إسلام ويب

الشرك بالله تعالى هو الذنب الذي لم يعص الله تعالى بمثله، فهو منازعة لله تعالى في خصائص إلهيته، إذ بالشرك يجعل ما للخالق للمخلوق، ويشبه المخلوق بالخالق، ولذا كان جريمة وكان عند الله عظيماً، وقد أخبر الله تعالى أنه لن يغفر الشرك به يوم القيامة، مع سعة رحمته تعالى يومئذٍ للعاصين، وذلك لعظم هذا الذنب الذي لا يساويه ذنب.

الشرك وما جاء فيه

الخوف من الشرك وأسباب كونه عظيماً

قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب الخوف من الشرك)

وقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ].

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أخبر تعالى أنه (لا يغفر أن يشرك به) أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك، (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده . انتهى.

فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة، إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله ؛ لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، كما قال تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] ، ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره التي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه قامت القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)، ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً شبيهاً لمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات].

قول المصنف رحمه الله: (باب الخوف من الشرك) يعني: خوف الإنسان أن يقع في الشرك وهو لا يدري؛ فإن الإنسان قد يظن أمراً من الأمور حسناً ومحبوباً إلى الله جل وعلا، ويكون بخلاف ذلك، وذلك لقصور العلم؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يحيط بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما عليه أن يستن بالأهم، فما كان أهم فعليه أن يبدأ به، وهو معرفة حق الله جل وعلا عليه، وهذا لا يتم حتى يعرف ضده، لأن الأشياء تتبين بأضدادها، ومن المعلوم أن الإنسان إذا ما عرف الأمور التي نهى الله جل وعلا عنها فإنه كثيراً ما يقع فيها وهو لا يشعر، وأعظمها الشرك بالله جل وعلا، ووجه الخوف منه من جهتين: الجهة الأولى أن فيه خفاء، كما سيأتينا في الحديث أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة على صفاة صماء في ظلمة الليل، ويقصد بهذا شرك النيات، الشرك الذي يقع في النية والمقصد، وليس الشرك الذي يحدث بالفعل كالسجود والدعاء وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ظاهر جلي، فالإنسان إذا تعلم ما يجب عليه ما يكون عليه خفياً، وإنما الخفي الذي يكون في النية؛ فإن النيات بحر لا ساحل له، والنية تحتاج إلى جهاد دائماً، فالإنسان يعالج نيته دائماً لتكون النية صالحة، وليكون مقصوداً بالعمل وجه الله جل وعلا، ولهذا قد يبدأ الإنسان بعمل يكون عملاً صالحاً ثم يحدث في أثنائه ما يغير ذلك، ثم يتغير في آخره إلى أن يكون صالحاً، حسب جهاد الإنسان نفسه ومكابدته ذلك، ولا بد من المجاهدة، فهذا من جهة.

الجهة الأخرى: كونه مخوفاً لأن الله جل وعلا أخبر أنه لا يغفره لمن مات عليه، وقد يكون هناك من مسائل الشرك الأكبر ما يخفى على بعض الناس، وقد وقع فيها من خواص الناس خلق كثير، فيظنون أنها توحيد وأنها طاعة وهي في الواقع شرك بالله جل وعلا، فقد قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وهذه الآية لا تتعارض مع قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]؛ لأن هذه التي في سورة الزمر في التائب من الذنوب، فكل تائب من أي ذنب كان سواءٌ أكان شركاً أم زناً، أم سرقة، أم شرب خمر، أم ترك صلاة، أم غيرها من أنواع الذنوب، فالتائب من الذنب الله جل وعلا يتوب عليه، وهو المقصود بهذه الآية: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] أما آية سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] في موضعين منها فإنها لمن مات على ذلك، فالإنسان الذي يفعل الشرك فيموت، أو يفعل المعاصي كلها فيموت إن كانت هذه المعاصي التي يفعلها غير شرك فهي تحت مشيئة الله جل وعلا، أي أنه إن شاء أن يغفرها بلا عذاب غفرها، وإن شاء أخذه بها فعذبه، هذا إذا كانت غير شرك، ثم بعد التعذيب تكون عاقبته إلى الجنة، أما إذا كانت شركاً فهو ميئوس منه، فيكون في النار خالداً مخلداً لا يناله من رحمة الله شيء؛ لأن الله جل وعلا قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وفي الآية الأخرى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72]، فأخبر جل وعلا أن الجنة عليه حرام، فمن هنا جاء الخوف من الشرك، ويدل على هذا ما سيذكره من قول الله جل وعلا عن إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، فإبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً يدعو الله ويتضرع إليه أن يجعله في جانب بعيد عن عبادة الأصنام هو وبنيه، ومعلوم أن عبادة الأصنام من الشرك الأكبر، فهو يدعو ربه أن يجنبه الشرك الأكبر، ولهذا يقول إبراهيم التيمي رحمه الله: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم يعني: حيث إن إبراهيم عليه السلام خاف الوقوع في الشرك فكيف بمن هو دونه بمنازل كثيرة جداً في الإيمان والوفاء بعهد الله جل وعلا والقيام بأمره، فإنه يخاف عليه أكثر، ومن هذا القبيل ما سيذكره من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، فسئل عنه فقال: (الرجل يقوم يصلي فيزين صلاته من أجل نظر رجل)، وهذا مثال، وإلا فهذا يسري في جميع الأعمال، ولا سيما الأعمال الظاهرة التي ترى وتشاهد، مثل الصلاة والزكاة والصدقات والحج وغيرها، فإن هذا يحتاج إلى مجاهدة متواصلة مع العمل حتى يكون خالصاً وصافياً لله جل وعلا، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم خاف على سادات الأمة وأولياء الله الذين هم صحابته خاف عليهم من الشرك الأصغر فكيف بمن هو بعيد جداً عن مقامهم وعن أحوالهم وعن علمهم وعن إيمانهم؟ فيخاف عليه أكثر.

