إسلام ويب

الله عز وجل مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله سبحانه، وهو عز وجل مع خلقه بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وخالف في ذلك الجهمية والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، وحكموا عقولهم في نفي العلو، وتركوا الأدلة من الكتاب والسنة، فمنهم من ردها، ومنهم من أولها، مع أن الأدلة في إثبات ذلك قد تواترت تواتراً لفظياً ومعنوياً.

وجوب الإيمان باستواء الله ومعيته وعدم التنافي بينهما

يقول المصنف رحمه الله تعالى:

[ وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، علي على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4].

وليس معنى قوله: (وهو معكم): أنه مختلطٌ بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آيةٌ من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، وهو موضوعٌ في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان.

وهو سبحانه فوق عرشه، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريفٍ ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطلٌ بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وهو الذي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41] .. وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65] .. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25].

وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه قريب في علوه ].

قد سبق الكلام في العلو، وأن العلو تكاثرت فيه النصوص التي جاءت بها الأنبياء، وكذلك ما أجمع عليه المؤمنون الذين اقتفوا ما جاء عن ربهم جل وعلا، وكذلك الفطرة التي خلقوا عليها، فإنهم مجمعون على هذا، وكذلك إجماع المؤمنين، أما الذين شذوا وفسدت فطرهم وفسد تصورهم فلا عبرة في مخالفتهم لذلك، وسبق أن الأدلة على هذا كثيرة جداً، حتى ذكر ما يقرب من عشرين نوعاً، وكل نوعٍ تحته مئات من أسراب الأدلة، حتى قال ابن القيم : تبلغ الأدلة أكثر من ألف دليل على هذا، ولكن لا تفيد الأدلة إلا من يؤمن بها ويمتثل ما جاء عن الله جل وعلا، أما الذي انحرف وزين له سوء عمله فلا تزيده كثرة الأدلة إلا عمى، نسأل الله العافية.

حكم من لا يؤمن بعلو الله واستوائه على عرشه

وقوله هنا: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه):

معنى الكلام: أن الذي لا يؤمن بعلو الله واستوائه أنه غير مؤمن بالله جل وعلا؛ لأن هذا من الإيمان بالله، ولهذا يقول إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله: من لم يؤمن بأن الله مستوٍ على عرشه عالٍ على خلقه فهو كافر، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ورمي كما ترمى الولائش، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، يعني: أن حكمه يكون غير مؤمن، فإن كان قد امتثل أولاً في الظاهر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون مرتداً لذلك، على ما قاله ابن خزيمة رحمه الله.

أدلة العلو من الكتاب والسنة وتواترها

وقوله: (ما أخبر الله جل وعلا به في كتابه) الأخبار في كتاب الله جل وعلا في هذا كثيرة، كقوله جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] .. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29]، وقوله جل وعلا: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وقوله جل وعلا: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] آيات كثيرة جداً في هذا، وقصده الإخبار بعلو الله جل وعلا، وكذلك ما جاء من لوازم ذلك من كون الكتاب نزل من عند الله جل وعلا، ومعلوم أن النزول لا يكون إلا من العلو، وهذا كثير جداً في كتاب الله.

وقوله: (وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم) يعني: أن الأخبار في علو الله جل وعلا وأنه مستوٍ على عرشه متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتواتر كما هو معروف نوعان:

تواتر لفظي: وهو التتابع في اللغة، بأن يجتمع عليه عدد كثير يستحيل عليهم الكذب أو الخطأ يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن التواتر لابد أن يستند إلى شيء محسوس، إما مشاهد أو مسموع، يسمعونه منه صلى الله عليه وسلم، ثم ينقله عنهم عدد كبير أيضاً، وهكذا إلى أن يصل إلى منتهاه، وهذا قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم متواتراً.

والقسم الثاني: تواتر معنوي: والتواتر في المعنى كثير، فكثير من الأمور التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في المعنى، وهذا من الأدلة الضرورية القطعية، إذا وجد فهو دليل قطعي ضروري لا يجوز مخالفته، ولا يعذر الإنسان بمخالفته.

وقوله: (أجمع عليه سلف الأمة)، السلف: هو الماضي الذي يكون فيه القدوة، وسلف الأمة المقصود بهم الصحابة وأتباعهم، وهم أجمعوا على هذا، ولا يمكن أن يأتي عنهم شيء يخالف ذلك، لو تكلف الإنسان أن يبحث أن واحداً من الصحابة أو من التابعين جاء عنه حرف واحد بأن الله جل وعلا ليس فوق خلقه مستوياً على عرشه ما استطاع إلا أن يكون شيئاً مكذوباً، والكذب معلوم أنه يوجد في طوائف من الناس ممن يكذب لغرض معين، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، حتى إنك تجد الآن كتباً كثيرة كبيرة في مجلدات وكلها مملوءة بالكذب، تسمى: كتب الموضوعات التي جمعها العلماء وبينوا أنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحاديث كثيرة نسبها أناس إليه وهي كذب، ومعلوم أن الكذب على الله جل وعلا وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم الكذب.

