إسلام ويب

إن للنشرة والطيرة أحكاماً ومعاني بينها الله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وقد اختلف السلف في حكم النشرة وفعلها: فمنهم من حرمها مطلقاً، ومنهم من أجازها فيما فيه ضرورة: كحل سحر المسحور بها.

حكم النشرة

قال المصنف رحمه الله: [باب ما جاء في النشرة].

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (باب ما جاء في النشرة) بضم النون كما في القاموس.

قال أبو السعادات : النشرة: ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من يُظن أن به مساً من الجن، وسميت: نشرةً؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال].

قوله رحمه الله: (باب ما جاء في النشرة) قصده بهذا حل السحر عن المسحور، والسحر سبق أنه من الموبقات التي توبق صاحبها في النار أو في الإثم الذي يئول إلى النار.

وسبق أنه يكون كفراً، وأن السحر لا يجتمع مع الإيمان؛ لأن السحر يكون بواسطة الشياطين، والساحر لابد أن يكون مشركاً بطاعته للشيطان واتباعه وعبادته؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا عن السحرة أنهم يختارون الحياة الدنيا على الآخرة، وأنه ليس لهم في الآخرة من خلاق، كما قال جل وعلا: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102].

قوله: (فَلا تَكْفُرْ): يدل على أن فعل السحر كفر، ثم قال جل وعلا: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102] ومعنى (اشتراه) يعني:عمله، وقوله: (علموا) أي: علم أهل الكتاب اليهود أن الذي يعمل السحر ليس له في الآخرة من خلاق، والذي ليس له في الآخرة من خلاق يكون كافراً وخاسراً ومعذباً عذاباً لا ينقطع، وعلمهم هذا علموه من كتاب الله الذي أنزله الله جل وعلا على موسى عليه السلام.

وجاءت كذلك آيات آخر غير هذه، ونصوص أخرى تدل على أن الساحر يكون كافراً.

ولهذا جاء حكمه في الشرع أنه إذا كان مسلماً قبل ذلك فإنه يكون مرتداً، والمرتد لا يترك على ردته، بل يجب أن يقتل إلا أن يعود.

وإذا كان غير مسلم فإنه يقتل حتى يدفع شره وأذاه؛ لأنه مفسد من المفسدين في الأرض، يفسد الأبدان ويفسد الأموال، ويفسد الأخلاق، وفي حده الشرعي خير كثير وحكمة عظيمة.

لما ذكر المؤلف هذا أراد أن يبين حكم حل السحر عن المسحور: هل هو جائز أو ممنوع؟ إن كان بسحر مثله فإنه لا يجوز، أما إن كان بعلاجات طبيعية وأدوية ورقى فإنه لا بأس به.

فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحره يهودي، فدعا ربه فشفاه الله جل وعلا بعد ما بين له أين موضع السحر.

في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سُحِر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، ثم إنه دعا ودعا، فبينما هو نائم نزل عليه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما به؟ قال: به طب -يعني: سحر- قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في طلعه نخلة ذكر في بئر ذروان، فلما استيقظ صلوات وسلامه عليه ذهب إلى تلك البئر -تقول عائشة - فقال: إني رأيت ماءها كنقيع الحناء، ونخلها كرءوس الشياطين، فأمر بها فدفنت، فقلت: ألا استخرجتها؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله جل وعلا، وكرهت أن أفتح على الناس باب شر)، فأنزل الله جل وعلا عليه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5] النفاثات هن: السواحر، والعقد: الخيوط التي يعقدنها عندما يردن انعقاد أمر مما يقصدنه من أمور السحر سواءً طلب ذلك منهن أو فعلن ذلك ابتداءً.

وقوله سبحانه: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] يدخل فيه السحر والسواحر.

ونزل أيضاً قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6] وذلك أن السحر من الشياطين فيستعاذ منهم، والشيطان إذا استعيذ منه خنس وبطل عمله إذا كان المستعيذ صادقاً موقناً مؤمناً بما قاله الله جل وعلا.

