساد ذلك.

فبدأ الإفساد بأصل عقيدة المسلمين في الله، فصاروا يبدءون بإخفاء أشياء قد تخفي على بعض العوام ولا تخفى على العلماء، ولهذا لما قيل لأحد العلماء: إن قوماً ينكرون أن الله يتكلم فقال: من اليهود؟ قيل: لا. قال: من النصارى؟ قيل: لا، قال: من المجوس؟ قيل: لا، بل من المسلمين قال: كلا، المسلمون لا ينكرون أن الله يتكلم؛ لأن الله يرسل الرسل، وينزل الكتب، ويأمر وينهى، وهذا المسلمون لا ينكرونه، ولكن هؤلاء مدسوسون في المسلمين، فكان العلماء يعرفون هذا ولا يخفى عليهم.

فالمؤلف هنا عندما أردا أن يبين أن الأيمان بالأسماء والصفات أمر لازم للمسلم حتى يكون مؤمناً، وأن إنكار شيء من ذلك كفر بالله جل وعلا ذكر هذه الآية بعد ما ذكر الترجمة وإن كانت مجملة.

وقوله: [باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات] يعني أن فعله يكون كفراً، وإن لم يحكم على إنسان بعينه بأنه كافر إذا فعل ذلك، ولكن هذا الفعل كفر، أما إذا وقع إنسان في شيء من ذلك فأنكر -مثلاً- أن يكون الله موصوفاً بالرحمة أو موصوفاً بالعلو أو موصوفاً بأنه ينزل إلى السماء الدنيا أو ما أشبه ذلك فقد يكون عنده شبه، فيجب أن تزال الشبه عنه، فإذا أزيلت الشبه عنه وأصر على الإنكار فله حكم آخر، غير أننا نقول: إن فعلك أو قولك هذا كفر، فإذا تبين له الحق وأقر به يكون كافراً، نسأل الله العافية.

فمراده هو هذا، أنه يجب أن يجمع المؤمن بين أقسام التوحيد: توحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية؛ لأن ربنا جل وعلا تعرف إلينا بأسمائه وصفاته، وأسماؤه وصفاته تبع لذاته، ولا يدل على أنه إذا أخبرنا أنه رحمان وأنه رحيم وأنه عزيز وأنه حكيم وأنه عليم وغير ذلك أن يكون المخلوق الذي يشارك في هذه والصفات وهذه الأسماء مشابهاً له، تعالى الله وتقدس.

بل أسماء الله وصفاته تليق به، وتابعة لذاته، وأسماء المخلوق وصفات المخلوق تليق به، فإذا أضيف الاسم إلى الله أصبح المخلوق لا يشارك الله فيه، وكذالك إذا أضيفت الصفة إلى الرب جل وعلا مثل الرحمة وغيرها فالمخلوق لا يشارك الرب جل وعلا في صفته، وكذالك إذا أضيفت إلى المخلوق فقيل: فلان ذو رحمة، وفلان يرحم، وفلان رحيم، فإن هذا خاص بهذا المخلوق، والله لا يشاركه في هذه الرحمة؛ لأن المخلوق رحمته تناسبه وتليق به، وتناسب ضعفه وتليق بضعفه، ولا يمكن أن يكون الرب جل وعلا مشاركاً له، فيجب أن يُفرق بين هذا وهذا، ولا يكون مثلما يقول هؤلاء: إذا وصفنا الله جل وعلا بأنه له رحمة أو له يد، أو أن له حكمة أو ما أشبه ذلك يلزمنا أن نكون مشبهين؛ لأن المخلوق له رحمة وله يد، ويقولون: إذا قلنا: إنه سبحانه يكون فوق ويكون المخلوق تحته فإن المخلوق يوصف بهذا، فلا يجوز أن نصف الرب جل وعلا بأنه فوق عرشه، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا؛ لأن من كان فوق شيء يكون محتاجاً إلى ذلك الشيء، مثل الذي يكون راكباً على الطائرة أو على السطح أو على السفينة، فإنها إذا سقطت سقط، ولو سقط المركوب لسقط الراكب، وعلى هذا يكون محتاجاً إليه، فقالوا: كذلك إذا قلنا: إن الله مستوٍ على عرشه، تعالى الله وتقدس.

ولهذا قلنا: إن أصل هذا القول هو التشبيه؛ لأنهم شبهوا الله جل وعلا بخلقه، وإلا فالله غني عن كل ما سواه، وخلق العرش لحكمة، وهو غني عنه ليس بحاجة إليه، وهو الذي بقوته يحمل العرش ويحمل السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه جل وعلا، وإنما خلق ذلك لحكمة، وقد أخبرنا جل وعلا أنه استوى عليه، فيجب الإيمان بذلك مع تعظيم الله جل وعلا ومعرفة الفرق بينه وبين عباده على ضوء قوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وعلى ضوء قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22]، وقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] يعني: هل يوجد من يساميه ويماثله -تعالى الله وتقدس-؟ لا يوجد أحد يساميه، وعلى ضوء قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4] فليس له مكافئ ومماثل تعالى الله وتقدس، في آيات كثيرة علمنا الله جل وعلا فيها عظمته.