قوله: (إنه سبحانه فوق سماواته على عرشه)، أما في الكتاب فالأمثلة كثيرة، وأما في السنة فهي كذلك يصعب حصرها، بل لا يستطاع؛ لأنها كثيرة جداً؛ لأنها مثلما قال: (متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم)، ولكن من أظهر ذلك حديث المعراج حينما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء، حتى ارتفع فوق السماء السابعة وانتهى إلى سدرة المنتهى، فكلمه الله بدون واسطة وأمره بخمسين صلاة، أمره بها وأمته، (فنزل إلى السماء السابعة فلقي موسى عليه السلام فسأله ماذا فرض عليك؟ قال: خمسين صلاة، فأشار عليه أن يرجع إلى ربه جل وعلا ويسأله التخفيف، فإن أمته لا تستطيع ذلك، فرجع بعدما استشار جبريل، فسأل التخفيف، فحط عنه عشراً، ثم هبط إلى موسى فأمره بالرجوع) وهكذا صار التردد بين موسى وبين المكان الذي كلمه الله جل وعلا فيه، وهو يخاطبه جل وعلا، إلى أن صارت خمس صلوات، عند ذلك قال له موسى عليه السلام: (ارجع إلى ربك واسأله التخفيف، فإني بلوت بني إسرائيل على أقل من ذلك فلم يستطيعوه، وهم أقوى أجساماً من أمتك، فقال صلى الله عليه وسلم: قد ترددت حتى استحييت من ربي).

وكذلك منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ -يسأل الجارية- فقالت: في السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة)، في أحاديث كثيرة جداً، صريحة واضحة، لا خفاء فيها.

عدم المنافاة بين فوقية الله سبحانه وتعالى وبين نزوله

وقوله: (فوق سماواته على عرشه)، جاء هذا صريحاً في كتاب الله أنه فوق خلقه، فوق عباده، الفوقية من صفاته جل وعلا، وهي من صفات الذات، بحيث إنها لا تنفك عنه أبداً، فدائماً هو فوق كل شيء، وصفاته لا تشبه صفات خلقه.

فإذا أخبر جل وعلا بخبره الذي قاله وأنزله على رسوله، أو بالخبر عنه الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن خبره قوله جل علا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210]، وقوله جل وعلا: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وقوله جل وعلا: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69]، ونحو ذلك من الآيات التي يخبر بها أنه يجيء إلى الفصل بين خلقه وهم في الأرض، ينزل إليهم، يأتي إليهم.

وأما خبر رسوله صلى الله عليه وسلم فكقوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر، وذلك كل ليلة، ويبسط يده ويقول: هل من مستغفر فيغفر له، هل من سائل فيعطى، هل من تائب فيتاب عليه، حتى يطلع الفجر)، ونحو ذلك من الأخبار التي يخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

فإذا أخبرنا بهذه الأخبار وجاءت، فإن هذه لا تنافي أنه على عرشه وأنه فوق كل شيء، وأنه لا يكون شيء فوقه، فهو يجيء إلى الأرض وهو على عرشه، والمخلوقات كلها تحته، بسماواته وعرشه وجميع المخلوقات؛ لأن علوه ذاتي لازم له، ولا يمكن إلا أن يكون هو العلي الأعلى؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، والسماوات كلها يقبضها بيده جل وعلا، فتكون في يده جل وعلا صغيرة حقيرة، ثم يهزها ويقول: (أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون المتكبرون؟)، ثم يقول: (لمن الملك اليوم؟ فلا يجيب أحد؛ لأنهم مقبوضون في قبضته، فيجيب نفسه جل وعلا، ويقول: لله الواحد القهار).

فهو الواحد الذي ليس كمثله شيء، القهار الذي قهر كل شيء، وكل شيء مخلوق له يتصرف فيه كيف يشاء، وعلوه لا ينافي نزوله كما أنه لا ينافي معيته التي أخبر أنه جل وعلا مع خلقه، كما ذكر جل وعلا الجمع بين العلو وبين المعية؛ لأن هذه من خصائصه، ولا يمكن أن يختص بها مخلوق.

معية الله سبحانه وتعالى معناها وأقسامها

فقال جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، فأخبر أنه مستو على العرش عالٍ على جميع الخلق، وهو معنا أينما كنا، وهذه المعية جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله، ولكنها جاءت على قسمين:

معية عامة: كهذه (وهو معكم)، وكقوله جل وعلا: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، فهذه عامة شاملة للخلق كلهم، وليس معناها كما يتصوره الذين فسدت فطرهم وفسدت لغتهم، وانحرفت عقائدهم، وساءت مقاصدهم، ليس معناها كما يتصورون: أنها تقتضي الاختلاط والامتزاج والحلول، تعالى الله وتقدس، فإن هذا لا يجوز أن يظن.