ولهذا ذكر هذا الباب لينبه على أن الإنسان يجب عليه أن يحذر من ذلك، يحذر من الوقوع في الشرك، أما الشرك الأكبر فالغالب أن المسلم لا يقع فيه إذا عرف الإسلام حقيقة، فالشرك الأكبر الغالب أنه لا يقع فيه إلا من باب الجهل أو المعاندة أو الهوى، وأما الشرك الأصغر فهو الذي قد لا يسلم منه إلا النادر، والشرك الأصغر وإن كان غير مخرج للإنسان من الدين الإسلامي فإذا وقع في الشرك الأصغر فهو مسلم، إلا أنه من أكبر الكبائر، أعني كونه يقع منه الرياء أو السمعة أكبر من أن يقع منه الزنى نسأل الله العافية، ولهذا قال كثير من العلماء: إنه لا يغفر وإن كان أصغر؛ لأنه داخل في عموم الآية في قوله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فقيد الشرك بأنه غير مغفور لصاحبه، وليس معنى كونه غير مغفور له أنه يكون خالداً في النار، لا. ولكن معناه أنه لا بد أن يعذب على هذا الشرك الأصغر، ولأنه لا يكون به خارجاً من الدين الإسلامي لا يخلد في النار، وإنما الذي يخلد في النار من يكون غير مسلم، والإنسان يخرج بالشرك الأكبر عن الإسلام، فلا يكون مسلماً به، أما الشرك الأصغر -وسيأتي ما هو الشرك الأصغر- فإنه لا يخرج به عن الدين الإسلامي، ولكن بعض العلماء يقول: إنه لا يغفر لصاحبه. يعني أنه لا بد أن يعذب عليه، ثم بعد ذلك بعد ما يلقى جزاءه ويقوم به العذاب الذي يستحقه يخرج من النار إلى الجنة، وهو يكون غير داخل في قوله: ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )، وإنما يدخل في هذا الاستثناء غير الشرك من سائر المعاصي، فدل هذا على عظم الشرك وإن كان أصغر، وإن كان في الواقع أن الإنسان على خطر وإن كان سالماً من الشرك، فإذا وقع في الذنوب فإنه على خطر، والإنسان ضعيف، فكيف يقوم في عذاب الله؟ وعذاب الله جل وعلا لا يشبه العذاب في الدنيا والعذاب المعهود المعروف لنا، والنار ليست كالنار التي بين أيدينا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فضلت نار جهنم على ناركم هذه بسبعين ضعفاً)، ولو كانت هي نفس نار الدنيا لكفت بشدة العذاب، فكيف إذا كانت مضاعفة عليها سبعين مرة بشدة الإحراق وشدة الحرارة، ولهذا يخبر الله جل وعلا عنها بما يكاد الإنسان -إذا صدق به وآمن به- أن يتقطع قلبه خوفاً منها، فعلى الإنسان أن يحذر جميع الذنوب، وأيضاً عليه أن يقوم على نفسه ويحاسبها ويتوب كل وقت، فعندما يأوي إلى فراشه يعلم أنه يموت في هذا الفراش، ويجوز أن يكون موتاً حقيقياً، فعليه أن يحاسب نفسه ويتوب إلى الله جل وعلا، فربما لا يقوم من فراشه، فيحاسب نفسه قبل أن يلقى ربه فيجد الحساب، ويجد الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

فالمقصود أن وجه الخوف من الشرك من هذين الوجهين: الوجه الأول كون الشرك إذا مات الإنسان عليه وكان كبيراً فإنه ميئوس من صاحبه، وهو في النار قطعاً؛ لأن الله أخبر به خبراً جازماً بدون استثناء.