فنؤمن بما وصف به نفسه وبما سمى به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أو سماه به، وهذا هو الذي يجب على المسلم أن يتبعه، ويأخذ عقيدته من كتاب الله وسنة رسوله، ولا يأخذها من الكتب التي يسميها المتكلمون (كتب التوحيد) تغريراً وتلبيساً على الناس، وإلا فهي في الواقع كتب الجدل وكتب الشكوك والشبهات، وليست كتباً للتوحيد، فالتوحيد هو القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والعجيب أن أحد هؤلاء الذين يكتبون هذه الكتب التي يسمونها كتب التوحيد يجعل القرآن شركاً -نعوذ بالله-، وكيف يقول هذا وهو يفسر القرآن ويشرح الحديث؟! حتى إنه لما أتى إلى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] أراد أن يجعل الآية دالة على أنه لا يوصف بصفة ولا يسمى باسم عكس ما دلت عليه.

ثم استطرد فقال: إن محمد بن خزيمة له كتاب سماه (كتاب التوحيد)، والواجب أن يسمى (كتاب الشرك)، هكذا يقول: الواجب أن يسمى (كتاب الشرك). ثم صار يسبه ويرميه بالجهل، وأنه لا يعرف شيئاً، ولكن على عادة المتكلمين فإن سلاحهم هو السباب والشتائم؛ لأن الحجج التي يقولها أهل الحق تلجئهم إلى المضائق.

والمقصود أن الواجب على المسلم أن يأخذ دينه من كتاب الله ومن أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يقرأ في مثل هذه الكتب؛ لأنها تورث الشكوك والحيرة، وتورث الشبه على الإنسان، إلا إنساناً متمكناً يعرف شبههم ويعرف مرادهم، ويقرأ ذلك لأجل الرد على أهله وتمييز الحق من الباطل؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل.

سبب نزول قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن..) الآية،والرد على من ينكر تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها، وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم الرحمن عناداً، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] ].

والآن في الوقت الحاضر وجد من ينكر أن يكون التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وأصبح يكتب الكتب وينشرها، وهذا الرجل له تلاميذ، وله مؤيدون في كثير من البلاد، وكتبه انتشرت، ويقول: إن أول من قال: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام ابن تيمية وهو ضال مضل، ثم تبعه على ذلك ابن عبد الوهاب وهو كذلك ضال مضل هكذا يقول، ثم يلبس بأشياء ما تنطوي إلا على الجهال، ويقول: أين الدليل من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الله قال: التوحيد ثلاثة أقسام، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: التوحيد ثلاثة أقسام، أو أن الصحابة قالوا: التوحيد ثلاثة أقسام؟ ائتونا بشيء من ذلك، فيلبس على الناس بهذا الكلام.

فيقال لمثل هذا الجاهل: إن الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم ما كانوا بحاجة إلى أن يقولوا: التوحيد ثلاثة أقسام؛ لأنهم يعرفون ويعلمون ما خوطبوا به تمام المعرفة، ولو سأل سائل عن ذلك لعدوه جاهلاً لا يعرف شيئاً، بل العجائز لا يحتجن إلى هذا التقسيم، ولكن لما كثرت العجمة في الناس وفسدت ألسنتهم واختلطت اللغة العربية بغيرها أصبحوا لا يفهمون كلام الله إلا بقراءة كتب التفسير وقراءة كتب اللغة، لذلك وضعوا هذه التقسيمات، وإلا فالأمر واضح موجود في القرآن، فمثلاً الله جل وعلا يقول: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فيقال لهذا الجاهل: أخبرنا عن إيمانهم ما هو الإيمان الذي أخبرنا الله جل وعلا أنهم ما يؤمنون إلا وهم مشركون؟ أخبرنا عن إيمانهم وشركهم ما هو؟ يؤمنون بماذا؟ ولأنه جاهل لن يعرف، ولكن يجب أن يرجع إلى كلام السلف، فالسلف بينوا أن إيمانهم هو قولهم: إن الله ربنا، وإن الله خالقنا ورازقنا فإنك إذا سألتهم من خلق السموات والأرض قالوا: الله، وإذا سألتهم من أنزل من السماء ماءً فأحيا بها الأرض بعد موتها قالوا: الله، هذا إيمانهم، وشركهم أنهم يدعون مع الله غيره.

فإذاً دعوتهم مع الله غيره هذا توحيد الدعوة وتوحيد العبادة الذي كفروا به، وإيمانهم هو توحيد الربوبية؛ لأنهم أقروا بأن الرب هو الذي يربي الخلق ويعطيهم ما يحتاجون إليه، ويملكهم ويتصرف فيهم، ليس فيهم أحد ينكر هذا المعنى.

وكذلك يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] يعني: هل أنكروا أن الله خلقهم أو خلق من قبلهم؟ الجواب: كلا، ولهذا صار حجة عليهم: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22].