وكذلك الأدعية التي تكون بأسماء الله وصفاته فإنها أيضاً من أنجع ما يكون وأنفعه إذا كان الداعي عنده إيمان وصدق وإخلاص والتجاء إلى الله جل وعلا، فإن كل شيء بيده، فإذا التجأ إليه حله وأزاله، وكذلك العلاجات الطبيعية التي يعالج بها فإنه لا بأس بها.

حكم حل السحر بالسحر

حل السحر بالسحر الذي هو مثله اختلف العلماء فيه، فجمهور العلماء يمنعونه ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) وهذا من المحرمات بالاتفاق، فلا يجوز تعاطي ذلك.

وكذلك الذهاب إلى الساحر والطلب منه يكون رضاً بما صنع أو إقراراً له على ما يصنع، وهذا لا يجوز بحال.

وذهب قليل من العلماء إلى جواز ذلك محتجين بأنهم يريدون إصلاح ما أفسد السحرة، وهذا من باب النفع، ولكن هذا لا يكفي، بل الصواب هو: المنع من ذلك.

والنشرة تطلق على الانتشار الذي هو الرقية من السحر، ومن غيره من سائر الأمراض، ومن الجان، وعين الإنسان، ومن ذوات السموم.

شروط الرقية

في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمه) يعني: لا رقية أنفع وأنجح منها في العين والحمه، وإلا فالرقية نافعة من جميع الأمراض بشروط، قال العلماء: إذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فإن الرقية جائزة:

الشرط الأول: أن تكون بأسماء الله وصفاته وآياته القولية من القرآن.

الشرط الثاني: أن تكون من إنسان عربي يعرف معنى الكلام الذي يتكلم به.

الشرط الثالث: أن يعتقد أن ما يحصل بها يكون بإذن الله، وأنها لا تنفع بذاتها ولا بفعل الراقي نفسه، وإنما ذلك يكون بإذن الله وإرادته وأمره.

فإذا كانت الرقية بكلام لا يُعرف أو بحروف مقطعة فإنها محرمة، بل قد تكون كفراً، وقد تكون شركاً، وقد تكون طلسمات كما هو الواقع في كثير من الناس.

فهذه الشروط إذا وجدت في الرقية فإنها جائزة من كل داء ومن كل مرض.

والحمه هي: ذوات الحموم، يعني: ذوات السموم، كالعقرب والحية والزنبور وما أشبه ذلك، فإن الرقية منها من أنفع ما يكون.

وأما العين فهي: عين الحاسد، أي: عين الإنسان إذا حسد غيره وأصابه بأذى بعينه، فإن الرقية تنفع من ذلك، بل هي أنفع من سائر العلاجات، وهي أحسن علاج في هذا، ولكن يجب أن يكون الراقي مؤمناً متقياً، ويكون مخلصاً صادقاً واثقاً بقول الله ووعده.

أما المرقي فلا يشترط فيه ذلك؛ لأنه ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في سرية، فاستضافوا حياً من أحياء العرب فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيدهم -سيد هذا الحي- فسألوا له بكل ممكن ولم يجدوا شيئاً، ثم قال بعضهم: لو ذهبتم إلى هؤلاء النفر -كانوا قلة ليسوا كثيراً- لعل عندهم شيئاً من العلاج أو يكون معهم راقٍ.

فجاءوا إليهم فقال أبو سعيد : (نعم أنا أرقي، ولكن أنتم لم تضيفونا، فلن أرقيه إلا بجعل تجعلونه لنا، فاتفقوا على قطيع من الغنم، فصار يقرأ عليه فاتحة الكتاب، فبرئ، وكانت رجله مربوطة بحبلٍ فحل الحبل، فأصبح كأن لم يكن به وجع، فقام في الحال، وكان كافراً، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (بأي شيء رقيته؟ فقال: بالفاتحة، قال: وما يدريك أنها رقية؟) فالفاتحة من أعظم ما يرقى بها المريض؛ لأنها هي السبع المثاني، وهي أم الكتاب وفاتحته، وهي التي لا تصح الصلاة إلا بها.

عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: أنزل الله جل وعلا مائة كتاب وأربعة كتب، ثم جمع هذه الكتب في أربعة كتب، ثم جمع الأربعة الكتب في المفصل، ثم جمع المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع ذلك كله في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

أما سائر الأمراض الأخرى فكلها داخلة في قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ [الإسراء:82]، وهذا عام لشفاء القلوب وشفاء الجهل وشفاء الأبدان، هذا هو الصواب من أقوال العلماء.

ولكن ليس كل من استشفى بالقرآن فإنه يشفى؛ لأن الاستشفاء يستلزم الصدق والإخلاص واللجوء إلى الله والإيمان به؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من مكانه) وكثير من الناس يقول هذا الحديث ومع ذلك تؤذيه المؤذيات ويصاب بالمصائب؛ وذلك لعدم إيمانه وصدقه في قوله، وإلا فكلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وإذا أخبر بشيء فإنه يقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

والنشرة ليست خاصة في السحر، بل عامة في كل مرض، والتنشير هو الرقية، والرقية: فعل الراقي الذي يقرأ وينفث على المريض.

ويجب أن تكون الرقية مشتملة على الشروط الثلاثة التي ذكرناها، فإذا توافرت فإنها جائزة بالاتفاق، ولكن لا يلزم أن تؤدي المطلوب لأسباب كثيرة قد تكون في الراقي أو في المرقي؛ لأن المحل قد لا يكون قابلاً، والراقي قد لا يكون أهلاً لذلك، فيتخلف المقصود ، أما إذا كان الراقي أهلاً في هذا فإن الشفاء بإذن الله يحصل قطعاً ما دامت الأسباب موجودة، والموانع مفقودة .

حكم من طلب الرقية من غيره

كون الإنسان يرقي نفسه أفضل وأحسن، وهذا لا خلاف فيه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه، ويرقي أهله.

أما طلبها من شخص آخر فإن فيه نقصاً، ومن فعل ذلك فإنه لا يكون من السابقين إلى الجنة الذين يدخلونها بغير حساب؛ لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن عباس المشهور الذي في الصحيحين، وهو عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنا جلوساً عند سعيد بن جبير فقال: (أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ -هنا سعيد الذي هو شيخ حصين يقوله لـحصين بن عبد الرحمن - قال: فقلت: ارتقيت، قال: ما حملك على ذلك؟) والسلف رضوان الله عليهم ما يفعل أحد منهم شيئاً إلا بدليل، ولا يتركون عملاً يعمل به إلا ويسألون عن مستنده؛ ولهذا قال: (ما حملك على هذا؟ -أي ما الذي حملك على أن ارتقيت؟- فقال: حديث حدثناه الشعبي ، قال: وما حدثكم؟ قال: حدثنا عن بريدة أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، عند ذلك قال سعيد رحمه الله: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) يعني: أن الذي يأخذ بالدليل هذا فهو عمل جيد وحسن ولكن -استدراكية يعني: أن هناك شيئاً غير هذا- حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت إليهم وقد سدوا الأفق، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد عظيم -يعني: من الناس- فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب)، ثم نهض صلوات الله وسلامه عليه من مجلسه ودخل بيته، وقعد الصحابة يتساءلون عن السبعين الألف؟ لأن الصحابة رضوان الله عليهم من أحرص الناس على الخير، إذا سمعوا شيئاً من الفضائل بحثوا عنها حتى يعملوها، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، وخير الخلق رضوان الله عليهم، ولهذا اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتربوا على يديه، وتلقوا الإيمان منه، وشاهدوا نزول الوحي وعرفوه، فلا يمكن أن يكون هناك أحد مثلهم في الخلق، والله جل وعلا زكاهم في كتابه وأثنى عليهم، فالذي يطعن فيهم أو يقدح فيهم مكذب لله جل وعلا، وهو ضال مضل، (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنهم عرفوا أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا كغيرهم، اختارهم الله لذلك، فهم أفضل الأمة على الإطلاق، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم الذين لهم معرفة بالوحي خلافاً لأهل الأهواء، فإنه لا عبرة بأقوالهم، وقال قوم: (لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: من هم؟) يريدون بسؤالهم هذا حتى يعملوا مثل عملهم فيسبقون إلى الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: (هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، فقوله: (لا يسترقون) يعني: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم.