ولكن المعية معناها كما جاء في اللغة العربية: المصاحبة المناسبة؛ لما تضاف إليه، فالمعية تكون للمصاحب، كما قال الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]، أي: تبعوه وصاروا معه على الإيمان، وليسوا معه مداخلين لجسده، حالين فيه، وكقول الرجل مثلاً: معي متاعي، وقد يكون متاعه فوق رأسه حاملاً له، وقد يكون متاعه ليس معه، أعني ملاصقاً لجسده، بل هو مهيمن عليه ومسيطر عليه، وكذلك يقول: معي مالي، ويقول: معي زوجتي، وإن كانت زوجته في بلد وهو في بلد.

فالمعية تختلف باختلاف ما أضيفت إليه في لغة العرب، ولهذا جاء في كلام العرب: سرنا والقمر معنا، مع أن القمر فوقهم في السماء وهم في الأرض، ومع ذلك يكون الكلام صحيحاً، فتكون المعية التي تضاف إلى الله أعلى وأجل وأعظم من المعية التي تكون للمخلوقات، وهذا يبين لنا أن المعية ليس معناها الاختلاط والامتزاج.

انقسام المنكرين لعلو الله إلى قسمين

فقال جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، فأخبر أنه مستو على العرش عالٍ على جميع الخلق، وهو معنا أينما كنا، وهذه المعية جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله، ولكنها جاءت على قسمين:

معية عامة: كهذه (وهو معكم)، وكقوله جل وعلا: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، فهذه عامة شاملة للخلق كلهم، وليس معناها كما يتصوره الذين فسدت فطرهم وفسدت لغتهم، وانحرفت عقائدهم، وساءت مقاصدهم، ليس معناها كما يتصورون: أنها تقتضي الاختلاط والامتزاج والحلول، تعالى الله وتقدس، فإن هذا لا يجوز أن يظن.

ولكن المعية معناها كما جاء في اللغة العربية: المصاحبة المناسبة؛ لما تضاف إليه، فالمعية تكون للمصاحب، كما قال الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]، أي: تبعوه وصاروا معه على الإيمان، وليسوا معه مداخلين لجسده، حالين فيه، وكقول الرجل مثلاً: معي متاعي، وقد يكون متاعه فوق رأسه حاملاً له، وقد يكون متاعه ليس معه، أعني ملاصقاً لجسده، بل هو مهيمن عليه ومسيطر عليه، وكذلك يقول: معي مالي، ويقول: معي زوجتي، وإن كانت زوجته في بلد وهو في بلد.

فالمعية تختلف باختلاف ما أضيفت إليه في لغة العرب، ولهذا جاء في كلام العرب: سرنا والقمر معنا، مع أن القمر فوقهم في السماء وهم في الأرض، ومع ذلك يكون الكلام صحيحاً، فتكون المعية التي تضاف إلى الله أعلى وأجل وأعظم من المعية التي تكون للمخلوقات، وهذا يبين لنا أن المعية ليس معناها الاختلاط والامتزاج.

القسم الأول: القائلون بأنه في كل مكان

معلوم أن الذين أنكروا علو الله وارتفاعه قسمان كما سبق:

قسم قالوا: إنه في كل مكان، ولم ينزهوه عن مكان من الأمكنة حتى الأمكنة التي تكون محلاً للشياطين، كمحل قضاء الحاجه ونحوه، تعالى الله وتقدس، بل حتى أجوافهم؛ لأنهم قالوا: في كل مكان، وهؤلاء قسم من الجهمية ومن الأشاعرة ومن غيرهم، وليس لهم على هذا أي دليل، إلا ما انتحلوه وزعموا أن العقل دل عليه، وهذا لا يمكن أن يكون عقلاً صحيحاً.

ويجب أن يسأل هؤلاء، ويقال لهم: الله جل وعلا أليس هو الخالق؟ فلابد أن يقروا بأنه هو الخالق للمخلوقات المشاهدة وغيرها، فيقال لهم: لما خلق المخلوقات أين خلقها؟ هل خلقها في ذاته؟ ومعلوم أن هذا كفر، والذي يقوله يكون كافراً، فلابد أن يقروا بأنه خلقها خارج ذاته تعالى وتقدس، منفصلة متميزاً عنها، فإذا كان متميزاً عنها فلابد أن يكون فوقها؛ لأن التحت مقر الشياطين وهو صفة سفول وصفة نقص، وليس هناك إلا تحت وفوق، فالله جل وعلا يتنزه عن صفة النقص، فلابد أن يوصف بالفوقية.

