إسلام ويب

لقد انتشر الشرك وفشا في هذه الأمة؛ بسبب جهلها وانحرافها، وبعدها عن دين نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستقلد الأمم المنحرفة في السلوك والعقائد، كما أخبر أن هذه الأمة إذا تسلط بعضها على بعض هانت في أعين الأعداء، وأصبحت لقمة سائغة للمتربصين بها.

عبادة بعض هذه الأمة للأوثان

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان]

مراده بهذا الرد على الذين يعبدون القبور ويقولون: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب)، ولقوله: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، فاعتقدوا أن الشرك غير واقع في هذه الأمة، وأفعالهم سموها توسلاً وحباً للصالحين، وجعلوها قربات، يعتقدون أنها تقربهم إلى الله، وهذا بسبب جهلهم بدين الإسلام، الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جهلوه، فجعلوا مجرد النطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كاف في نجاة الإنسان. وهذا جهل عظيم أكثر من جهل أبي جهل ، وأمثاله الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولئك لما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله)، قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟! يعني: عرفوا أنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله وجب عليهم أن يعبدوا إلهاً واحداً، ويتبرءون من بقية الآلهة التي هي معبودات باطلة على تنوعها، وهؤلاء ما عرفوا هذا، والسبب في هذا يدور على شيئين:

أحدهما: جهلهم معنى العبادة، ما عرفوا معنى العبادة، فصاروا يقصرون العبادة على السجود، وعلى اعتقاد أن المسجود له يحيي ويميت ويتصرف بالخلق والإيجاد، فإذا لم يكن كذلك فمهما صنعت نحوه من الدعاء والتوسل والالتجاء إليه لا يكون شركاً.

الأمر الثاني: أنهم جهلوا معنى الإله الذي يعرفه العرب من لغتهم، فهو الذي تألهه القلوب بأي شيء كان، جهلوا هذا، وهذا بين واضح في كتاب الله، فإن كل من تأله شيئاً وتعلق قلبه به يكون مألوهاً له؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] يقول العلماء: معنى ذلك أنه إذا هوى شيئاً -يعني: اشتهاه- فعله، بدون خوف من الله جل وعلا، ولا مراقبة، فيكون هواه شهوته وما يحبه؛ لهذه الأمور قالوا: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، والعجب أن هؤلاء الذين يقولون مثل هذا القول ويفعلون هذه الأفعال، يعدون من العلماء، ويشرحون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكتبون تفسير كتاب الله، ويكتبون الكتب في أنواع العلوم، ولكنهم في توحيد الله أجهل من المشركين! نسأل الله العافية.

أراد الشيخ رحمه الله بهذا الباب أن يرد على مثل هؤلاء، وأن يبين بطلان قولهم، وأن هذا قول مناف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز أن يكون المسلم بهذه الصفة، ثم بين أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع قول الله جل وعلا لا تتضارب ولا تتعارض، وقوله: (أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب) لا ينافي أو يعارض قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من هذه الأمة الأوثان، وحتى يلتحق جماعات من هذه الأمة بالمشركين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)، وكذلك قوله: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة)، وذو الخلصة صنم من الأصنام القديمة، وكذلك الآيات التي ذكرت وهي كثيرة، ولكن عادة المؤلف رحمه الله أنه يقتصر على الشيء الذي يكفي أن يكون دليلاً ومقنعاً لمن مراده الحق؛ لأن هذا هو الذي ينفع معه التوجيه والكلام والاستدلال، أما الذي له وجهة معينة فإنه قد عمي بصره عن الأدلة وصم سمعه عن استماع القول وإن كان حقاً؛ لأنه يريد شيئاً معيناً، فهذا مهما أتيته بالأدلة، ومهما أكثرت عليه؛ ما يستفيد من ذلك، والكتب التي تؤلف وتوضع هي لمن يكون مريداً للحق ويجهله، فإذا تبين له أخذ به واتبعه، بغض النظر عمن جاء به ومن قاله؛ لأن الهدف هو عبادة الله جل وعلا واتباع الحق، هؤلاء هم الذين ينفع فيهم القول، وتنفع فيهم الكتب، والمؤلف نحا هذا النحو؛ ولهذا يقتصر على القليل من الأدلة، ويعتمد على أن تكون واضحة؛ ولهذا يذكر الحديث الواضح الجلي وإن كان في سنده ضعف، ولكنه يجعله عاضداً وشاهداً لأدلة ثابتة يقينية مثل آيات يذكرها من كتاب الله جل وعلا، هذه طريقة المؤلف التي سلكها في هذا الكتاب.

الفرق بين الوثن والصنم

[ قوله: باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، الوثن يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها؛ لقول الخليل عليه السلام: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17]، مع قوله: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71]، وقوله: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات:95] فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله كما تقدم في الحديث ].

