إسلام ويب

الله تعالى هو المعبود بحق، فلا معبود بحق سواه، وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، ولعظم هذه الكلمة وما دلت عليه جاءت الأحاديث ببيان فضلها، وأي فضل لها أعظم من أنها لو وضعت المخلوقات كلها في كفة ووضعت هذه الكلمة في كفة لمالت بهن؟ ولهذا كانت أفضل ما قاله النبيون عليهم الصلاة والسلام.

حديث موسى عليه السلام ودلالاته

فضل كلمة التوحيد والدلالة على علو الله تعالى

قال المصنف رحمة الله عليه: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: (لا إله إلا الله). قال: كل عبادك يقولون هذا! قال: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، و(لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه ].

هذا فيه أيضاً فضل لهذه الكلمة وعظم ثوابها، وأن قولها إذا كان بإخلاص وصدق لا يقاومه شيء، لا في الوزن، ولا في الفضل؛ فإنه قال: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري)، فاستثنى نفسه جل وعلا ممن في السماء، وهذا دليل على أن الله جل وعلا في العلو في السماء.

السماء وما تطلق عليه

السماء إذا جاءت في كلام العرب تحتمل شيئين: أحدهما: مطلق العلو، فكل ما فوقك سماء, والثاني: السماء المبنية التي أخبر الله جل وعلا بها، وكله جاء في القرآن.

أما المعنى الأول فمثل قوله جل وعلا: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الحج:15]، فالسبب الذي يمده إلى السماء يجعله في السقف، والمعنى: إذا كان الإنسان يظن أن الله لا ينصر رسوله فليعجل بقتل نفسه بأن يجعل حبلاً في سقف البيت الذي فوقه، ثم ليضعه في حلقه، ثم ليقطع حياته وينتحر، فإن الله لابد أن ينصر رسوله.

فإذاً السماء في هذا المقصود بها ما فوق رأس الإنسان، فكل ما فوق رأس الإنسان يسمى سماء، وكذلك قول الله جل وعلا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، وأما كونها جاءت في السماء المبنية فقوله جل وعلا: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا [ق:6] في آيات كثيرة جداً.

فهنا قوله في هذا الحديث: (لو أن السماوات السبع) قصد بها السماوات المبنية، وأنها سبع سماوات، وهذا جاء في آيات متعددة كثيرة، وكل سماء فوق الأخرى، وأعلاهن السماء السابعة، فجاء في حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذهب بصحبة جبريل عليه السلام كان جبريل يستفتح -أي: يطلب أن يفتح له باب السماء- ثم يسأل فيقال له: من؟ فيقول: جبريل. فيقولون: ومن معك؟ فيقول: محمد. فيقولون له: أوبعث؟ فيقول: نعم. فيفتح له، وهكذا في جميع السماوات كان يقول ويقال له.

وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الاحتضار، وأن الإنسان إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا نزل إليه -إذا كان مؤمناً- ملائكة بيض الوجوه معهم حنوط من الجنة وكفن من الجنة فجلسوا منه مد البصر، ثم جاء ملك الموت وصار يخاطب روحه ويقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب! أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. فتخرج تنسل كما تخرج قطرة الماء من في السقاء، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، فيصعدون بها إلى السماء فيستفتحون لها باب السماء فيفتح لها. وهكذا إلى أن تصل إلى السماء السابعة، فإذا وصلوا إلى السماء السابعة واستفتحوا فتح لها، فيقول الله جل وعلا لملائكته: (اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم وإليها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى).

أما إذا كان فاجراً فإنه إذا جاءه ملك الموت يقول له: أيتها الروح الخبيثة في الجسد الخبيث! اخرجي إلى سخط وغضب من الله فتتفرق في بدنه وتتشبث بعروقه وأعصابه، فينتزعها انتزاعاً شديد كما ينتزع السفود إذا أدخل في الصوف المبلول، والسفود: هو الحديدة التي يشوى عليها اللحم، إذا أدخلت في صوف مبلول وهي محماة يلتف عليها الصوف، فينتزعها ويخرج معها ما يخرج من شدة التشبث والتمسك؛ لأنها علمت بالعذاب أنه وصلها، فإذا استخرجها لا يدعها الملائكة الذين نزلوا معهم مسوح من النار وكفن من النار وحنوط من النار، فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء، ويخرج منها أخبث رائحة وجدت على وجه الأرض، نسأل الله العافية.

فإذا وصلوا إلى السماء الدنيا واستفتحوا لم يفتح له، ولهذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ [الحج:31]، فيؤمر أن تطرح طرحاً، وقد قال تعالى : لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، وكون الجمل يدخل في ثقب الإبرة لا يمكن، يعني أنه مستحيل دخولهم الجنة، فالمقصود أن السماء لها أبواب مبنية.

وقوله في هذا الحديث: (عامرهن غيري) يدل على أن كل سماء لها عمار، والعمار هم الذين يكونون فيها للعبادة والعمل، والذين في السماء ملائكة الله، وكل سماء مملوءة من الملائكة الذين خلقوا للعبادة، والله غني بذاته عن كل ما سواه، فلا يتقوى بملائكته ولا يستنصر بهم، ولكنه خلقهم ليأمرهم وينهاهم، وهم يعبدون الله لا يعصونه طرفة عين.

وقد جاء في الحديث ما يدل على كثرتهم الكاثرة؛ فإنه جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط)، والأطيط: هو صوت الشيء المحمول فإذا حمل على خشب أو على غيره حمل ثقيل صار له صرير، فهذا الصرير يسمى أطيطاً، فمعنى ذلك أن السماء محملة بكثرة الملائكة.

فيقول: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ليس فيها موضع قدم إلا وملك ساجد أو راكع أو قائم)، وهذا إلى قيام الساعة، فإذا قامت الساعة قالوا: سبحانك ربنا! ما عبدناك حق عبادتك. ولما عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة على غرار الكعبة، وهو في السماء السابعة مثل الكعبة في الأرض، تزوره الملائكة وتطوف به تعبداً لله جل وعلا.

يقول صلى الله عليه وسلم: (رأيت إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إليه)؛ لأن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة، فجوزي بأن جعل في هذا المكان العالي الرفيع الذي يتعبد فيه لله جل وعلا في السماء السابعة، يقول: (فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه أبداً) يعني: ما تحصل لهم فرصة لأن يعودوا مرة أخرى لكثرة الملائكة، وإنما كل ملك لا يأتي إلى هذا البيت إلا مرة واحدة فقط لكثرتهم، وهذا يدل على الكثرة الكاثرة.

