إسلام ويب

لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من اتخاذ القبور مساجد أشد التحذير، وبين أن سبب لعن اليهود والنصارى أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، حتى آل الأمر إلى عبادتهم إياهم، ولذلك خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجداً فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)؛ فاستجاب الله دعاءه وحمى جنابه من أن يكون وسيلة إلى الشرك.

التغليظ من عبادة الله عند قبور الصالحين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟]

هذا الباب من الأبواب التي كررها المؤلف للحاجة إليها؛ لكثرة ما يقع الناس في المخالفة في هذا، ولا يزال الناس بأمس الحاجة إلى معرفة الحق في ذلك، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كثيراً منهم يقع في الشرك وهو يظن أنه جائز، والواقع أنهم يخطئون في فهم الخطاب الذي يتعلقون به، فمثلاً: يسمعون كلمة التوسل فيظنون أن التوسل هو طلب الشفاعة من الأموات؛ لأنهم وجدوا الناس هكذا يصنعون، فظنوا أن هذا هو التوسل، وهو الوسيلة، فإذا قال الله جل وعلا: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] قالوا: الوسيلة أن نذهب إلى الأولياء، ونطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله، ويقربونا إلى الله، فتكون الوسيلة التي أمر الله بها هي الشرك على حد قولهم وزعمهم.

كذلك ما فهموا معنى العبادة التي أمر الله جل وعلا بها الخلق فقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] هل معنى (نعبد ربنا) أن العبادة مجرد السجود؟ لا، العبادة كل شيء يتقرب به، ويطلب نفعه أو ضره، ويجب أن تكون لله، والأمور التي ليست من الأسباب الظاهرة التي يباشرها الإنسان لا يجوز طلبها إلا من الله جل وعلا، فمن أين للأموات أن يطلب منهم النفع أو الضر؟ هل عندهم أسباب؟

كلا، ليس عندهم شيء، والأموات في الواقع أعجز من الأحياء، إذ الأحياء يقدرون على ما لا يقدر عليه الأموات، فكيف يطلب من ميت انقطع عمله ولا يستطيع أن يزيد في صحيفة حسناته حسنة واحدة، ولا أن يمحو من سيئاته سيئة واحدة، بل ما استطاع أن يدفع الديدان عن بدنه، ثم يأتي إنسان عاقل ويلتجئ إليه ويدعوه؟!!

من أين له الدعوة؟ والله خلقك وكرمك بالعقل، وسخر لك ما في الأرض، ثم تهبط بعقلك وبفعلك إلى هذا المستوى المنحط الذي يمقتك الله جل وعلا عليه، ويجعلك من أبعد الخلق عنه، ولهذا صار المشرك الذي يجعل الدعاء والعبادة لغير الله ميئوساً منه، وإذا مات على ذلك فهو في النار قطعاً: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وهل يجوز للمسلم أن يسمع أن الله جل وعلا لا يغفر الشرك ثم لا يتعرف على الشرك ولا يعرف ما هو؟

لا يجوز، فيجب أن يعرف الإنسان الشرك، ويعرف العبادة والتأله؛ حتى لا يقع فيما نهاه الله جل وعلا عنه؟ فالنقص كله يأتي الناس من هذه النواحي.

أصل الدين الإسلامي الذي دعت إليه الرسل: لا إله إلا الله، وليس المقصود التلفظ بها، وإنما المقصود أن ينفي التأله عن غير الله، ويثبته لله وحده، وأن يجعل التأله لله وحده وينفيه عن غيره.

وفي هذا الباب يقول: (ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟) أي: فكيف إذا عبد ذلك الصالح؟ يعني: فإنه يكون مشركاً إذا عبد الرجل الصالح، والمشرك مخلد في جهنم، وإنما كان هذا الوعيد لمن عبد الله عند القبر؛ لأن ذلك وسيلة إلى عبادة القبر.

علماء السوء ومشابهتهم النصارى في تجويز البناء على القبور

قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟

أي: الرجل الصالح، فإن عبادته هي الشرك الأكبر، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته، ووسائل الشرك محرمة؛ لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور؛ فقال : (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله)، فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل ]

هذا الحديث مخرج في الصحيحين، قوله: (في الصحيح) يعني: في الحديث الصحيح، وهو جاء برواية أم سلمة وأم حبيبة زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة ذكرت له في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه، فقال هذا القول.