هذا على سبيل المجادلة، مع أننا لا نحتاج إلى مثل هذا؛ لأن الله أغنانا بما أنزل علينا من قوله وبما قررته رسله، وبما خلق فينا من الفطر، ولابد أن كل إنسان يحتاج إلى ربه في وقت من الأوقات، فإذا احتاج إليه فإنه يتجه إليه يسأله، فهل يمكن أن يلتفت يميناً أو شمالاً أو تحت قدمه؟! لابد أن يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب، وهو لم يعلم في ذلك، وإنما فطره الله جل وعلا على هذا وخلقه: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ [الروم:30]، وهذا أمر ضروري.

ولهذا لما كان أحد كبار الأشاعرة، يتكلم في هذا المسجد -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- ويقرر عقيدته الباطلة ويقول في كلامه: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، قام رجل من الناس وقال: دعنا من هذا الكلام الذي لا يفهمه الناس، ولسنا مكلفين به، ولكن أخبرني عن أمرٍ أجده في نفسي أنا وأنت وكل من قال: يا ألله، فإنه يجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى السماء، فيرفع يديه يقول: يا رب! يا رب! من أين أتت هذه الضرورة؟ وكيف ندفعها، أخبرني عن ذلك؟

فسكت الرجل، ثم وضع يده على رأسه وكان على كرسي، ثم نزل وصار يبكي، ويقول: حيرني الرجل، حيرني الرجل، يعني: أنه أفسد عقيدته التي كان يقررها ويدعو إليها، ففسدت بكلمة واحدة، وصار يبكي ما يدري كيف يعتقد!

هكذا الباطل إذا قذف بقذيفة من قذائف الحق دمغته وبطل، والأدلة الدالة لهذا كثيرة جداً، ولكن هذا نوع من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا أحد يستطيع أن يدفع ذلك.

ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم والكتاب المنزل عليه ما جاءا، إلا مؤيدين للفطرة ومرشدين للعقول، أما العقل بذاته فإنه يختلف اختلافاً كبيراً جداً؛ لأن كل إنسان يدعي أنه عاقل وأن العقل معه، والله جل وعلا لا يقاس بالأقيسة ولا تضرب له الأمثلة؛ لأنه ليس له مثل جل وعلا، كما أنه جل وعلا لا يشاهده أحد فيخبر عنه، وقد أخبرنا أنه أكبر من كل شيء، وشرع لنا عند كل خفض أو رفع في الصلاة وفي غيرها أن نقول: الله أكبر، أي: أكبر من أي شيء؟! من عقول هؤلاء الذين جعلوه محصوراً في داخل المخلوقات الصغيرة، تعالى الله وتقدس.

الله أكبر من كل شيء، وأكبر مما يتصوره المتصورون، وخلقه كله صغير حقير بالنسبة إليه، لا يجوز لمسلم أن يتصور أن السماوات على عظمها وكبرها تكون مظلة لرب العالمين، أو تكون مقلةً له، تعالى الله وتقدس! وهي خلق من مخلوقاته، وذرة من قدرته الهائلة الباهرة التي لا يعجزها شيء، وهو على كل شيء قدير.

ولهذا قال: (وليس معنى قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4] أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة)، أي: لا تدل عليه اللغة العربية؛ لأن المعية في اللغة هي المصاحبة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل...)، فهو يكون مع المسافر، ويكون مع أهله الذين تركهم في بلده، وهو على عرشه تعالى وتقدس.

ثم ليعلم أن علماء السلف إذا جاءوا إلى مثل هذه الآية: (وهو معكم)، قالوا: بعلمه، ففي كتب التفسير وفي شروح الحديث وفي كتب العقائد يجمعون على قوله: (وهو معكم) يعني: بعلمه، كما قال الإمام أحمد في قوله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7] ، يقول: إنه العلم؛ لأن الآية بدأت بالعلم وختمت بالعلم، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فختمها بالعلم كما بدأها بالعلم، فدل ذلك على أن المقصود بقوله: (وهو معكم) أي: بعلمه، وهكذا يقول غيره من الأئمة، ولكن ليس معنى هذا أن المعية هي العلم، ليس هذا المراد، ولكنهم بذلك يردون على الجهمية ومن سلك مسلكهم؛ لأن الجهمية كما سبق انقسموا إلى قسمين: القسم الأول الذي ذكرناه: أنهم قالوا: إن الله في كل مكان.