مقصوده أن من العلماء من فرق بين الوثن والصنم، فقال: الوثن هو كل ما تعلق به واتجه إليه بنوع من العبادة، سواء كان قبراً أو شجرة أو مكاناً أو غير ذلك، أما الصنم فهو الشيء الذي يكون مصوراً ومجسداً على صورة رجل أو صورة حيوان أو ما أشبه ذلك، وفرقوا بين الصنم والوثن، فهو يريد بهذا أن يبين أن الوثن يطلق على الصنم وبالعكس؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا في موضع الأصنام الأوثان، وهذا يدل على أن هذا هو القول الصواب، وإن كان هذا من الأشياء التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، وهذا شأن كثير من الألفاظ العامة التي تأتي في اللغة العربية، كثيراً ما يكون هذا شأنها: إذا اجتمعت افترقت في المعنى، وإذا انفرد واحد منها دخل فيه الآخر.

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51] ]

يقول الله جل وعلا: (ألم تر) أي: ألم تعلم وتنظر وتعتبر وتتفكر؛ في الذين أعطوا حظاً من الكتاب -يعني: من العلم الذي جاء به الوحي من رب العباد- يختارون الضلالة على الهدى عن عمد وقصد ( يؤمنون بالجبت والطاغوت ) يعني: أنهم يقدمون القول والفعل الذي يريده الشيطان وأعوانه وأنصاره وأتباعه، على الحق الذي جاءت به الرسل، ويتبعون ذلك وهم عالمون بأن فعلهم باطل، وأن من فعل ذلك فقد خرج عن طريقة الرسل التي أوجب الله جل وعلا اتباعها، ومع ذلك يفضلون طريقة الكفار ومنهجهم ومسلكهم على سبيل المؤمنين الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:51-52] روى ابن أبي حاتم والإمام أحمد أن الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت هم حيي بن الأخطب وكعب بن الأشرف ، لما قدموا مكة قال لهم الكفار: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، أخبرونا عنا وعن محمد، فقالا لهم: ما أنتم، وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونحن أهل البيت، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من القبائل من كذا وكذا، فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً من محمد، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله جل وعلا: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] والأبتر هو المقطوع الذي لا نسل له.

هذا وإن كان سبب النزول في فرد أو أفراد فكما يقول العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا في جميع ما نزل من آيات الله جل وعلا، وجميع ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان سببه حادثة معينة؛ لأن الشرع جاء للعموم إلى قيام الساعة، وإن كان له سبب خاص.

المؤلف رحمه الله -كما سيأتي في المسائل على هذه الآية- يقول: ينظر هل إيمانهم بالجبت والطاغوت عن عقيدة واقتناع أو أنه مجرد موافقة للكفار مع بغضهم للجبت والطاغوت وكراهتهم له؟ يعني: أنهم يؤمنون به كما وصفهم الله جل وعلا، مع أنهم يكرهونه ويعتقدون بطلانه، إلا أنهم وافقوا الكفار في الظاهر، فكانوا بهذه المثابة، ووصمهم الله جل وعلا بأنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، وهذا عبرة للمعتبر يجب أن يحذر أن يقع في شيء من ذلك.

معنى الجبت والطاغوت

اختلف السلف في الجبت فقال عمر رضي الله عنه: الجبت: الشيطان، ومرة قال: السحر، وهكذا روي عن ابن عباس وعن مجاهد وعن قتادة وعن الحسن وغيرهم، وجاء أن الجبت الشرك، وجاء عن بعضهم أن الجبت هو حيي بن أخطب وبعضهم قال: الجبت: كعب بن الأشرف ، وجاء عن بعضهم أنه قال: الجبت الكاهن، والأزهري يقول: الجبت كلمة تطلق على الوثن وعلى الشيطان ونحوهما، يعني: أنها تعم، والمعنى الواضح أن الجبت هو خلاف أمر الله.

فالجبت كل ما خالف الشرع وانصرف الإنسان إليه معتاضاً به عن شرع الله، وعن الهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما الطاغوت فقد تقدم أنه مأخوذ من الطغيان، وأنه أطلق على ما يطلق عليه الجبت، فقيل: إنه الشيطان، وقيل: إنهم كهان ينزل عليهم الشيطان، وقيل: إنه الحاكم بغير ما أنزل الله، وقيل: إنه الشرك، يعني أنه الشريعة التي يعتاض بها عن شرع الله جل وعلا، وهذا تقدم، وكل ذلك حق وصواب، وإن اختلفت الألفاظ فهي متفقة في المعنى، فلا خلاف فيها، وهذا الذي يسمى في مقدمات التفسير باختلاف التنوع، يعني: أن كل واحد ينوع عبارته عن الآخر فتختلف ولكن المعنى واحد ما يختلف، والسبب في هذا أن السامع قد يكون لديه لفظ أوضح من اللفظ الآخر، فيعبر بهذا اللفظ الواضح الذي يجلي أمامه المقصود، فكثرت عباراتهم عن معان واحدة، واللغة العربية من خصوصياتها أنها تأتي بألفاظ كثيرة لمعنى واحد، وتسمى الألفاظ المترادفة، فمثلاً: يقول: الخبز، والرغيف، والعيش، والقرص، وتقول: الثوب، والقميص، واللباس، وهكذا.. والمعنى واحد، وإن كانت الألفاظ الكثيرة ترد على هذا المعنى، وهذا لسعة اللغة، وهي أوسع اللغات في ذلك، فبهذا يتبين لنا أن هذه الأقوال وغيرها التي لم نذكرها ليست دالة على أن هذا المعنى خفي عليهم، وأنهم اختلفوا فيه، بل هو واضح جلي، ولكن كل واحد يعبر بالشيء الذي يراه أوضح وأقرب لتفهيم السامع.

