إسلام ويب

لقد أثنى الله جل وعلا على الصحابة في كتابه ثناء كثيراً، وشهد لهم بأنهم مؤمنون متقون سابقون، وأخبر أنه رضي عنهم وأنهم رضوا عنه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المناسبات التحذير من بغض أصحابه وسبهم وتنقصهم، وبين أن الذين يبغضون الصحابة هم في الأصل يبغضونه صلى الله عليه وسلم ويبغضون ما جاء به من عند الله تعالى.

حديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.... )

قال المصنف رحمه الله: [ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فقال صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ( يدوكون ) أي: يخوضون ].

هذا الحديث كسابقه في الصحيحين.

قوله: (لهما) أي: للبخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يشتكي عينيه -أي أرمد- فأرسل إليه فأتي به يقاد، فبصق في عينيه فبرأ، ثم دفع إليه الراية وقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وفسر المؤلف (يدوكون) بـ(يخوضون).

غزوة خيبر وقعت في أول السنة السابعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب لعمرة الحديبية في السنة السادسة في ذي القعدة ورجع في ذي الحجة، فحال المشركون بينه وبين دخول مكة أنفة وحمية، وقد ساق الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاً كثيرة يريد أن ينحرها عند البيت هدياً، فأبوا أن يدخل مكة، فحصل صلح بينه وبينهم بأن توضع الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنوات، فحصلت مهادنة وكتبوا الصلح، وفي هذا الكتاب: من أراد أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل -أي: من قبائل العرب- ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل. فدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض القبائل القريبة من مكة، وهم خزاعة، وبعضها دخل مع قريش وهم بنو بكر، ثم بعد انقضاء كتابة الصلح ورجوعه إلى المدينة أنزل الله عليه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]... إلخ السورة، وفيها وعد الله جل وعلا للمسلمين بغنائم يأخذونها، وأنه عجل لهم هذه -لغنائم أشار إليها- فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذه الغنائم هي غنائم خيبر، وأنها قريبة، وأمره الله جل وعلا ألا يخرج معه إلا من حضر الحديبية، ولهذا لما خرج من المدينة أبى على الأعراب الذين جاؤوا يستأذنونه للخروج معه لأمر الله جل وعلا، يقول ابن إسحاق : فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بقية ذي الحجة عشرين يوماً وأول المحرم، ثم خرج إلى خيبر، وكانت حالتهم ضعيفة، حتى إن بعض اليهود الموجودين في المدينة لما علموا بذلك صاروا يتعلقون بكل من لهم عليه دين حتى لا يخرج، وحصلت أشياء من هذا القبيل ذكرت في الأحاديث والسير، وكل ذلك ليمنعوا من يستطيعون خروجه إلى أصحابهم.

وكان اليهود بالعكس عندهم قوة واستعداد، وقد كانوا يتدربون لما سمعوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغزوهم، فصاروا كل يوم يخرجون ألفاً منهم يتدربون على القتال والسلاح الذي معهم، وكانوا يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع لهم لكثرتهم؛ لأنهم يبلغون أضعاف أهل المدينة، وهم أقوياء، ولهم أيضاً حلفاء وهم غطفان.

فوصل الرسول صلى الله عليه وسلم قرب خيبر بعد العصر، فأمر بالأزواد أن يؤتى بها فلم يوجد إلا السويق، فجئ بالسويق فعجن بالماء فأكل من أكل، وكان عندهم عوز شديد، ثم قال للأدلاء: من الذي يذهب بنا فنأتي خيبر من جهة الشام حتى نحول بينهم وبين حلفائهم. وذكر القصة، وأنه قاتل أول يوم وثاني يوم وثالث يوم.