(أنها رأت في كنيسة)، الكنيسة هي معبد النصارى، أي: المكان الذي يتعبدون فيه، فأخبرت أنها رأت فيها تصاوير، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح)، أما قوله: (الرجل الصالح أو العبد الصالح)، فهذا شك من الراوي هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: العبد الصالح أو قال: الرجل الصالح؟ وكلاهما بمعنى واحد، والمعنى أنه إذا مات فيهم الصالح صوروا صورته، ووضعوها للتذكر كما هو في القصة الماضية، والهدف أن تذكر بأعماله فيجتهد كاجتهاده، هذا في الأصل، ثم بعد ذلك كانوا يتبركون به، وربما يكون لإحياء ذكراه وتعظيمه.

والصور إذا صورت وعلقت للتعظيم فهذا من أكبر المحرمات، ومن أكبر وسائل الشرك التي تدعو إليه، فالمقصود أنه أخبر أنهم شرار الخلق عند الله، بسبب هذا الصنيع، وهو اتخاذ التصاوير مع العبادة عندها، ومثل ذلك كون الإنسان يقصد قبراً ويصلي عنده أو يقصد قبراً ويدعو الله عنده، فيكون داخلاً في شرار الخلق، فهذا وجه الدليل من ذلك، وهو واضح.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (في الصحيح) أي: الصحيحين، قوله: (أن أم سلمة) هي: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل : ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، ماتت سنة اثنتين وستين.

قوله: (ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والكنسية بفتح الكاف وكسر النون : معبد النصارى.

قوله: (أولئك) بكسر الكاف خطاباً للمرأة.

قوله: (إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح) هذا -والله أعلم- شك من بعض رواة الحديث: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا؟ ففيه: التحري في الرواية، وجواز الرواية بالمعنى.

قوله: (وصوروا فيه تلك الصور) الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنسية.

قوله : (أولئك شرار الخلق عند الله) وهذا يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك كما سيأتي]

وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال يقولون: يستحب البناء على القبور، وفيه أجر، ويدعون الناس إلى بذل الأموال في ذلك، وإلى فعل هذا، وهذا في الواقع مصادمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حجة الفاعل الذي يفعل مثل هذا إذا وقف بين يدي الله؟ يقول: غرني فلان! قال لي: إنه يستحب فاتبعته! هذا لا يفيد؛ لأن فلاناً ليس رسولاً، كل إنسان كلف أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وأن يتعرف على قوله، وإذا جاءه إنسان يقول له: هذا الأمر مستحب أو فيه فضل؛ يقول: ما الدليل من قول الله أو قول رسوله؟

وربما لبس عليه إذا كان ما عنده علم؛ لأن هؤلاء عندهم شبه وزيغ، ويريدون أموراً معينة، فيضلوا الناس بها؛ ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أخوف ما يخاف على أمته جدال منافق عليم بالقرآن، فبين أن المنافق يكون عليم اللسان بالقرآن، ولكنه يكون ضالاً، فلا بد من الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا بد من الاهتمام بذلك، يجب أن يهتم الإنسان بأمر دينه أكثر من اهتمامه بأمر دنياه في جلب الأموال وتحصيلها، فتكون همته بما يقدم في صحائفه، ويعمر به قبره أكثر مما يعمر به بيته؛ لأن البيت لبثه فيه ليس كثيراً في الواقع، وإن لبث ستين سنة أو سبعين سنة لكنه سيلبث في قعر قبره مئات السنين، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا مات صار نسياً منسياً، كلا، هو حي في الواقع، ولكن في حياة أخرى، وإلا فهو حي، إما أن يعذب وإما أن ينعم، ولا يجوز أن ينسى الإنسان مستقبله.

وأهم شيء أن تكون عباداته صحيحة، وعلى وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا أهم شيء، وليس المهم أن يكثر من العبادات، لا، المهم أن تكون عباداته صحيحة، وأن يؤدي الواجب مثل الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، والحج، فإذا أدى العبادة صحيحة فهو من أهل الجنة بلا شك، إذا جاء بها كما ينبغي، ولا يلزم أن يقوم الليل، وأن يصوم النهار، وأن يتصدق بأمواله، ليس هذا بلازم، وأهم شيء أن تكون عبادته كلها لله خالصة.