وقد أخبرنا جل وعلا عن بعض وظائفهم، فمنهم من يحفظ على بني آدم أعمالهم ويحصيها عليهم، يقول الله جل وعلا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوهم)، يعني: استحيوا منهم، فهم يستحيون من الأمور التي لا تناسبهم، مثل النظر إلى العورات وما أشبه ذلك، ولهذا لا يجوز للإنسان إذا دخل الحمام أن يتكلم؛ لأنه إذا تكلم يضطر الملك الكريم أن يأتي ليكتب كلامه ويسجله وهو لا يدخل الحمام؛ لأن أماكن القاذورات وأماكن النجاسات أماكن للشياطين، وهي التي تليق بهم، أما الملائكة فلا يدخلونها.

وكذلك إذا كشف الإنسان عن عورته لا ينظرون إليه، بل يفارقونه، ولهذا جاء النهي عن كون الإنسان يتعرى وحده، فعليه أن يستتر استحياء من الله ومن عباده من ملائكته، فهذا معنى قوله: (استحيوهم) يعني: استحيوا منهم، ولا تعملوا الأعمال التي تثقلهم ويكرهونها لأنهم لابد أن يكتبوا كل شيء، فكل ما صدر من الإنسان وكل ما قاله الإنسان وتلفظ به يكتبونه، وكذلك ما عمله، كما قال الله جل وعلا: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] أي: يراقبه ومستعد للكتابة فهؤلاء مع كل إنسان، وإذا مات الإنسان طووا صحائفهم، ثم إما أن يجلسوا على قبره يستنصرون له، أو يذهبون إلى حيث شاء الله، والذي يولد يكون له ملائكة أخر غير السابقين، فكل إنسان ليس له إلا كاتبين فقط لا يشاركون غيره في الكتابة، فما يكتبون إلا لواحد فقط، فإذا جاءوا يوم القيامة جاءوا بصحائفهم التي سجلوها وأحضروها بين يديه، وهي -على القول الصواب من أقوال العلماء- الصحائف التي تنشر وتعطى الإنسان يوم القيامة، كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14] يعني: حاسب نفسك تجد فيه أنك في يوم كذا في مكان كذا في ساعة كذا قلت كذا وكذا، أو عملت كذا وكذا. وما يستطيع أن ينكر، ومع ذلك فبعض الناس ينكر، فيقول: يا رب! ظلمتني الكتبة أو يقول: يا رب! لا أقبل شهادة هؤلاء. فيقال له: ومن تقبل؟ فيقول: لا أقبل إلا شاهداً من نفسي فيختم الله جل وعلا على فيه، ويقول لأعضائه: تكلمي. فيتكلم الجلد، ويتكلم السمع، ويتكلم البصر، وتتكلم الأيدي والأرجل وتنطق، ثم بعد ذلك يخلى بينه وبينها ويقال له: تكلم. فيعود على أعضائه باللوم والشتم ويقول: بعداً لكن! فعنكن كنت أنافح. قال تعالى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ [فصلت:20-22] إلى آخر الآية.

فقوله تعالى: ما كنتم تستترون يعني: ما كنتم تخافون الله وتفعلون أمره وتجتنبون معاصيه حتى لا تشهد عليكم هذه الأعضاء وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [فصلت:22-23].

فالمقصود أن الملائكة الذين يكتبون أعمال الإنسان لا يشاركون في كتابة أعمال إنسان آخر، فكل واحد يكتب له اثنان، وكذلك الملائكة الذين وكلوا بقبض الروح وحملها، ومنهم الملائكة الذين وكلوا بنفخ الروح في رحم المرأة وكتابة ما يستقبله من العمل والأجل والرزق والشقاوة والسعادة.

وكذلك منهم الحفظة غير الذين يحفظون الأعمال، وهم الذين يقول الله فيهم: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، يقول العلماء: هؤلاء الملائكة يحفظون الإنسان، جعلهم الله جل وعلا يحفظونه مما يقصده، فإن الإنسان يأتي في أرض فلاة أو في غير أرض فلاة فينام وينفتح فاه، ويكون منخره مفتوحاً، وأذناه تكونان مفتوحتين، فتأتي الهوام فتصدها الملائكة، فيقول الملك: إليك إليك. حتى يقدر الله جل وعلا عليه الشيء فيخلون بينه وبين ما قصده.

فهؤلاء هم الذين يقول الله فيهم: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].

وكذلك منهم الذين وكلوا بالرياح وبالسحاب وبالمطر وبالنبات، وكذلك الذين وكلوا بالوحي، ومنهم الموكلون بإنزال العذاب على الأمم التي تخالف، ومنهم الذين وكلوا بالعمل لبني آدم بغراس ثمار الجنة وبناء بيوت الجنة، فإن الجنة وإن كانت موجودة ليست متكاملة، كما جاءت الأحاديث بالدلائل على ذلك، فإنه جاء أن الإنسان إذا قبض له ولد يقول الله جل وعلا لملائكته: (قبضتم ابن عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم -والله عليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولكن يسأل ليظهر فضل هذا الإنسان وليأجره- فيقول لهم جل وعلا: ماذا قال؟ فيقولون: حمدك واسترجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون-. فيقول الله جل وعلا: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)، فهذا يدل على أن الجنة تزداد ويبنى فيها، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصية لإبراهيم عليه السلام ليلة المعراج أنه قال: (أقرئ أمتك مني السلام، وقل لهم: إن الجنة طيبة التربة، وإن غراسها سبحان الله والحمد لله والله أكبر)، فكلما قال الإنسان: (سبحان الله والحمد لله والله أكبر) غرست له شجرة في الجنة، تغرسها الملائكة، ويأمرهم الله جل وعلا بذلك.

فالمقصود أن هؤلاء أيضاً هذه وظيفتهم بأمر الله جل وعلا، ولهم وظائف كثيرة جداً، وقد جاء كثير منها في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله من معنى قوله: (عامرهن) يعني عمار السماء.

قال: (عامرهن غيري)، فاستثنى نفسه جل وعلا لأنه في السماء في العلو جل وعلا، وهو على عرشه مستوٍ فوق جميع مخلوقاته، والعرش ليس عليه إلا الله جل وعلا، وليس فوق العرش شيء، وإنما هو سقف المخلوقات، وأعلى المخلوقات هو العرش، وهو سقف جنة عدن جنة الفردوس؛ فإنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنها أعلى الجنة ووسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة)، والأنهار تأتي من المكان الرفيع العالي، فالمقصود أن السموات لهن عمار، وفي كل سماء ملائكة يعمرونها بطاعة الله جل وعلا.