الوجه الثاني: أن الشرك الأصغر كثير جداً، وقد لا يسلم منه إلا النادر من الناس، فعلى الإنسان أن يخاف ذلك وأن يحذره ويجتنبه، وهذا لا يكون إلا بالخوف من الله جل وعلا ومراقبته، وبالعلم والتعلم، فيعرف هذه الأنواع.

والشرك الأصغر يكون في الأقوال، ويكون في النيات، ويكون في الأعمال، وهذا شيء كبير، فالأقوال مثل أن يقول الإنسان: ما شاء الله وشئت. لولا الله وأنت. لولا كذا لكان كذا فيسند الأمور إلى أسبابها، وهذه سهلة عند بعض الناس، وهي في الواقع ليست سهلة، وكذلك كون الإنسان يحلف بغير الله، فيحلف بالنبي، أو يحلف بالكعبة، أو يحلف بالأمانة، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا أيضاً من الشرك، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، ويقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وهو حديث صحيح.

كذلك جاء أنه صلوات الله وسلامه عليه قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، وجاء في تفسير قول الله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22] عن ابن عباس أنه قال: أتدري ما الند؟ الند أن تقول: لولا الله لكان كذا وكذا. وأن تقول: لولا البت في الدار لأتانا اللصوص. وتقول: لولا أن ربان السفينة حاذق لما وصلنا هذا الوقت. يعني مثلما يقول الإنسان: لولا أن السيارة جديدة والسائق جيد ما وصلنا بهذه السرعة. فهذا يقول ابن عباس : إنه من جعل الند لله تعالى؛ لأن الأمور كلها يجب أن تسند إلى الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي أوجد الأسباب وسببها، والأسباب مجرد أمور خلقها الله جل وعلا، ولو شاء لعطلها.

وأما الأعمال فمثلما جاء في الحديث الذي سيأتينا في الرجل إذا حسن صلاته وزينها وأطالها من أجل نظر إنسان آخر إليه، فذلك شرك، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم يقول عن الله جل وعلا: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وأنه يقول جل وعلا للذين يراؤون بأعمالهم يوم القيامة: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم فاطلبوا أجركم عندهم)، وأي أجر عندهم؟ فهذا في الواقع من القصور ومن السخافة ومن رداءة العقل، أعني كون الإنسان يزين عمله لأجل نظر إنسان، فماذا يجد عند هذا الإنسان؟ إنه لا ينفعك بشيء أصلاً، فلا تبال بأحد إذا رآك أو لم يرك، واجعل عملك كله لله جل وعلا خالصاً، ولا تزدد بنظر الناس شيئاً، والمؤمن إذا خلا ازداد اجتهاداً لله جل وعلا وإقبالاً عليه، بعكس المنافق، فإنه يزين أعماله أمام الناس، وإذا خلا بارز الله جل وعلا بالمعاصي وبكل كبيرة -نسأل الله السلامة-، فالمقصود أن هذا شرك العمل.

أما النية فهو كونه يقع في النية، وهذا شيء كثير جداً، فقد يعمل عملاً ينوي به أمراً من أمور الدنيا يحصل له، كالذي يتصدق ليكثر ماله وينمو فقط، أو لتحفظ عائلته عن الكوارث وعن الأمراض، ولا يرغب فيما عند الله، فهذا في الواقع يريد الدنيا، وقد قال الله جل وعلا في وصف حال من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وهذه قد فسرها الصحابة رضي الله عنهم بأشياء عجيبة جداً، وسيأتي الكلام على هذه الآية إن شاء الله.

الشرك منازعة في الخصائص الإلهية

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ....]

