إسلام ويب

رؤية الله عز وجل في الآخرة لا شك فيها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فهم وسط بين من يثبتون الرؤية في الدنيا والآخرة حقيقة، وبين من ينكرون الرؤية في الدنيا والآخرة. والآيات القرآنية صريحة واضحة وجلية في إثبات الرؤية، والأحاديث النبوية الصحيحة مستفيضة ومتواترة في إثبات الرؤية أيضاً، وما على المؤمن الصادق إلا أن يؤمن بذلك ويصدق به.

رؤية الله عز وجل أحكام ومذاهب

يقول المصنف رحمه الله تعالى:

[ وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا). متفق عليه ].

سبق بعض الأحاديث التي ذكرها في بعض الصفات مثل العلو والاستواء وكذلك النزول، ثم كذلك ما ذكر من الجمع بين الاستواء وبين المعية، ثم ذكر هذا الذي في الرؤية: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا). متفق عليه.

استفاضة أحاديث الرؤية عن النبي عليه الصلاة والسلام

هذا الحديث جاء عن عدد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إنه بلغ حد التواتر، أما الاستفاضة فهذا لا إشكال فيه، فإنه مستفيض عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا يقول يحيى بن معين : عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحيحة.

وبلغت أكثر من ذلك، وقد ألف العلماء في هذه المسألة مؤلفات خاصة كـالدارقطني والآجري وغيرهما وهي معروفة عند أهل العلم؛ وذلك لأن هذه مسألة عظيمة جداً، فأهل السنة يتميزون بإثباتها، خلافاً لأهل البدع، وهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم) فيه تأكيدات بليغة أكدت بإن ثم بالسين التي تدل على التأكيد أيضاً، ثم بالفعل وكل هذه تأكيدات بليغة، مع أنه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : لو أن إنساناً تكلف أن يأتي ببيان أكثر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما استطاع أن يأتي بكلام فيه بيان إثبات الرؤية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي البلاغة والفصاحة، كما أنه من المعلوم أنه أعرف الخلق بالله جل وعلا وبما يجب له وما يستحيل عليه، وقد وكل الله جل وعلا إليه بيان الإيمان للناس، وبيان ما أنزل إليه.

وهناك أمور كثيرة تدل على وجوب اعتقاد أن ظاهر قوله حق يجب أن يؤخذ به، ومن المعلوم أن أهل السنة لا يترددون في هذا، بل غاية مقصودهم أن يسأل أحدهم أن يمكنه ربه جل وعلا من رؤية وجهه الكريم يوم القيامة، والغريب أن هؤلاء الطوائف المبتدعة ينكرون أفضل ما يجزي به رب العباد عباده، وأفضل ما ينعم به عليهم، وهذا بناء منهم على بدعهم الضالة، وأهل السنة والجماعة إنما يثبتونه بحسب النصوص وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة متواترة على ذلك كما تقدم.

وهو ثابت في عرصات القيامة في المواقف أنه يرى جل وعلا، يراه عباده المؤمنون وكذلك إذا دخلوا الجنة، وهذا هو الذي يكون نعيماً، كما أن الأول أيضاً من النعيم والكرامة، ومقابل النعيم العذاب، فإن الكفار يحجبون عن رؤية الله جل وعلا تعذيباً لهم.

أما لماذا أنكروا ذلك؟ ومن الذي أنكره؟ فالذين أنكروه كما يقول عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني يقول: أجمع أهل العدل كافة على عدم الرؤية، والزيدية والخوارج وبعض المرجئة. أما قوله: أهل العدل فمقصوده بأهل العدل هم المعتزلة، فهم يسمون أنفسهم: أهل العدل، والعدلية مع أنهم أهل الجور والظلم بلا إشكال، وهذا شيء معروف، أما لماذا أنكروا الرؤية مع أنه قد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فلأنهم يستندون إلى العقل، ويقدمونه على الكتاب والسنة.

آيات قرآنية في إثبات الرؤية

قال الله جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] وقوله جل وعلا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وقد ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم؛ لأن الحسنى الجنة والزيادة: هي النظر إلى وجه الله، وهو أعلى من نعيم الجنة، والنصوص كثيرة : كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] يقول الشافعي رحمه الله: لما حجب أعداءه دل على أنه ينعم على أوليائه برؤيته، وأنهم يرونه.

وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً وصريحة وواضحة، ومن المعلوم عند أهل السنة أن ما دلت عليه الأحاديث كالذي دلت عليه الآيات ولا فرق، فيجب قبوله والإيمان به، فلا عذر لمن أنكر ذلك، أما الشبه الواهية التي يتعللون بها فهي أصل دينهم الذي بنوا عليه مذهبهم وهو أن العقل هو الذي يرجع إليه، ويسمون أدلة العقل: براهين، أما أدلة الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دلالة الآيات فإنهم يجعلونها ظنية، وهذا من أبطل الباطل، ومعروف أنه لا ينطلي على أهل الحق مثل هذا الكلام، ولا يؤثر في عقيدتهم، ولكن قد يوردون بعض الشبه التي تؤثر على بعض من لم يعرف الحقائق.

أهل الباطل لا يستدلون بالآيات أو ما تدل عليه الأحاديث إن كانت عليهم، فكيف يكونون هم أهل عدل وهم هكذا يصنعون، فقد استدلوا بقول الله جل وعلا: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] على نفي الرؤية مع أنهم يقولون: دلالة النصوص ظنية، فلا يثبت بها ما هو من العقائد، وهذا أيضاً من طريقتهم.

وكذبوا أيضاً على اللغة وقالوا: إن (لن) في اللغة العربية تدل على تأبيد النفي، وهذا معروف أنه ليس بصحيح، ولهذا نص ابن مالك في الألفية على نفي ذلك وإبطاله؛ لأنه معروف ومشهور.

وليس هذا هو المقصود، إنما المقصود الشبه التي يوردونها ما العلة؟ ما السبب؟ هل يجوز لمسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يأتيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيرده؟. من رده معنى ذلك أنه لم يشهد أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله بعد اعتقاد أنه رسول أنه تجب طاعته، وإلا لم يكن صادقاً في كونه شهد أن محمداً سول الله، فيرجع الأمر إلى أصل الدين في رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم، الله جل وعلا يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] .

الرد على شبهات منكري الرؤية

الأمر ليس سهلاً فلا يتساهل في مثل هذا، بل الأمر صعب جداً؛ لأنها قضية إيمان وكفر، وليس معنى هذا أننا نقول: إن هؤلاء الذين أنكروا الرؤية كفار، يجب عليهم ما يجب على الكفار، ولكن نقول: هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأن الله أخبر أنه ينتفي الإيمان عند ذلك، فأكبر الشبه التي قالوها وهي أصل دينهم قالوا: إننا عرفنا الله جل وعلا بحدوث الأجسام، يقولون: إن هذه المخلوقات لما نظرنا إليها وجدنا أنها فقيرة تعتريها الأعراض، مثل: الجهل والعلم والمرض والصحة، والكبر والصغر، والموت والتغير وما أشبه ذلك، وهذه كلها تدل على أنها محدثة. نقول: نعم هذا صحيح، يقولون: إذاً الأصل هو هذا، والذي صار كثيراً محدثاً وجد بعد إن لم يكن موجوداً فلا بد أنه يموت ويتغير، ولا يجوز بتاتاً أن يكون الموجد له مشابهاً له في شيء من الأشياء، وإلا بطلت الأدلة وبطلت الأديان، والمرئي لا بد أن يكون جسماً؛ لأن النظر لا بد أن يقع على مقابل، ولا يكون الشيء مقابلاً إلا إذا كان جسماً، فيلزم الذين يثبتون الرؤية أن يثبتوا الجسمية، أن يقولوا: هو جسم، وهذا كفر.

هذه أكبر شبهة قالوها، وقد التزمها أعداؤهم مثل: الكرامية، قالوا: نعم نقول ذلك ونحن أسعد بالنصوص منكم، لأن هذا دلت عليه النصوص فنحن نقول به ولا ضير علينا، نقول: إن الله جسم؛ لأن النصوص دلت على ذلك، وهذا كله باطل بلا شك سواء، قول هؤلاء وقول هؤلاء.

ولكن مثلما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإنسان إذا قرأ كتب هؤلاء المبطلة من أهل البدع لا يستفيد شيئاً إلا إبطال أقوال بعضهم ببعض، ويعرف أن قول هذا باطل بقول هذا؛ لأن كل واحد من هؤلاء يبطل قول الفريق الثاني.

والرد الصحيح الذي يجب أن يرد على هؤلاء أن نقول: كلامكم هذا أصله مبتدع، أصل المسألة بدعية، الرسل لم يأمرو الناس بأن ينظروا إلى الأعراض وإلى الأجسام حتى يستدلوا بها على الله جل وعلا؛ لأن معرفة الله أمر فطري مركوز في الفطر، والرسل إنما أتت بالإيمان والإيمان إنما يكون بالوحي، فهم ليسوا بحاجة إلى ما قاله أصحاب الاعتزال من هذه الافتراضات التي قالوها وجعلوها أصل الدين، ثم بنوا على ذلك أن الذي لا يعرفها لا يكون مؤمناً، فيكون أصل مقالتهم فاسدة ومردودة، هذا أمر.