القسم الثاني: القائلون بأنه لا فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه

والقسم الثاني الذين يقولون: لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال العالم، وليس خارج العالم ولا داخله، وليس في مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تصح إليه الإشارة، ولا يحس بحاسة إلى آخره. فأين يكون؟! يكون عدماً على حسب كلامهم هذا، فهؤلاء هم الذين يسمون: بالمعطلة، وهم في الواقع ملاحدة ينكرون وجود الله؛ لأنه لو قيل لأحدهم: ما هو العدم؟ لما أمكن أن يصفه بأكثر مما وصف به رب العالمين، تعالى الله وتقدس.

فالقسم الأول هو الذي رد عليه العلماء بقولهم: المعية المقصود بها العلم، يعني: لئلا يفهم أن الله مخالط خلقه ممازج لهم تعالى الله وتقدس، هذا مقصودهم بقولهم: المعية العلم، وإلا المعية ليست هي العلم وإنما العلم من لوازم المعية، ومعلوم أن علم الله في كل مكان، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأن علمه لا يتغير بقرب الزمن ولا بعده، ما علمه مما سيكون يوم القيامة وبعد الدنيا يقع على وفق علمه بلا زيادة ولا نقصان؛ لأن علمه كامل وتام تعالى وتقدس.

ولكن المعية أكثر من ذلك، المعية هي العلم والإحاطة والسمع والبصر وأن الخلق لا يخفون عليه ولا يعجزونه، وهذه كلها من المعاني التي تدل عليها كلمة (مع) في لغة العرب، بالنسبة لرب العالمين جل وعلا، وهو على عرشه تعالى وتقدس، ولكون هذا مقصوداً جمع الله جل وعلا بين علوه وبين معيته؛ ليعلم عباده أن علوه فوق خلقه كلهم لا ينافي معيته وقربه، وأن أخباره تتفق ولا تتضارب، ويجب أن تفهم على المقصود الذي أراده جل وعلا، وأن تصان عن الظنون السيئة، وعن الجهل الذي قد يدعو صاحبه إلى أن يعتقد شيئاً يجب أن ينزه الله جل وعلا عنه، كأن يقول في معنى: (وهو معكم): أنه يكون مخالطاً لخلقه، ومعلوم أن هذا لا توجبه اللغة، فإن كلمة (مع) تستعمل مع كل من كان مهيمناً على الشيء ومسيطراً عليه يصح، ولو قدر مثلاً في الخلق أن صبياً في الشارع مثلاً يبكي أو يصيح، ويطلع عليه والده من سطح البيت، فيقول له: لا تخف أنا معك، لكان هذا الكلام صحيحاً، وليس فيه مخالفة للغة العربية، والمعنى: أنه مراقب له وأنه سوف يكون حافظاً له مما قد يؤذيه على قدر استطاعته؛ لأن المخلوق استطاعته محدودة، ولكن المقصود أن كلامه صحيح، وهذا إذا صح في المخلوق فكيف برب العالمين إذا أخبر أنه مع خلقه؟! كيف يكون هذا فيه مخالفة لكونه مستوياً على عرشه، لا يكون ذلك إلا لأحد رجلين: إما رجل جهل ربه فلم يعرف ربه المعرفة الواجبة، وإما أنه انحرفت نيته ومراده وقصده فأصبح يريد باطلاً؛ لأن الأمر واضح في هذا، ولهذا قال: (وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة)، يعني: أن كلمة: (مع) لا تدل على المخالطة والممازجة، كما أنها لا تدل على المماسة.

وهذا واضح، لما قال جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]، فلا يلزم أن يكونوا مماسين له، بل معه على الإيمان وإن كانوا في بلد وهو في بلد، والكلام صحيح، فإذا كان هذا يصح في لغة العرب بالنسبة للمخلوقين، فكيف لا يصح بالنسبة للخالق جل وعلا؟! وهو كما قلنا: لا يجوز أن تكون صفاته مماثلةً لصفات خلقه، ثم هذا الكلام كله يعني: كونه مستوياً على عرشه عالياً على خلقه، وكونه معنا، كله حق يجب أن يفهم على حقيقته، وليس فيه مجاز كما يقوله المبطلون، لا في العلو ولا في المعية؛ لأنه مفهوم من كلام الله ومن قدرة الله وقوته وعظمته أنه على عرشه ومع خلقه، إذا أراد أن يقبضني بيده قبضني، فسماواته وأرضه تكون في يده صغيرة حقيرة، فإذا كان في هذا الوصف يصح جداً أن يقال: إنه معهم.

أقسام المعية

لهذا صارت المعية قسمها الأول الذي ذكرنا: يقتضي الخلق والمراقبة وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، يعني: لا تتركوا أمره ولا ترتكبوا نهيه؛ فإنه يراقبكم ويبصركم، ويعلم ما في قلوبكم، ويرى تصرفاتكم، وأنتم لا تعجزونه، إذا شاء أن يأخذكم أخذكم، وذلك على الله يسير، فالمعية العامة من معانيها الخوف والمراقبة.

