إسلام ويب

لقد وعد الله سبحانه وتعالى بالأمن والاهتداء التام لمن لم يظلم نفسه في الدنيا، وقد فسر الظلم في غير ما حديث بأنه الشرك الذي يخلد صاحبه في النار، والله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً ما لم تكن شركاً، وفي هذا دلالة على أهمية التوحيد وعظيم فضله.

أفضل الأعمال هو التوحيد

قال المصنف: [ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب.

وقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]].

قال رحمه الله تعالى: [باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]. التوحيد واجب، وليس من الأعمال شيء أفضل منه، ولهذا جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)؛ لأن هذا هو التوحيد الذي خلق الله جل وعلا عباده ليعبدوه به، وسبق أن العبادة لا تسمى عبادة إلا إذا كانت توحيداً، أي: إذا كانت خالصة لله جل وعلا، وقوله: (وما يكفر من الذنوب) يعني أنه يكفر جميع الذنوب. كما سيأتي في الأحاديث التي يذكرها، وكما في قوله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

قال الشارح رحمه الله: [ (باب) خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا. قلت: ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره: هذا. و(ما) يجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف، أي: وبيان الذي يكفره من الذنوب. ويجوز أن تكون مصدرية أي: وتكفيره الذنوب. هذا الثاني أظهر].

المراد بالظلم في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] ].

هذه الآية من الأدلة على فضل التوحيد وأنه يكفر الذنوب، فقول الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] وجه البيان فيه من جهتين:

الأولى: أنه أخبر أن لهم الأمن، والأمن جاء معرفاً باللام، فشمل الأمن في الدنيا وفي الآخرة، أما الأمن في الدنيا فيأمن عذاب الله الذي ينزله على المشركين الذين لا يعملون بالتوحيد، وقد بين الله جل وعلا ذلك في قصص الأنبياء كثيراً.

الجهة الثانية: أنه أخبر أنهم هم المهتدون، والاهتداء ينتهي بالسعادة في سكون الدرجات العلى، وهي درجات الجنة.

وقوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) هذا فصل للخطاب والخصومة التي وقعت بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه حينما هددوه وتوعدوه بآلهتهم التي يعبدون من دون الله، فتبرأ منها وقال: كيف تخوفونني بما تشركون به بهذه الأصنام، وأنتم لا تخافون الله وأنتم تشركون، فأي الفريقين أحق بالأمن: المشرك أو المخلص؟

فجاء قول الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا [الأنعام:82] يعني: هم الأحق بالأمن والاهتداء، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، والإيمان يشمل امتثال أمر الله جل وعلا واجتناب نهيه كله مع اقتران القلب بالخشية والإنابة والذل والخوف من الله جل وعلا.

وقوله: (ولم يلبسوا إيمانهم) اللبس هو: الخلط. يعني أنهم لم يخلطوا إيمانهم بظلم، والظلم هنا فسر بالشرك، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: (أينا لا يظلم نفسه؟)، وهذا أمر شديد؛ لأنهم تصوروا أن المراد مطلق الظلم، وكل معصية ومخالفة تدخل في ذلك، والإنسان لا يمكن أن ينفك عن معصية أو مخالفة، وهذا في كل الناس، وقد استثني من ذلك الأنبياء والرسل فقط، فقالوا: إنهم معصومون. والصواب أن العصمة للرسل فيما يبلغون عن الله جل وعلا، وإلا فقد يقع منهم مخالفات فيعاتبهم الله جل وعلا عليها، ثم تكون حالتهم بعدها أحسن مما قبلها، أي أنهم لا يقرون على المخالفة، بل يعاتبون ويتوبون، ويكون آخر أمرهم أحسن من أوله، أما من عداهم من بني آدم فكلهم يخطئون، وكلهم يذنبون ولابد، وهذا مقتضى أسماء الله جل وعلا وأوصافه، فالله جل وعلا من أسمائه الغفور والرحيم والتواب، وكذلك كونه جل وعلا يستر على عباده، وكونه جل وعلا يرحمهم، وكونه جل وعلا هو البر الرؤوف، فلابد أن تظهر آثار هذه الأسماء، وإذا لم يكن هناك معاصٍ، وذنوب لا تظهر هذه الآثار، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، فهكذا خلق الإنسان، ولما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] قال الصحابة رضوان الله عليهم: أينا لا يظلم نفسه؟ هذا لا ينفك منه أحد فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس ذاكم، وإنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13])، فجعل الشرك هو الظلم في هذا، وليس معنى ذلك أن الذنوب خارجة عن الظلم، لا. ولكن المذنب إذا كان سالماً من الشرك فهو وإن حصل له من عدم الأمن خوف وحصل له شيء من العذاب فمآله إلى الأمن، مآله إلى الجنة ولابد، فإن عذب في الدنيا صار ذلك كفارة له، وإن لم يكف تعذيبه في الدنيا عذب في القبر فصار كفارة له، فإن لم يكف ذلك عذب في الموقف، فإن لم يكف ذلك عذب في النار، وهذا آخر التعذيب، ثم يخرج منها إلى الجنة ولا يبقى في النار أحد من أهل التوحيد، فأهل التوحيد لا ينتفي عنهم الأمن، وإنما ينتفي عنهم مطلق الأمن الذي هو الأمن التام والاهتداء التام إذا كان عندهم ذنوب، وإنما ينتفى الأمن عن المشرك الذي يشرك بالله جل وعلا ويموت على شركه، فليس له أمن ولا اهتداء، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (هو الشرك)، يعني: الذي يخلط إيمانه بشرك يكون خاسراً، ويكون له العذاب، ولا يناله شيء من الأمن والاهتداء. وهذا يدل على أن الإنسان قد يجتمع له إيمان وشرك كما يجتمع له معاصٍ وبر وطاعة، وقد يكون عنده شيء من الإيمان وشيء من الشرك، كما قال الله جل وعلا: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، يقول مجاهد وغيره من المفسرين: إيمانهم أنك إذا سألتهم: من خلقهم؟ ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره, وهذا هو الشرك الأكبر الذي يكون صاحبه خالداً في النار إذا مات عليه ولم يتب قبل موته منه.