معرفة علماء اليهود بأن النبي عليه الصلاة والسلام حق

قال الشارح: [ قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51] روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن الأخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، أخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء ]

الكوماء هي الناقة السمينة التي عليها الشحم، سميت كوماء لأن على سنامها شحم متكوم متكدس، وهذه أطيب لحماً، وأغلى ثمناً، ومن نحرها يدل على كرمه وجوده، فوصفوا أنفسهم بذلك، وهذه القضية وقعت بعد وقعة بدر، وذلك أن اليهود أهل حسد وحقد، لم ينكروا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل عرفوا أنه حق ولكنهم أبوا قبوله، والعجيب أنهم جاءوا إلى المدينة يطلبون ويتحرون مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبعوه، وكانوا يظنون أنه منهم من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فلما تبين أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم من أبناء عمهم حقدوا عليه، وأنكروه، وكفروا به بعدما عرفوا! قال الله جل وعلا: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، بل قال الذين آمنوا منهم مثل عبد الله بن سلام : والله إننا لنعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من معرفتنا لأبنائنا، وذلك أن أحدنا يخرج من بيته ثم لا يدري ماذا تصنع زوجته، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرتاب بأي وجه من الوجوه أنه رسول جاء من عند الله جل وعلا، ومع ذلك الذين آمنوا منهم لا يتجاوزون عدد الأصابع!

الشيء الثاني من العجب! أنهم لما نزلوا في المدينة، وكان أهل المدينة أبناء رجل واحد، ثم انقسموا إلى قسمين أوس وخزرج، فصار -كعادة الجاهلية وعادة العرب- قتال بينهم، فصار كل فريق من الأوس ومن الخزرج محالفاً لقبيلة من قبائل اليهود، وقبائل اليهود كانت ثلاث: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فكل قبيلة من هؤلاء صارت مع طائفة من الأوس والخزرج، وسموهم حلفاء، فصار القتال قائماً أكثر من مائة سنة بينهم في المدينة قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان إذا انتصر أحد الفريقين من الأوس والخزرج على هؤلاء اليهود يقولون لهم: إنه قرب وقت نبي سيبعث ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فيتوعدوهم بهذا.

فكان هذا هو السبب في إسلام الأنصار، فقد كان العرب يحجون، أما اليهود فما كانوا يحجون، أما العرب فهم على إرث من إرث إسماعيل أبيهم؛ لأنه بعث فيهم، وبقي من دينه الحج إلى البيت، بقي إلا أنه غير بالشرك، فكانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاء وقت الموسم يذهب بنفسه ويعرض الإسلام على القبائل، ويقول: (ألا رجل يحملني إلى قومه حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي).

فيمشي على القبائل ومعه بعض أعمامه وبعض الكفار يحذرون منه، ويقولون: لا تسمعوا له فإنه كذاب، وبعضهم يقول: إنه مجنون، ويرمونه بأشياء هي من أبعد ما يكون عنه صلوات الله وسلامه عليه، فعرض للأنصار فقالوا فيما بينهم: هذا هو الذي تتوعدنا اليهود به، فلا يسبقونكم إليه، يقول الله جل وعلا: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89] يعني: جاءهم الرسول الذي يعرفونه، وكانوا يستفتحون به يعني: يقولون: إنه سيأتي وقته ونتبعه ثم نقتلكم معه، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، وهذا مما يدل على أن الأمر بيد الله جل وعلا، وأن الإنسان وإن كان عالماً وإن كان عارفاً للحق إذا أريد فتنته فلا أحد يملك له شيئاً، فإنه يتجنب الحق الواضح الجلي ويتبع الباطل إذا لم يهده الله، وبهذا يتبين أن الإنسان بأمس الحاجة إلى طلب الهداية من الله دائماً، وإظهار الفقر؛ لأنه إذا لم يهده فإنه ضال؛ ولهذا أوجب الله جل وعلا على العباد أن يدعوه بطلب الهداية في كل ركعة من ركعات الصلاة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] هذا أمر ضروري جداً، ومن أهم ما ينبغي للإنسان أن يلازمه، فيسأل ربه الهداية دائماً، وهداية الإنسان ما تكمل وإن علم وعرف وتبين له الحق من الباطل، فهدايته بيد الله دائماً، ولا تكمل هدايته وتتم إلا إذا استقر في مسكنه في الجنة، هناك تمت الهداية.