أما القسم الثاني من أقسام المعية فهو المعية الخاصة التي تكون لأنبيائه وأوليائه وعباده المؤمنين، فهو معهم دون الكافرين، ودون الفاجرين، ودون الفاسقين، كما قال جل وعلا لكليمه موسى وأخيه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وذلك لما قالا: إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45]، يعني: أن فرعون من فرطه وحمقه وجبروته وقهره يمكن أن يصدر منه أو يبدر منه بوادر يكون فيها أذية أو قتل لنا؛ لأن عنده من السلطة والقوة والبطش بمن تحت يده ما هو معلوم، فقال الله جل وعلا لهما: لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، فهو جل وعلا مع موسى وأخيه هارون دون فرعون وقوم فرعون في هذه المعية؛ لأنها معية خاصة بموسى وهارون فقط، ولهذا صار معنى هذه المعية غير معنى المعية الأولى، فهذه من معانيها النصر والتأييد والحفظ والكلاءة، وهذا خلاف المعنى الأول، ولو كانت المعية تقتضي الممازجة والمداخلة لم يمكن أن تكون بهذه المعاني، هذا أمر متفق عليه بين أهل الحق الذين عرفوا اللغة العربية وفهموا خطاب الله جل وعلا، وكذلك قدروا ربهم حسبما علمهم الله جل وعلا ووصف نفسه لهم.

ثم قال: (وخلاف) أي: أن الاختلاط والامتزاج خلاف ما فطر الله جل وعلا عليه الخلق، فالمقصود بذلك الفطرة التي لم تتغير لا بالتجهم ولا بالاعتزال؛ لأنه إذا تغيرت الفطرة بالبدع وأنشئ الإنسان عليها؛ فإن فطرته تفسد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسان)، يعني: أن أبويه يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، أو جهمياً أو معتزلياً، والمقصود بالأبوة: أي: المربي الذي يربيه ويعلمه ويلقنه هذه الأشياء.

ولهذا إذا ربي الناس على الفساد تربوا عليه، وألفوه وأصبحوا لا يريدون سواه، وأصبح الحق مبغضاً محارباً مكروهاً غير موافق لهم، وإذا ربوا على الحق والفضيلة والنزاهة صار ذلك مألوفاً محبوباً مراداً، والفساد والرذائل مكروهة مبغضة منبوذة، والإنسان على ما يربى عليه، وسواء كانت تربيةً خاصة أو تربيةً عامة.

فالتربية الخاصة: هي التي تكون من الوالدين والتي تكون من المعلم.

أما التربية العامة: فهي التي يتعلمها الإنسان من المجتمع، أو من الإعلام العام من صحافة أو إذاعة أو غيرها، فهذه التربية حسب التوجيه الذي يوجه به الناس الذين يتلقون ذلك ويتربون عليه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهذا أمر لا ينكر.

أمثلة تدل على علو الله على خلقه

قوله: (بل القمر آية من آيات الله من أصغر المخلوقات) هنا يضرب لنا مثلاً ولله المثل الأعلى، فالقمر صغير بالنسبة للمخلوقات في السماوات وفي الأرض، فهو بالنسبة للسماء، من أصغر المخلوقات وهو موضوع في السماء، والمقصود بالسماء العلو بحيث لا يستطيع الإنسان أن يتناوله؛ لأنه بعيد جداً، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم.

فإذا كان القمر مثلاً من مخلوقات الله الصغيرة وهو يشاهد في السماء، ويصح أن يقول الإنسان -سواء كان مسافراً أو مع الناس مجتمعاً-: القمر معنا، وهو منفصل عنه بعيد عنه، فكذلك رب العالمين أولى -وله المثل الأعلى- أن يكون فوق عرشه وهو مع خلقه.

وأصل هذا المثل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في السنن المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن الله يكلمكم يوم القيامة، كل واحد يكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا واسطة ولا حاجب يحجبه، قال أبو رزين العقيلي : كيف ذلك يا رسول الله! وهو شخص ونحن كثيرون؟ فقال: أخبرك بآية من آيات الله جل وعلا؛ هذا القمر تشاهدونه في السماء، كل واحد منكم يستطيع أن يخاطبه أو يشاهده مخلياً به، فالله أكبر وأعظم)، وهذا تقريب للأذهان فقط، وإلا فهو آية من آيات الله جل وعلا، والله جل وعلا لا يقاس بالمخلوقات ولا بشيء من المخترعات وإن كان كبيراً، فالله أكبر وأعظم.