فيقال لهذا الجاهل: فهل إقرارهم بأن الله خلقهم وخلق من قبلهم، وأن الله خلق الأرض وجعلها على هذه الصفة، وأن الله أنزل من السماء ماءً فأنبت به النبات الذين يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم هل هذا هو التوحيد المطلوب؟ وهل هذا هو المطلوب منهم؟ إن كان المطلوب منهم فقد جاءوا به فما معنى كونهم مشركين؟ وما معنى كونهم يجعلون لله أنداداً؟ وما هي الأنداد؟ وهم جعلوا لله أنداداً في الدعوة وفي الدعاء؛ لأنهم قالوا -مثلاً-: اللات إذا دعوناها تشفع لنا، وكذلك العزى وغيرها.

فالدعاء والعبادة والفعل الذي يصدر منهم يرجون به نفعاً غيبياً، ويرجون من الذي يدعونه نفعاً أو دفعاً، وهذه هي العبادة التي يجب أن تخلص لله، أما الإقرار بأفعال الله التي يفعلها فهذا هو الذي يسمى توحيد الربوبية.

والحقيقة أن هذا الذي يقول هذا القول ما عرف الإسلام، هذه هي الحقيقة الواقعة، فيجب أن يتوب إلى الله وأن يسلم من جديد، ويعرف الإسلام، وإلا فأمامه مصير -أعوذ بالله من ذلك- الكفار، نسأل الله العافية، والآيات في هذا لا حصر لها، بل كل كتاب الله على هذا الطريق، فالله جل وعلا جعل توحيد الربوبية حجة على وجوب توحيد الإلهية في آيات كثيرة ألزم الكفار بذلك، ويقول الله جل وعلا في آخر سورة في المصحف: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ [الناس:1-3] فهل رب الناس وملك الناس وإله الناس معنا واحد؟ ما أحد قال هذا إلا هذا الجاهل المركب.

فالمقصود أن الأمر كما قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله لما رد على أشباه هذا الرجل، بل هم أكثر منه علماً، يقول: ما كنا نتصور أننا نحتاج إلى ذكر مثل هذه الأشياء؛ لأن الصبيان الذين يلعبون في الشارع والعجائز يعرفون ذلك تمام المعرفة، فكيف يخفى ذلك على العلماء أو على طلبة العلم؟! ولكن الفتن والدعوات المضللة هكذا تصنع بالناس، نسأل الله العافية.

حكم من أنكر الأسماء والصفات

قال الشارح رحمه الله: [ والرحمن هو اسمه وصفته، دل هذا الاسم على أن الرحمة صفته سبحانه، وهي من صفات الكمال، وإذا كان المشركون جحدوا اسماً من أسمائه تعالى وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده فجحود معنى هذا الاسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، ولهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:

ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان

واللالكائي حكاه الإمام حكاه عنــهم بل حكاه قبله الطبراني] .

فقوله: خمسون في عشر يعني: خمسمائة عالم، يقول: إنهم حكموا بأنهم كفار، ويقول: إن هذا حكاه ونقله الطبراني في كتاب (السنة)، وكتاب (السنة) للطبراني مفقود الآن لا وجود له؛ لأن هذا من الكتب التي أغاضت هؤلاء، فصاروا يتتبعون الكتب التي تؤلف في الرد عليهم ويحرقونها، بل يشترونها بغالي الإثمان ويحرقونها حتى لا توجد في الناس؛ لأنها تفضحهم.

وكذلك حكى هذا القول ونقله اللالكائي في كتابه (شرح أصول أهل السنة)، وهذا الكتاب موجود ومطبوع والحمد لله، فهو ذكر هذا القول، وذكر أن خمسمائة من كبار العلماء حكموا بأن الجهمية كفار؛ لإنكارهم الأسماء والصفات.

الرد على أهل التعطيل والتشبيه

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنو هذا التعطيل على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، فقالوا: هذه الصفات هي صفات الأجسام، فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً هذا منشأ ضلال عقولهم لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموا من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء أرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه عن صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوه أولاً وعطلوه ثانياً، وشبهوه ثالثاً بكل ناقص ومعدود.

فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، فإنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام عن الذات يحتذي حذوه، فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتاً لا تشبه الذوات فأهل السنة يقولون ذلك، ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، لا تشبه صفاته صفات خلقه، فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك، وتناقضوا، فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل -ولله الحمد والمنة- وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين.

وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع وما فيها من التناقض والتهافت، كالإمام أحمد في رده المشهور، وكتاب (السنة) لابنه عبد الله ، وصاحب (الحيدة) عبد العزيز الكناني في رده على بشر المريسي ،وكتاب (السنة) لـأبي عبد الله المروزي ، و(رد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد ) وهو بشر المريسي ، وكتاب (التوحيد) لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي ، وكتاب (السنة) لـأبي بكر الخلال ، وأبي عثمان الصابوني الشافعي ، وشيخ الإسلام الأنصاري ، وأبي عمر بن عبد البر النمري ، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم وأهل الحديث، ومن متأخريهم أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه ، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، وغيرهم رحمهم الله تعالى، فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء. والله أعلم ].