قصة فتح خيبر

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرمد، وقد تخلف في المدينة، ثم بعد ذلك لام نفسه وقال: كيف أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج وهو أرمد راكباً، وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: ما كنا نرجو أن يأتي علي ، فلما كانت تلك الليلة إذا هو قد جاء وعيناه لا يرى بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد مضي بعض الأيام في القتال: (لأعطين الراية غداً ..)، وهذا يدلنا على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم راية، وقد جاء أن الراية اتخذت في تلك الغزوة، وأنها سوداء، وأنها من ثوب لـعائشة رضي الله عنها، وأنه مكتوب فيها: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وجاء أن له لواء أيضاً، وأن لواءه أبيض، وقد تعددت الرايات في تلك الغزوة، حتى صار للأنصار راية ولغيرهم راية، فعندما قال هذه المقالة وهي بشرى، والمسلمون بحاجة إلى الفتح حاجة شديدة؛ لأنهم بأمس الحاجة إلى الطعام، ثم قد أصيبوا بالحمى الشديدة؛ لأن خيبر كانت موبوءة، وهم نزلوا في أرض رطبة بين أشجار نخيل، فأكلوا من بعض الثمار الرطبة الطرية فأصيبوا بالحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يبردوا الماء بالقرب، فإذا كانوا بين صلاة المغرب وصلاة العشاء أفاضوه على أنفسهم، فشفوا بسبب ما وصف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان هذا الخبر مفرحاً جداً؛ لأنه قال: (يفتح الله على يديه)، فالفتح يفرحهم، ولكنهم نسوه اشتغلوا عنه بما هو أهم عندهم منه، واشتغلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في وصف هذا الرجل: (يحبه الله ورسوله)، أما كونه يحب الله ورسوله فهذا وصف للمسلمين كلهم، فالمؤمنون يحبون الله ورسوله، فلا فرق بين واحد وآخر في ذلك إلا تفاوت المحبة على حسب تفاوت الإيمان وقوته، وإنما الشأن عندهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبه الله ورسوله)، ومعلوم عند الصحابة أن الله يحب المؤمنين ويحب المتقين، وكذلك رسوله، فقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك في آيات كثيرة في القرآن، ولكن سبب حرصهم على هذا أن الرجل عين بعينه، وكل يحب أن يعينه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بمحبة الله أو الشهادة له بالجنة؛ لأن الإنسان لا يثق بعمله مهما كان اجتهاده، ومهما كانت قوة إيمانه، فإنه يجوز على الإنسان أن يخالف بعض المخالفات فيبطل عمله، أو أن الله جل وعلا يرد عمله ولا يقبله، قال عبد الله بن عمر : لو أعلم أن الله تقبل مني حسنة لتمنيت الموت؛ لأن الله جل وعلا يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

فإذا شهد للإنسان بالتقوى وتيقن ذلك أحب أن يلقى الله على هذه الصفة، فلما سمعوا هذا الكلام فمن شدة حرصهم على الخير ورغبتهم فيما عند الله صار كل يتطلع إلى أن تدفع إليه الراية، وجاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم. وقال: لقد رأيتني أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أتطاول لعله يراني فيدفع إلي الراية. ما هو لأجل أن يكون قائداً، أو يكون أميراً، بل لأجل هذا الخبر، أنه (يحبه الله ورسوله)، وكلهم أراد هذا، وهذا دليل واضح على مسابقة الصحابة رضوان الله عليهم إلى ما يحبه الله ورسوله، وإلى ما وعد الله جل وعلا به في الآخرة، وعدم رغبتهم في الدنيا، هذه صفتهم رضوان الله عليهم.