وقد أخبر جل وعلا أن من تمام هداية المؤمنين هدايتهم إلى مساكنهم في الجنة، فإن الله يهديهم بإيمانهم إلى مساكنهم في الجنة حتى يعرفونها أكثر من معرفتهم بمساكنهم في الدنيا التي بنوها بأيديهم، وعمروها الوقت الذي كانوا في الدنيا، وهذا هو تمام الهداية، وهذا أمر ضروري جداً.

أما قول كثير من المفسرين أن معنى قوله جل وعلا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وكذلك معنى قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136]: إن المعنى اثبتوا على الإيمان، ومعنى اهدنا: ثبتنا على الإيمان فإن هذا القول فيه قصور، فالإنسان بحاجة إلى هداية بعد هداية دائماً، ولا تكمل هدايته، وقد يضل في مسألة أو مسألتين أو أكثر أو يضل في أمور كثيرة، فهو دائم في أمس الحاجة إلى هداية ربه جل وعلا، والأمر كله بيد الله؛ لأنه هو مالك الملك تعالى وتقدس، وبيده الخير، يتصرف كيف يشاء، الخلق كلهم ملكه، خلقهم وملكهم وهو يتصرف فيهم، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكثيراً ما كان رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه يقول: (لا ومقلب القلوب)، أكثر ما يحلف هكذا، قيل له مرة: (أتخاف علينا -يا رسول الله- وقد آمنا بك؟! فقال: وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقلبها قلبها؟) فهو جل وعلا يهدي من يشاء بعد الضلال كما أنه يضل من يشاء بعد الهدى.

إذاً: ليس غريباً أن الأحبار من علماء اليهود كـحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من علمائهم وكبرائهم وساداتهم وقاداتهم لما رءوا الحق بيناً واضحاً كوضوح الشمس شرقوا بالحق، وما استساغوه، بل كرهوه أشد الكراهية، حتى صاروا يسافرون ويركبون الإبل يبحثون عمن يكون عدواً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلبونه عليه، ويساعدونه على قتاله، ويحرضونه عليه، فلما انتصر صلوات الله وسلامه عليه على كبار المشركين في بدر أصابهم ألم ما استطاعوا معه القرار، ألم الحقد والحسد وكراهية الحق، فذهبوا إلى قريش يقولون: هذا الذي وتركم في رءوسائكم وكباركم هلم إلى قتاله، كيف يهنأ عيشكم وقد قتل كباركم؟ مع أنهم يعرفون أنه جاء بالوحي من عند الله حقاً!

فهل يستوي العالم الذي يعرف كتاب الله مع عبدة الأوثان؟ بل صار كثير من عبدة الأوثان أفضل من هؤلاء، فالذي لم يرد الله جل وعلا هدايته فلن تملك له هداية أبداً، فعلى العبد أن يعرف هذا الأمر، ويسأل ربه دائماً أن يهديه.

سبب نزول الآية

قال الشارح: [ روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد؟ فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج؛ ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا : أنتم خير وأهدى سبيلاً فأنزل الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51] ].

الصنبور هي النخلة الضعيفة التي ليس فيها فراخ، فإنها إذا سقطت وليس لها عقد انتهت ونسيت، فهم أخذوا كلمة الصنبور من هذا المعنى، وذلك أنهم قالوا: إنه ليس له أولاد صلوات الله وسلامه عليه، والواقع أن هذا من أعظم الكذب، وأعظم الزور، فالرسول صلى الله عليه وسلم بارك الله جل وعلا فيه، وفي دعوته، وجعله منقذاً للبشرية، فكل عبد آمن في وقته ويؤمن متبعاً له إلى قيام الساعة يعتبر ولداً له، له أجره في عمله، وكل عمل يعمله في عبادة الله والتقرب إليه له صلوات الله وسلامه عليه مثل أجر هذا العامل، من أول مؤمن إلى آخر مؤمن قبل قيام الساعة، فهل يصل إلى هذا الشيء أحد من الخلق مهما كثر ماله وكثر ولده؟ لا، أبداً.

ولهذا يقول العلماء: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى أن يهدى إليه عمل، أو يتصدق عنه، أو يضحى عنه؛ لأن كل عمل يعمله الإنسان فله مثله صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه هو السبب في هداية الناس، فليس هناك مخلوق أبرك منه صلوات الله وسلامه عليه، وأعظم منة على الخلق منه صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا شرفه الله جل وعلا على جميع الخلق، فهو أشرف المخلوقات، وهو أقربهم إلى ربه، فهل يجوز لمن كان عنده عقل -فضلاً عن إيمان- أن يوجه إليه شيئاً من اللوم أو من المسبة؟ لا، إلا إذا كان شيطاناً رجيماً يبغض الحق، فالشيطان الرجيم الملعون هو الذي يغيضه مثل هذا الشيء، ومن اتبعه فهو مثله، وهذا هو معنى قولهم: الأبتر، يعني أنه إذا مات فليس له عقب، وهذا من أكذب القول، فهو مثل قولهم: صنبور.

أقوال السلف في تفسير الجبت والطاغوت

قال الشارح: [ وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم. وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك : الجبت: الشيطان. زاد ابن عباس : بالحبشية ].