من المعلوم أن كتاب الله جل وعلا هو وحيه وقوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد جل وعلا، يعلم ما يكون ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الكائنات السابقة، وعلمه سابق لكل شيء، ولا يفوته شيء، هو محيط بكل شيء جل وعلا، كما قال سبحانه: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، وهو الله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فهو كامل بذاته وبصفاته وبأفعاله لا يتطرق إليه نقص بوجه من الوجوه، تعالى الله وتقدس.

ولكن من حكمة الله جل وعلا أنه جعل لعباده أموراً يختبرهم ويبتليهم بها، وهي أمور غيبية يخبرهم بها حتى يتبين من يصدق في إيمانه واتباعه ممن يتبع هواه أو يتبع من يعظمه من المخلوقين، وبذلك يتميز الصادق من الكاذب، ويتميز الذي يستحق الثواب ممن يستحق العقاب، وإن كان الله عالماً بكل شيء يعلم من الذي سيصدق قبل وجوده، ويعلم من الذي ينحرف ويلحد قبل وجوده، وقد كتب ذلك جل وعلا في كتاب لا يضل ولا ينسى، كتاب لا يغادر شيئاً، ولا يقع إلا ما في هذا الكتاب، وذلك من كمال علمه.

ولما كان جل وعلا رحيماً بعباده صار كل شيء يحتاج إليه العباد وجوده أكثر وأعم وأشهر، ولهذا صار الناس بحاجة ضرورية ماسة جداً إلى الماء، وصار وجوده كثيراً جداً، وكذلك الهواء، وكذلك الملح وغير ذلك، ومن ذلك معرفته جل وعلا، فطرق معرفته جل وعلا كثيرة جداً لا حصر لها، تعرف إلى خلقه بأمور كثيرة، حتى قال القائل :

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

تعالى الله وتقدس.

فالدلائل عليه من أفعاله ومن خلقه ومن آياته الكونية والمنزلة التي نزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً. أما الخلقية فهي كثيرة جداً، وهي قريبة جداً، حتى قال جل وعلا: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] أي: وفي أنفسكم آيات تدلكم على الله جل وعلا، فذكر صفات الله جل وعلا وأسمائه في كتاب الله جل وعلا كثير جداً، حتى قل آية إلا وتجد فيها اسماً من أسماء الله أو صفة من صفاته، وهذا له حكمة، ذلك أن الله جل وعلا بعلمه الأزلي علم أن الناس يحتاجون إلى هذا، وعلم بوجود الذين يحاولون إضلالهم وإخراجهم من دينهم.

وهذا حدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا ففي وقته لم يكن أحد ينكر أسماء الله جل وعلا إلا نوادر وشواذ، كما ذكر في هذا الباب في سبب نزول قوله جل وعلا: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] ذكر أن طائفة من قريش وليسوا كلهم -عناداً وتكبراً- أنكروا أن يكتب الرسول صلى الله عليه وسلم (بسم الله الرحمن الرحيم)، وقالوا: الرحمان ما نعرفه، وإنما نكتب كما كان آباؤنا يكتبون، وهذا مثل قولهم: لا نعبد إلهاً واحد وإنما نعبد ما كان آباؤنا يعبدون، وليس معنى ذلك أنهم ينكرون ويلحدون في صفات الله جل وعلا مطلقاً، وإنما ذلك للعناد والتكبر، ومع ذلك بيّن ربنا جل وعلا أن هذا كفر، فإذا كانوا قالوا: ما نعرف أن الرحمن من أسماء الله، وإنما نكتب (باسمك اللهم) كما كان آباؤنا يكتبون فإن هذا عده الله جل وعلا كفراً فقال: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] فكيف بالذي ينكر معاني الأسماء؟! لأن الأسماء أخذت من المعاني، فالرحمان أخذ من الرحمة، والعزيز من العزة، والحكيم من الحكمة، والعليم من العلم، وهكذا كل اسم اشتق من الصفة، والصفات هي المعاني التي دلت الأسماء عليها؛ لأنها أخذت منها، فالذي ينكر الصفات أعظم جرماً وإثماً وكفراً من الذين أنكروا مجرد الأسماء، فالصفات أهل البدع لا يؤمنون بها بل ينكرونها، حتى سرى هذا الوباء وهذا المرض إلى أكثر المسلمين وللأسف، وأقصد بالمسلمين طلبة العلم، أما العوام فالله جل وعلا فطرهم على الحق فهم لا ينكرون ذلك بل يقرون به، وإذا جاءهم الخبر من الله صار مطابقاً لما في فطرهم فأقروا وآمنوا به ، ولكن المقصود الذين تغيرت فطرهم بالتعليم، الذين تلقوا عن شيوخهم الكفر بالصفات وجحدها.