ثناء الله على الصحابة والتحذير من بغضهم وسبهم

وقد أثنى الله جل وعلا على الصحابة في كتابه ثناءً كثيراً، وشهد لهم بأنهم مؤمنون ومتقون وسابقون، وأخبر أنه رضي عنهم وأنهم رضوا عنه، قال الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، وليست السيما التي تكون في الجبهة مختلفة اللون عن لون الجلد، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود بالسيما أثر الخشوع والذل والخضوع والنور الذي يعلو وجوههم من الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد أخبر الله جل وعلا نبيه بأنه سيأتي من يسب أصحابه ويلعنهم، فروي عنه أنه قال: (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره) يعني: علم في ذلك. وإن كان العلم يجب أن يظهر دائماً، ولكن عند الحاجة يتعين أكثر.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من بغضهم ومسبتهم وقال (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وهذا هو الواقع، فالذين يبغضونهم إنما يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يجرؤون أن يصرحوا بأنهم يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصبون البغض على الصحابة، وإلا فالواقع أن البغض يقع للرسول وللإسلام؛ لأن الواسطة بين الأمة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، فهم الذين نقلوا الإسلام إلينا، وهم الواسطة بيننا وبين رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإذا كانوا -كما يزعم الضلال- كفرة مرتدين أصبحنا نحن ضالين؛ لأننا أخذنا ديننا عن كفار، وهذا هو المقصود من الطعن فيهم، فهذا شيء من صفتهم.

وتوجد أشياء كثيرة يجب على المسلم أن يتعرف عليها، فالمسلم اليوم يغزى من كل مكان، وتدبر له المؤامرات لصده عن دينه، فيجب عليه أن يتعرف على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة من كان يناصره ويواليه ويقاتل بين يديه بأمر الله جل وعلا ويبذل ماله ونفسه حتى أظهر الله جل وعلا هذا الدين، فيتولى الصحابة، ويصبح ممتثلاً أمر الله في قوله جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، فيجب أن يكون المسلم بهذه الصفة وعلى هذا النهج الذي بينه الله جل وعلا، وإلا فهو على خطر عظيم، وقد يكون ممن كفر بالله جل وعلا، ولهذا يقول الله عز وجل: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] يقول الإمام مالك رحمه الله: من غاضه شأن الصحابة فهو كافر؛ لقوله جل وعلا: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). وهو شيء ظاهر من الآية.

حرص الصحابة على الخير

لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) باتوا يدوكون ليلتهم، وما ناموا، ومعنى (يدوكون) يخوضون ويتساءلون: من ترون سيعطاها؟ ومنعهم ذلك من النوم، فصاروا يشتغلون بهذا، وكل واحد يرجو أن يكون هو الذي تدفع إليه، فنسوا بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، ثم لما غدوا إليه في الصباح كان كل واحد عنده أمل أن تدفع إليه الراية حتى يكون هو الذي يحبه الله ورسوله، ولكن لم تحصل لواحدٍ من الحاضرين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟) يسأل عنه، وهذا يدلنا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وما عرف أن علي بن أبي طالب كان أرمد يشتكي عينيه، ولهذا سأل عنه: أين هو؟ واستبعد أن يكون ليس في الحاضرين، ولكن غاب لسبب، فأخبروه فقالوا: هو يشتكي عينيه. فأرسل إليه، وفي صحيح مسلم أن الذي ذهب وجاء به هو سلمة بن الأكوع ، جاء به يقوده وهو لا يرى شيئاً؛ لأنه أرمد العينين، فأحضره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفل في عينيه فزال الألم، وصار ينظر كأحسن ما يكون، وجاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعد تفلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشتك عيني، ولم أشتك الصداع. ما أصيب بمرض العينين ولا مرض الصداع لبركة تفلة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه، فتفل في عينيه ودعا له فبرأ وزال عنه المرض، وهذه علامة من علامات النبوة، وآية من آيات الله، وإلا فغير النبي صلى الله عليه وسلم لو تفل في عين إنسان أرمد لزاد مرضه، وكذلك كونه أخبر بأنه يفتح الله على يديه، وهذه بشارة وعلم آخر من أعلام النبوة.