معنى تسبيع الأرض

قوله: (والأرضين السبع) جعل الأرضين سبعاً، وقد اختلف العلماء في كون الأرض سبعاً ما معناه؟

فمنهم من يقول: إن الأرضين سبع مفتوقة، وكل أرض فيها سكان، ومعنى أنها مفتوقة أن كل واحدة تحت الأخرى وبينها وبين التي فوقها فضاء إلى سبع طبقات في الأرض. وهذا قول مرجوح، وقد جاء عن ابن عباس أثر في ذلك وعن غيره، والظاهر أن الذي جاء عن ابن عباس مأخوذ عن أهل الكتاب من خرافاتهم التي لا يجوز تصديقها، وإنما الصواب أن الأرضين السبع طبقات غير مفتوقة، فالأرض سبع طبقات كل طبقة تحت الأخرى، ولكن ليس بينها فضاء، وقد قال بعض العلماء: المقصود بسبع أراضين السبعة الأقاليم. يعني القارات السبع، فكل قارة تسمى أرضاً، وهذا ليس بشيء.

وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ومعنى هذا أنه يجعل طوقاً له بالسبع الطبقات، فتأتي واحدة تحت الأخرى، ومركز الأرض هو أسفل هذه الطبقات، ومركز الأرض نار تلتهب، ونار شديدة جداً.

ولهذا يري الله جل وعلا عباده من ذلك بعض الآيات تخويفاً، فقد يخرج من البراكين التي ترى من قعر الأرض نيران لا تطاق تذيب الصخور، ولا يمكن أن يقوم لها شيء، وهذا في الأرض كلها، فمركز الأرض الأسفل كله نار تلتهب، وهذا يجده الناس ويشاهدونه، فإذا حفروا فكلما نزلوا اشتدت الحرارة، إلى أن يصلوا إلى مكان لا أحد يستطيعه من شدة حرارته، ثم تكون النار الملتهبة.

فالمقصود أن الأرضين السبع معناها طبقات سبع خلقها الله جل وعلا، طبقات الواحدة فيها مميزة عن الأخرى، ولا يلزم أن يكون لها فتوق وبينها فضاء، بل كلها واحدة فوق الأخرى بدون فضاء، ولكنها تتغير عن التي فوقها، فهي سبع.

ولهذا لما جاء ذكر الأراضين في القرآن فذكر تعالى أنه خلق سبع سماوات قال: وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] أي: طبقات سبع. ولا يلزم أن يكون بينها وبين الأخرى فضاء مثل الذي بين السماء والأرض، فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء والتي فوقها مسيرة خمسمائة عام.

أما الأرض فهي مثل البيضة في قلب السماء، والسماء تحيط بها من جميع الجهات -أي: السماء الدنيا-، والسماء التي فوقها كذلك تحيط بالسماء الدنيا من جميع الجهات، والواقع أنه ليس هناك جهات حقيقة إلا جهة الفوقية والسفل فقط، ولهذا تكون السماء دائماً فوق الأرض، ولا يتصور أن السماء تكون تحت الأرض أبداً وإن كانت محيطة بها من جميع الجهات، ولكن الإنسان أينما كان فالسماء فوقه، فأينما كان من الأرض فالسماء فوقه دائماً.

عظم شأن كلمة التوحيد وصيغتها الشرعية

قوله في هذا الحديث: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأراضين السبع وضعت في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة) الكِفَّة -بكسر الكاف- هي كفة الميزان، ولله جل وعلا ميزان يزن به أعمال بني آدم عظيم كبير جداً يسع الشيء الذي قد لا يتصوره الإنسان.

فلو أتى إنسان بهذه الكلمة صادقاً مخلصاً من قلبه مقبلاً على الله، وقدر أن له ذنوباً تزن السماوات والأرض فإن هذه الكلمة تثقل بهذه الذنوب، فهي لا يقاومها شيء، وهذا دليل واضح على فضل هذه الكلمة، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يعدل إلى غيرها في الذكر فيتركها ويذهب يطلب غيرها.

ومن فضل الله جل وعلا أنه كلما كان الناس إلى شيء أكثر حاجة كان وجوده أكثر والعلم به أظهر، فمن الجهل كون الإنسان يذهب إلى الأذكار الأخرى التي هي مفضولة ويترك هذا الذكر.

وفي هذا الحديث أن الذاكر يأتي بها كلها، فيقول: (لا إله إلا الله)، ولا يقتصر على قول (الله) كما يقوله بعض الناس.

قال بعض العلماء: قول: (الله) هذا ليس ذكراً. فكون الإنسان يقول: (الله الله) ليس ذكراً؛ لأنه لا يفيد شيئاً، وكذلك كون الإنسان يقول -كما يقول بعض الضلال-: (هو هو)، فيقولون أولاً: (لا إله إلا الله)، ثم يتدرجون فيسقطون بعضها إلى أن يصلوا إلى كلمة (هو هو).

وقد ألف ابن عربي الصوفي المحترق كتاباً سماه (كتاب الهو)، يعني أن الإنسان يذكر بهذا الكلام (هو)، ويزعم أن هذا هو الأفضل؛ لأنك تجعل لسانك لا ينطق إلا بكلمة (هو)، فهي عبارة عن أنك نزهت لسانك عن كل ما هو حشو، وهذا ضلال، وإنما يجب على الإنسان أن يقولها كاملة تامة مفيدة؛ لأنها وضعت لنفي الإلهية عن غير الله جل وعلا وإثباتها لله وحده، أما إذا ترك بعضها فإن هذا المعنى يضيع ويذهب ولا يدل على ذلك، والفضل جاء من هذا المعنى، من كونها نفت الإلهية عن غير الله وأثبتتها لله جل وعلا، وهذا لا يكون إلا على هذا الترتيب (لا إله إلا الله).

ولهذا صارت هي أصل الدين وأساسه، ولا يقبل من إنسان الدين إلا إذا تكلم بها، ومعلوم أنه لابد من فهمها حتى يحصل الإنسان على فضلها، فلابد أن يفهم معناها وأن يطبقها عملاً واعتقاداً، وهي مبنية على كون التأله يكون لله وحده، ولا يكون التأله لغيره جل وعلا، وأن كل تأله جعل لغير الله يكون محبطاً للعمل لأنه هو الشرك.

فهي بنيت على النفي والإثبات، نفي الإلهية عن غير الله جل وعلا وإثباتها لله وحده، وهذا هو أصل دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، فكل رسول يأتي إلى قومه يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:50]، ومعلوم أن الإنسان لا ينفك عن التأله، فإن لم يكن تألهه لمولاه الذي لا غنى له عنه صار تألهه لمخلوق مثله ولابد، فيصير تألهه لمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً؛ لأن الإنسان عبد خلقه الله عبداً، فلابد أن يكون عبداً، فإن لم يكن عبداً لله كان عبداً للشياطين شياطين الجن والإنس، أو كان عبداً لشهواته ومرادات نفسه.