يقولون: الباء مع الجيم لا تجتمع في كلمة عربية، إلا أن يكون فيها حرف من الحروف الذلقية، فإذا كان حرف منها في كلمة من هذه الكلمات وإلا تكون الكلمة غير عربية، والجبت ليست من هذه، فلهذا قال: إنها بالحبشية، وكذلك يقول الأزهري في الصحاح: إن هذه الكلمة أصلها غير عربي، ولكن الصواب أن العرب إذا تكلموا بكلمة، وعرف معناها، وصار الخطاب بها معروفاً؛ فهي عربية وإن كان أصلها غير عربي.

قال الشارح: [ وعن ابن عباس أيضاً: الجبت: الشرك، وعنه: الجبت: الأصنام، وعنه: الجبت: حيي بن أخطب ، وعن الشعبي : الجبت: الكاهن، وعن مجاهد : الجبت: كعب بن الأشرف ، قال الجوهري : الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع، هل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ ].

يعني: أن كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وافقوهما باللسان فقط مع اعتقاد قلوبهم أن المشركين على باطل، وأنهم يظهرون ذلك وهم يكرهونه؛ ولهذا كانوا إذا انتصر عليهم عباد الأوثان يقولون: سيبعث نبي نتبعه ونقتلكم معه، فكانوا يستغربون كيف أن عباد الأوثان ينتصرون عليهم وهم لا يعبدون الأوثان؟! ولكنهم كفروا عن عناد وعلم فصار كفرهم أشد من كفر الجاهل، فكفر العالم أشد من كفر الجاهل نسأل الله العافية.

إذاً: الإيمان الذي أطلق عليهم هو الموافقة في الظاهر وليس في الباطن، وهذا أمر مخيف جداً، أن الإنسان إذا وافق أهل الباطل في الظاهر وإن كان يكره ما هم عليه يكون حكمه حكمهم؛ لأن الله جل وعلا كلف عبده أن يقول الحق ويعمل به، ولا يبالي بالناس مهما كانت الظروف، وخصوصاً إذا كانت المسألة مسألة إيمان وكفر، إما إذا كانت من الأمور الأخرى التي تكون مجرد معصية فالأمر أسهل من ذلك.

قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقول الله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] ].

هذه الآية أيضاً في اليهود، وذلك أنهم يستهزئون ويسخرون من المؤمنين، فقوله: ( أنبئكم بشر من ذلك ) إشارة إلى ما صدر منهم من الاستهزاء، وأنهم يقولون: أنتم وإن كنتم على حق فأنتم تخلفونا في النار؛ لأننا نبقى في النار أياماً معدودات ثم تكونون أنتم بدلنا ونحن نخرج، وهذه من تمنياتهم، ويقولون: ما رأينا أهل دين أشر منكم، هكذا كانوا يقولون للمؤمنين، ما رأينا أهل دين أشر منكم، فقال الله جل وعلا: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ يعني: مما تظنونه بنا وتصمونا به، هو أنتم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير، وجعل منهم من عبد الطاغوت.

هذا هو الصواب في تقدير الآية، وأن هذه أفعال معطوفة بعضها على بعض، وقد استشكل كثير من المفسرين قوله: ( وعبد الطاغوت ) من ناحية الإعراب، وهذا ليس فيه إشكال في الواقع وإن كان الفاعل مختلف، فالأفعال الأولى الفاعل فيها هو الله، أما هذا فالفاعل فيها هم اليهود الذين عبدوا الطاغوت.

وهذا يدل على أن الإنسان يرث آباءه وأجداده إذا كان على نهجهم وعلى طريقهم، ولكنه إذا تبرأ من باطلهم وعمل بالحق فلا يضره هذا الشيء، والقردة والخنازير هم اليهود وقد ذكرهم الله في قوله جل وعلا: الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]، وقد ذكر الله قصتهم في سورة الأعراف، وذلك أن الله جل وعلا أمرهم بتعظيم يوم السبت واحترامه، وحرم عليهم اصطياد الحيتان فيه، والله جل وعلا إذا أمر عبده فقد يبتليه هل يكون صادقاً في امتثال الأمر أو يكون كاذباً؟ كما قال الله جل وعلا: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، وآيات كثيرة في هذا المعنى.

فصارت الحيتان تأتيهم يوم السبت، وتخرج من الماء على ساحل البحر بكثرة، وإذا ذهب السبت ذهبت فلا يرون منها شيئاً، فلما طال عليهم ذلك تحيلوا، فوضعوا الشباك، ووضعوا الحفر، فتأتي الحيتان وتقع فيها، فيتركونها فيها إلى أن تغيب الشمس يوم السبت فيأخذونها، وهذا صورته كأنه موافق للحق، ولكنه حيلة على الباطل؛ ولهذا فالقردة من أقرب الحيوانات في الصورة الظاهرة إلى الإنسان، فمسخهم الله جل وعلا على وفق صنيعهم؛ لأن ظاهر صنيعهم ليس باطلاً؛ لأنهم ما أخذوا الحيتان من البحر إلا بعدما ذهب السبت؛ فجعلوا قردة.