أما كون الشرك كبيراً وعظيماً فمن عدة وجوه، منها أنه تشبيه للمخلوق بالخالق، حيث جعل المخلوق إلهاً يعبده، ويجعل له شيئاً من العمل، وهذا وقع في بني آدم كثيراً أكثر من عكسه الذي هو تشبيه الخالق بالمخلوق، فهذا قليل، وأما الكثير فتشبيه المخلوق بالخالق، وهذا من أعظم المحرمات، وذلك أنهم جعلوا بعض المخلوقات بمنزلة الرب جل وعلا فسموها آلهة، أو سموها معبودة، أو سموها قابلة للعبادة وقابلة للنذر، ولو لم يسموها فإنهم يضعون لها العمل، كالذي يقصد القبر ويقول: إنه قبر ولي. ويطلب منه نفعاً أو دفعاً، سواءٌ من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة، فهذا في الواقع جعله بمنزلة الله جل وعلا؛ لأن هذا النفع أمر غيبي لا يملكه هذا المقبور، والمقبور لا يستطيع أن يملك شيئاً، ولا يستطيع أن يسمع دعاء الإنسان، ولو سمع ما استجاب وما استطاع أن يستجيب، فدعوته ضلال، والداعي الذي يدعو مشرك، كما قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6]، وهذا ينطبق تماماً على الذي يدعو المقبور الذي يزعم أنه ولي، فإن هذا لا يدري عن دعوته شيئاً؛ لأنه مشغول إما بالعذاب يعذب وإما بنعيم ينعم، وغافل عن دعوته تمام الغفلة، ولا شعور له بدعائه، وإنما يشعر بدعائه إذا حشر هو وداعيه يوم القيامة، وإذا بعث من قبره وجمع مع داعيه يوم القيامة وقيل له: إن هذا كان يدعوك فهل أنت أمرته؟ عند ذلك يتبرأ منه ويبغضه ويلعنه ويكفر به، كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت:25]؛ لأن كل عابد مع معبوده هذه منزلته يوم القيامة، حتى الملائكة والرسل، فإن الله يحضرهم ويقول لهم: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40] يعني: من الجن والإنس. فيتبرأون ويقولون: يا ربنا! (أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) أي: الشياطين (أكثرهم بهم مؤمنون)، فالشياطين التي أمرتهم بها فصاروا عابدين لها، وفي حديث أبي سعيد الخدري وكذلك حديث أبي هريرة الطويل الذي ذكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة وذكر فيه محاسبة الله جل وعلا لعباده، وهو حديث متفق عليه في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في أثناء الحديث يأتي الله جل وعلا لمحاسبة لعباده فيقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟)، فيسأل الخلق جميعاً وهم يسمعون كلامه، فيقول : (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟).

والجواب أنهم كلهم يقولون: بلى يا رب. فيؤتى بكل معبود ويقال لعابده: هذا معبودك اتبعه. أما الذين يعبدون الأنبياء والملائكة فيؤتى بشياطين على ما يتصور العابدون، فيقال لهم: اتبعوا معبوداتكم فيتبعونها، وهذا قبل أن يقضى بين الناس، وهذا أول القضاء، ويتبعونها إلى جهنم، فتلقى في جهنم ويتبعونها فيها، كما قال الله جل وعلا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]، فهذا قبل كل شيء.

فإذا كان الإنسان يعبد غير الله فهو مشبه ذلك المعبود بالله جل وعلا، وصارف حق الله الذي أوجبه على عباده إلى ذلك المخلوق الذي لا يجديه شيئاً، بل يضره، بل يلعنه ويتبرأ منه إذا حصحص الحق وجيء بالناس للمحاصة والمقاصة والمحاسبة، فكل واحد يتبرأ من الثاني، ولكن لا تفيد البراءة واللعن في ذلك المقام والندامة، انتهى الأمر، وحقت الحاقة.