الدين الإسلامي مبني على الإخلاص والمتابعة

العلماء يقولون: الدين الإسلامي مبني على شيئين:

أن تكون العبادة خالصة لله، وأن تكون العبادة موافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ما نعبد الله إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الكثرة فهي أمر آخر، الكثرة لا شك أنه يتحصل بها العبد على الدرجات العالية، لكن إذا نجا الإنسان من العذاب وسلم فقد فاز: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] مهما كان عمله، ومهما كانت درجته، دع عنك التفاوت في الدرجات، المهم أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة، والشقاء الأبدي أن يموت الإنسان مشركاً، هذا هو الشقاء في الواقع؛ ولهذا: يجب على الإنسان أن يعتني بذلك كثيراً، فكيف مثلاً بعلماء يكتبون الكتب في التفسير، وشروح الحديث، وفي الكلام، وفي الفقه وأصوله وغيرها، ويدعون الناس إلى عمارة القبور والبناء عليها والعكوف عندها عكس ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف يكون هذا؟! من للإنسان إذا اغتر بهؤلاء؟!

الإنسان ليس معذوراً، ولا ينفعه إذا قال يوم القيامة لربه: رب هؤلاء غروني وأضلوني كما أخبر الله جل وعلا أن الضعفاء يقولون للملأ من الكبراء والقادة الذين يقودونهم: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ هل يكفي هذا؟ ما يكفي، يقول الله جل وعلا: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38] لهم ولكم؛ لأنكم ما كلفتم أن تتبعوهم، فالمسألة واضحة في الواقع، الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن إسراج القبور، ويلعن من أسرجها، ومن جصصها، ويأمر بتسويتها، ثم يأتي هؤلاء ويأمرون بعمارتها، والبناء عليها، والإسراج عليها، وإذا قيل لهم؛ قالوا: الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي ضعيف! هل الذي في صحيح مسلم ضعيف وقولهم صحيح؟ هكذا يقولون صراحة.

فالضلال ما له حد، ويجب على الإنسان أن يكون على بصيرة من أمره، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر وبلغ، وقامت الحجة على الناس ببلاغه، فلا حجة لإنسان على ربه بقول فلان أو فلان.

علة لعن النبي صلى الله عليه وسلم النصارى في اتخاذ القبور مساجد

قال الشارح رحمه الله: [قال: قال البيضاوي : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثاناً؛ لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبي : وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أعمالهم الصالحة؛ فيجتهدوا كاجتهادهم؛ ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها؛ فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك؛ سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك.

قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ذكره المصنف رحمه الله تنبيهاً على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل، فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذه العلة -التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور- هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيلٍ يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد.

فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد.

كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون فيها الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون، سداً للذريعة.

وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله.

فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.

فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها]

نهي الرسول صلى الله عليه وسلم ولعنه للذين يبنون على القبور مساجد ليس لأجل نجاسة المقابر أو نجاسة القبر التي يزعمون أنها بسب الصديد؛ ولهذا لا يوجد فرق بين كون المقبرة قديمة أو حديثة، ولا يوجد فرق -على القول الصحيح عند العلماء الذين فهموا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم- بين كونها قبوراً متعددة أو قبراً واحداً، ولا يوجد فرق من كون المسجد إذا وضع فيه قبر أن يكون في قبلة المسجد أو خلفه أو يمينه أو شماله، بل الصلاة عند القبور باطلة إذا كان المسجد بني على القبر أو وضع القبر فيه، ولكن إذا كان المسجد سابقاً وجب أن يزال القبر، فينبش ويذهب به إلى المقبرة، أما إذا بني المسجد على القبر فيجب أن يهدم المسجد؛ لأنه وضع وضعاً غير شرعي مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، وكل هذا خوفاً من أن يتعلق قلب المسلم بغير الله جل وعلا، وقد علم كيف صارت المقابر معابد وأصناماً تقصد بسبب تعظيم القبور؛ ولهذا نهى صلوات الله وسلامه عليه أن ترفع القبور، وأن يزاد عليها غير ترابها، بل أمر أن تسوى بالأرض.

وكذلك نهى عن تجصيصها أو إسراجها وهذا في صحيح مسلم، وفي سنن أبي داود زيادة الكتابة عليها، وكل هذا لأجل ألا تكون وسيلة إلى عبادتها وإلى دعاء من فيها، فإن هذا من أعظم ما يصد عن عبادة الله، ومن أعظم وسائل الشرك، حتى يكون ذلك شركاً صريحاً كما هو واقع من كثير من الناس.