وهذا الكفر بالصفات أنواع، فمنه جحود وإنكار مطلقاً، ومنه طرق ملتوية، كالذين لا يجحدون النصوص ولكن يؤولونها تأويلاً يؤول بهم إلى إنكارها، وهؤلاء هم الأشاعرة، وأما الذين أنكروها رأساً فهم المعتزلة ومن سلك طريقهم من الطوائف، وربما يقول قائل: هؤلاء -والحمد لله- لا وجود لهم ، فلماذا يُذكرون؟ ولماذا تنبش القبور وتذكر بشيء كان فبان ولا داعي إلى ذلك، وإنما الواجب أن يذكر الشيء الذين ينفع المسلمين ويفيد السامعين مما هم فيه وما يُحذر ويخشى عليهم منه؟

فنقول: إن لكل قوم وارثاً ولاشك، وأولئك لم يذهبوا، فقد ورثهم من ورثهم، وإن اختلفت الأسماء واختلفت الأنظار والطرق حسب اختلاف الزمن، وإلا فالمسألة واحدة فيما تؤول إليه.

والواقع أن أصل الملاحدة الذين ينكرون الآخرة، وينكرون وجود الله، وينكرون أن يكون بعد هذه الحياة حياة تكون حياة جزاء أصلهم مأخوذ من أولئك؛ لأن الإنسان العاقل إذا سمع أولئك يقولون -مثلاً-: إن الله ليس فوق وليس تحت، وليس يميناً وليس شمالاً، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، وليس في مكان ولا يجري عليه زمان، إذا سمع الإنسان مثل هذا القول ماذا يتصور في ذهنه؟ يقول: لا وجود له، وهذا هو العدم تماماً، وهذه هي العقيدة الفاسدة الخبيثة التي سلكها أولئك، فينكر وجود الله جل وعلا ثم بناءً على ذلك ينكر الجزاء، وينكر الإعادة، وينكر الجنة النار، ويقول: إنما هي حياة مادة فقط، وليس بعد ذلك شيء، وإنما تبقى هذه الأيام وهذه العوالم على ما هي عليه دائماً قوم يموتون ثم يرثهم آخرون وهكذا، فيقال لهم: هؤلاء الذين يموتون من أين أتوا؟ ومن الذي جاء بهم؟ وما أصلهم؟

والعجيب أنهم يقولون: إن أصل هؤلاء حيوانات أو نبات من الأرض، ثم تطورت شيئاً فشيء إلى أن صارت بهذا الشكل، فإذا كان يتطور فلماذا هذا التطور؟! ولماذا لا يستمر هذا التطور؟! وما الذي يمنعه إذا كان كذلك؟

وكل ما يمكن أن يقولوه فهو باطل بالعقل، ولا يمكن أن يقتنع به عاقل أبداً، ولابد أن ينتهي وجود خلق إلى خالق، فالإنسان لا يمكن أن يستوعب في عقله أنه توجد سيارة بغير صانع أبداً، فسيارة بدون صانع وجدت بهذه الدقة وبهذا النظام وبهذا الشكل هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يوجد كتاب مرتب على معانٍ وبكلمات وحروف بغير كاتب أبداً، هذا مستحيل، فالمخلوقات هذه لابد لها من موجد، ولابد لها من خالق، ثم هذه المخلوقات لا يمكن أن يوجدها مخلوق مثلها؛ لأن المخلوق نفسه عاجز عن إيجاد نفسه، فكيف يوجد غيره؟! فلابد أن ينتهي الأمر إلى موجدٍ قادرٍ عليمٍ كامل بنفسه غني بذاته عن كل ما سواه، وهو الله جل وعلا.

ولهذا جاء أن جبير بن مطعم لما سمع قول الله جل وعلا: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] يقول: أحسست بقلبي كأنه أنخلع، وكأنه شيء مجذوب ثم لم يتمالك أن ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، بسبب تأثره بقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] يعني: هل وجدوا بلا موجود؟ هذا لا يقبله العقل، فإذا كان هذا باطل جاء التقدير الثاني: هل هم خلقوا أنفسهم؟ وهذا أيضاً لا يمكن أن يكون، فإذاً التقدير الثاني أيضاً باطل، فلابد أن يكون هناك تقدير ثالث هو الحق، وهو أنهم خلقهم خالق قادر عليم بصير كامل بنفسه غني بذاته عن كل ما سواه، وهو الله جل وعلا.

والإنسان يضطر اضطراراً لا انفكاك عنه عندما يمسه الكرب أن يطلب من يغيثه ومن يسعفه ومن يتجه إليه، وهذا أمر لا زم لكل أحد، فإذا اتجه إلى أمه أو أبيه لا ينفعانه؛ لأن أمه وأباه مثله عاجزان فقيران، فهو لابد أن يتجه إلى رب العالمين جل وعلا، ولذلك أحتج الله جل وعلا بذلك على الكفار الذين يشركون في عبادتهم معه غيره فقال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] أي: من هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ وهذا ليس خاصاً بالمؤمنين، بل هذا لكل أحد، فإذا اضطر المخلوق إلى ربه جل وعلا ودعاه دعوة اضطرارية متجهاً إليه فإن الله يكشف عنه ضره، وهذا بالتجربة وبالنظر وبالفطرة، حتى الحيوانات تصنع ذلك وتتجه إلى ربها جل وعلا؛ لأن هذا شيء مركوز في الفطر وفي العقول.