ذكر المفسرون أنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام كما ذكر الله جل وعلا في القرآن:

طائفة صنعت هذا، وطائفة أنكرت عليهم، والطائفة الثالثة: قالت للمنكرين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ [الأعراف:164] يعني: أنه لا فائدة في الكلام معهم، فقد ارتكبوا أمراً واضحاً، فقال الواعظون والمنكرون: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164] يعني: أننا نفعل هذا إعذاراً حتى يعذرنا الله جل وعلا؛ لأننا إذا سكتنا ولم ننكر كنا معهم، ولم نعذر بذلك، فاعتزلوهم وتركوهم، فلما كان يوم من الأيام أصبحوا ولم يروا أحداً خرج من البلد، فعجبوا! وقالوا: لا بد أنه حصل شيء، فأتوا إليهم فإذا هم قد مسخوا قردة وخنازير.

يقول ابن عباس وغيره: شبابهم صاروا قردة، وشيوخهم خنازير، أما القردة والخنازير الموجودة الآن فليست مسخاً، بل هي من الحيوانات التي خلقها الله جل وعلا، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سئل: هل هذه القردة مسخ؟ فقال: إن الله إذا مسخ أمة لم يجعل لها نسلاً)، فالذي يمسخ ليس له نسل، فعلى هذا قول بعض الناس: إن الفأر أو الضب أو ما أشبه ذلك كان آدمياً ومسخ، هذا خطأ، ليس الأمر كذلك؛ لأن المسخ عذاب، والمعذب يهلك ولا يكون له نسل كما في هذا الحديث.

وهذا يدلنا أيضاً على أن هؤلاء لهم نصيب مما فعله أولئك؛ لأنهم يتحيلون على الباطل بوجوه متعددة، ومن تحيل على الباطل فإنه يتحيل على ربه جل وعلا، والله لا تخفى عليه خافية، يعلم ما في الصدور، ولا يجوز أن يظهر الإنسان شيئاً في عمله، ويبطن خلافه في قلبه فإن الله يعلمه، وسوف يحاسبه عليه: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] المقصود بهذا أن هؤلاء خالفوا أمر الله جهاراً عن عمد، ووجه الدليل من الآية يظهر في الحديث الذي سيذكره، وهو أن هذه الأمة ستعمل ما عملته اليهود والنصارى وفارس والروم وغيرها من الأمم السابقة، ولهذا ثبت أنه يكون في هذه الأمة مسخ، يعني: أن فيهم طائفة تمسخ قردة وخنازير؛ لأنهم يفعلون مثلما فعل اليهود فيعاقبون كما عوقب أولئك.

وكذلك يكون فيهم رجم بالحجارة من السماء؛ لأنهم يفعلون كما يفعل قوم لوط، فيرجمون كما رجم قوم لوط، ويكون فيهم خسف كما حدث في الأمم السابقة، فإن منهم من خسف به كما ذكر الله جل وعلا ذلك، وهذا ثابت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك الشرك الذي وقعوا فيه، فإنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم وقالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالت: المسيح ابن الله، وصارت تعبد ثلاثة: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] وكل ما وقع في اليهود والنصارى سيقع مثله في هذه الأمة لا يخطئونه في شيء، هذا هو وجه الاستدلال من الآيات، ويظهر ويتضح بذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي سيأتي.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد! هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: (من لعنه الله) أي: أبعده من رحمته (وغضب عليه) أي: غضباً لا يرضى بعده أبداً، (وجعل منهم القردة والخنازير).

وقد قال الثوري : عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوماً -أو قال: لم يمسخ قوماً- فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك) رواه مسلم ].

العجيب أن بعض دعاة الشر من اليهود -كما هو معروف- جاء بنظرية يقول: إن الأصل في البشر هو القردة، والإنسان فصيلة منها.

واتبعه على هذا القول الباطل البين البطلان طوائف كثيرة، ثم بعد ذلك لما جاء نظيره من الكفار يبطل هذه النظرية رجع هؤلاء، مع أن الله جل وعلا يذكر لنا أنه خلق آدم بيده، وأنه خلقه من طين، كما جاء في آيات متعددة كثيرة، فكيف يعتنقون قول هذا الفاجر الخبيث ويأخذون به مع وضوح هذا الأمر؟! وهذا من الأدلة على أن الله جل وعلا إذا أراد إضلال إنسان فإنها لا تنفع فيه الأدلة الواضحة الجلية.

والغريب أن هذا وقع لبعض العلماء الذين يكتبون الكتابات، وموجود عندنا بعض هذه الكتب، بعضها يسمى دائرة المعارف يقول صاحبها: نحن نؤيد نظرية دارون ، فإن قيل لنا: كيف تقولون بما ذكره الله جل وعلا في القرآن من أنه خلق آدم من طين؟ نقول: هذا أمره سهل، نؤوله كما أولنا قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يعني: بهذه السهولة وبهذا الأمر نؤول القرآن؛ لأن كافراً من الكفار قال هذا القول، والتأويل هذا إبطال وتكذيب في الواقع، وتحريف لا يجوز أن نسميه تأويلاً، وأشياء كثيرة من هذا القبيل.