فهنا يقول: الذين آمنوا يعني: اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقبلوا ما جاء به واجتنبوا ما نهاهم عنه، فعملوا بالأمر واجتنبوا النهي، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم يعني: لم يخلطوا هذا الإيمان بشرك. أولئك لهم الأمن الأمن التام الذي لا ينالهم معه عذاب في الدنيا ولا في القبر ولا في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا باتباع الحق وسلوكهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الهداية إلى منازلهم التي أعدها الله جل وعلا لهم في الآخرة، فهذا هو آخر الهداية، فيهدون في الدنيا بأن يعملوا بعد الحسنة حسنة، ويزدادون بعد الخير خيراً، ويهتدون في الآخرة بأن يعرفوا مساكنهم أكثر من معرفتهم مساكنهم في الدنيا قبل أن يروها، وهذا من تمام الهداية.

[ قال ابن جرير : حدثني المثنى وساق بسنده عن الربيع بن أنس قال: الإيمان الإخلاص لله وحده. وقال ابن كثير رحمه الله في الآية: أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة. وقال ابن زيد وابن إسحاق : هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟)، وهذا الحديث في الصحيح والمستدرك وغيرهما ].

قوله: (هذا على فصل الخطاب من الله جل وعلا بين إبراهيم وقومه) يعني أن هذا الكلام مستأنف، وأن قصة إبراهيم مع قومه انتهت عند قوله: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81] إلى هنا انتهت قصة إبراهيم، ثم جاء الحكم من الله فاصلاً بين الفريقين -بين إبراهيم وقومه- بقوله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] إلى آخره، فهذا معنى قوله: (هذا على فصل الخطاب) يعني أنه حكم مستأنف حكم الله جل وعلا به بين الفريقين، بين إبراهيم وقومه الذين خاصمهم.

والقول الثاني للمفسرين أن هذا من تمام القصة، وأن هذا من تمام قول إبراهيم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81] قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ويكون هذا من تمام القصة ومن تمام كلام إبراهيم عليه السلام، وهو كلام حكاه الله جل وعلا عن الفريقين، فهو لا يخرج بذلك عن كونه كلام الله تكلم به حاكياً ما وقع بين إبراهيم وقومه، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام كانت لغته غير عربية، ما كان يتكلم بالعربية، والله جل وعلا ذكر هذا باللغة العربية، فهو كلامه الذي حكاه كما وقع لإبراهيم وقومه.

وهكذا سائر قصص الأنبياء، فإنهم ليسوا عرباً، يقول العلماء: العرب من الأنبياء أربعة فقط، وأما بقية الأنبياء فكلهم عجم. فالعرب: هود وصالح وشعيب ومحمد صلوات الله وسلامه عليه، أما بقيتهم فكلهم عجم، وكل قصص الأنبياء جاءت باللغة العربية لأن الله جل وعلا حكى ذلك وتكلم به ناكراً ما وقع لهم، فهو كلامه جل وعلا يذكر ما وقع بين الرسول وقومه، ومنه هذه القصة لإبراهيم.