وقوله: (وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه)، الرقيب: هو الذي يطلع على الشيء ولا يخفى عليه شيء منه، يراقبه ببصره ونظره وكذلك بسيطرته عليه، فيراقبه في جميع تصرفاته، فالله رقيب على خلقه يشاهدهم ويسمع كلامهم، ويعلم ما انطوت عليه قلوبهم من النيات، فهو يعلم السر وأخفى، فالسر الذي يكون في قلب الإنسان ولم يتكلم به يعلمه الله عز وجل، والشيء الذي لم يكن ولكنه سيكون؛ فإن الله يعلم أنه سيكون كذا وكذا في وقت كذا وكذا، كذلك في قبضته لهم فإنهم لا يعجزونه، وإذا أراد أخذهم أخذهم، وهو على كل شيء قدير.

وقوله: (مهيمن)، المهيمن: على وزن مفيعل، وليس هذا من باب التصغير، فإن أسماء الله جل وعلا لا يجوز أن تصغر، والهيمنة هي المشاهدة، فلا يخفى عليه شيء وهم في قبضته وإحاطته، ولا يخرج عن هيمنته من ذواتهم ولا من تصرفاتهم شيء، تعالى الله وتقدس، وهذا كله مما يبين معنى المعية.

قوله: (مطلع عليهم) من الاطلاع وهو النظر.

(إلى غير ذلك من معاني ربوبيته) يعني: أن هذه من معاني الربوبية؛ لأن الرب هو المالك المتصرف الخالق الذي لا يعجزه شيء.

ثم قال: (كل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم) يعني: أن قوله: (وهو مستو على عرشه وهو فوق خلقه) أنه على ظاهره حق على حقيقته، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وقوله: (وهو معكم) ظاهر على حقيقته ولكن الحقيقة اللغوية والمعنوية التي دلت عليها اللغة، وليس الحقيقة التي يقولها من انحرف وفسد تصوره، ولهذا قال: (لا يحتاج إلى تحريف)، يعني: إلى تأويل، كقول القائل مثلاً: كونه معنا يوهم أنه داخلٌ في العالم فيحتاج إلى أن نؤوله، ونقول: هذه المعية يقصد بها ملائكته الذين كلفهم بحفظ كلام الناس وأعمالهم، كل هذا لا يحتاج إليه، بل هو جل وعلا معنا بمعيته وهو على عرشه، ولا يجوز أن نقول: إنه معنا بذاته؛ لأنه إذا قيل بالذات فالذات معناها: أنه مختلط بالناس، تعالى الله وتقدس! فذاته على عرشه، ولكن مخلوقاته بالنسبة إليه صغيرة حقيرة.

وكل ذلك على ظاهره، ولا يحتاج إلى أن نقول: إنه العلم فقط، بل العلم والهيمنة والرقابة والشهود، وغير ذلك من معاني هذه الصفة التي وصف بها نفسه.

وقوله: (ولكن يصان عن الظنون الكاذبة)، الظنون الكاذبة: إما أن تكون منشؤها من الجهل أو من فساد التصور، ومثل لذلك بقوله: (كأن يظن بأن معنى قوله: (وهو في السماء) أن السماء تظله)، ومعنى تظله: يعني تكون فوقه، مثل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إلى السماء الدنيا، فإنه قد يظن ظان أن السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي يكون فوقه تعالى الله وتقدس، فهذا الظن باطل وكاذب، إن نقله عن أحد من الناس فهو كاذب في نقله، وإن ظنه هو فهو باطل في ظنه، وضال في عقيدته، فيجب أن تصان معاني صفات الله جل وعلا ومعاني كلامه عن الظنون الفاسدة والتصورات الباطلة.

ثم بين أن هذا يقرب بقدرة الله جل وعلا؛ لأن الإنسان لا يحيط بالله جل وعلا، ولا يحيط بمعاني صفاته وإنما يتصور المخلوق مثله، أما معاني صفات الله جل وعلا فهي على خلاف ذلك، فقرب المعنى بذكر عظمة الله، فقال: وهو الذي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41] يمسكهما بقدرته تعالى وتقدس، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك فقال في السماء: إنكم ترونها بلا عمد تعتمد عليها، ولكن الله ممسكها بقدرته جل وعلا، وهو جل وعلا غير محتاج لا للعرش ولا لغيره، وإنما العرش يحتاج إليه تعالى وتقدس.

الأسئلة

ضعف النقل عن أحمد في تأويل مجيء الله تعالى

السؤال: فضيلة الشيخ! هل يصح عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال في قول الله تعالى: (( وَجَاءَ رَبُّكَ ))[الفجر:22] أي: أمر ربك؟

الجواب: هذا نقل عنه، ولكنه نقل غير صحيح، فخطأ ابن تيمية رحمه الله الناقل وقال: إنه أخطأ في هذا، وذلك أن فيه ملابسات في هذا الأمر حينما كان في السجن فالتبست على الناقل فظن أنه قال هذا فنقله، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيرجع إليه.