وكذلك من جهة أخرى كونه تعطيلاً لخلق الله، وذلك أن الله خلق السماوات والأرض، وخلق الجن والإنس ليعبد هو وحده، وإن كان جل وعلا وكل هذا إليهم؛ لأنهم عقلاء وضعت فيهم العقول والأفكار، وجعل الأمر إليهم حتى يفعلوا ذلك عن اختيار فيستحقوا الثواب إذا فعلوه، أو يتركوه عن اختيارهم فيستحقوا العقاب، وليس لهم عذر عند الله، وإلا فالله قادر على أن يجعل الناس كلهم عابدين له، وإنما هذا حتى يبرز ظاهراً للناس كلهم، فمن يستحق الكرامة يكرم، ومن يستحق الإهانة يهان؛ لأنه عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ولا بد من الامتحان، وهذه الدار دار امتحان بالعمل، والعمل يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فإذا جاء الإنسان للعمل على الوجه المطلوب على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به للناس فقد نجح، فيكرم لنجاحه، أما إذا تقاعس عنه أو أعرض عنه ولم يهتم به، أو علم وخالف فهو يستحق الاهانة، وهو خاسر خسارة لا تشبهها خسارة؛ لأن خسارته في جهنم -نسأل الله العافية-، فلهذا يقول الله جل وعلا: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5]، فرد في أسفل سافلين، وإن كان في الواقع يدخل السفل في الخلق في الدنيا، ولكن يظهر في الآخرة بكونه في جهنم؛ لأن جهنم أسفل سافلين، فيرد إليها بعدما كان مخلوقاً في أحسن تقويم له العقل وله الصورة الجميلة وله الفكر، ويتميز عن سائر المخلوقات بهذه الأمور، ولكن ما نفعته إذا ترك أمر الله، فيرد إلى أسفل سافلين، وتصبح الحيوانات أفضل منه، فأخبر الله جل وعلا عن كثير من الناس وكثير من الجن أنه ذرأهم لجهنم، وأن لهم عقولاً لم ينتفعوا بها، ولهم أسماع لم ينتفعوا بها، وأبصار لم ينتفعوا بها، وأن الأنعام أفضل منهم، وأنهم أضل من الأنعام، والأنعام أفضل منهم، فهذا جزاء الذي لا يقبل نعمة الله جل وعلا، لا يقبلها ولا يضعها في مواضعها، فيرد إلى أسفل سافلين، وكل أصل هذا أن يتجه بالعبادة لغير الله جل وعلا، وليست العبادة مقصورة على السجود والركوع والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير وما أشبه ذلك، فالعبادة أعظمها عبادة القلب، حبه وإرادته، وخوفه وذله، وخشوعه وخشيته، فإذا كان القلب متعلقاً بمخلوق من المخلوقات فإنه غالباً يغلب عليه ذلك المخلوق، حتى إنه ربما كان يلعب اللعب الذي يلعبه من كرة أو غيرها ويصبح قلبه عابداً لتلك اللعبة، فيموت عابداً لغير الله جل وعلا، حيث صرف عمله وصرف عمره في هذا الشيء تاركاً وناسياً ما خلق له، وقد تكون عبادته لشهواته لبطنه أو لفرجه أو لوظيفته، وربما تعلق الإنسان بالشيء الذي فرض أن يخدمه وأن يكون خادماً له، مثل المال، فالمال المفترض فيه أن يكون خادماً للإنسان، لا أن يكون الإنسان خادماً له، فالمفترض أن يكون ماله خادماً له لا أن يكون خادماً لماله، وكثير من الخلق يعبد المال، وتكون عبادة المال هي الغالب عليه، كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة)، فيسجدون للدنانير والدراهم، ويسجدون للأكسية والفرش؛ لأن الخميلة كساء، والخميصة كذلك فراش يوطأ بالأقدام، فكيف بالعاقل يكون عبداً لما يدوسه بقدميه؟ ويكون عبداً لها إذا كان قلبه متعلقاً بها وآثرها على طاعة الله، فليست العبودية السجود أو الركوع أو الدعاء، أو كونه يعتقد أن غير الله يؤثر في الكون وفي جلب المنافع ودفع المضار، فالعبادة في الواقع عبادة القلب، وقد يكون الإنسان عبداً لزوجته، وقد يكون عبداً لرئيسه، فإذا أصبح يطيع الزوجة في معاصي الله، وأصبح يترك طاعة الله من أجلها أصبح عابداً لها، فكل من عصى الله في طاعة مخلوق فقد عبد ذلك المخلوق، كما قال الله جل وعلا: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية عند عدي بن حاتم -وكان نصرانياً- قال عدي بن حاتم : يا رسول الله! ما عبدناهم! قال: (بلى. ألم يحرموا عليكم الحلال ويحلوا لكم الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى. قال: تلك عبادتهم) يعني بعبادتهم طاعتهم في معاصي الله، فهذا معناه، وليست عبادتهم السجود لهم والتضرع لهم.

فهكذا يجب على العبد أن يتفقد نفسه، وأن يخلص نفسه من عبادة المظاهر وعبادة الأغراض والأشخاص، وأن يكون عبداً لله حقاً، وتكون عبوديته لله لربه جل وعلا حتى يكون ممن أتى الله جل وعلا بقلب سليم، فهذا هو الذي يكون خالصاً يوم القيامة وسالماً من جميع المخاوف والعذاب.