يقول العلماء: السبب في هذا أن الطلب والسؤال من الناس فيه افتقار القلب والتفاته إلى غير الله، وهذا نوع من الفقر للمخلوق، والمؤمن يجب أن يكون فقره كله إلى الله وحده، أما الخلق فيكون غنياً عنهم جميعاً، ويكون مثلهم مساوياً لهم لا يطلب منهم شيئاً؛ لأن طلب الشيء من الخلق يكون نقصاً في الدين، ويمنع ذلك من السبق إلى الجنة ولو كان طلب الرقية والراقي لا يضره ذلك؛ لأنه سؤال منه، ولهذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في آخر الأمر على ألا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على راحلته والناس تحته عند راحلته ولا يقول لواحد منهم: ناولني السوط، بل ينزل عن راحلته ويأخذه بنفسه؛ وفاءً بالبيعة التي بايعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: ألا يسأل الناس شيئاً.

فمسألة الناس فيها الافتقار، وفيها التفات القلب إلى غير الله، وقد يكون ذلك نوعاً من الشرك الذي يقدح في التوحيد؛ ولهذا السبب حرمت المسألة، كما في صحيح مسلم من حديث قبيصة بن المخارق لما جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل أصيب بفاقة حتى يقوم ثلاثة من قومه من ذوي الحجا -يعني: العقل- يشهدون أنه أصيب بفاقة -والفاقة: هي الحاجة الشديدة والفقر- فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش أو سداداً من عيش.

ورجل أصيب بجائحة اجتاحت ماله -إما حريق أو سيل احتمل ماله، أو ظالم استولى على ماله أو ما أشبه ذلك فأصبح ليس بيده شيء- فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش أو سداداً من عيش.

ورجل تحمل حمالة) أي: أنه تحمل ذلك في سبيل الإصلاح، كأن يكون بين شخصين أو جماعتين شجار وقتال فيتحمل مالاً يدفعه لهؤلاء وهؤلاء حتى يصلح بينهم، فمثل هذا يجوز له أن يسأل؛ لأن هذا المال يدفع لإصلاح ذات البين، فلو ترك هذا الأمر من ماله لأوشك أن يحجم الناس عن الإصلاح، فصار من محاسن الشرع أنه أباح للأغنياء المسألة لهذا الغرض فقط؛ لأنه ليس لأنفسهم بل لتسديد هذه الأموال التي تحملوها لأجل الإصلاح، قال: (وما عدا ذلك فالمسألة سحت) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والسحت: هو الحرام.

وجاء في الحديث: (سائل الناس يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم) عظام فقط، ولهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسألة خدوش أو كدوش في وجه صاحبها) يعني: أنها تأكل لحمه وتذهب به ويأتي يوم القيامة وليس في وجهه لحم، هذا هو المعنى الذي منع المسترقي من السبق إلى الجنة من أجله.

قوله: (الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون).

فالإنسان ينبغي له أن يرقي نفسه، إلا إذا عرض عليه أخوه أن يرقيه فلا بأس بذلك، أما أن يطلب منه ويأتي إليه ويقول: ارقني فلا ينبغي ذلك؛ لئلا يكون من الممنوعين من السبق إلى الجنة كما في هذا الحديث.