ثم هذه المخلوقات من السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والأنهار والبحار وغيرها كلها دلائل واضحة على أن لها خالقاً ومدبراً، ولابد أن يكون على خلافها لا يكون على شكلها وليس مثلها، تعالى الله وتقدس.

فإذاً الأصل هو التنزيه، وونفي المماثلة موجود في العقل وموجود أيضاً في النظر وفي الاستدلال، ثم جاء كتاب الله مطابقاً لذلك تماماً، وهؤلاء المعطلة سُموا معطلة لأنهم عطلوا الله عن صفاته، وبعضهم عطله عن أسمائه أيضاً كالباطنية وغيرهم من فرق الإلحاد.

والتعطيل هو الخلو من الشيء، وأن يُخلى الشيء مما هو متحل به، كما قال جل وعلا: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]، فالقصر يكون معطلاً من أهله وسكانه ومن يعمره، والبئر كذلك تكون معطلة ممن يستعملها وينتفع بها.

وكذلك إذا أزيلت الصفات عن الموصوف يكون معطلاً منها؛ لأنه قد أخلي منها، فلهذا سموا معطلة، وهم بنوا تعطيلهم على أمور منطقية أخذوها من منطق اليونان، وزعموا أنها عقلية، وهي ليست بعقلية في الواقع، بل العقل يردها، فقالوا: إذا وصفنا ربنا جل وعلا بأنه فوق أو أنه مستوٍ على عرشه أو أنه ينزل أو يأتي أو أنه يتكلم أو ما أشبه ذلك من الصفات يلزم عليه أن يكون مماثلاً للأجسام -أي: لأجسامهم هم- لأننا لا نعقل جسماً يكون فوق إلا أن يشغل حيزاً ومكاناً، وإذا كان في مكان يحوزه فمعنى ذلك أنه محتاج إلى ذلك المكان، فيكون محتاجاً ويكون جسماً، فإذاً لا يجوز أن نصف الله جل وعلا بأنه فوق أو بأنه مستوٍ أو أنه أيضاً يرحم، ولماذا؟ قالوا: لأن الرحمة التي نعرفها رقة تكون في قلب الإنسان يجدها، ثم يجد العطف والميل على المرحوم، وهذا نقص، فلا يجوز أن نصفه بالرحمة.

وهكذا جميع الصفات يفسرونها بهذا التفسير الذي هو مبني على التشبيه، وأنه شبيه بهم، فإذا قيل لهم -مثلاً-: هذا يقتضي أنكم لم تعرفوا من الرحمة إلا ما عرفتوه من رحمة المخلوق، فالله رحمته تابعة لذاته، وذاته لا تشبه ذوات المخلوقين، فيجب أن تكون صفاته كذلك.

ولكنهم يلوذون بأمور ويقولون: هذه عقلية، وهذه نظرية، وهذه كذا، وهي كلها في الواقع هروب من الحق.

ولا شك أن الذي يعتاض عن كتاب الله وعن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم بمنطق اليونان ضال، وإن زعم أنها أمور عقلية فهي شبهات ركبها أهل كلام الباطل الذي لم يغنِ شيئاً، بل جاء النص أن من عدل إليها تاركاً كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضال وأنه ضل، فلهذا يجب أن يستغنى في معرفة الله جل وعلا وعبادته بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نقول: إنه يعطل العقل، بل العقل لا يعطل، ولكن العقل لا يستطيع أن يستقل بمعرفة ما جاءت به الرسل؛ لأنه قاصر، وإنما العقل يرشده الوحي ويبين له ويدله على الأشياء التي لا يصل إليها.

أما أن يكون العقل مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا يمكن، غير أن العقل يجب أن يكون له ضابط، وأن يضبط بأنه العقل الصحيح الصريح، عقل صريح ليس ملتوياً وليس فاسداً، ومعلوم أن عقل أبى بكر رضي الله عنه ليس كعقل أبي جهل في هذه الأمور، أما الأمور التي يسلم لها كل أحد ككون السماء فوق والأرض تحت فهذه ما يخالف فيها كافر ولا مسلم، وكون الاثنين أكثر من الواحد وما أشبه ذلك هذه أمور ضرورية.