الدعوة إلى الله قبل القتال

لما برأ علي دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم الراية وقال له: (امض على رسلك) يعني: على تؤدة وسكينة بغير عجلة ولا صراخ ولا صياح (حتى تنزل بساحتهم -وفي رواية ولا تلتفت-) حتى يكون هذا دليل التصميم وقوة العزيمة وعدم النكوس، ولهذا لما أخذ علي رضي الله عنه الراية وسار قليلاً وقف فصرخ: علام أقاتلهم يا رسول الله؟! فقال: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم، فإذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه) أي: من حق الله في الإسلام. وهذا هو المقصود في القتال والدعوة إلى الله جل وعلا، من أجل أن الكفار يدخلون في الإسلام ويعرفون حق الله الذي عليهم، وهو ما ذكر في الحديث الذي قبل هذا، أن يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا، ويحجوا، هذا هو المطلوب منهم، فإذا امتثلوا ذلك واستجابوا له وجب الكف عنهم، وصاروا مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فيترك المجاهدون أموالهم وبلادهم، ولا يجوز أن يتعرضوا لهم بشيء، وفي هذا دليل واضح على وجوب الدعوة إلى الله جل وعلا، وأن الدعوة تكون إلى الإسلام أولاً، إلى الأصول، إلى شهادة ألا إله إلا الله كما سبق، ولهذا قال: (ادعهم إلى الإسلام)، ولا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً حتى يشهد ألا إله إلا الله، وقبل أن يشهد ألا إله إلا الله فإن صلى وتصدق وعمل أي عمل من أعمال البر ما يقبل منه، ولا يعتد به حتى يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وفي هذا دليل على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يجب أن يدعوا إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا بد أن يشهدوا أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، بالإضافة إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهكذا كل من كان يدين بدينٍ قد اتخذه مصدر ديانة وتمسك به وزعم أنه هو الحق، فلابد أن يبرأ منه مع شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكن هنا ما ذكر ذلك لأسباب، منها: أن اليهود علموا علماً يقينياً بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومع ذلك ما اكتفى صلوات الله وسلامه عليه بأن يقاتلهم دون دعوة، بل دعاهم قبل المقاتلة، وهذه الدعوة التي تكون قبل المقاتلة قال العلماء فيها: إنها ليست حتماً واجباً على الإمام قبل المقاتلة إلا إذا لم تبلغهم الدعوة، أما إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فيجوز مداهمتهم وأخذهم على غرة، وقتل من يقاتل منهم، وسبي الأموال والذرية، ثم بعد ذلك إذا أسلم من أسلم منهم فهو في حكم المماليك.

والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون -أي: غافلون- يسقون على مياههم، فما علموا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دهمهم وأغار عليهم، وقتل مقاتلتهم وسبى أموالهم وذريتهم؛ لأن الدعوة قد بلغتهم، وكان قد بلغه أن رئيسهم يجمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مقاتلته، فباغته الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وهذه سنته صلوات الله وسلامه عليه التي سنها لأمته، إذا علم أن قوماً يستعدون لقتاله فإنه يغزوهم في بلادهم قبل أن يغزوه؛ لأن الذي يغزى في بلاده يذل، وفي الأثر: (ما غزي قوم في بلادهم إلا ذلوا)، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه يفعل ذلك امتثالاً لأمر الله.

وقوله: (حتى تنزل بساحتهم) الساحة: هي الفناء القريب من البيوت. حيث يسمعون الكلام ويتحققونه إذا دعاهم وكلمهم، فأمره ألا يكلمهم حتى يكون قريباً منهم ليتحققوا كلامه، وأنه لا يبدأهم بالقتال، بل يدعوهم أولاً إلى الدخول في الإسلام، وأن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويخبرهم بما هو حق لله عليهم في الإسلام، وهو ما ذكرنا من وجوب الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، وغير ذلك مما هو فرض متعين، وهذه الأمور الخمسة هي أركان الإسلام التي لا بد منها، ثم إن مما يخبرهم به أنهم إذا قبلوا ذلك فإنه يكف عنهم، ويتركهم وبلادهم وأموالهم، ولا يكون له عليهم من سبيل.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [24] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net