معنى قوله: (بائن عن خلقه)

السؤال: ما معنى قول المصنف: (بائن عن خلقه)؟

الجواب: البينونة واضحة يعني: أنه غير مختلط بخلقه ليس داخل السماء ولا في الأرض بل هو فوق العرش، هذا معنى بائن، يعني: أنه فوق عرشه، وهذا رد على الذين يقولون: إنه مع خلقه بذاته، ويقولون: إنه في كل مكان، وهذا واضح ليس فيه التباس.

حقيقة نزول الله في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا

السؤال: إن الله سبحانه وتعالى ينزل في الثلث الأخير من الليل ويجيب الدعوات، فهل النزول حقيقي؟

الجواب: النزول حقيقي على ظاهره، وينزل وهو فوق عرشه جل وعلا، كما أنه ينزل يوم القيامة إلى الأرض فيفصل بين خلقه وهو على عرشه، ولا يكون شيء فوقه، هذا يجب أن يفهم على ظاهره كما سبق تكلمنا على النزول في الدرس الماضي، وقلنا: إن نزول الله ليس كالنزول الذي يتصوره الإنسان لمخلوق.

المخلوق إذا كان فوق السطح فنزل من على السطح فلابد أن يكون السطح فوقه، هذا نزول المخلوق، ولكن نزول الخالق ليس مثل هذا؛ فهو نزول خاص به، ونزوله يجب أن يكون مثل صفاته، وليس مثل صفات المخلوقين، وصفاته جل وعلا أخبرنا بشيء من هذا النوع، الذي يقرب للإنسان هذا المعنى، مثلما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يوم القيامة إذا جمع الناس من أولهم إلى آخرهم، في صعيد واحد وقام كل واحد واقفاً على قدميه؛ لأن الأرض لا تتسع لهم إلا وهم وقوف، وذلك لكثرتهم، مع إزالة البحار والجبال ومد الأرض مد الأديم؛ فإذا جاء لفصل القضاء فإنه يخاطبهم كلهم في آن واحد، وفي لحظة واحدة، يقول: فعلت كذا يوم كذا، وهذا لا يمكن أن يتصور من مخلوق ولا شيء من ذلك.

وكذلك في الوقت الحاضر الأرض مملوءة والحمد لله من المسلمين الذين يدعون الله، تجدهم في وقت واحد يتجهون إلى ربهم يدعونه، وكل واحد يستمع له الله جل وعلا، ولا يشغله سماع هذا عن سماع الآخر؛ تعالى الله وتقدس! فالمقصود أن يقاس فعله على فعله، ولا يقاس فعله على فعل المخلوقين فيضل الإنسان في هذا، فنزوله من هذا النوع، وبهذا يجاب عن الإشكال الذي يستشكله الذي يتصور أن نزوله كنزول المخلوقين، يقول: إن ثلث الليل يختلف باختلاف الأقاليم، فإذا قلنا بالنزول إنه ثلث الليل، يلزم من ذلك أن يكون نازلاً دائماً، فهذا لو كان النزول كنزول المخلوق، يمكن أن يتصور، أما بالنسبة لنزول الله فلا يتصور هذا، فهو نزول خاص به جل وعلا.

حكم إدخال المعية الخاصة في المعية العامة

السؤال: أما نستطيع أن ندخل المعية الخاصة في المعية العامة؟

الجواب: لا نستطيع؛ لأن هذه لها معنى وهذه لها معنى، فالمعاني التي ذكرها الله لا تتداخل وقد ميزها جل وعلا.

حكم تفسير المعية بالعلم

السؤال: أليست المعية هي العلم؟

الجواب: لا، ولكن من لوازمها العلم، وقد يفسر الشيء بلازمه كما هي عادة السلف، السلف يفسرون الشيء بلازمه، ولاسيما إذا كان الذي يسمع لا يفهم، وإنما يفهم اللازم فقط، فإنهم يقتصرون على هذا.

حقيقة وجود بحر فوق السماء السابعة

السؤال: هل يوجد فوق السماء بحر؟

الجواب: نعم فوق السماء السابعة بحر عظيم وفوقه العرش، وقد سبق أن تكلمنا على ذلك، ولكن المصنف أعاده؛ لأجل التمثيل على عظمة الله جل وعلا.

حكم دخول الأشاعرة في أهل السنة والانتساب إليهم

السؤال: هل يعد الأشاعرة من أهل السنة؟ وهل إطلاق تسمية أشاعرة صحيحة مع أن أبا الحسن الأشعري قد تاب عن عقيدته؟

الجواب: الأشاعرة ليسوا من أهل السنة، بل الأشاعرة من أهل البدع، والانتساب إلى الأشعري غير صحيح، فلا يجوز أن ينتسب الإنسان إلى الأشعري، وإنما يجب أن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الواسطية [14] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net