ولكن الأمور التي هي معانٍ دلت عليها العقول والنظر وكذلك الواقع هذه قد يدخلها الهوى، ويدخلها الانحراف وغيره، أعني: الانحراف عن البيئة وعن التعلم؛ لأن الأمر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) يعني أن: أباه وأمه يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً بالتعليم والتلقين والتربية، وكذلك المربي والمدرس، وكذلك المجتمع، وكذلك الأعلام من إذاعة ومن تلفاز ومن صحف، فالشيء الذي يربى عليه الإنسان هو الذي يحرفه عن فطرته، فإذا زعم أن هذا غير معقول فقد انحرفت فطرته، وهذا لا عبرة به في ذلك، وإنما العبرة بالعقل السليم السالم من الانحرافات .

فالعقل السالم من الانحرافات لا يخالف النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يخالف كتاب الله الذي جاء مبرأً من الخطأ والضلال، بل منزه من ذلك؛ لأنه قول الله جل وعلا، فلابد للمسلم أن يطلب هداه من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي كتاب الله أوصاف الله وأسماؤه جل وعلا.

الهدى والخير في امتثال أمر الله ورسوله، ومن خالفها وقع في الحيرة والشك والانحراف

وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50] أي: أن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي، فإذا كان هداه بالوحي فكيف يهتدي غيره بغير الوحي؟! هذا مستحيل لا يمكن.

فإذاً أصل القول بأن الواجب أن ينظر في مثل هذه الأمور إلى العقول قول باطل، ويسمون نظرهم وعقيدتهم وقواعدهم الكلامية يسمونها براهين قطعية، مع أنها في الواقع شكوك وسراب بقيعة إذا رآه الإنسان يحسبه شيئاً فإذا وجده لم تحصل على شيء، هذا هو الواقع.

ولهذا عند النهاية إذا كان الإنسان ذكياً من هؤلاء يحار، ويصبح يتمنى أن يكون مثل أمه، ومثل العجائز، ويقول: يا ليتني على دين العجائز مثل ما حصل لكثير من هؤلاء، حتى إن أحدهم يقول: إني إذا أمسيت أضع الملحفة على وجهي وأتفكر في دليل فلان ودليل فلان فيأتي الصباح وأنا لم أهتد إلى شيء، فالنوم يذهب عنه، والأكل يذهب عنه؛ لأنه في حيرة، وعند الموت يتمنى أنه على دين العجائز، كما قال الجويني عفا الله عنا وعنه لما حضره الموت قال يوصي أصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أعرف أنه يصل بي إلى ما وصل ما اشتغلت به، وقد تركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي. هكذا كان يقول، ثم يقول: وهأنذا لم أعرف شيئاً، بل أموت على عقيدة عجائز نيسابور. وهل هذا صحيح؟ الشيء الذي في القلب لا يمكن يزول.

وكان يقرر عقيدته الفاسدة ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، فأين كان؟ وأين هو الآن؟ هكذا يقول.

فقام رجل من المسلمين أمامه وكان على كرسي فقال له: دعنا من هذا الكلام، ولكن أخبرنا عن شيء نجده في أنفسنا وأنت تجده في نفسك ضرورة، ما قال قائل: يا الله إلا وجد دافعاً من نفسه يدفعه إلى أن يطلب ربه من فوق، وما يطلبه من أسفل، ولا يمين ولا شمال، ولا تحت، فأخبرنا كيف نزيل هذه الضرورة؟ كيف نصدها من نفوسنا؟ فسكت، وصار يفكر في نفسه، ثم وضع يده على رأسه ونزل وصار يبكي، ويقول: حيرني الرجل حيرني! حيره لأنه لم تكن عقيدته على أساس فحار.

ودخل رجل آخر على عالم من هؤلاء من كبرائهم وعظمائهم، دخل عليه في بيته فوجده مستغرقاً في الفكر، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، ثم أعاد عليه السلام ولم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام فلم يرد عليه؛ لأنه مشغول في فكره، عند ذلك قال الرجل المسلِّم: لابد أن هذا الرجل زال عقله فلماذا أجلس؟ أراد أن ينصرف، عند ذلك تنبه له فرفع رأسه وقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك به ساخراً، وقال: أعتقد ما يعتقده المسلمون، والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي ويقول: ولكني -والله- ما أدري ماذا أعتقد فهذا رجل له من العمر ستون سنة، وهو يدرس ويناظر ويكتب ويتكلم، وبعد ذلك يقول: ولكني -والله- ما أدري ماذا اعتقد فكيف ذهب العمر وذهب التعب؟! وما السبب؟ السبب هو الإعراض عن كتاب الله، هذا هو السبب، أعرض عن كتاب الله وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فصار هذا جزاءه.

إذاً لا هدي ولا طمأنينة وإيمان إلا بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعترض على ذلك فلابد أن يضل، ولابد أن يحار، وإذا كان ذكياً وأصبحت الأدلة تتكافأ أمامه، ويجد دليل فلان يقابله دليل فلان، وكلما جاء بدليل أبطله الآخر فالنتيجة أنه سيحار ويصبح حائراً، أما كتاب الله فلا يمكن أن يبطل؛ لأنه حق، ولأنه من لدن حكيم عليم جل وعلا، وهو يخبر عن الواقع، فإذا اكتفى الإنسان وتحصن به فهو في طمأنينة وفي سكون وفي إيمان وفي عافية من هذا البلاء.