فالإنسان يجب أن يكون على حذر دائماً، فيكون إمامه هو كتاب الله، وفي هذه الآية دليل واضح على أن الله جل وعلا يلعن من يشاء، إذا أراد أن يلعن لعن، كما أنه يرحم من يشاء، ويغضب على من يشاء: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60] وهذه من صفات الفعل التي تتعلق بمشيئته، إذا شاء أن يفعلها فعلها كما يشاء، فيجب أن يوصف الله جل وعلا بذلك وهذا كثير.

تفسير البغوي لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم..)

قال الشارح: [قال البغوي في تفسيره: (قل) يا محمد! (هل أنبئكم) أخبركم (بشر من ذلكم) يعني: قولهم: لم نر أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم. فذكر الجواب بلفظ الابتداء -وإن لم يكن الابتداء شراً- كقوله تعالى : قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ [الحج:72] .

وقوله : (مثوبة) ثواباً وجزاءً نصب على التمييز (عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى ].

هذا على قول، والقول الآخر أن القردة والخنازير كلاهما من أصحاب السبت، وهذا هو المشهور، والمعنى: أن هذه الأمة سوف يكون فيها من يلعنه الله ويغضب عليه ويمسخه قردة وخنازير، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) وكذلك ما ورد من الآيات الأخرى.

التفسيرات اللغوية لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم..)

[ وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة، وشيوخهم مسخوا خنازير.

(وعبد الطاغوت) أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي: أطاع الشيطان فيما سول له، وقرأ ابن مسعود : (وعبدوا الطاغوت) وقرأ حمزة : (وعَبُدَ الطاغوت) بضم الباء وجر التاء أراد العبد ].

يعني: الجمعي، عُبُد يعني جمع عابد، جعل منهم من عبد، والمعنى واحد.

[ وهما لغتان : عبد بسكون الباء، وعبد بضمها ].

هذا إذا أريد الإفراد.

[ مثل سَبُع وسُبْع وقرأ الحسن (وعبد الطاغوت ) على الواحد.

وفي تفسير الطبرسي : قرأ حمزة وحده ( وعبُد الطاغوت) بضم الباء وجر التاء، والباقون (وعبد الطاغوت) بنصب الباء وفتح التاء، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب (وعُبُدَ الطاغوتِ ) بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء.

قال: وحجة حمزة في قراءته ( وعبُد الطاغوت ) أنه يحمله على ما عمل فيه قوله (جعل) ].

يعني: يعطفه على الأفعال السابقة، وكلها أفعال ماضية، لعن: فعل ماضي، ( من لعنه الله) وقوله: ( وغضب ) كذلك، وحمله على هذه الأفعال الماضية يكون الباب واحداً، كل هذه أفعال ماضية.

[ كأنه: وجعل منهم عبُد الطاغوت ومعنى: (جعل) أي: خلق كقوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] وليس عبد لفظ جمع؛ لأنه ليس من أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه الإفراد ومعناه الجمع؟ كما في قوله تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] ولأن بناء فعُل: يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ ودنس، وكأن تقديره : أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب ]

كلمة (جعل) هذه تأتي على استعمالين:

استعمال بمعنى: خلق، كهذه الآية وكقوله جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] وهذا كثير، وعلامة ذلك أنها إذا جاءت بمعنى (خلق) أنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد فقط.

وتأتي بمعنى: صير، وليس معنى (صير) أنه خلق، لا، معناها: أنه عالج الأشياء أو اعتقدها، أي: اعتقد أنها كذا، أو قال: إنها كذا، وهذا أيضاً استعماله كثير في اللغة العربية، ووروده في القرآن أيضاً كثير، وعلامة ذلك أنه يتعدى إلى مفعولين كما في قوله جل وعلا: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91] وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19] وهذا بمعنى اعتقدوا أو قالوا ذلك.

وهذا قد يغلط فيه بعض الناس لا سيما الذين لهم أهواء، وربما قالوا: إن (جعل) تدل على الخلق، ثم يدخلون ما يريدون كإدخالهم للقرآن بأنه مخلوق، فيقولون: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3] يعني: خلقناه! وكقوله: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91] وما أشبه ذلك.

وهذا يدل على الجهل في الواقع؛ لأنه لا يمكن أن يقال: خلقوا الملائكة، وكذا قوله: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91] وما أشبه ذلك، وهذا من أنفع ما يكون لطالب العلم أن يفرق بين الألفاظ واستعمالاتها، ويعرف مواقعها.

[ وأما من فتح فقال: ( وعبد الطاغوت) فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة وهو قوله: (لعنه الله) وأفرد الضمير في عَبَد، وإن كان المعنى فيه الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه. وفاعله ضمير (من)، كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير (من)، فأفرد لحمل ذلك جميعاً على اللفظ، وأما قوله: ( عبد الطاغوت ) فهو جمع عبد.