ولكن إذا لم يفهم الإنسان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، وأن الدين يجب أن يكون لله وحده، ولا يكون منه شيء لغيره، فإنه يقع في المخالفات وفي المصادمات كما ذكر، يعني: المحادة لله ولرسوله، والمحادة: هي أن يعلم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه، ويكون مقابلاً لأمره تماماً، يخالفه قصداً سواء طلب التأويل أو لم يطلب، كما هو فعل كثير ممن يدعون إلى الوثنية، وثنية ليست كوثنية الجاهلية بل أعظم؛ لأنهم في الواقع أشركوا في أصحاب القبور شرك العبادة وشرك الربوبية، وقد كان المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعقل منهم بكثير، حيث علموا يقيناً أن التصرف لله وحده، وأن هؤلاء يستشفى بهم، وجعلوهم وسائط بينهم وبين ربهم، أما هؤلاء فصاروا يزعمون أن المدفونين في هذه البقاع يتصرفون، ويجلبون النفع، ويدفعون الضر بأنفسهم، وأن البلد الفلاني تدفع عنه الآفات والكوارث لأجل قبور الصالحين، هكذا يقولون، وهذا شرك لم يقع فيه المشركون القدامى.

حكم البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها

قال الشارح رحمه الله: [وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها؛ متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة]

الواقع أن الخلاف موجود عندهم، ولكن خلاف المتأخرين في مثل هذه المسألة ينبغي ألا يلتفت إليه؛ لأنه مخالف لنصوص الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، وهذا تمام المخالفة، وإذا خالف قول الإنسان قول الله جل وعلا أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يؤخذ به، بغض النظر عن صاحب القول؛ لأنه قد يكون مثلاً جهل هذا الشيء أو التبس عليه، وقد يكون له عذر، وقد لا يكون له عذر، ولكن الإنسان إذا علم قول الله جل وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يأخذ بقول الله وقول رسوله، ولا يلتفت إلى قول القائل مهما كانت إمامته وعلمه.

ومن المعلوم أن أئمة الهدى من الأئمة الأربعة وغيرهم من أقرانهم وأتباعهم من علماء المسلمين لا يقصدون مخالفة الله جل وعلا، ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما حصل التعلق بالقبور والتعبد عند أصحابها وقصدها إلا في الأزمنة المتأخرة، وأما ما يذكر في كتب الفقه من مجرد الكراهة فالمقصود به التحريم، فمثلاً في المدونة أو في غيرها من الكتب التي يزعمون أنها لأصحاب المذاهب من الأئمة الكبار، يذكرون أن هذا مكروه، وأن الصلاة في المقبرة مكروهة، فيأتي من بعدهم ويقول: الكراهة هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم؟ ويختلفون في هذا، وهذا يجب ألا يلتفت إليه؛ لأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم صريحة في ذلك، ولا نحتاج إلى قول فلان فيها، ولا قول فلان، الإنسان إذا استبان له قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يأخذ بقول أحد من الناس مهما كان، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول ذلك لأنه كان بجوار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولاً وجب اتباعه وأخذه، والله جل وعلا يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] .

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله على هذه الآية بعدما ذكر أقوال بعض الأئمة: إن الفتنة المقصود بها هنا الشرك، فإن الإنسان إذا رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يزيغ قلبه؛ فيكره الحق، ويؤثر الباطل على الحق؛ فيكون بذلك عابداً لهواه أو عابداً لمتبوعه، وأما العذاب الأليم فهو العذاب العاجل في الدنيا قبل الآخرة، أما الآخرة فالأمر أشد من ذلك وأعظم.

ولهذا يقول الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الحديث وصحة سنده يذهبون إلى قول سفيان . ويقصد بسفيان سفيان الثوري رحمه الله الإمام المشهور، قال يذهبون إلى قول سفيان والله جل وعلا يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ثم يقول: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله يرد بعض قوله فيقع في قلبه زيغ فيهلك.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأمر بمتعة الحج، فقيل له: إن أبا بكر وعمر ينهيان عن المتعة، فقال: أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعترضون علي بقول أبي بكر وعمر ؟ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. هذا وهو قول أبي بكر وعمر فكيف بقول إنسان متأخر قد قل نصيبه من العلم؟! وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بهوى النفوس واتباع الشهوات، وإنما تعظيمه صلوات الله وسلامه عليه باتباع أمره.