أما إذا عرض عليه فلا بأس أن يقبل؛ لأن هذا ليس فيه طلب وليس فيه مسألة بل عرض عليه عرضاً. وقد جاء (أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض فقال: ألا أرقيك؟ فرقاه).

وكذلك ثبت أن السلف كانوا إذا عرضت عليهم الرقية قبلوا ذلك، ولا يدخل هذا في المنع من السبق إلى الجنة، هذا إذا كان الإنسان عنده همة عالية يريد أن يكون من السبعين الألف، أما إذا كان لا يهتم بمثل هذه الأشياء فهذا أمر آخر.

حقيقة النشرة ومعناها

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال الحسن : النشرة من السحر، وقد نشرت عنه تنشيراً، ومنه الحديث: (فلعل طباً أصابه)، ثم نشره بـ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] أي: رقاه.

وقال ابن الجوزي : النشرة: حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر].

وحل السحر لا يعرفه إلا الساحر ولهذا منع منه.

وسبق أن الساحر يكون بسحره مطيعاً للشيطان؛ لأن السحر لا يكون إلا بواسطة الشياطين، يعني: يطيعهم ويعبدهم، فالشيطان لا يطيع الإنسان إلا إذا عبده، وهذا من الاستمتاع الذي ذكر الله جل وعلا أنهم يوم القيامة يقولون: ربنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لنا [الأنعام:128] الاستمتاع: هو أن ينتفع أحدهم بالثاني، الإنسي ينتفع بالشيطان الجني بشيء ينفعه في الدنيا من أخذ مال أو إمراض عدو له أو ما أشبه ذلك، والجني يستمتع من الإنسي بطاعته وعبادته والسجود له وتقديم القرابين له وما أشبه ذلك، وهذا لابد أن يحصل من الساحر.

وهذا الاستمتاع الذي يحصل من بعضهم لبعض من الأمور المحرمة، فحل السحر الذي هو إبطاله عن المسحور يكون من ساحر مثله، ولابد أن يكون شيطان الساحر الذي يحله أقوى من شيطان الساحر الأول الذي وضع السحر فيستولي عليه ويبطل سحره.

أما إذا كان شيطانه ضعيفاً فإنه لا يستطيع أن يحل السحر؛ لأن ذلك الشيطان يغلبه، فالشياطين بعضها أغلب من بعض، هذا هو معنى حل السحر، وبهذا يعلم أنه من المحرمات؛ لأن السحر لا يجوز تعاطيه على أي حال من الأحوال، فهو من الموبقات كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قرين الشرك، وقرين قتل النفس فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات، فلما سئل عنها؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر ...) إلى آخر الحديث.

النشرة من عمل الشيطان

قال المصنف رحمه الله: [عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال: (هي من عمل الشيطان)رواه أحمد بسند جيد وأبو داود ، وقال: سئل أحمد عنها؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله].

(هي من عمل الشيطان)؛ لأنها من السحر، وإذا كان الشيء من عمل الشيطان فهو محرم ولا يجوز للمسلم أن يطيع الشيطان أو أن يعمل عملاً يرضيه.

وأما قول أحمد : إن ابن مسعود كان يكره ذلك كله، فهذا من ورع الإمام أحمد رحمه الله، فإنه كان كثيراً إذا سئل عن مسألة يتحاشى أن يقول: هذا حرام، وهذا حلال؛ خوفاً من أن يقع في شيء خلاف الواقع، وقد قال الله جل وعلا: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116].

فقول الحلال والحرام كان صعباً عند السلف، ولهذا كان يعبر بالعبارات التي تدل على ورعه.

والكراهة في لسان السلف المقصود بها التحريم، كقوله جل وعلا: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38] مكروهاً يعني: محرماً.

أما الكراهة التي أطلق عليها المتأخرون: كراهة تنزيهية فهذه لم تكن معروفة عند السلف، بل كانوا إذا قالوا: هذا مكروه، فمعناه عندهم: أنه محرم.