وقال أحمد بن يحيى : عُبُد جمع عابد كبازل وبُزل، وشارف وشرف، وكذلك عُبَّد جمع عابد ومثله عباد وعباد. انتهى ].

قال الشارح رحمه الله: [ وقال شيخ الإسلام في قوله (وعبد الطاغوت): الصواب: أنه معطوف على ما قبله من الأفعال أي: من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت، قال : والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله تعالى مظهراً أو مضمراً، وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت، وهو الضمير في عبد، ولم يعد سبحانه من؛ لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود.

قوله: ( أولئك شر مكاناً ) مما تظنون بنا. ( وأضل عن سواء السبيل) وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك، كقوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] قاله الـعماد ابن كثير في تفسيره وهو ظاهر ].

هذا لأنه يأتي أفعل التفضيل فيما لا مشارك له في الجانب الآخر، وبهذا يرد على القدرية الذين قالوا: إن قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] وما أشبه ذلك يدل على إثبات الخلق للعباد، وأنهم يخلقون أفعالهم بدليل هذه الآية ونحوها.

الجواب: هو ما ذكره هنا، أن قوله: (تبارك الله أحسن الخالقين) هذا استعمل فيما لا مشارك له في الخلق؛ لأن قوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] أصحاب النار ما يشاركون أهل الجنة بشيء مما فيها، وقوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] لا يمكن أن يقال: إن هذا استعمل على بابه، وإنما استعمل بالشيء الذي لا مشاركة فيه، يقول الله جل وعلا: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] لا يوجد أحد يقول: إن الأصنام تشارك الله في الخيرية أو في شيء من ذلك مطلقاً، وهذا كثير في القرآن، ومن المعلوم أن أصحاب البدع والأهواء يتعلقون بالشبهات، ويفرحون إذا وجدوا شيئاً يتعلقون به من القرآن أو من الأحاديث، ومن الأمور التي ينبغي أن تعلم أن القرآن فيه شيء مما قد يشتبه في اللفظ للدلالة، وإذا صار الإنسان عنده سوء فهم أو سوء اتجاه يكون فتنة له، وهذا الذي يشير إليه قوله جل وعلا: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] فهم يبحثون عن الشيء الذي يتفق مع أهوائهم، ومع مناهجهم ومقاصدهم، بغض النظر عن مراد المتكلم، ولو كانوا يريدون مراد المتكلم لكان الأمر واضحاً جلياً؛ لأن هناك آيات واضحات تبين هذا، إذا أرجعت إليها زال الإشكال نهائياً، وأصبح لا يوجد إشكال.

والواجب على العبد أن يتخلى من هوى النفس، ومن الأغراض التي تكون على خلاف مراد الرب جل وعلا أو مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى توفيق من الله جل وعلا، والإنسان قد لا يملك نفسه وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41] إلا أنه إذا فعل الإنسان الأسباب التي أمر بها فغالباً أن الله يوفقه، بخلاف الذي يعرض عن أمر الله من أول وهلة اتباعاً لشيء يريده، إما يريد علواً على الخلق، يريد أن يكون هو أفضل منهم، وأعلى منهم أو كان له أغراض دنيوية، أو عنده حسد وحقد على الآخرين؛ فهذا غالباً لا يوفق ويزداد ضلالاً إلى ضلاله إلا أن يشاء الله، ولهذا يقول الله جل وعلا: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، ويقول تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110] والمعنى: أنه لما جاءهم أمرنا فردوه أول الأمر قلبت أفئدتهم وأبصارهم جزاءً لردهم الحق أول ما جاءهم.

ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح الأمور وبينها، وأما فهوم الناس واتجاهاتهم فهذه يجب أن تعرض على الكتاب والسنة، ويجب أن يتجرد في ذلك، ليس لأن ينتصر على فلان، أو ينصر المذهب الفلاني، ويرد على المذهب الفلاني، إذا كان هذا قصده فالقصد سيء، والعمل ليس لله جل وعلا، وإنما الواجب على الإنسان أن يطلب الحق، وعلامة ذلك أنه يقبل الحق ممن جاء به سواءً كان صديقاً له أو غير صديق، إذا تبين له الحق قبله، أما إذا كان لا يقبل الحق إلا ممن يتفق معه في رأيه ومنهجه فهذا علامة أنه لا يريد الحق، والله جل وعلا يتولى جزاء عباده، وسوف يحاسبهم على نياتهم ومقاصدهم، وإنما على الإنسان أن يجتهد لنفسه لئلا يقع في الباطل، ولن يضيع شيء أبداً، وكل خلاف وقع، وكل حكومة وقعت، وكل مسألة وقعت سوف تعرض بين يدي الله، ويحكم فيها بحكمه العدل، فهو جل وعلا يعلم لسان كل متكلم، ويعلم قلب كل متكلم ماذا يريد، على الإنسان أن يستحضر هذه الأمور، ويسعى لنفسه إما أن يكتسب الحسنات أو يكتسب السيئات.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [69] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net