الأمر الثاني: أننا كلفنا بالإيمان وقبول ما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، بدون أن نرجع إلى عقولنا في ذلك.

الأمر الثالث: أن الله جل وعلا أخبرنا أنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فهو جل وعلا حقيقة له سمع وله بصر وله وجه وله يدان كما أخبر، ولكن ليست هذه الصفات كصفات خلقه؛ لأنه كما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.

الأمر الرابع: أننا نؤمن حقاً بأن الله جل وعلا له ذات، وأنه مستوٍ على عرشه، وكلما كان له ذات ووجود، يصح في العقل نظره، مع مجيء الشرع بذلك، وليس في هذا أي محذور، وهذا الذي جاء به القرآن وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق، ونحن لا نلتفت إلى ما قاله المعتزلة وإخوانهم الذين سلكوا هذا المسلك ، فإذا جاءوا بشبه نحو هذه الشبه نقول: هي مردودة جملة وتفصيلاً، أما الإجمال فنعرف أن كل ما خالف قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل.

أما التفصيل فبنحو ما ذكرنا، وغيره كثير مما أبطل العلماء به أقوال هذه الطائفة المبتدعة الضالة التي ضلت في عقلها وفي دينها، وصارت تتبع شبهاً وتترك النصوص الواضحة الجلية، ويكون الأمر مثلما قال الله جل وعلا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] مع أن هذا ليس فيه تشابه في الواقع بل هو جلي وظاهر، وما أكثر النصوص التي دلت على هذا! والعلماء استدلوا على هذا -كما سبق- بأدلة كثيرة مثل لفظ: اللقاء، فكل آية جاء فيها لفظ اللقاء فهي تدل على الرؤية كقوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ [البقرة:46] وما أشبه ذلك، فاللقاء كما هو ثابت في اللغة: هو المعاينة بعد المسير والكدح، فهي تتضمن الرؤية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وبهذا يتبين لنا أنه لا عذر لمن أنكر الرؤية، وأنه خليق بأن يحرمها يوم القيامة؛ لأنه أنكر أعلى نعيم أهل الجنة، وكل مؤمن بالله جل وعلا يجتهد في دعائه ربه أن يمنحه النظر إلى وجهه الكريم.

حقيقة الرؤية في قوله: (كما ترون القمر)

أما لفظ الحديث، فإنه يقول: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) القمر في اللغة يكون قمراً بعد ثلاث ليال إلى آخر الشهر، والبدر: هو التمام إذا امتلأ نوراً، وذلك ليلة أربعة عشر، وسمي: بدراً؛ لأنه يبادر طلوعه غروب الشمس، وغروبه طلوع الشمس، ولأنها تتم مقابلته للشمس فيمتلئ نوراً، وأي شيء أوضح من هذا، والغريب أنه جاء في الشمس أيضاً، (كما ترون الشمس ضحوةً ليس بينكم وبينها قتر ولا سحاب).

ثم إِن هذه الكاف هي كاف التشبيه، (كما ترون) والتشبيه للرؤية في وضوحها وجلائها، وسهولتها، أي: سهولة وصول كل واحد إليها، يعني: أنكم ترونه بارزاً جلياً واضحاً كل واحد يراه مخلياً به كما يرى هذا الشيء الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في حديث أبي رزين ما يوافق هذا بل هو أصرح، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (إنكم تلقون ربكم فيحاسبكم ، قال له: كيف نلقاه ونحن كثيرون وهو واحد قال: ألا أخبرك بآية ذلك؟ قال: بلى، قال: هذا القمر أليس كل واحد منكم يراه مخلياً به؟ قال: بلى، قال: إنه مخلوق صغير من آيات الله، فالله أكبر وأعظم)، فهذا تشبيه الرؤية بالرؤية، والجامع بينهما الوضوح والجلاء والبروز، ولهذا جاء في نفس حديث جرير : (إنكم ترون ربكم عياناً) أي: معاينة، وقوله: (كما ترون القمر) تأكيد بعد تأكيد، وهذا كله ينفي كل توهم بأنه يجوز أن يكون مجازاً أو يكون المقصود شيئاً آخر ثواباً أو غير ذلك، فجاءت هذه التأكيدات تبطل كل احتمال مع أنها واضحة جلية.

وقوله: (لا تضامون في رؤيته) هكذا جاء بضم التاء وتخفيف الميم (تضامون) ويكون ذلك من الضيم وهو الظلم، يعني: لا يلحقكم في رؤيته ضيم، بل إنكم تمكنون من الرؤية تمكناً تاماً دون تعب أو مشقة.