مكفرات الذنوب غير الشرك

قال الشارح: [ وساقه البخاري بسنده فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي حدثنا الأعمش ، حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] قلنا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون (لم يلبسوا إيمانهم بظلم) بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13])، ولـأحمد بنحوه عن عبد الله قال: (لما نزل قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] إنما هو الشرك) ].

هذا لا يدل على أن الذنوب ليست ظلماً، ولكن يدل على أن الظلم المطلق الذي لا يكون معه أمن ولا اهتداء هو الشرك، أما الذنوب والمعاصي فإن وقعت من الإنسان فإنه يرجى له الخير إذا مات على التوحيد، بل يعلم يقيناً بأنه من أهل الجنة، وأن مآله إليها وإن عذب وإن ناله ما ناله ما دام ليس معه شرك، فمثل هذا لا يقال: إنه ليس له أمن وليس له اهتداء، بل له الأمن والاهتداء؛ لأن مآله إلى ذلك، فإن حدث له تعذيب وعرض له عارض فإنه يزول بخلاف المشرك، فإن الشرك ليس معه لا أمن ولا اهتداء.

فصار كلام الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً لهذا ومبيناً له.

وفيه أن الإنسان وإن كان وقع في معصية فإنه على رجاء من الله وعلى خير، ويرجى له أن يكون مهتدياً ويكون آمناً، والذنوب -ما عدا الشرك- لها طرق كثيرة لإزالتها ومغفرتها، منها كون الإنسان يتوب منها، فالتوبة تمحو جميع الذنوب التي سبقت التوبة إذا كانت التوبة صادقة ونصوحاً.

والتوبة النصوح ما اجتمع فيها شروط التوبة، وشروطها أربعة: أن يندم الإنسان على زلته وعلى ما وقع من الذنب ويود أنه ما وقع منه، وأن يعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليه، وأن يقلع عن الذنب ويتركه، وإن كان مع الذنب مظلمة لغيره من الخلق من الناس فيضاف إلى ذلك أنه يستحل صاحب الحق أو يؤدي إليه الحق، فإذا حصلت هذه الأمور فإن الله جل وعلا يتوب عليه، وقد ندب عباده جل وعلا إلى التوبة، قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور:31]، وهذا لأن المؤمن لابد أن يقع له ذنوب، فأمر الله جل وعلا عباده أن يتوبوا، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، والتوبة النصوح هي هذه التي ذكرناها بالشروط.

والأمر الثاني: أن المصائب التي تقع للإنسان سواء في الدنيا وفي نفسه أو في ماله أو في ولده أو في أقربائه، هذه تكفر ذنوبه، تكون كفارات لذنوبه.

الأمر الثالث: الطاعات التي تقع منه فإن الحسنات يذهبن السيئات، ويكون ذلك أيضاً من المانع من العذاب بالحسنات التي يعملها.

الأمر الخامس: الدعوة التي تحصل له من المؤمنين سواء إخوانه المؤمنون أو الملائكة، فالملائكة يدعون ويستغفرون للمؤمنين، كما أخبرنا الله جل وعلا بذلك، وكذلك المؤمنون بعضهم من بعض، وكذلك منها الصلاة عليه إذا مات، كصلاة المؤمنين عليه واستغفارهم له وشفاعتهم له، فإن هذا قد يكون مانعاً له من أن يعذب، وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك.

الأمر السابع: ما يصاب به من عذاب القبر وضغطته. فإن هذا يكون تكفيراً له.

الأمر الثامن: ما يقع له في المواقف -كموقف القيامة- من الشدائد والأهوال التي تمر عليه، فإنها تكون أيضاً مكفرة لذنوبه.

الأمر التاسع: إذا لم يكف هذا فالنار تطهر أهل القاذورات من المعاصي.

الأمر العاشر: رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء، فإنه إذا شاء غفر لعبده وإن كانت جرائمه كثيرة جداً، ولا يبالي جل وعلا، فهو غفور رحيم.

فكل هذه أسباب لمنع العذاب عن المؤمن، وهناك غيرها مما هو معروف من الشرع.

[ وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي : أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا ].