ثم إنه يجب أن يعرف معنى (الإله) ومعنى (العبادة)، فالإله الذي تألهه القلوب تعظيماً وخوفاً وحباً ورجاءً وإنابة، وأنه هو الذي يملك ما يحتاج إليه العبد في الدنيا والآخرة، وأن غيره فقير إلى الله جل وعلا، فمهما أعطي من أمور الدنيا أو من القوة أو من غيرها فإنه فقير، فيجب ألا يكون له شيء من حقوق الله، ثم إن التأله خاص بالله جل وعلا، لا يجوز أن يكون لنبي ولا لملك ولا لولي.

ولهذا صارت هذه الكلمة هي أصل الإسلام ومعناه الذي تبنى عليه جميع الأعمال، ومن هنا صارت أعظم كلمة، وصار الناس إلى معرفة معناها والعمل بها أحوج منهم إلى الأكل والشرب الذي إذا فقدوه ماتوا؛ لأن الإنسان إذا فقد ما يحتاجه بدنه صار أمره إلى أن يموت في هذه الحياة، ولكن إذا فقد التأله لله جل وعلا مات موتاً لا ترجى معه سعادة، موتاً يؤديه إلى الشقاوة الأبدية ليكون خالداً في النار؛ لأن الإنسان ما خلق ليفنى وإنما خلق ليبقى، إلا أنه ينتقل من دار إلى أخرى حتى يصل إلى داره الأبدية، إما في الجنة أو في النار.

أصل العبادة وتقسيم الدعاء

قول موسى عليه السلام: (أذكرك وأدعوك به) فسره الشارح بأن معنى: (أذكرك) أثني عليك به. و(أدعوك) أسألك. فجعل الذكر ثناءً وجعل الدعاء سؤالاً، والواقع أن هذا هو العبادة؛ لأن العبادة لا تخرج عن الثناء والمسألة، والثناء -الذي هو ذكر الله- سواءٌ أكان باللسان أم بالأركان هو في الواقع سؤال؛ لأن العبد يفعل ذلك رجاء الإثابة وهرباً من العذاب والعقاب، فإذا صلى أو تصدق فمعنى ذلك أنه يذكر الله بهذا الفعل حتى يثاب على ذلك، أما إذا سأل فهو يسأل شيئاً معيناً، سواءٌ أكان من أمور الدنيا أم الآخرة.

فإذاً العبادة كلها لا تخرج عن الذكر والدعاء، عن كون الإنسان يذكر ربه بأن يفعل ما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه راجياً بذلك ثوابه وخائفاً -لو لم يفعل ذلك- من عقابه، أو أنه يظهر حاجاته وفقره، فيسأل سؤالاً معيناً سواءٌ من أمور الدنيا أم من أمور الآخرة.

فهذا هي العبادة التي يجب أن تكون لله وحده خالصة ليس لأحد فيها شيء، ولهذا قسم العلماء الدعاء إلى قسمين: قسم يكون دعاء عبادة، وقسم يكون دعاء مسألة، فأما دعاء العبادة فهو شامل عام يدخل فيه ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة والصوم والحج وسائر العبادات؛ لأن الإنسان لا يفعل هذه الأفعال إلا ويرجو ربه أن يثيبه على ذلك، ويخاف منه أنه لو لم يفعل ذلك عاقبه.

أما دعاء المسألة فهو أن يسأل شيئاً معيناً، مثل الجنة، ومثل الرزق، ومثل الولد، ومثل النصر على الأعداء، ومثل العلم وما أشبه ذلك، فكل شيء تسأله فهو دعاء مسألة، وكلاهما جاء القرآن به، قال الله جل وعلا: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فقيل في تفسيرها: اسألوني أعطكم. وقال بعضهم: اعبدوني أزدكم.

فالذي قال: المعنى اعبدوني أزدكم معناه أنه يقول: هذا الدعاء -دعاء العبادة- يدخل فيه كل فعل يفعله الإنسان متقرباً به إلى الله إذا كان قد شرع. والذي قال: المعنى: سلوني أجبكم معناه أنه جعله دعاء مسألة. والواقع أن الآية تشمل هذا وهذا، أي: أنها تدل على دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكذلك غيرها مما جاء في القرآن، ومثله هذا الحديث: (اذكرك وادعوك به) يعني: أتعبد به لك خوفاً من عذابك ورجاء لثوابك الذي تعطيه من عبدك، وأما (أدعوك) فمعناه أني إذا احتجت إلى شيء معين أتوسل به إليك حتى أنال مقصودي، فهو كله عبادة، إلا أن دعاء المسألة أخص من الذكر وأخص من دعاء العبادة.

حاجة البشر إلى كلمة التوحيد

وقوله: (يا رب كل عبادك يقول هذا) روي بلفظ (يقولون) و(يقول)، وكلاهما جارٍ على القواعد العربية؛ لأن لفظة (كل) تدل على العموم، فإذا قال: (يقولون) فهو لمراعاة هذا المعنى، وإذا قال: (يقول) فهو مراعاة للفظ (كل)؛ لأن لفظها مفرد، فراعى لفظها معرضاً عن معناها، وكل هذا جائز لغة، ولكن المقصود المعنى، والمعنى أن كل عبادك يعرف هذا ويدعوك به ويذكرك به، فأنا أريد شيئاً اختص به لا يعرفه أكثر خلقك أو كلهم تخصني به. فهذا الذي قصده، ولهذا جاء صريحاً في بعض الروايات أنه قال: أريد شيئاً تخصني به.

ومعلوم أن الإنسان يفرح بالشيء الذي يختص به دون غيره، ولكن هذا الذكر وهذا الدعاء ما أحد يستغني عنه، وهو أفضل من كل ذكر يذكر الإنسان ربه به مع حاجته إليه.

ولهذا يقال بناءً على هذا: إن هذا يدل على أن أنبياء الله وأولياء الله يحتاجون إلى التنبيه إلى فضل هذه الكلمة وعظمها، لهذا كان فيه تنبيه لموسى عليه السلام إلى عظم هذه الكلمة، فكيف بمن عداه؟! كيف بالذين قد لا يفهمون حتى المعاني اللغوية التي دلت عليها فضلاً عن المعاني الشرعية التي جاءت بها الرسل بهذه الكلمة؟ فإنها تتطلب دراسة وبحثاً وفهماً لدعوة الرسل وما جاؤوا به.