وجاء أيضاً: (تضامون) بتشديد الميم، يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض عند الرؤية، مثل إذا رأيتم الشيء الخفي فإن العادة أن الناس يساعد بعضهم بعضاً على رؤيته، مثل: رؤية الهلال، كل واحد يقرب إلى الثاني حتى يساعده على رؤيته فهذا لا يحتاج إلى ذلك، لأنه بارز وواضح، والله جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره).

وسبحات وجهه بهاؤه وجماله ونوره، ومعلوم أنه لا يحجب بصر الله شيء أبداً فهو بصير بكل شيء، فلولا الحجاب لاحترق كل شيء بنوره جل وعلا، ولكن المؤمنون كمل إيمانهم في الآخرة، فأعطوا الكمال الذي ليس فوقه شيء للمخلوق، فلهذا صح أن يروا ربهم جل وعلا، وهذا يدل على أنه لا يمكن ذلك في الدنيا، كما جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم في قصة الدجال: (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت)، وفي قصة موسى عليه السلام : رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] يعني: في هذه الدنيا، فجعل مثالاً لذلك أن الجبل إذا ثبت للرؤية فهو ممكن ثبوتك؛ فلما تجلى ربه للجبل تدكدك الجبل، عند ذلك خر موسى صعقاً فلما أفاق قال: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143].

أقسام الناس في رؤية الله عز وجل في الدنيا والآخرة

والناس في الرؤية بين متطرف وبين غال، وبين متوسط، أي أن الناس في الرؤية ثلاثة أقسام:

القسم الأول: هم الذين أثبتوها في الدنيا والآخرة، وقالوا: إن الله جل وعلا يرى، وليس معنى ذلك أنه يرى في المنام، أما الرؤيا في المنام فهي ليست حقيقة؛ لأنها مثل يضربه الملك الذي وكل بالرؤية، ولهذا يمكن للمخلوق أن يرى ربه في المنام؛ لأن هذا ليس هو رؤية الله حقيقةً، فإن كان إيمانه حسناً فإنه يرى صورة حسنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (رأيت ربي في أحسن صورة) يعني: في منامه، فلما كان إيمانه هو أحسن الإيمان رآه في أحسن صورة، أما غيره فلا يمكن أن يراه في الصورة التي رآه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يكون أدنى من ذلك.

والمقصود بهذا أن الرؤية المنامية ليست حقيقية، وهي ممكنة، ولكن هؤلاء الذين أثبتوا الرؤية في الدنيا لا يقصدون هذا؛ لأن هذا لا خلاف فيه بين أهل السنة ، وإنما يقصدون الحقيقة، وهؤلاء أصحاب أمراض وأصحاب أوهام وأصحاب خيالات، فيخيل إليهم أنهم يرون شيئاً، وأحياناً يكونون أصحاب أمراض وشكوك، وأصحاب شطحات في عبادة الله جل وعلا ومعاملته، فيخيل لهم الشيطان أنه ربهم، فيتراءى إليهم وربما جلس على كرسي بين السماء والأرض وقال لهم: أنا ربكم فصدقوا ذلك.

فإذا قال أحدهم : إني رأيت ربي، فمعناه: أنه رأى ربه الذي هو الشيطان؛ لأن كثيراً منهم يعبد الشيطان فهو ربه، فهذا يوجد عند كثير من الصوفية، وهذا باطل بنص القرآن وبنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

القسم الثاني: هم الذين نفوا الرؤية في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فهي منفية، ولكن في الآخرة.

القسم الثالث: هم الذين توسطوا وأثبتوا ما أثبته الله جل وعلا، وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، بقوله: (كما ترون القمر) قلنا: إن هذه الكاف كاف تشبيه، هو تشبيه الرؤية بالرؤية وليس تشبيه المرئي بالمرئي، يعني: أنه ليس تشبيه القمر بالله جل وعلا، وإنما هو تشبيه رؤية الرب جل وعلا في الوضوح والجلاء برؤية القمر ليلة البدر بوضوح وجلاء، بمعنى: أنهم يرونه واضحاً جلياً، فالتشبيه يكون في الرؤية وليس في المرئي.

من أسباب حصول الرؤية لله عز وجل

وقوله: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا)، يقول العلماء: في هذا تأكيد للمحافظة على صلاتي الفجر والعصر، وهذا فيه الإشارة إلى أن الصلاة هي أفضل الأعمال، وأن الذي يحافظ عليها ولاسيما هاتين الصلاتين أنه يجزى بالرؤية؛ لأن الرؤية هي أعلى النعيم، والصلاة هي أفضل الأعمال فهذه هي المناسبة في ذكر الصلاة هنا.