وكذلك محبته صلوات الله وسلامه عليه تكون باتباع أمره وطاعته، ليس بالدعوى، ولا بالبدع وإحداث أمور يكرهها صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان يقول في خطبه وفي كل مناسبة: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها) دائماً يردد هذا!

في صحيح مسلم أنه صلوات الله وسلامه عليه قال (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فإذا كان الأمر الذي هو عبادة يُتقرب به إلى الله لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه لا خير فيه، لا يقبل ولا يثاب عليه، وهذا في مجرد البدع، فكيف إذا كان الأمر فيه تعبد لغير الله، وفيه صرف حق الله جل وعلا لمخلوق ضعيف؟! هل من فعل هذا عرف الله؟ هل قدر الله حق قدره؟ تعالى الله وتقدس!

مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [نوح:13-15] ما أحقر الإنسان! ما أحقر الخلق كلهم بالنسبة لله جل وعلا! ولهذا إذا صار يوم القيامة وجمعهم جل وعلا في صعيد واحد؛ يتبين الغبن العظيم، الذي لو قدر أن إنساناً يموت بسببه لمات الخلق، ولكن لا موت، يعضون على أيديهم من الندامة، ويعودون على الذين كانوا يصرفون إليهم هذه الأمور بالبغض والكراهية، بل باللعن، ولكن إذا كانوا لم يأمروهم بهذا ولم يدعوهم إليه فهم برآء من أفعالهم، كما أخبر الله جل وعلا عن الملائكة وغيرهم من الأنبياء والصالحين عندما يقال لهم: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40] تقريراً لوقوع العذاب بهؤلاء العابدين، فيوجه السؤال أولاً إلى المعبود: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40] فيقولون: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ:41] الجن هي التي أمرتهم، ولا يلزم أن تكون عبادة الشيطان نفسه بأن يتجسد أمامهم ويسجدون له، ولكن من يطيع أمره بالمعصية فهو عابد له.

حق الله هو أن يكون التعلق والتعبد والرجاء والخوف والإنابة والتوبة وغير ذلك كله له، ليس لأحد من الخلق فيه شيء؛ لأنه خلق عباده ليعبدوه، فيجب أن يحمى هذا الجانب كما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصانه، غير أن عدم الاهتمام بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به هو الذي يوقع في الخلل والنقص، ثم يوقع في الشرك نسأل الله العافية، وإلا فكيف يتصور الإنسان أن أناساً يتحصلون على أعلى شهادة اليوم في العلم، ثم يصبح أحدهم يقرر الشرك الذي يقع عند القبور، بل يقولون: إنه مستحب؛ لأنه توسل، أين العلم؟ وما فائدة العلم إذا كانت هذه هي النتائج؟!

ثم هذا الكلام وهذه التقريرات تقدم للمطابع فتطبعها، ثم تنشر على العالم الإسلامي، وليس كل الناس في العالم الإسلامي يميز بين الحق والباطل، كثير منهم يغتر بالاسم، إذا رأى على الكتاب: الدكتور الفلاني، أو العالم الفلاني الذي من صفته كذا وكذا؛ تمسك بهذا، وصار كأنه متيقن بأن هذا حق؛ لأنه عنده كتاب، وهذا لا يكون معذوراً؛ لأن الناس كلهم يجب عليهم أن يأخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينفعهم قول الدكتور الفلاني أو العالم الفلاني، كما أخبرنا ربنا جل وعلا أنه إذا كان يوم القيامة يقول الأتباع لأتباعهم: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا [الأعراف:38] ما يفيد، الله جل وعلا يعذب الجميع وتقول الملائكة: قد جاءكم الرسل فلماذا ما أجبتموهم؟ هل هؤلاء رسل لكم؟ هل جاءوكم بسلطان؟ هل جاءوكم بوحي من عند ربكم؟ ليس لأحد الحجة على الله جل وعلا.