وأجمع العلماء على أن من مات مشركاً فهو خالد في النار، كما أجمعوا على أن الذي يحكم له بأنه من أهل القبلة من اعتقد الإسلام في قلبه من غير شك أو تردد، ونطق بالشهادتين، وعمل الفروض التي فرضت عليه إذا كان متمكناً، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذا هو الذي يكون من أهل القبلة، وإذا مات على هذه يكون مسلماً، ويحكم له بأنه من أهل الجنة في الجملة، أما إذا كان مقصراً وعاملاً للذنوب فإن كانت هذه الذنوب غير شرك أكبر فيخاف عليه أن يعذب في النار، ولكن يحكم بأنه مآله في النهاية إلى الجنة ولو بقي في النار أحقاباً، وقد يطول البقاء لبعض الناس في النار، فقد علمنا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أن أهون أهل النار رجل -وهو أبو طالب- يوضع في أخمصه جمرات من جهنم يغلي منها دماغه من شدة حرها، وهو يطؤها بقدمه، ولا يستطيع أن يحيد عنها أبداً، فهذا هو أهون أهل النار عذاباً، فكيف بالذي يكون في دركات جهنم؟ وكيف بالذي يكون في أسفلها في الدرك الأسفل منها؟ لأنها دركات بعضها فوق بعض، أليس هذا يستطيع أن يطأ جمرة من جهنم يغلي منها دماغه؟ فهو يرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، وسبب هذا الشرك والكفر بالله جل وعلا.

ومما جعل الشرك عظيماً كونه عطل أمر الله واستهان به واستهزأ به، ومعلوم أن الله جل وعلا إذا أمرنا بأمر من الأمور فعكسنا الأمر كان ذلك سخرية واستهزاءً وتهاوناً، فهنا يستحق من العذاب المضعف، والذي هو يعلم ذلك يعرفه إذا لقي ربه فعرفه بهذا، أما في هذه الدنيا فربما رفع أنفه الإنسان وتكبر، وربما لو كلم ما استطاع أن يسمع للكبر والغطرسة؛ فإن الإنسان عنده من أخلاق السباع والأخلاق التي تنبو عنها الطباع الشيء الكثير إذا لم يهذبها الإنسان وتتهذب بالأخلاق الفاضلة، مع أنه يجب عليه أن يعرف نفسه، فقد كان الحسن البصري رحمه الله جالساً في مجلسه فمر عليه شاب ممن هو مغتر في دنياه عليه حلة يسحبها، فرفع رأسه إليه وقال: يا هذا! اتق الله، فما خلقت لهذا. فكأن هذا أخذه الغرور، فالتفت إليه وقال: أوما تعرفني؟! يعني أنه ابن أمير من الأمراء، فقال له الحسن البصري : بلى -والله- أعرفك. أصلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. يعني: هذا أصلك، وهذا معادك، وهذه حالك، فكيف لا أعرفك؟ فلماذا تتكبر؟ عند ذلك استحيا وأطرق رأسه ومشى.

وهذا للناس كلهم، فكل الناس هذه مصيبتهم، فالإنسان هذا أصله، فكيف يتكبر على ربه إذا كان هذا أصله وهذا مآله؟ يصبح جيفة منتنة، وأهله لا يستطيعون إمساكه إذا مات، وكلهم يسرع إلى التخلص منه، ويخرج من بيته الذي كان يعمره ويتعب على عمارته، يخرج منه في سرعة إلى القبر، ويدفن ويوارى حتى لا يتأذى الناس برائحته، وهذا آخر الإنسان، فكيف يخالف ربه؟ وكيف يأبى أن يمتثل أوامر الله؟ ولكن المشكلة كونه يتعلق بالدنيا أكثر من اللازم، ويتعلق بها وينسى مصيره، وينسى مآله أو يستبعده، ويقول: الأيام طويلة، وسيأتي يوم أتفرغ فيه لعبادة الله. ثم يأتي اليوم الموعود قبل أن يأتي يومه الذي يؤمله فيؤخذ بسرعة، فعمر الإنسان كله قصير، ولو استعمله كله في طاعة الله ما كان كبيراً، والمهم أن الشرك هو أعظم الذنوب، وهو الذي يخاف على الإنسان منه.

جناية الشرك تحجب المغفرة عن صاحبها

قال الشارح رحمه الله تعالى: [فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة، هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله].