وبعض العلماء ذكر مناسبة أخرى وهي أنه يقول: إن أعلى أهل الجنة يرى ربه بكرة وعشياً، فمن حافظ على هاتين الصلاتين التي إحداهما في البكور والأخرى في العشي، فإنه يرى ربه بكرة وعشياً، جزاءً له على المحافظة على هاتين الصلاتين، ومن حافظ عليهما لزم أن يحافظ على بقية الصلوات.

منهج أهل السنة في التلقي والاستدلال

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك؛ كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة؛ كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.

فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.].

هذه قاعدة ذكرها الشيخ رحمه الله في طريقة أهل السنة في قبول النصوص، يعني: نهجهم في التلقي، ومعلوم أن العمل والعقيدة لا بد أن تبنى على نصوص، فهم لا يفرقون بين الكتاب والسنة، بل كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم ما قاله الله جل وعلا، ولما كانت الأحاديث التي ذكر قليلة والأحاديث في صفات الله جل وعلا وأسمائه كثيرة قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث) يعني: هناك أحاديث كثيرة ولكن المقصود أن على المسلم أن يعرف طريقة أهل السنة ومنهجهم في التلقي والاستدلال فإذا عرفه سلك ذلك في كل حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان سنده صحيحاً أو حسناً، فإن الحسن من أقسام الصحيح كما هو معروف، ويثبت به ما يثبت بالصحيح من العقائد وغيرها.

وأما إذا كان الحديث قد قبلته الأمة واستفاض فيها فهذا بلا شك أنه يفيد العلم، كما قرر ذلك علماء أهل السنة، وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك وقال: الأحاديث إذا صحت أسانيدها فإنها تفيد العلم كأحاديث الصحيحين البخاري ومسلم، وبنوا على هذا أحكاماً، منها لو أن إنساناً طلق زوجته على لفظ في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم به، فإنها لا تطلق؛ لأن هذا معلوم أنه قاله صلى الله عليه وسلم، والمقصود البناء على كل ما صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه حق.

أما بعض الألفاظ التي قد يكون سندها صحيحاً، ولكن قد تكون غلطاً فهذه نادرة جداً، ومن المعلوم أنه يحتمل الغلط والخطأ وأنه وارد، ولكن إذا قبلته الأمة ولاسيما الذين لهم معرفة بالآثار وبالرجال وبأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الاحتمال إليه يكون ضعيفاً جداً فلا يلتفت إليه، أما الغلط الذي نقول: إنه قد يقع في أحاديث صحيحة مثلما مر معنا في حديث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر احتجاج الجنة والنار قال: ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تزال تقول: هل من مزيد، حتى يضع عليها رب العزة جل وعلا قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، وأما الجنة فإنه لا يزال فيها فضل مساكن فينشئ الله لها خلقاً فيسكنه فضل الجنة)؛ هذا الحديث جاء في الصحيحين منقلباً؛ لأنه جعل ما للجنة للنار، وما للنار للجنة، في البخاري وفي مسلم، ولكن البخاري رحمه الله بين أنه غلط بذكر الصواب بعده مباشرة، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية : هذه طريقته إذا وقع حديث من الأحاديث في متنه غلط أو في سنده، فإنه لا يتركه بل يبينه، ولكن بيانه لم يكن بالتصريح والقول؛ لأن من عادته التي جرى عليها أنه يعتني بالإشارات ويعتني بالأمور التي تتطلب فهم ونظر؛ وذلك لتدريب الطالب على الاستنتاج والاستخراج من النصوص.

وكذلك ما في صحيح مسلم حديث التربة: (خلق التربة يوم السبت) قال العلماء: هذا غلط، فيوم السبت ليس فيه خلق، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ومعلوم أنه جاء في الأحاديث الصحيحة أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة آدم فهو آخر الخلق، فيكون أولها يوم الأحد.

وهذا نادر ولا ينظر إليه، ولكن المقصود أن الأحاديث إذا جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح سندها فلا فرق بين كونها في صفات الله جل وعلا وأسمائه، أو في الأحكام التي فيها المعاملات من الحلال والحرام، والذين فرقوا بين الفروع والأصول هم أهل البدع، أما أهل السنة فعندهم لا فرق بين أصول وفروع، ب لكل ما ثبت به حكم من أحكام الفروع يثبت به أصل من أصول الشرع، ولهذا قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة).