ثم إن هذا الشيء لا يجوز التفريط فيه، ويجب الاهتمام بذلك؛ لأن الأمر خطر جداً، أخطر من أن يتصوره الإنسان الذي لا يعرف الحقائق، وذلك أن الإنسان قد يكون على شيء يظن أنه حق، ثم يموت عليه وهو باطل فيهلك، فهل يمكنه أن يعود مرة أخرى ليصلح ما فسد؟ كلا، العمر واحد، فإذا لم يحسن وضعه وقصده ونيته وعبادته لربه جل وعلا في هذه الحياة فإنه إذا مات لا يفيده كونه تعلق بفلان أو فلان أو اغتر بفلان، وكل إنسان مسئول، والله جل وعلا أخبر عن الرسل أنهم يسألون: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109] الرسل يجمعون ويسألون أولاً، لماذا لم تجابوا؟

الأمر شديد جداً، الرسل ليس لهم سلطة على الخلق، الرسل جاءوا يبلغون الرسالة فقط، ولكن ليسألهم حتى يعلم الجاني خطر موقفه، وأنه يستحق أليم العذاب، وهكذا في كل مجرم، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه يسأل البنت المقتولة التي تدفن حية أولاً قبل الفاعل: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9] تسأل بأي ذنب قتلت؟ وهل تستطيع هي أن تدافع عن نفسها أو تأتي بالحجج؟ لا، فكيف بالقاتل؟ ماذا يقال فيه؟!

كذلك الذين جاءتهم الرسل ما لهم حجة؛ إذ إن الرسل بينوا ووضحوا كما أمرهم الله جل وعلا، ولا نحتاج إلى بيان بعض الناس الذين فروا سواء قصدوا الفرار أو أنهم وقعوا في التكذيب الأعمى، والتعصب الشديد لفلان وفلان، فإن النفوس تحمل صاحبها على الهلاك والتعصب، حتى إنه من العجب أنه قيل لبعضهم وهو في مقام الذم لبعض أهل العلم والقدح فيهم: يا فلان! اتق الله فإننا نرجو أن الله جل وعلا يجمعك مع خصمك هذا في الجنة. فقال: الجنة التي يكون فيها فلان لا أريدها! هذا كلام فيه شدة التعصب والبغض لبعض الأمور -وهي حق-، فيؤدي هذا إلى أن يقول مثل هذا القول، ويرى أنه على علم وحده، وهو في الواقع على جهل مركب، يعني: جاهل ويجهل أنه جاهل، وهذه مصيبة!

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

الله جل وعلا خلق الخلق لعبادته فقط، وليس لعبادة القبور، ولا لعبادة الأنبياء، ولا لعبادة أحد من الخلق، العبادة الخالصة هي حقه، ولا يقبل الله العبادة إذا كان فيها شيء من الشرك، بل يردها كلها، كما في الحديث القدسي أن الله جل وعلا يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

قال الشارح: [وطائفة أطلقت الكراهة، والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم؛ إحساناً للظن بالعلماء، وألا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لعن فاعله والنهي عنه]. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ قبره مسجداً

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عنها -أي: عن عائشة - قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذرهم ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجاه].

(لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم) المقصود بقوله: (نزل) يعني: نزل الموت به، والخميصة: هي الكساء الذي يلتحف به، وقد يوضع على البدن، وقد كان على وجهه، (فإذا اغتم) يعني: ضاقت نفسه لشدة الكرب الذي يكون قبل الموت، وهذا يدلنا على أنه صلوات الله وسلامه عليه كان عنده نزع شديد؛ ليتضاعف أجره صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك ما نسي أمته، وقد سبق أنه قال قبل ذلك كلاماً يحذر من اتخاذ القبور مساجد، فلما أخبرته أم سلمة عن الكنيسة التي رأتها في الحبشة وما فيها من التصاوير قال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو قال: العبد الصالح- بنوا على قبره مسجداً -أي: كنيسة- وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق)، يحذر أن تقع أمته في هذا الشيء، ومعلوم أن كنائسهم بمنزلة المساجد، ولهذا جعل المؤلف هذا دليلاً على الترجمة التي ترجمها، فلا يجوز أن يتعبد لله عند القبور، وإن كانت العبادة خالصة لله، ولكن المكان ممنوع أن تقع فيه العبادة؛ خوفاً أن يكون هذا التعبد وسيلة إلى أن تصرف العبادة لغير الله.