الله تعالى كتب على نفسه الرحمة جل وعلا، وكتب أن رحمته تغلب غضبه، كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً فوضعه على العرش فهو عنده على عرشه: إن رحمتي تسبق غضبي)، فرحمته أسبق من غضبه، ورحمته أخبر أنها وسعت كل شيء، ولكن المشرك خرج منها، فالمشرك إذا مات على الشرك فهو خارج من أن تناله رحمة الله جل وعلا، وهذا ليس من باب العقل، وليس من باب الفطرة، بل هو من باب الخبر عن الله جل وعلا، إخبار الله جل وعلا وحكمه، خبر حكم به على من أشرك به أنه لا يغفره، ثم كذلك الله جل وعلا أخبرنا أنه كما أنه غفور رحيم أخبرنا أنه شديد العقاب، فيجب على الإنسان ألا يتعبد لله من ناحية التعلق بالرجاء والرحمة، ويجب ألا ينسى أنَّ ربه شديد العقاب، فالله جل وعلا أخرج أبانا آدم من الجنة بذنب واحد وأهبط إلى الأرض، فيجوز أنه جل وعلا يدخل عبده النار بذنب واحد، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر رجلين فيمن كان قبلنا أخوين في الله، وكان أحدهما مقصراً والآخر مجتهداً، وكان المجتهد كلما رأى أخاه على ذنب من الذنوب نصحه وزجره ونهاه شفقة عليه، وفي يوم من الأيام رآه على ذنب استعظمه، فقال: والله لا يغفر الله لك. فقال الله جل وعلا: من هذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟! قد غفرت له وأحبطت عملك.

وفي رواية أنه قبضهما الله جل وعلا فأوقفهما بين يديه، فقال للقائل: أتستطيع أن تحجر رحمتي عن خلقي؟ فقال: لا يا رب. فقال للمقصر: اذهب فادخل الجنة. وقال لهذا المجتهد: اذهب إلى النار. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. وهذه الكلمة قالها غيرة وغضباً لله جل وعلا وشفقة على هذا الإنسان، فاجتهد ولكنه اجتهاد خاطئ، فالإنسان قد يعمل عملاً يدخله الله جل وعلا به النار، وقد يكون كلمة، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)، وفي حديث آخر: (يكتب الله عليه بها غضبه إلى يوم يلقاه)، فالله غضب عليه من أجل كلمة واحدة، وبالعكس، فقد يتكلم بكلمة من الخير يكتب له رضوان الله بها، ولهذا جاء أيضاً في الحديث (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)، فالإنسان يجب عليه أن يخاف دائماً، ويجب عليه أن يحذر؛ لأنه عبد لله جل وعلا، وإذا العبد خالف سيده يوشك أن يأخذه ولا يبالي، والله جل وعلا يلقي في النار من يشاء من عباده بغير مبالاة؛ لأنه هو القهار المالك لكل شيء، مع أنه جل وعلا حكم عدل، ولكن لا أحد يستطيع أن يقوم بحقه كما ينبغي.

فالمقصود أن الإنسان يجب أن يكون حذراً فلا يتساهل، وكون رحمة الله جل وعلا وسعت كل شيء فهو أخبرنا أنه يكتبها للمحسنين، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، وليست قريبة من المسيئين ومن العاصين ومن المشركين، والمشرك من أبعد خلق الله عن رحمة الله.

رد الآية على الفرق الضالة

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار].

الناس في هذا انقسموا إلى أقسام: قسم تصرف في أمر الله ودينه، فقال: يكفي الإنسان أن يصدق بقلبه ولو لم يعمل فلا يضره. وهؤلاء يسمون المرجئة، وأصلهم الجهمية، ولهذا فسروا الإيمان بأنه المعرفة، معرفة القلب، وبهذا القول كفرهم العلماء، قالوا: لأن الإسلام جاء بنية وعمل وقول لا بد منه، فالله جل وعلا يقول: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136]، وأمرنا بالقول، وهم يرون أن هذا ليس بلازم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وأجمع العلماء على أن الإنسان لا يدخل الإسلام حتى يتشهد شهادة الحق (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإن كان صادقاً من قلبه فهو المسلم ظاهراً وباطناً، وإن قال ذلك بلسانه فهو مسلم في الظاهر فقط، وأما في الباطن فهو في النار، وهؤلاء قالوا: إن الإيمان المعرفة. فقيل لهم: إبليس يعرف ربه، فهل يكون مؤمناً؟! فإبليس يعرف الله، ويعرف الإيمان، ويعرف الكفر، فيلزمكم أن تقولوا بأنه مؤمن، ومعلوم أن هذا من أكبر الخطأ، ومن أبعد الأقوال عن الصواب.