هذا لا ينافي تفسيره بالشرك، كونه فسر بالذنب لا ينافي تفسيره بالشرك؛ لأن تفسيره بالشرك وجهه ما ذكرنا، فيكون المعنى: ليس لمن أشرك بالله أمن مطلق، ولا اهتداء مطلق أما المذنب فله نوع من الأمن، وله نوع من الاهتداء، ولا ينفى عنه الأمن ولا الاهتداء، فيكون تفسير هذا متفقاً مع التفسير الأول.

أقسام أهل الاصطفاء

قال الشارح: [ قال شيخ الإسلام : والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]، وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب، كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] ].

في هذه المعايير جعل المصطفين الذين اصطفاهم الله جل وعلا -والاصطفاء هو الاختيار لجواره جل وعلا في جنة النعيم- جعلهم أقساماً ثلاثة: منهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ولهذا فالظالم لنفسه فسر بأنه الذي يترك بعض الواجبات ويفعل بعض المحرمات. هذا الظالم لنفسه، يترك بعض ما يجب عليه مما أوجبه الله جل وعلا عليه، ويفعل بعض ما حرمه الله عليه، وهذه ذنوب ومعاصٍ، فهذا ظالم لنفسه، ومع ذلك هو من أهل الاصطفاء الذين اصطفاهم الله، والمقتصد هو الذي يفعل الواجب ويترك المحرم، ولا يأتي بالنوافل ولا يترك المكروهات والمباحات تورعاً وتقرباً إلى الله.

أما السابق بالخيرات فهو الذي يفعل الواجبات ويجتنب المحرمات، ويتقرب إلى الله جل وعلا بعد أداء الفرائض بالنوافل من الصلاة والصوم والصدقة والحج وغير ذلك من أفعال الخير، ولكونهم أقساماً ثلاثة صارت الجنة متفاوتة المنازل على حسب الأعمال، فكل من كان عمله أكثر وصدقه مع الله أعظم وقربه إليه أتم كانت منزلته أرفع وأعلى، وقد ذكر أن الجنة منها ما هو للمقربين، ومنها ما هو للأبرار، ومنها ما صاحبه يغبط عليه، حتى النبيون يغبطونه، فإنه جاء أن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف كما نرى الكوكب الغابر في أفق السماء، فهي منازل رفيعة عالية جداً في الجنة، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين درجة وأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله جل وعلا للمجاهدين في سبيله)، فهذه لهم خاصة، والدرجة المقصود بها هنا الجنة، فالدرجات جنات واحدة فوق الأخرى، وهذه ليست لمائة شخص فقط، لا. بل لأجناس كثيرة جداً، كل مكان في الجنة يسكنها ما يملؤها ممن يشاء الله جل وعلا.

فالمقصود أن الخلق لا يتفقون في الأعمال، منهم المجتهد ومنهم الورع الذي يترك ما هو مكروه أو ملتبس فيه خشية أن يكون حراماً أو ممنوعاً، ومنهم من يفعل ذلك وإنما يجتنب المحرم الصريح ويفعل الواجب الواضح الذي أوجبه الله عليه فقط، والرسول صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على أمور خمسة فقط إذا جاء بها الإنسان فإنه من أهل الجنة قطعاً:

أحدها: أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.فيعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.

والثاني والثالث والرابع والخامس: أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت فلما قال له معاذ رضي الله عنه: (دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، فقط هذه الأمور الخمسة جعلها هي الطريق إلى الجنة، وإذا أتى الإنسان بما هو زائد على ذلك من أنواع الخير وأنواع البر فإن درجته في الجنة ترتفع ومنزلته تعلو ونعيمه يزداد، ولهذا فاوت الله جل وعلا بين عباده في الجنة من أجل ذلك. والمقصود أن الذي يظلم نفسه هو من أهل الاصطفاء، وهو كذلك من أهل الأمن، وإن ناله ما ناله من عذاب أو مصائب تصيبه، فإن هذا يكون تكفيراً له.

أجناس الظلم الثلاثة

[ وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به)، فبين أن المؤمن إذا مات فدخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة الشرك وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التام والاهتداء التام ].

هذه هي أجناس الظلم، وأما قول أبي بكر رضي الله عنه فهو لما نزل قوله جل وعلا: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، فـ(من) هنا شرطية، والجزاء يرتب على الشرط، لذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: أينا لا يعمل سوءاً؟ يعني: لا يوجد أحد ينفك من عمل السوء.

فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من الجزاء الذي يقع هو ما يقع في الدنيا من الجوع والظمأ، وما يصاب به الإنسان من المشقة والمرض والمصائب وإدالة العدو وما أشبه ذلك، فكل ما أصاب المؤمن ولو كلمة تسوؤه من آخر فإنها تكون كفارة لما اجترح وأصاب، فهذا الذي يجزى به، فالرسول صلى الله عليه وسلم فسره بذلك.

وأنواع الظلم التي ذكر هي هذه التي لا يخرج عنها الناس، ظلم يكون بين العبد وبين ربه، وهذا يكون بترك واجب أو فعل محرم، ترك واجب أوجبه الله جل وعلا على الإنسان فيما بينه وبينه، فيما بين العبد وبين ربه جل وعلا، فإذا ترك شيئاً منه فهو ظلم، وهو لله جل وعلا، فله أن يجزي هذا الظالم على ظلمه وله أن يعفو.

والنوع الثاني: الظلم الذي يقع بين العباد بعضهم من بعض، من أخذ الأموال أو التعدي على الأعراض والأجساد أو استطالة في العرض بالكلام بأن يقال فيه ما ليس فيه، أو يقال فيه ما فيه في غيبته، فإن هذا من الظلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين الغيبة قال: (ذكرك أخاك بما يكره. قيل له: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت: هو أشد الظلم وأعظمه فكذلك سائر الحقوق التي تقع من إنسان على الآخر إذا فرط فيها أو ظلمه فيها فإنه يطالب بأدائها، فهذا نوع آخر.

أما النوع الثالث فهو أشدها وأعظمها، وهو الشرك، ولهذا جاء في الأثر أن الدواوين ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً. ومعنى (لا يعبأ) أنه سهل وهين عند الله، يغفره ولا يبالي.

وديوان لا يترك الله منه شيئاً. فالذي لا يعبأ الله به شيئاً هو ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه، إذا شاء أن يغفره غفره جميعاً ولا يبالي به، ولو لم يتب الإنسان منه، وأما الذي لا يترك الله منه شيئاً فهو حقوق العباد بعضهم لبعض، فلابد أن تؤدى، ولابد من أداء الحقوق إلى أهلها، ولابد من القصاص يوم القيامة، حتى المؤمنون من أهل الجنة إذا خلصوا من المناقشة ومن الموقف وخلصوا من الصراط وعبروه أوقفوا في قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لبعضهم من بعض وهذبوا وطهروا، فلا يدخلون الجنة حتى تكون قلوبهم صافية ليس فيها غل على أحد.

وهؤلاء الذين علم الله جل وعلا أن هذا الذنب لا يقضي على حسناتهم بل تبقى حسناتهم التي يسكنون بها الجنة، وأما المظالم العظيمة فإنها تكون في الموقف قبل العبور على الصراط، كل مظلمة تؤدى إلى صاحبها حسنات، والناس وكل واحد يفرح أن يكون على أخيه حق، حتى الوالدة تتمنى أن يكون لها حق على ولدها وبالعكس، ولهذا يقول الله جل وعلا: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36]، ولماذا يفر من أمه وأخيه وأبيه وزوجته؟! هؤلاء هم أقرب الناس وأحبهم إليه، ومع ذلك يفر منهم ويكره أن يراهم، وفراره منهم خوف المطالبة بالحقوق، والمطالبة بالحقوق تكون بالحسنات، يؤخذ من حسناته ويوفى المظلوم حقه، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، ولهذا جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟) ثم قال: (المفلس من أمتي من يأتي بحسنات كثيرة، ويأتي قد ظلم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).

أما الديوان الثالث الذي لا يغفر الله منه شيئاً فهو الشرك، إذا مات الإنسان مشركاً فهو في النار قطعاً بلا شك لا يغفر له؛ لأن الله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فأخبر جل وعلا أن المشرك لا يغفر له، ويقول جل وعلا: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، فالشرك هو الظلم المطلق الذي ليس بعده ظلم، وهو الذي أخبر الله جل وعلا أن صاحبه في النار، غير أن الشرك نوعان وقسمان:

شرك أكبر: وهو أن يجعل مع الله نداً في العبادة. أن تجعل العبادة مقسومة بين الرب جل وعلا وبين أحد من الخلق، والعبادة كلها ما أمر الله جل وعلا به وما نهى عنه، إذا فعل المأمور لأجل مخلوق أو ترك المنهي عنه لأجل مخلوق فإن هذا من الشرك، أما العبادة القلبية التي فيها الحب والخوف والذل والإنابة فهذه إذا وقعت لمخلوق تكون من أعظم الشرك وأكبره.