قوله: (الفرقة الناجية) سيأتي تفصيل ذلك في وصفهم، وأما قوله: (أهل السنة والجماعة) فهو وصف آخر؛ لأن الفرقة الناجية يجب أن يكونوا على سنة، وقوله: (الجماعة) يجب أن يكونوا مجتمعين، ولا يجوز أن يكون بينهم اختلاف وتفرق، فإن حصل بينهم الاختلاف والتفرق فقد تركوا صفة من الصفات التي يجب أن تكون لهم، فأهل السنة لا يتفرقون بل يجتمعون على الحق والنظر، ولا يدعو ذلك إلى التفرق ولا إلى التباغض والتنابز والتقاطع، فإن هذا ليس شأن أهل السنة، وهذا شيء معروف.

قوله: (يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله جل وعلا به في كتابه) يعني: أنه لا فرق بين أن يثبت الاسم أو الصفة في الكتاب أو في حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكله حكمه واحد يجب قبوله والإيمان به.

وقوله: (من غير تحريف ولا تعطيل) سبق بيان معنى التحريف والتعطيل في أول العقيدة، وأن التحريف يدخل فيه التأويل الذي يسميه أصحابه: تأويلاً، ويجعلونه واجباً، كما هو معروف عند الأشاعرة وغيرهم، فهم يجعلونه واجباً ومتعيناً، وهو في الواقع تحريف لا يجوز سلوكه، ومن سلكه فقد وقع في الخطأ، وأما التعطيل: فهو إخلاء النص عن معناه الذي أراده المتكلم؛ لأن التعطيل مأخوذ من العطل وهو الخلو كما سبق.

حقيقة التكييف وأقسام المشبهة

وقوله: (ومن غير تكييف) التكييف: هو طلب معرفة كيفية الشيء، وأهل السنة لا يسألون عن الكيفية؛ لأن الكيفية لا مطمع فيها، وذلك أن الكيفية تتطلب أمرين لا بد منهما:

أحدهما: المشاهدة، بأن ترى الموصوف وتشاهده بعينك؛ لأن الكيفية هي حالة الشيء على ما هو عليه، فتستطيع أنك تذكر ذلك، والله ولا يرى ولا يشاهد لأنه غيب.

الأمر الثاني: وهو أن يكون له نظير نراه ونشاهده، والله جل وعلا ليس له نظير تعالى وتقدس، وبذلك ينقطع الطمع في الحصول على الكيفية، والله جل وعلا لا يدرك ولا يحاط به، وإن رئي في الآخرة فالرؤية تكون لوجهه جل وعلا ولا يحيطون به علماً.

وليس كما يقول أهل البدع: إن نفي الإحاطة يدل على نفي الرؤية، كلا، ولكن الإحاطة أن يدرك الشيء من جميع جوانبه، والله جل وعلا أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء فهو لا يدرك ولا يحاط به ، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك، كما قال جل وعلا في قصة موسى وأصحابه لما رأوا فرعون وجنوده والبحر أمامهم قال أصحاب موسى له: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشعراء:61-62]، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62].

أما الشيخ رحمه الله فقد عدل إلى كلمة: تمثيل، بدل كلمة: تشبيه، ممن يكتب في العقائد يقول: (بلا تكييف ولا تشبيه) وهو يريد أن تكون هذه العقيدة صافية ليس فيها كلمة من كلام أهل البدع، أو كلمة ليست في الكتاب والسنة؛ لأن كلمة التشبيه لم يأت نفيها في الكتاب والسنة ولم يأت إثباتها، فهذا السر في عدوله إلى كلمة التمثيل، والتمثيل جاء نفيه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فالتمثيل هو المماثلة التي تقتضي مشابهة ولو بصفة من الصفات ولو بحق من الحقوق. وأصحاب التشبيه قسمان:

القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق

القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهو في الواقع قليل ولكنه حدث في شذاذ الناس، وأكثر من حدث فيهم الرافضة في أول أمرهم، ثم بعد ذلك صاروا معتزلة.