وقابلهم فريق آخر فقالوا: الإيمان هو القول والعمل كله والنية التي يجب أن تكون مصاحبة للعمل، فلا بد أن يأتي بالأعمال كلها المأمور بها ولا يترك منها شيئاً، فإن ترك منها شيئاً فهو كافر. وهؤلاء هم الخوارج الذين كفَّروا الناس بالمعاصي، وهم مقابلون لهذا الفريق.

وفريق آخر قريب منهم، إلا أنهم اختلفوا معهم في حكم الدنيا فقط، فقالوا: من ترك بعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فصار في منزلة بين المنزلتين. وهذه خصيصة اختص بها المعتزلة من بين الناس، ولكن في الآخرة عندهم يتفقون مع إخوانهم الخوارج في ذلك، فقالوا: إذا كان يوم القيامة هذا الذي ترك بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات يكون خالداً في النار.

فإذاً الخلاف بينهما في التسمية، وفي حكم الدنيا فقط، أما في الآخرة فبينهما اتفاق.

والفريق الثالث -أو الرابع إذا جعلنا المعتزلة فريقاً ثالثاً- أهل الحق الذين توسطوا بين هؤلاء وهؤلاء، وقالوا: إن الإيمان يتفاوت بتفاوت فعل الناس، فالإنسان إذا أتى بالواجب عليه واجتنب المحرمات مع القول والنية فإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، وإن أخل بشيء من ذلك يكون مؤمناً ناقص الإيمان، على حسب كثرة ما أخل به أو كثرة ما ارتكبه من المحرمات، فلا يعطى الإيمان كله ولا يسلب الإيمان كله، بل يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. أو: إنه مؤمن عاصٍ. أو: إنه مؤمن ناقص الإيمان. ولا يكون بذلك كافراً، وهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن، وهم يقولون: هذا دليل على أنه كافر. ولكن أهل السنة يقولون: لو كان كافراً ما أقام عليه الحد ولا صلى عليه ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا كان محصناً فإنه يرجم ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه يكون حكمه حكم المسلمين؛ لأن إقامة الحد عليه تطهيرٌ له من هذا الذنب، كذلك السارق، فلما قال: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) قطع يده وحكم بأنه مسلم من المسلمين، وكذلك شارب الخمر، وقد قال: (لا يشربها حين يشربها وهو مؤمن)، ومع ذلك لما قال رجل: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (لا تعن عليه الشيطان) ، وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، مع أنه شارب للخمر، فدل على أن إيمانه نقص مجرد نقص، وأنه ما خرج من الدين، والله جل وعلا يقول في قاتل النفس: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، ويقول جل وعلا في آية أخرى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، ويقول بعد ذلك: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، فمع القتال ومع كونهم يتقاتلون سماهم إخوة، وسماهم مؤمنين، فدل على أن الإيمان لم يسلب منهم، ولكن بارتكابهم المعاصي نقص إيمانهم، فهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص، أما هذه الطوائف الثلاث فكلها ضالة، فالمكفرون والذين يتهاونون بالمعاصي ويقولون ليست بشيء، والإنسان إذا عرف بقلبه فهو مؤمن وإن ترك الصلاة والزكاة وغيرهم ضلال خالفوا كتاب الله وسنة رسوله من الجانبين، والحق هو الوسط بين الغالي والجافي.

التوبة من الشرك مقبولة

قال الشارح رحمه الله: [ ولا يجوز أن يحمل قول الله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] على التائب؛ فإن التائب من الشرك مغفور له ].

يعني: قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48] يقول: لا يجوز أن نحمل قوله جل وعلا: ( ويغفر ما دون ذلك ) ما دون الشرك ( لمن يشاء ) على التائبين؟ لأن التائب من الشرك مغفور له، ولو كان الأمر كما يقول هذا القائل لأصبح الاستثناء ليس له فائدة، وهذا إهدار للنص، وإنما المقصود من هذا الاستثناء الذي يموت على الذنوب بدون توبة، فمن مات على الذنوب بدون توبة فإنه داخل في هذا الاستثناء، فهو تحت المشيئة، إذا شاء الله تعالى غفر له بدون عقاب، وإن شاء عاقبه ثم بعد ذلك أخرجه من عذاب النار إلى الجنة.

قال الشارح رحمه الله: [ كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتب، هذا ملخص قول شيخ الإسلام ].

هذا هو الذي يظهر من كلام الله جل وعلا، ولا يجوز أن يقال غير ذلك؛ لأن كلام الله لا يتناقض، ولا ينقض بعضه بعضاً، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم مفسرة لهذا ومبينة له.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [19] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net