أسماء الله وصفاته وتقسيماتها

ثم إن هذا أيضاً يدلنا على أن الله جل وعلا يسأل ويعبد بأسمائه وأوصافه التي يتوسل بها إليه حتى يرضى وحتى يعفو عن السيئات ويثيب، ويدلنا أيضاً على أن أسماءه وأوصافه تعالى لا حصر لها، وأن منها ما يعلمه العباد ومنها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاء هذا المعنى واضحاً في بعض الأحاديث، كالحديث الذي يرويه الإمام أحمد وغيره حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصيبه هم ولا غم فيقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم نور صدري ...) إلى آخره.

فجعل أسماءه تعالى ثلاثة أقسام: قسم علمه من يشاء من خلقه، وقسم أنزله في كتبه؛ لأن قوله: (أو أنزلته في كتابك) المقصود فيه بـ(كتابك) اسم الجنس، يعني: كتبك التي أنزلتها على رسلك وقسم لم يعلمه أحداً من خلقه ولم ينزله في كتبه، بل استأثر به في علم الغيب عنده.

فموسى عليه السلام يطلب من هذا القسم، ومن هذا النوع الذي استأثر الله جل وعلا به في علم الغيب عنده ما يخصه به، فأرشده الله جل وعلا إلى عظم هذه الكلمة التي هي معروفة لكل أحد، معروفة اللفظ، أما المعنى فالإنسان يحتاج إلى إدراك معناها وإلى تفهمه وإلى معرفته حتى يعمل به، فمن كان لمعناها أعرف وله ألزم وأكثر عملاً فهو أقرب إلى الله وأرفع درجة عنده، وهو من الذين يسبقون إلى الجنة ويدخلونها بغير حساب؛ لأن هذا هو تحقيق التوحيد كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا.

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)، إلى هنا انتهى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، ورواه الترمذي وأهل السنن والإمام أحمد وغيرهم، ثم سردوا تسعةً وتسعين اسماً، والحفاظ يقولون: إن سرد الأسماء مدرج، وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى الإدراج أن يكون كلاماً من الراوي أدخله في الحديث فيتوهم السامع أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس منه.

وقد يقول بعض من لم يفهم الفهم الذي يجب: إن هذا يدل على أن أسماء الله جل وعلا تسعة وتسعين والواقع أنه لا يدل على حصر أسماء الله جل وعلا في تسعة وتسعين، وإنما يدل نصاً على أن لله هذه الأسماء، فمن أحصاها وعبد الله بها فإن الله يعده بأن يدخله الجنة، ومعنى إحصائها إطاقة العمل بها على القول الصواب الصحيح، كما قال الله جل وعلا في كتابه: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20] يعني: تطيقون العمل به.

وأما كون الإنسان يحفظها مجرد حفظ فهذا لا يكفي، وقد قال البخاري بعد إخراجه هذا الحديث: أحصاها: حفظها. ولكن ليس المراد مجرد الحفظ، وإنما المراد الحفظ مع معرفة المعنى وسؤال الله جل وعلا وعبادته بها حتى يحصل على هذا الموعود، وليس هذا المقصود من ذكره، وإنما المقصود من ذكره أنه لا يتعارض مع ما قلنا في مفهوم هذا الحديث من أنه يدل على أن لله جل وعلا أسماء وأوصافاً لا حصر لها؛ لأن موسى عليه السلام طلب شيئاً يخص به لم ينزل عليه في التوراة، وقد أعلمه الله جل وعلا ما أنزله عليه في كتابه، وكذلك أعلمه ما يشاء مما لم ينزله عليه في التوراة مما أنزله على أنبيائه السابقين.

وإنما معنى هذا الحديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) أن الإنسان إذا حفظ هذه الأسماء وعبد الله جل وعلا بها فإنه موعود بدخول الجنة، ولا يدل على أن الله جل وعلا حصرت أسماؤه في تسعة وتسعين، فهذا مثل ما لو قال القائل: عندي مائة ألف أعددتها للجهاد في سبيل الله أو للدعوة إلى الله. أو قال: عندي مائة كتاب أعددتها للمطالعة أو العارية، فما ينافي أن يكون عنده غيرها، إنما يذكر هذا الشيء للغرض الذي بينه، وهو الجهاد أو الدعوة أو الإعارة.

كذلك هذا الحديث معناه أن من تعبد الله جل وعلا بالتسعة والتسعين اسماً فإنه موعود بدخول الجنة، فهذا المقصود، وليس المقصود حصر الأسماء؛ فإن أسماء الله لا حصر لها.

كلمة التوحيد مع الإخلاص منجاة لصاحبها من النار

ثم في هذا الحديث من المعاني ما يدل -فضلاً على ما تقدم- على عظم هذه الكلمة، وأن المخلوقات كلها لو وضعت في كفة ميزان مَنْ في السماوات ومن في الأرض، ثم وضعت هذه الكلمة في كفة أخرى لرجحت هذه الكلمة، ولكن ليس من كل أحد، وإنما ممن قالها صادقاً مخلصاً موقناً عالماً عاملاً بما تقتضيه وتدل عليه، فإذا صدرت ممن هذه صفته فلا يقاومها شيء.

وقد جاء في سنن الترمذي، وفي المسند، وغيرهما كصحيح ابن حبان، وغيرها من كتب الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبره أنه يصاح برجل من أمته يوم القيامة على رؤوس الناس وهم مجموعون في مكان واحد، يعني يدعى باسمه: يا فلان بن فلان! هلم تعال. فيأتي والناس ينظرون إليه. وإتيانه هنا إما أن يكون فضيحة يفضح بها على رؤوس الناس، أو يكون شرفاً وذكراً وفضلاً وسعادة يسعد بها تنشر في العالم كله من أولهم إلى آخرهم، فيؤتى به، فإذا حضر بين يدي الله نشر له تسعة وتسعون سجلاً، والسجل كتاب مسجل عليه، أي: تسعة وتسعون كتاباً، وأما كبره وطوله فالله أعلم.

فيقال له: أتنكر من هذا شيئاً؟ -وكل أعماله سيئات من أولها إلى آخرها- فيقول: لا يا رب، هذه أعمالي. فيقول الله جل وعلا له: أظلمتك الكتبة؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا. فيقول الله جل وعلا له: ألك حسنة؟ فيهاب ويقول: لا. فيقول الله جل وعلا: بلى. إن لك عندنا حسنة واحدة فيخرج له بطاقة صغيرة مكتوب فيها: أشهد ألا إله إلا الله. فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة أمام هذه السجلات -أي ماذا تصنع-؟ فيقال: إنك لا تظلم شيئاً. ويؤتى بالميزان فتوضع السجلات في كفة الميزان وتوضع البطاقة في الكفة الأخرى فتطيش السجلات وترتفع وتثقل البطاقة بهذه السجلات الكثيرة، فهي كلمة واحدة رجحت بهذه السئات المسجلة في تسعة وتسعين كتاباً كل كتاب مملوء.