ولكن ليعلم أن التشبيه أصبح أمراً إضافياً، فكثر ذكره في الكتب والمؤلفات، وذم أصحابه، ولو أنك مثلاً بحثت عن طائفة معينة لها كتب مستقلة، ولها أئمة ولها علماء يسمون المشبهة لم تجد ذلك، والسبب في هذا أن كل فريق إذا خالف فريقاً آخر فأثبت ذلك الفريق المخالف خلاف ما يقوله هذا الفريق سماه مشبهة، ولهذا فإن متطرفة الجهمية يسمون المعتزلة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الأسماء، والمعتزلة يسمون الأشعرية مشبهة؛ لأنهم يثبتون بعض الصفات، والأشعرية يسمون أهل السنة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، وهكذا.. فيكون. التشبيه حسب الاعتقاد، ويكون في الواقع ليس صحيحاً، وبعض الناس رمي بالتشبيه وليس ثابتاً، وهذا يوجد في كتب المقالات، مثل: مقاتل بن سليمان يقولون: إِنه من المشبهة ، وإِنه مشبه، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ما أظن ذلك يثبت عنه وما وجدت شيئاً من كلامه يستدل به على ذلك، والذين رموه بالتشبيه أخذوا ذلك عن أعدائه.

والآن قد طبع كثير من كتبه مثل: التفسير وغيره، ومعلوم أن التفسير هو مظنة ذلك، ولا يوجد في التفسير كلمة واحدة تدل على أنه مشبه، وهذا يعطينا فائدة: وهي أن الإنسان يجب عليه أن يتثبت إذا قيل له: إن الطائفة الفلانية كذا وكذا وفيها كذا وكذا، فيجب أن يرجع إلى كلامها أو إلى كلام الشخص نفسه، ولا يأخذ هذا من كلام الناس فهذا في الواقع خطأ يضر كثيراً جداً، حتى في الشيء الذي يكون بين الحاضرين، تجد إنساناً مثلاً ينقل عن آخر قولاً يكون خطأ؛ لأنه فهم غير مراده، فينقل عنه شيئاً حسبما فهم، فيكون مخطئاً في ذلك، ثم ربما انتشر ذلك فنسب إليه القول وهذا كثير.

فالواجب على الإنسان أن يتثبت في مثل هذه الأمور وأن يكون على بصيرة ولا يغتر بالنقل، فكل من نقل شيئاً أخذ به، وإنما تؤخذ العقائد وأقوال الناس من كتبهم ومن أنفسهم، ولا يؤخذ من أعدائهم، إذا أخذ الإنسان من أعدائه فإن العدو قد يقول ما لا يقوله، وهذا ما يسري على جميع الناس، أما أهل الحق الذين هم أهل السنة فيمنعهم إيمانهم وخوفهم من الله من أن يقولوا على الإنسان ما لم يقله، فأقوالهم إذا قالوها فهي موثوق بها، ولكن قصدي أصحاب المقالات.

ثم هناك شيء آخر: وهو أن أصحاب المقالات ينقل بعضهم عن بعض، فيكون مثلاً هذا متوارداً على النقل، والمقصود أن التشبيه كما قلنا: ينقسم إلى قسمين:

تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا قليل كما قلنا وهو باطل، والإمام أحمد يقول: إن التشبيه مثل أن يقول القائل: إن يد الله كأيدينا ، وسمع الله كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، ووجهه كوجوهنا تعالى الله وتقدس، فهذا التشبيه الذي هو منفي بقوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقوله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22] وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] وما أشبه ذلك من الآيات التي سبقت.

القسم الثاني: تشبيه المخلوق بالخالق

القسم الثاني: وهو كثير جداً في الناس، وهو تشبيه ولكنه بعكس هذا، يعني أن يشبه المخلوق بالخالق، وهذا كثير جداً، والتشبيه كما قلنا: يكون ولو في حق من الحقوق، فمثلاً المشركون مشبهة حيث جعلوا أصنامهم آلهة، فشبهوها بالله جل وعلا، وكذلك العابدون الذين يعبدون غير الله، أو يجعلون للمخلوق ما هو خالص حق الله ولو جزئياً، يكونون مشبهة في ذلك، وهذا أقبح التشبيه وأخبثه، فصاحب هذا التشبيه إذا مات عليه فإن الجنة عليه حرام، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] .

فهذا هو الشرك الأكبر الذي هو تشبيه المخلوق بالخالق تعالى وتقدس، وهذا جاء تفصيله في القرآن كثيراً، ولكن أصحاب المقالات والمتكلمون أعرضوا عن هذا كثيراً، ولهذا وقعوا فيه كما سيأتي التنبيه على ذلك.

وسطية أهل السنة بين الفرق

وقوله: (بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم ) ، الوسط يقصد به الخيار ويقصد به العدل والتوسط في الشيء، وأهل السنة وسط في الفرق، يعني: أنهم لم يجفوا ولم يغلوا، بل جانبوا الغلو الذي هو زيادة الإثبات على الحق، وكذلك الجفاء الذي هو النفي وعدم الإيمان، وعدم القبول، فهم وسط بين الفرق، كما أن هذه الأمة وسط في الأمم السابقة، حيث إن الله جل وعلا جعلهم أمة وسطاً، يعني: عدولاً وخياراً، فهم وسط بين الذين جفوا في الأنبياء فقتلوا بعضهم كاليهود ، والذين ألحقوا الأنبياء بالرب جل وعلا وجعلوهم آلهة كالنصارى ، وهذه الأمة وسط.