القسم الثاني: شرك أصغر وهذا لا يخرج الإنسان عن كونه مسلماً، ولا يجعله خالداً في النار، ولكنه من النوع الذي يعذب عليه إذا لم يعف الله جل وعلا عنه، وهو على القول الصواب الصحيح داخل في الكبائر التي تكون تحت المشيئة.

صاحب الذنب معرض للعذاب متوعد بالنار

[ ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله تعالى إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه.

وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما هو الشرك) أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام؛ فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم ].

إن النصوص من القرآن مثل قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، وقوله جل وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93]، وكذلك ذكر جل وعلا قوله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، ويقول جل وعلا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، وما أشبه ذلك من النصوص الكثيرة كلها تدل على أن صاحب الذنب معرض للعذاب ومتوعد بالنار، وكذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة جداً في هذا، فلو قيل: إن المقصود بهذه الآية الشرك الأكبر لناقض ذلك هذه النصوص، ونصوص الكتاب مع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتناقض، بل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر الكتاب وتوضحه وتبين مجمله، فيجب أن يجمع بينها وأن يوفق بينها، ولا يضرب بعضها ببعض كما فعل الخوارج الذين حكموا بأن صاحب الذنب كافر، وأنه إذا مات في النار، وهؤلاء في الواقع ضلوا؛ حيث أخذوا جانباً وتركوا الجوانب الأخرى، وهكذا أهل البدع يتمسكون بشيء ويتركون أشياء، وهم يدخلون فيمن يضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويؤمن ببعض ويكفر ببعض.

[ بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله تعالى عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة، وقوله: (إنما هو الشرك) إن أراد الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك يقال: ظلم العبد نفسه كبخله -لحب المال- ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك ].

يعني أن الذنوب كلها تدخل في الشرك الأصغر، فإذا كان كذلك دخلت الذنوب في قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)، وهذا من باب اللزوم.

[ فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار. انتهى ملخصاً].

قال الشارح: [وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] قال الصحابة: وأينا -يا رسول الله!- لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: (ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13])، فلما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه -أيَّ ظلم كان- لم يكن آمناً ولا مهتدياً أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك، وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها].

إن الظلم تفسيره عند أهل السنة هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد فسره الأشاعرة وغيرهم بأنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهذا خطأ، ولهذا قالوا: إن أي شيء يفعله الله جل وعلا ليس ظلماً؛ لأن كل شيء هو ملك له، فلو خلد الطائع طول عمره في النار لا يكون ذلك ظلماً؛ لأن العباد كلهم عبيده، وكلهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ولو جعل الكافر الذي يقتل الدعاة الذين يدعون إلى الله في الجنة ما كان ذلك ظلماً، ولا كان ذلك فيه اختلاف الحكمة؛ لأنه ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، وقد أخبر الله جل وعلا أنه لا يجعل المجرمين كالمسلمين، وأن هذا لا يقع في حكمه، وأخبر جل وعلا أنه ليس بظلام للعبيد، وفي الحديث الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه -كما في صحيح مسلم-: إن الله جل وعلا يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، فما معنى تحريم الظلم؟ فهل كونه حرم الظلم على نفسه جل وعلا، معناه: حرم التصرف في ملكه؟! لا يمكن. فإنما الصواب في تعريف الظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه. كما في لغة العرب.

وهو تعريفه في الشرع، فإذا جعل على المطيع ذنوباً لم يعملها كان هذا ظلماً، وإذا أُخذت حسناته وأعطيت غيره بغير جرم فعله كان هذا ظلماً، وهذا لا يقع من الله جل وعلا، بل هو الذي حرمه الله جل وعلا على نفسه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وليس التصرف في ملك الغير بغير إذنه كما يقوله أهل البدع ويفسرون به الظلم.

قال الشارح رحمه الله: [ والأمن والهدى المطلق هما الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله.

فالمطلق للمطلق والحصة للحصة . انتهى ملخصا ].

قوله: (فالمطلق للمطلق) يعني: إذا جاء بالإيمان الكامل المطلق فله الأمن المطلق الكامل، وإذا أتى بإيمان غير مطلق -أي: بإيمان مقيد بالمعصية بأن يكون عاصياً- فله أمن مقيد، وليس له الأمن التام والاهتداء التام المطلق.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [9] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net