وهذا يكون لأفراد، ويجوز ألا يكون لرجل واحد، فيكون له نظراء على هذا المنوال، ولكن قد صحت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ويبقى فيها وقتاً طويلاً وهو في النار تأكله، ومنهم من يكون حمماً يحترق فيها، ومنهم من يبقى أثر السجود لا تأكله النار، وكل أهل الإسلام واتباع الرسل يقولون هذه الكلمة، وكثير منهم يدخلون النار مع قولهم هذه الكلمة، وخروجهم من النار يتفاوت تفاوتاً عظيماً، ومنهم من تأخذه النار إلى كعبيه فقط، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حقويه، ومنهم من تأخذه النار إلى ثدييه، ومنهم من تأخذه إلى رأسه وترقوته، ومنهم من يكون في النار في غمرات النار مغموراً فيها، وكله على تفاوت الأعمال، وكلهم يقولون: (لا إله إلا الله)؛ لأن الذي لا يقولوها لا يكون مسلماً أصلاً.

ثم إخراجهم من النار يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمنهم من يغمس فيها غمسة ويخرج، ومنهم من يبقى مدة طويلة كعمر الدنيا منذ خلقت إلى أن تنتهي، ومنهم من هو أقل من ذلك، حسب جرائمهم مع قولهم هذه الكلمة، فدل هذا على تفاوت الناس في قولها، وكل التفاوت يرجع إلى ما يكون في القلوب من العلم واليقين والإخلاص، ويتبع ما في القلب العمل.

فالذي يقولها بعلم وصدق وإخلاص ومحبة وقبول واستسلام لا يمكن أن يكون محباً لمعصية أو مخالفاً لأمر الله وهو يقدر، أو تاركاً لواجب من واجبات الله وهو يستطيعه، بخلاف الذي يقولها بلسانه؛ فإنه قد يقولها وهو يشرب الخمر، وقد يقولها وهو يزني، وقد يقولها وهو يأكل أموال الناس بالإثم والباطل، ويقولها وهو يحارب أولياء الله وربما يشتمهم ويلعنهم، إلى غير ذلك.

فالمقصود أن معرفة هذه الكلمة والعمل بما دلت عليه هو الذي يتفاوت فيه أهل الإسلام في الدرجات يوم القيامة، وقد أخبر الله جل وعلا في كتابه أن أهل الجنة أقسام ثلاثة: قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله، فقال الله جل وعلا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، ففُسر الظالم لنفسه بمن يفعل بعض المنكرات ويترك بعض الواجبات، فيفعل بعض المحرمات التي حرمت عليه ويترك بعض ما أوجبه الله عليه، ولكنه ملتزم بـ(لا إله إلا الله ومعناها)، ولكنه مقصر في الفهم والعلم والعمل، فهذا ظالم لنفسه.

والقسم الثاني: المقتصد. والمقتصد هو الذي اقتصر على فعل ما أوجبه الله عليه وامتنع عن فعل ما حرمه الله عليه، ولم يتقرب إلى الله جل وعلا بالنوافل والمستحبات وباجتناب المكروهات، بل يفعل المكروه ولا يفعل المستحب، فاقتصر على فعل الواجب وترك المحرم، ومثاله الذي يقيم الصلوات الخمس ويؤدي زكاة ماله بعد كونه لا يعبد غير الله، ويصوم شهر رمضان فقط، وحج في عمره مرة واحدة فقط.

فإذا تمسك بهذه الأمور الخمسة التي هي أركان الإسلام الخمسة فهو من أهل الجنة بلا شك، ولكن تفوته الدرجات في الجنة؛ لأن الدرجات تقتسم بالأعمال، فمن كان عمله أزكى وأكثر فدرجته أرفع عند الله جل وعلا، ولا يجوز للمسلم أن ينافس غيره في الدنيا في المال وأمور الدنيا، أو العمارات وحسنها، أو السيارات، أو ما أشبه ذلك فلا يريد أن يكون غيره أحسن منه بيتاً، ولا أكثر منه مالاً، ولا أحسن منه مركباً وما أشبه ذلك ويترك منافسة المؤمنين في الدرجات العالية يوم القيامة، فهذا لا ينبغي، وهذا من الخسارة.

أما القسم الثالث فهم الذين يسبقون إلى الدرجات العالية، بأن يتقربوا إلى الله جل وعلا بعد أداء الفرائض بالنوافل التي لم تجب، ويتقربون إليه جل وعلا بعد اجتناب المحرمات باجتناب المكروهات التي يخشى أحدهم أنه يكون فيها مترخصاً أو متبعاً نفسه شهواتها ولو في بعض الأشياء.

وقد جاء عن السلف تحذيرهم من كون الإنسان يتتبع الشهوات وإن كانت مباحة، كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يشتري لحماً فقال: أوكلما اشتهيتم شيئاً اشتريتموه؟! لقد ذكر الله قوماً فنعى عليهم بأنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.

أما إذا خرج الناس عن هذه الأقسام الثلاثة فمعنى ذلك أنهم من أهل النار، فالظالم لنفسه ليس معنى ذلك أنه يدخل الجنة من أول وهلة، بل إما أن يعذب في الدنيا فيكون ذلك كفارة له، كأن يصاب بمصائب وكوارث تكفر عنه، وهذا من حظه إذا حصل له ذلك، وأما إذا لم يصب في الدنيا فقد تكون مصائبه في القبر بأن يعذب في قبره، وقد لا يكفي تعذيبه في قبره فيمتد العذاب إلى أن يبعث، ثم يعذب في الموقف وشدائده؛ لأن الوقوف في الموقف يتفاوت على حسب أعمال الناس، فمنهم من يكون عليه كألف سنة، ومنهم من يكون عليه كخمسين ألف سنة وهو واقف على قدميه، ومن يطيق هذا؟ فهو وقوف لا يوجد معه جلوس، ومع ذلك هو عريان ليس عليه ثوب ولا نعال، ولا هناك ظل يستظل به، والشمس واقفة فوق رأسه، ومنهم من يكون وقوفه كأنه ساعة، والعجيب أن منهم من يأكل ويشرب والناس في شقاء وفي عذاب.