فبينما هو كذلك، وهو في هذه الحالة إذا اغتم ألقى الخميصة عن وجهه قال هذا القول: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، ولماذا في هذه الحالة وفي هذا الوقت يقول هذا القول؟ كل من عرف الحالة، وسمع القول، عرف مقصوده صلوات الله وسلامه عليه، فهو يحذر أمته مما وقعوا فيه، وهذا من كمال تبليغه وتمام نصحه صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: (لولا ذلك لأبرز قبره)، هذا ليس من قوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول عائشة أو قول غيرها، (لولا ذلك لأبرز قبره) يعني: وضع في البقيع مع أصحابه، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً، وما كانوا يخشون أنهم يعبدونه، فالصحابة لا يعبدون الرسول، ولكن يخشى أن يأتي من لا يعرف هديه وأمره فيقصد قبره للتعبد عنده، فيكون بذلك مخالفاً لما قاله صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا دليل على أنه ما ذكر لهم مكان قبره، وإنما دفنوه في بيته صلوات الله وسلامه عليه باجتهادهم، مع أنه جاء عن أبي بكر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الأنبياء يدفنون في المكان الذي ماتوا فيه) فدفنوه في المكان الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه، وهو في حجرة عائشة في بيتها؛ لأنه أول ما حصل له المرض صار كل يوم عند زوجة من زوجاته، يقسم بينهن وهو مريض، فلما شق عليه ذلك جمعهن واستأذنهن أن يكون مرضه في بيت عائشة فأذنَّ له، ولو لم يأذنَّ له ما فعل ذلك، فصار في آخر الأمر في بيت عائشة ، والبيت عبارة عن غرفة واحدة فقط، كل واحدة من زوجاته التسع لها غرفة، وكان يقسم لهن إلا سودة لأنها وهبت يومها لـعائشة؛ تلتمس رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعرف أنه يحبها، فوهبت لها يومها، فصار يمكث عند عائشة يومين، فالمقصود أن كل واحدة منهن لها غرفة واحدة، والغرفة قد لا تتسع إلا للسرير وللأغراض التي لا بد منها، كالإناء الذي يتوضأ به وما أشبه ذلك، ولهذا لم تتسع هذه الغرفة إلا للقبور الثلاثة فقط، وكل واحد صارت رجلاه عند رأس الآخر حتى تكون واسعة لهم.

الكلام على حديث (ما بين بيتي ومنبري) وتصرف الرواة فيه

جاء حديث في صحيح البخاري: (ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة) والظاهر أنه مغير من الراوي، الراوي نفسه غير لفظه، بدليل أنه جاء في الرواية الأخرى: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) فغير بعض الرواة بدل البيت (القبر)، ولو كان هذا ثابتاً ما اختلف الصحابة في مكان دفنه، وهذا نص صريح، وجاء عن عدد من الصحابة رووه، فدل هذا على أن اللفظ قد غير، وأن الصواب: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة) كما هو في بعض الروايات التي في الصحيح أيضاً.

قوله: (ولكن خشي) جاءت هذه الكلمة مضمومة الخاء ومفتوحة الخاء، (خَشي، وخُشي)، فإذا كانت بالضم فمعنى ذلك أن الصحابة هم الذين خشوا ذلك، أما إذا كان بالفتح فيكون صلوات الله وسلامه عليه هو الذي خشي ذلك، وهذا بعيد؛ لأنه لو وقع ذلك لما صار عندهم خلاف أين يدفنوه، فإنهم اختلفوا في دفنه حتى روى لهم أبو بكر رضي الله عنه الحديث.

والإبراز هي العادة التي جرت بينهم، فما اعتادوا أن أحداً يدفن في بيته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم خشي أن يقع ما وقع، وهذا في الواقع وقع لغيره ممن لا يدانيه، بل لا يداني لباسه الذي يكون عليه، بل لا يداني نعاله صلوات الله وسلامه عليه، فلا أحد يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كان.

فلا شك أن الفتنة تكون في هذا أقرب وأكثر؛ لهذا يوجد الآن كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد كما ينبغي؛ لو مكن من حمل ترابه وأكله والسجود عليه لفعل، كثير من الناس لو يتمكن من أكل التراب الذي على قبره لأكله، ولو يتمكن أن يسجد عليه لسجد، ويرى أن هذا هو غاية المنى؛ لجهلهم بدين الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يحبه وما يكرهه، فهذا مكروه، بل هو من أبغض ما يكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من أن يعبد قبره