فقوله: ابن مسعود يكره هذا كله، يعني: أنه يرى أن هذا كله محرم، يعني: جميع النشرة التي يكون فيها تعاطي شيء من السحر، فكل هذا يكون محرماً، وابن مسعود من علماء الصحابة وفضلائهم وسابقيهم إلى الإسلام كما هو معلوم.

قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه أحمد ، ورواه عنه أبو داود في سننه، والفضل بن زياد في كتاب المسائل، عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه ، عن عمه وهب بن منبه ، عن جابر فذكره. قال ابن مفلح : إسناد جيد وحسن، وحسن الحافظ إسناده، قوله: (سئل عن النشرة)، الألف واللام في النشرة للعهد أي: النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها، هي من عمل الشيطان.

قوله: وسئل أحمد عنها؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله، أراد أحمد رحمه الله: أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان، كما يكره تعليق التمائم مطلقاً].

قول ابن المسيب في النشرة

قال المصنف رحمه الله : [وفي البخاري عن قتادة : قلت لـابن المسيب : رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه].

سعيد بن المسيب رحمه الله من الذين يقولون بجواز حل النشرة، وعلته ما ذكر، وهو قوله: إذا كانوا يريدون به الإصلاح -يعني: إصلاح ما أفسده السحرة- فلا بأس به، أما إذا كان خلاف ذلك فهو محرم، ولكن هذا يفتقر إلى دليل، والأدلة على خلافه، ومنها ما ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ومن المعلوم الذي لا يشك فيه من يعرف الشرع أو بعض أحكامه أن السحر من المحرمات، ومنها أن الذهاب إلى الساحر والرضا بفعله يعتبر تقريراً له، وتقرير الفاعل على الفعل يجعل المقرر له مشاركاً له في الفعل فيكون مثله، ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أن الذين يجلسون مع من يستهزئ بآيات الله أنهم مثل المستهزئ، والمستهزئ كافر، وكان يجب عليه إذا جلس مع المستهزئ أن ينكر عليه، وكذلك الموالاة، كون المسلم يكون مع الكافر غير مظهر له العداوة والبغضاء، وإن كان يكره ذلك في نفسه فإنه يكون مثله؛ لهذا يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] أي: فهو منهم.

ويقول جل وعلا: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].

ويقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1].

وهناك آيات كثيرة تدل على أن الإنسان يجب عليه أن ينكر فعل المخالف ويبغضه، أما إذا جلس معه وأقره أو ذهب إليه وتركه على ما هو عليه فإنه يكون مثله كما قال جل وعلا: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140] يعني: إذا جلس الإنسان مع من يسعى إلى الكفر ويسعى إلى المعاصي ولم ينكر عليه -وإن كان يبغض ذلك ويكرهه في قلبه- فإنه يكون مثله؛ لأن الله ميز المؤمنين من الكافرين، فكيف يجوز أن يذهب إلى الساحر حتى يحل السحر عنه؟! هذا إقرار له، ودين الله لا يقبل التجزئة ولا المداهنة فيه، فالصواب المنع من هذا.

[قوله: عن قتادة هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي ثقة فقيه من أحفظ التابعين قالوا: إنه ولد أكمه، مات سنة بضع عشرة ومائة].

قوله: (ويؤخذ عن امرأته) يعني: أنه يعمل له سحر يمنع به أن يصل إليها، كما يفعله كثير من الناس، يعملون السحر لأجل ذلك، وهذا يعمله من لا خلاق له في الآخرة من الفسقة والظلمة الذين لا يخافون الله ولا يراقبونه، وإنما يريدون أن يوقعوا الضرر بمن يحسدونه على شيء من أمور الدنيا؛ لذلك يرتكب هذا الجرم الذي يذهب بحسناته، وقد يجعله من أهل النار نسأل الله العافية.