فتفاوت الناس في الموقف أمره على حسب أعمالهم، ثم منهم من لا يكفيه ذلك، فلابد أن يدخل النار ويطهر؛ لأن هذه الأمور التي مرت عليه وهذه النيران نار عذاب القبر ونار الموقف ما كفت في تطهيره، فلابد أن يدخل جهنم حتى يطهر وتأكل الخبث منه، فكل الخبث الذي في جسده تأكله النار حتى يخلص ويكون صالحاً لدخول الجنة، ثم بعد ذلك يخرج، والأمر ليس سهلاً، الأمر صعب جداً، ولكن في الواقع كأننا لا نعنى بذلك، فكأن المعني غيرنا، وكأننا خلقنا لشيء آخر وإنما يراد بذلك قوم آخرون، وكما قيل:

ستعرف إذا انجلى الغبارأفرس تحتك أم حمـار

فهل أنت شقي أو سعيد؟ وهذا قريب جداً، وما بين الإنسان وبينه إلا أن يقال: مات فلان. وما أقرب ذلك، فإذا مات الإنسان فقد قامت قيامته؛ لأن عمره الذي يكتسب به العمل انقطع وانتهى، ولهذا كان السلف يبكون البكاء الشديد المر المؤلم الذي يمنعهم من الأكل والشرب والنوم، ويقول أحدهم: أنا خلقت للجنة أو النار فما أدري ما مصيري. ويقول آخر: إني عبارة عن أنفاس وأيام، فإذا انقضت انقضى عملي، فمن يصلي لي؟ ومن يذكر عني؟ ومن يدعو الله عني؟ لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فلابد للإنسان أن يفكر في هذه الأمور، ولهذا يقول لنا الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه: (لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار)، ولابد لنا منهما، لابد لنا من واحدة منهما، فهل نصل إلى الجنة سالمين أو نحبس في جهنم أبد الآبدين؟ العلم عند الله، والإنسان لا يستطيع أن يعمل لنفسه على حسب إرادته، فلابد أن يتعلق بالله جل وعلا ويسأله دائماً بفقر وإلحاح وحاجة لا ينفك عنها أبداً.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أخف أهل النار عذاباً الذي يبقى في النار أبداً، وهو رجل يجعل في أخمصه جمرة من النار يغلي منها دماغه، فهذا هو أخف أهل النار عذاباً، فيطأ على جمرة من جمرات جهنم ولكنه يغلي من هذه الجمرة دماغه، وهو أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء إحاطته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه، ولكنه لا يخرج من النار، ويرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، فهو في نفسه يرى أنه أشد أهل النار عذاباً وهو أهونهم عذاباً، فهذا هو أهون أهل النار عذاباً -نسأل الله العافية- فكيف بالذي يكون في طبقات جهنم؟ قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة:1-9].

أي: مغلقة الأبواب، وموضوع عليها عمد من حديد ممددة فهي أعمدة من حديد، فهل يستطيعون أن يخرجوا من الأبواب؟ أبداً. ولو لم توضع هذه الأعمدة، ولكن نكالاً وإبلاغاً في النكاية بهم يصنع بهم هذا حتى لا يفكر مفكر منهم أن هناك خروجاً أبداً، ولهذا أبلسوا وأيسوا من كل خير، وصاروا في العذاب دائماً ليس لهم إلا زفير وشهيق -نسأل الله العافية-، فيجب على الإنسان أن يفكر في هذه الأمور، وليضع إصبعه على قليل من النار فهل يطيق ذلك؟ فكيف ينسى النار التي مصيره إليها؟! فإن كان يؤمن بها وأنه لابد أن يقف عليها ويقف بين يدي الله فلابد أن يتأثر، ولابد أن يكون هناك أثر انزجار عن المعاصي واقبال على الطاعة، لا سيما إذا بلغ الإنسان من العمر عتياً، وقد قيل:

فإنه يقبح بالفتى فعل التصابي وأقبـح منه شيخ تفتـى

فإذا نسي مصيره ومرجعه فذلك في الواقع علامة ودليل على شقوته -نسأل الله السلامة-، كما قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67] نسوا دينه وأعرضوا عنه فأنساهم أنفسهم، حيث أصبحوا لا يهتمون إلا باكتساب المعاصي واكتساب ما يبعدهم عن الثواب ويقربهم من العقاب، نسأل الله العافية.

علو الله تعالى وملكه وعظمته

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وقوله: (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات، أي: لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان، و(لا إله إلا الله) في الكفة الأخرى مالت بهن لا إله إلا الله ].

هذا أيضاً يدلنا على أن السماوات فيها عمار، أي: عباد يعبدون الله جل وعلا ويعمرونها بالعبادة لأن عمارة السموات والأرض بالعبادة، أما المعاصي فهي إفساد في الأرض، كما قال الله جل وعلا عن أهل المعاصي: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:152]، وهذا عجيب؛ لأن غير العقلاء لا يعصون الله، ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أن الشجر والدواب والجبال تسجد لله، وأن كثيراً من الناس حق عليهم العذاب، فأهل العقل والفكر هم الذين يتنكرون لله جل وعلا ويعرضون عن عبادته، فعمارة الأرض هي بعبادة الله جل وعلا واتباع وحيه واجتناب مناهيه.

ويدلنا أيضاً على أن ربنا جل وعلا في السماء، ومعنى كونه في السماء أنه في العلو، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في السفل تعالى وتقدس.

فالسماء إذا جاءت في مثل هذا الكلام فإما أن يراد بها السماء المبنية التي هي السبع الطقات التي ذكر الله جل وعلا أن لكل واحدة منهن مكاناً معيناً، وبينها وبين التي تليها مسافة معينة وفضاء، وأن فيها عماراً يعمرونها بامتثال أمر الله وفعل ما أمروا به.

وإما أن يراد بها مجرد العلو، كقوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يعني: من في العلو. فهذا معناه، وليس (في) هنا تدل على الظرفية، كقول القائل: الماء في الإناء.

قوله: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري) الله جل وعلا يعمر كل شيء، بمعنى أنه هو الذي أوجده، وهو الذي يقوم على مصالحه، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم: عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات) يعني أنه قام خطيباً، وهذه عادته صلوات الله وسلامه عليه، فيعلم أصحابه الأصول والكلمات الجامعة البليغة، ولا يزيدهم كثيراً، وهنا قام فيهم خطيباً بخمس كلمات فقط، فقال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلق)، فهو القائم على خلقه بما يصلحهم، وهو الذي يقيم السماوات والأرض، فهو قيوم السموات والأرض، ولو أراد إذهاب السماء ومن فيها بلحظة فعل، ولو أراد تغييرها إلى ما يشاء فعل، ولكنه أقامها على هذا الوضع المعين المنسق المتقن الذي لا يختل حتى يشاء جل وعلا، وليس الملائكة ولا غيرهم ولا الطبيعة ولا غير ذلك، فهو جل وعلا فوق، وهو مستوٍ على عرشه، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف:54]. يعني أنه يتصرف في الكون كله حسب إرادته جل وعلا، فهو القائم على كل شيء بما يصلحه، السماء وما فيها والأرض وما فيها، فاستثنى نفسه في هذا الحديث.