وقد سبق أن قلت: إن مبدأ هذا الشيء جاء من اليهود ومن النصارى ومن المجوس لأجل إفساد عقائد المسلمين، وليس عن أمور مقنعة، فأدخلوا هذه الأمور على المسلمين حتى يحصل الخلاف بينهم وتذهب ريحهم وتضعف قوتهم، هذا هو المقصود فقط؛ لأنهم ما استطاعوا أن يقابلوا المسلمين بالقوة ففي كل موطن يقابلونهم بالقوة يهزمهم الله جل وعلا ويجعل أموالهم غنيمة للمسلمين وأكتافهم ممنوحة لهم، فعند ذلك قالوا: لابد من الحيلة، ولابد من أن يقاتلوا في عقائدهم؛ لأن هذه العقيدة التي جاءوا بها لا يمكن أن تقاوم بالقوة المادية، حتى إذا فسدت أمكن ضعفهم، وهذا هو الواقع، ولا يزال هذا الأثر إلى الآن، وسيستمر إلى أن يشاء الله جل وعلا.

وسنة الله جل وعلا أنه جعل بين الحق وبين الباطل صراعاً يتصارع الحق مع الباطل دائماً، ولا يمكن أن يكون الباطل مصاحباً الحق، فهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، ومن وقف مع كتاب الله جل وعلا ومع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فسوف يكون له النصر في نفسه، وقد يكون النصر متعدياً في نفسه ظاهراً حسب إرادة الله جل وعلا.

أساس الإيمان معرفة الله جل وعلا بأسمائه وصفاته

أساس الأيمان هو معرفة الله جل وعلا بأسمائه وصفاته، وهذا هو السبب الذي ذكر المؤلف هذا الباب من أجله، فيبيّن أنه لابد للمسلم من أن يؤمن بأسماء الله وصفاته على ما جاء في كتاب الله من غير التحريف الذي يقول أصحابه: إنه تأويل، أي: أنه تفسير، وهو في الحقيقة تأويل، فيجعلون ظاهر الكلام غير مراد، ويقولون: والمراد شيء آخر، دلنا على هذا المراد العقل والقرائن. ونقول: كيف يكون العقل دالاً على خلاف كلام الله جل وعلا وعلى خلاف ظاهره؟! هذا لا يمكن.

وكما ذكرت فهم يقولون -مثلاً-: الرحمة رقة تكون في قلب الراحم يحدث منها ميله إلى المرحوم، فيحدث العطف عليه والإحسان إليه، والله يجب أن ينزه عن مثل هذا؛ لأن هذا فيه نقص. ونقول: هذه يقال فيها: هذه رحمة النساء، ورحمة الضعفاء، ورحمة المخلوق الضعيف التي تليق به، أما رحمة الله فهي رحمة لا تشبه رحمة المخلوق، وكما أنه جل وعلا لا يشبه المخلوق، فكذلك صفاته، هكذا يجب أن يكون الجواب عليهم، وكلما قالوا شيئاً يجابون بهذا.

ولهذا لما جاء رجل إلى الأمام مالك وقال له: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فقال له الأمام مالك : (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان بالاستواء واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء)، ثم أمر به أن يطرد من المجلس لأنه أساء.

فالكيفية هي الحالة التي يكون عليها الموصوف، وهذه الحالة تحتاج إلى المشاهدة، ولا أحد يشاهد الله جل وعلا، وأما معنى الاستواء فهو معلوم، ففي اللغة معناه واضح، وهو العلو على الشيء والارتفاع والصعود عليه، هذا معنى الاستواء.

وهكذا يقال في السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والإرادة، والنزول، وغير ذلك من صفات الله كلها يقال فيها: المعنى الذي خوطبنا به معلوم نعرفه، وكيفية اتصاف الرب جل وعلا في ذلك أمر مجهول لا يمكن أن يُوصل إليه؛ لأن هذا لابد له من أحد شيئين:

إما المشاهدة، وإما أن يكون الموصوف له نظير مثله يشاهد فنقيسه عليه، وكلا الأمرين مستحيل في هذه الدنيا.

والله لا مثل له، ولا أحد يشاهده جل وعلا.

ثم ذكر المؤلف أن منشأ التعطيل هو التشبيه؛ لأنهم شبهوا فقالوا: إننا لا نعرف من هذه الصفات إلا ما نعرفه من نفوسنا فصاروا ينفونها لئلا يقعوا في التشبيه إذا أثبتوها، ثم إنهم عطلوه، وألحقوه بالمعدومات أو بالجمادات، فصاروا مشبهين له بالناقصات، فصار التشبيه الأخير أشر من التشبيه الأول؛ لأن المعطل يلزمه أن يكون مشبهاً ولا ينفك عن التشبيه؛ إذ كل معطل مشبه؛ لأنه يشبه بالناقصات أو المعدومات، تعالى الله وتقدس.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [103] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net