أما المؤمن المتقي فإنه يخاف الله ولا يفعل شيئاً من ذلك، إنما يفعله فسقة المسلمين؛ لأنه في الواقع جاهل لا يعرف العاقبة، ولا يعرف ما يئول إليه الأمر، فلو كشف عن سوء فعله لهانه ذلك أشد الهون.

فمن (يؤخذ عن زوجته) ويمنع من قربانها بواسطة السحر؛ فعلاجه يكون بالرقى الشرعية والأدوية المباحة، أما السحر فلا يجوز تعاطيه.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: رجل به طِب، بكسر الطاء أي: سحر، يقال: طُب الرجل بالضم إذا سحر، ويقال: كنّوا عن السحر بالطب؛ تفاؤلاً كما يقال للديغ: سليم.

وقال ابن الأنباري : الطب من الأضداد، يقال: لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء ويقال له: طب. قوله: (يؤَخَّذ) بفتح الواو مهموزةً، وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة، أي: يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها، والأُخذة -بضم الهمزة- الكلام الذي يقوله الساحر.

قوله: (أيُحل) بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول.

قوله: (أو ينشَّر) بتشديد المعجمة.

قوله: (لا بأس به) يعني: أن النشرة لا بأس بها؛ لأنهم يريدون بها الإصلاح أي: إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر].

يعني: أن كلام سعيد بن المسيب يحمل على نوع لا يكون من السحر، وهذا تأويل، ولكن الظاهر أنه يقصد به السحر؛ لأنه قال: (أما ما ينفع فلا) يعني: فلا يمنع منه (إنما يريدون به الإصلاح)، فهو ظاهر في أنه يريد السحر، ولكن قال هذا: (إنه يحمل على نوع ليس من السحر) حتى يتفق مع الأدلة ومع قول جمهور العلماء، هذا مقصوده، وعند العلماء قاعدة يسيرون عليها، إذا جاء عن أحد العلماء كلام يخالف الدليل فإنه يحمل على أحسن المحامل، ولا يظن بالعلماء أنهم يخالفون الدليل فهذا منه، فلهذا قال: إنه يحمل على نوع ليس من السحر.

معنى قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر

قال المصنف رحمه الله: [روي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر].

هذا هو الواقع، لا يستطيع حل السحر إلا ساحر، والحل هو الذي يكون بالسحر، وليس معنى ذلك أن السحر ما يشفى، بل كثيراً ما يشفى بغير السحر؛ بالرقى كما شفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله جل وعلا، وكذلك بالدعاء والالتجاء إلى الله، وكذلك بالعلاج الطبيعي، فإن العلماء ذكروا علاجاً للسحر، ومما ورد: أنه بأخذ سبع ورقات من السدر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ثم يحسو منه ثلاث حسوات يقرأ فيه آية الكرسي ثم يغتسل ببقيته، فإنه يشفى بإذن الله، وهذا شيء قد جرب خصوصاً في الرجل الذي يمنع من زوجته؛ فإنه يشفى بإذن الله سريعاً إذا فعل ذلك.

فهذا نوع من العلاج الطبيعي، والعلاج الطبيعي لا بأس به جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الدواء: (أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله، ولا تداووا بحرام، فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله إلا داء واحداً وهو الموت) فالناس كلهم يموتون، ولابد من الموت، ولكن الأمراض والأسقام لها علاجات جعلها الله جل وعلا فيما يأكله الإنسان وفي غير ما يأكله، وقد يكتشف ذلك من باب الصدفة كما هو واقع كثير.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد.

والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه: يسار بالتحتية والمهملة البصري الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه، إمام من خيار التابعين، مات سنة عشر ومائة -رحمه الله- وقد قارب التسعين].

أنواع حل السحر عن المسحور

قال المصنف رحمه الله: [قال ابن القيم : النشرة: حل السحر عن المسحور وهي نوعان:

أحدهما: يحل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.

والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز].

قوله: ( يتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله) يعني: أن الشيطان يبطل عمله.