فنص على أن السموات سبع، ثم استثنى نفسه فقال: (غيري)؛ لأنه جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يمكن أن يقاس بشيء من خلقه، وإن كان هذا من صفاته، أي: قول (لا إله إلا الله) من صفاته التي يستحقها، فليس مخلوقاً، وإنما المخلوق عمل الإنسان، فعمل الإنسان هو المخلوق، ولو وضعت كل المخلوقات في مكان لكانت صغيرة حقيرة بجانب الله جل وعلا، وقد جاء قول الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، يعني: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حقه حق المعرفة، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

فيوم القيامة يفعل ذلك، وإلا فلو شاء لقبض كل مخلوقاته بيده السموات والأرض ومن فيهما وصارت بيده كلها صغيرة حقيرة ليست بشيء، وعلى هذا فكيف يسوغ لإنسان أن يقول في مثل قول الله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4]: إنه معنا في البيوت وفي الأرض وفي الأمكنة؟ تعالى الله وتقدس، فهل هذا عرف الله؟ كلا -والله- لم يعرفه، فضلاً عن أن يقدره حق قدره.

فالله جل وعلا لا يعرفه من لم يتعرف عليه بأوصافه التي وصف بها نفسه، أما إذا رجع إلى فكره أو إلى شيخه أو إلى ما تلقاه ممن هو نظير له فلن يعرف الله أبداً؛ لأن العقل لا يوصله إلى هذا، وكذلك الأفكار البشرية لن توصله إلى هذا، وإنما هذا يكون من الله جل وعلا، قال تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، فالله جل وعلا هو الذي يجب أن يكون الإنسان متبعاً لقوله، ويتعرف على ربه بما عرف به نفسه وتعرف به إلى عباده.

فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل حتى إذا بقي ثلث الليل الأخير نزل إلى السماء الدنيا فبسط يده وقال: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ هل من تائب فيتاب عليه؟)، فمن يقول: هذا النزول معناه عبارة عن نزول أمره أو نزول رحمته أو نزول ملك من الملائكة من يقول ذلك لم يعرف به.

وكذلك إذا سمع قول الله جل وعلا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] قال: (يأتي) أي: يأتي أمره وقضاؤه، أو يأتي حكمه، أو يأتي ملكه، أو ما أشبه ذلك، أما إتيانه فهو مستحيل؛ لأن الانتقال من مكان إلى مكان من خواص الأجسام هكذا يقول، فنقول: هل عرف هذا ربه؟ كلا والله، الذي يقول هذا القول لم يعرف ربه، لم يعرف إلا الرب الذي يعتقده هو، فليس هو الله، أما لو تعرف على الله لعلم أنه ينزل وهو على عرشه، ويأتي يوم القيامة وهو فوق كل شيء، وأنه لا يمكن أن تكون سماء تظله أو تقله تعالى وتقدس، بل هو أكبر وأعظم من كل شيء؛ حيث إنه جل وعلا يقبض جميع مخلوقاته بيده، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]: قبض السماوات السبع والأراضين ومن فيهن بيمينه، وبقيت يده الأخرى فارغة ليس فيها شيء، وإنما يستعين بيده الأخرى من شغلت إحدى يديه، هكذا جاء عنه رضي الله عنه وهو حبر الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا هذا ووضحه، فيجب على الإنسان أن يؤمن بربه وفق ما أخبر عن نفسه وأخبرت عنه رسله وإلا زل وضل.

فقوله هنا: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري) استثنى نفسه لأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يمكن أن يكون المخلوقات كلها بالنسبة إلى الله شيئاً أبداً.

الميزان حق يجب الإيمان به

ويدلنا هذا على أن الميزان له كفتان، وله لسان كذلك، وهذا اللسان يعرف به ميل أحد الكفتين ورجحانها بالأخرى، وأن الأعمال توضع فيه، وقد جاءت الأحاديث دالة على أن الأعمال توضع فيه، وجاءت أحاديث أخرى تدل على أن الإنسان نفسه يوزن، فيجوز أن يكون هذا وهذا، ثم لسنا بحاجة أن نقول: إن الأعمال تقلب وتجعل أجساداً حتى تظهر مشاهدة في الميزان، لسنا بحاجة إلى هذا، فأمور الآخرة -والله على كل شيء قدير- على خلاف المعهود لنا، ويكفينا أن نعلم أن الأعمال توضع في الميزان، وأنها توزن، كما قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8]، فلابد من الوزن، ولهذا ينص العلماء على وجوب الإيمان بالميزان في عقائدهم، والسبب في هذا أن بعض أهل البدع أنكر ذلك، وإلا فالعقائد يجب أن تكون مشتملة على كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس معنى كونهم نصوا على مسألة معينة وتركوا الأخرى أن هذه أهم، أو أن هذه يجب اعتقادها وتلك لا يجب، ولكن العلماء هذه طريقتهم، فإذا أُنكِر شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم نصوا عليه في العقائد.

ولهذا تجد في كثير من كتب العقائد أنهم ينصون على أن المسح على الخفين سنة؛ لأن بعض أهل البدع أنكر ذلك فنصوا عليه، وهكذا الميزان، وهكذا حوض النبي صلى الله عليه وسلم، والصراط؛ لأن بعض أهل البدع أنكر هذه الأشياء فنصوا عليها، وإلا فالواجب أن يعتقد الإنسان كل ما جاء به الوحي، سواءٌ أكان في كتاب الله، أم ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الذي أوحاه الله جل وعلا غير القرآن، وكل ما يلقى إليه وما يقوله صلوات الله وسلامه عليه فهو وحي، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

تفاضل القلوب في اعتقاد كلمة التوحيد

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بـ(لا إله إلا الله)؛ فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله)، وقوله: (في كِفة) هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي: كفة الميزان.

وقوله: (مالت بهن) أي: رجحت. وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، فتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها واستقام على ذلك فهذه الحسنة لا يوازنها شيء، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]، ودل الحديث على أن (لا إله إلا الله) أفضل الذكر، كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) رواه أحمد والترمذي ، وعنه أيضاً مرفوعا: (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيء؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا. فيقال: بلى. إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة، فيقول: يا رب! ما هذه مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم شيئاً. فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) رواه الترمذي وحسنه، والنسائى ، وابن حبان ، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم . وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض .

قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه.

قوله: رواه ابن حبان والحاكم ) ابن حبان اسمه محمد بن حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أحمد بن حبان بن معاذ أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كالصحيح والتاريخ والضعفاء والثقات وغير ذلك، قال الحاكم : كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال. مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست -بضم الموحدة وسكون المهملة-، وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابورى أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بـابن الربيع ، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [13] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net