حمى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم وصانه من أن يعبد، وقد كان يقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك) ولهذا كره الأئمة التردد إليه للزيارة، والإمام مالك رحمه الله كره أن يقول الإنسان: زرت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: ما ينبغي هذا، وليس قبر الرسول صلى الله عليه وسلم كقبر غيره، فصانه الله جل وعلا وحماه أن يسري إليه الناس، فبالغ السلف في حمايته حتى بنوا عليه حيطاناً، وأغلقوها من جميع الجهات، من السقف ومن الجوانب كلها مغلقة، ولا أحد يصل إليه، ثم بني جدران عن يمين القبر وشماله، جدران ينحرفان حتى ينتهيان بزاوية من جهة الشمال؛ لئلا يستقبل في الصلاة، ولكن غير هذا، ثم غير بالشبك الذي وضع عليه، فصار الناس يستقبلونه، والإنسان له نيته وقصده، فإذا كان في استقباله يقصد القبر فله هذه النية، والإنسان يحاسب على نيته، فإنما الأعمال بالنيات.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: ولهما عنها -أي: عائشة رضي الله عنها- قالت : (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجاه].

الصواب أن يُقال: (خُشي)، هذا هو الراجح، وإن كان بعض العلماء ضبطوه (خَشي)، فإذا كان (خَشي) فهو الذي أمر بذلك، ولكن هذا بعيد؛ لأنهم لو كانوا يعلمون أمره لما حصل خلاف بينهم في موضع دفنه. والله يلعن من يشاء، كما أنه يرحم من يشاء، والملعون من حقت عليه اللعنة، واللعن معناه: الطرد والإبعاد عن الرحمة ومظانها، فإذا صار الإنسان ملعوناً فمعنى ذلك أنه مطرود مبعد عن الخير كله، وعن رحمة الله، وإذا طرد عن رحمة الله فمعنى ذلك أنه من أشر الخلق نسأل الله العافية.

والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن من يلعنه الله، فالذي استحق اللعن يُلعن، ولكن قد يلعن قوماً؛ لأنهم يستحقون ذلك، ثم تتغير أحوالهم ويتفضل الله جل وعلا عليهم بالتوبة، كما سبق في قصة أحد أنه لعن عدداً من رؤساء الكفار، ثم تاب الله عليهم بعد ذلك، فمثل هذا في بيان الأحكام يدل على أن فعل هذا من الكبائر، ما يلعن إلا من خالف أمر الله أو أمر الرسول؛ لأن هذا في بيان الأحكام، وليس لعن شخص معين فعل فعلاً معيناً، فلعن هذا أمره أعظم؛فكل من فعل هذا فهو داخل في اللعنة، فإذا فعل شيئاً من ذلك فهو داخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسواء قلنا: إن اللعن خبر يخبر به عن الله أنه لعنه، فخبره صدق وحق، أو قلنا: إنه دعا عليه بأن الله يلعنه، والأول هو الصواب؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يبين ما أنزل إليه.

التحذير من اتخاذ القبور مساجد ومعناه

قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (ولهما) أي: البخاري ومسلم وهو يغنى عن قوله -في آخره- (أخرجاه).

قوله: (لما نزل) هو بضم النون وكسر الزاي، أي: نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام.

قوله: (طفق) بكسر الفاء وفتحها، والكسر أفصح، وبه جاء القرآن، ومعناه: جعل.

قوله: (خميصة) بفتح المعجمة والصاد المهملة: كساء له أعلام.

قوله: (فإذا اغتم بها كشفها) أي: عن وجهه.

قوله: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى ]

ليس معنى الأعلام التي في الخميصة الصور، وإنما معناها: النقوش والزين المخيط عليها بالتطريز، فهذا هو المعنى المقصود، وليست الصور.

قال الشارح رحمه الله: [ قوله : ( يحذر ما صنعوا ) الظاهر: أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها؛ لأنها فهمت من قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك.

ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليه -تحذيراً لأمته أن يفعلوه معه صلى الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته- قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله.

قال القرطبي في معنى هذا الحديث : وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام. انتهى

إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف بن يعقوب حيث قال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف:38] نكرة في سياق النفي تعم كل شرك.

قوله: ( ولولا ذلك ) أي: ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسجداً لأبرز قبره، وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع.

قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) روى بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه، وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، فلم يبرزوا قبره؛ خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلواً وتعظيماً بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ولعن فاعله.

قال القرطبي : ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأغلقوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة؛ فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال؛ حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. انتهى].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [60] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net