والواقع أن السحر يكون من الإنسان بواسطة الشيطان، والسحر يخفيه الساحر كثيراً كما هو الواقع، والشيطان يطلب شيطاناً آخر، وإذا أراد أن يسحر يذكر اسمه ويمدحه ويثني عليه ويدعوه بأشياء فيها خضوع وذلة واستكانة له، فيدعو هذا الشيطان ثم هذا الشيطان يستخدم شيطاناً آخر أضعف منه ويجعله واسطة بينه وبين المسحور، فيعمل السحر بعدما يتقرب إليه الساحر بالأشياء التي يأمره بها، ولو أن يبقى في بيت مظلم في وقت من الأوقات، وإلا فالغالب أنه يأمره بذبح شاة أو دجاجة أو ما أشبه ذلك، أو قد يأمره بالسجود له، ولا يفعل شيئاً إلا إذا فعل ما يطلب منه، ثم إذا فعل ذلك أمره بعمل السحر، والسحر يكون بأشياء يجمعها من شعر وعظام ونشارة خشب وبرادة حديد وما أشبه ذلك، فينفث فيها، ثم يضعها في شيء من الأشياء ويربطها، وقد يحرص عليها جداً؛ لأنها إذا ظهرت وألقيت بطل سحره، ثم يرسل الشيطان شيطاناً آخر إلى من يراد سحره، فإن كان هذا الذي يراد سحره ممن يكثر من الأوراد والأدعية الشرعية وممن هو على اتصال دائم بالله جل وعلا، فإنه لا يستطيع أن يسحره إلا إذا غفل؛ ولذلك يراقبه حتى يغفل، فعند ذلك يبدأ بسحره، ثم يصير واسطة بينه وبين الساحر والشيطان ويخبره عن الأمور التي تحدث فيه، هذا هو عمل السحرة غالباً، والسحر أنواع كثيرة، فإذا جاء المسحور إلى الساحر أمره الساحر بعمل يرضي شيطانه الذي عمل له السحر كأن يقول له: اذبح ذبيحة وضع بها كذا وكذا، بحيث تكون هذه الذبيحة للشيطان، وهذا كفر بالله جل وعلا، والشيطان يكفيه هذا الفعل؛ لأن الذبح لغير الله ردة ومن الكفر -نسأل الله العافية- فإذا عمل ذلك رضي الشيطان وأبطل عمله، وهذا معنى قوله: (يتقرب الساحر والمسحور إلى الشيطان؛ فيبطل الشيطان عمله)؛ لأن المسحور جاء بشيء يرضي الشيطان، والشيطان يعمل السحر لأجل هذا، فهو يحرص على إضلال الإنسان بأي وسيلة كانت.

صفة النشرة الجائزة

قال الشارح رحمه الله: [ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور، الآية التي في سورة يونس: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس:81-82]، وقوله: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:118] إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69].

وقال ابن بطال في (كتاب وهب بن منبه) : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به، يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.

قلت: قول العلامة ابن القيم : (والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز) يشير رحمه الله إلى مثل هذا، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء].

يعني مثل قول: سعيد بن المسيب يحمل على هذا، فهذا كما قلنا: إنه أوّل كلامه حتى يوافق الحق، وهو من باب إحسان الظن بالعلماء.

[والحاصل أن ما كان منه بالسحر فيحرم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز، والله أعلم].

مسائل باب ما جاء في النشرة

قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن النشرة].

النهي عن النشرة يعني: مطلقاً إذا كانت بسحر، أما إذا كانت بأدعية مثلما قال ابن القيم وبأمور طبيعية فهي جائزة، وليست داخلة في النهي.

[الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال]

يعني: النشرة المنهي عنها ما كان بواسطة الشياطين وبأعمال السحرة، فإن هذا لا يجوز أن يتعاطاه المؤمن، وإذا توكل المؤمن على ربه وترك الأمر المحرم، فإن الله جل وعلا يشفيه، ويعوضه عن ذلك.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [78] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net