كذلك في الأفعال التي أمروا بها بين هؤلاء وهؤلاء، فأولئك يعني اليهود عندهم الغلظة والجفاء، والنصارى عندهم التطرف في ذلك، فيجعلون مثلاً قول الحواريين كقول الأنبياء.

أما اليهود فيردون الحق، وإن قال به من قال، إذا لم يكن على هواهم ومقصدهم.

وسطية الفرقة الناجية بين أهل التعطيل وأهل التمثيل

(فهم وسطٌ في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة):

الجهمية: نسبةً إلى الجهم بن صفوان الترمذي، والجهم بن صفوان أخذ هذا المذهب من الجعد بن درهم ؛ لأنه هو أول من تكلم به ونشره، وقد أخذه خالد بن عبد الله القسري أحد قواد بني أمية في آخر عهدهم، لما انتشر ذلك عنه وسمعه، وشهد عليه، فاستشار العلماء في وقته، فأشاروا عليه بقتله، فجاء به مقيداً بالحديد وطلب منه الرجوع ولكنه لم يرجع، وفي يوم عيد الأضحى، وكانت العادة المشروعة عند أهل ذلك الوقت وبعدهم أيضاً أن القائد هو الذي يتولى الصلاة والخطبة؛ لأنه لا يولى إذا كان جاهلاً، وإنما يولى القيادة إذا كان عالماً عارفاً.

فجاء به وصار يخطب الناس فحثهم على الأضحية، وقال في آخر خطبته: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم ؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل وذبحه تحت المنبر الذي كان يخطب عليه، متقرباً به إلى الله جل وعلا، فشكره العلماء على هذا الصنيع، وقد اتفقوا على أن قتله واجب ليستراح من شره.

وكان أخذ هذا المذهب الخبيث من أبان بن سمعان ، وأبان بن سمعان أخذه من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر ، ولبيد بن الأعصم هذا يقولون: إنه أخذه عن يهوديٍ من يهود اليمن، فهذه سلسلة يهودية جاء بها اليهود ليفسدوا هذا الدين كما أفسدوا دين النصارى، فهم دخلوه نفاقاً وأفسدوه كما هو معروفٌ، وهذا صنع نفس الطريقة، فدخل الإسلام هو وغيره لا حباً فيه، ولكن ليفسدوه، فصار كلامه في رب العالمين، وأنه لا يحِب ولا يحَب، وليس فوق ولا تحت، وليس يميناً ولا شمالاً، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، وليس في مكان، ولا يجري عليه زمان.. إلى آخر الهذيان الذي يقولونه، وكل هذا إذا سمعه الإنسان أو تصوره علم أنهم أهل التعطيل الذين ينكرون وجود الله، فهي أمورٌ متخيلة في أذهانهم فقط إذا كانوا يؤمنون بشيء، والواقع أنهم لا يؤمنون بشيء!

أما أهل التمثيل والتشبيه فهم الذين يشبهون الله جل وعلا بخلقه، والتشبيه الذي عندهم يقولون: إن يد الله كأيدي الخلق، وسمعه كسمع الخلق، وعلمه كعلم الخلق، وما أشبه ذلك، فهؤلاء ليس لهم فرقةٌ معينة لها إمامٌ أو علماء، وليس لها كتب باسم المشبهة، وإنما التشبيه نسبي، كلٌ يرمي من خالفه في إثبات ما يعتقد أنه لا يجوز إثباته بأنه مشبه، ووجد أفراد قالوا بالتشبيه، وأثبتوا إثباتاتٍ غلوا فيها وتجاوزوا الحد، فنسبوا إلى التشبيه، أما أن يكون هناك طائفة مثل طائفة الجهمية بعدما قتل الجهم بن صفوان وقد أخذ عنه بشر المريسي ، وبشر المريسي تلميذه أحمد بن أبي دؤاد ، ثم تشتتوا إلى عشرين فرقة أو أكثر، وكل فرقةٍ تضلل الأخرى كعادة أهل البدع.

أما المشبهة فليس لهم فرق معينة، وليس لهم كتب؛ مما يدل على أنه أمرٌ باطل، فالتشبيه باطلٌ لا أحد يقول به إلا أفراد معينون، وعرفوا بأنهم مشكوكٌ في أمرهم، بعضهم لا يصلي، وبعضهم لا يصوم، ويشربون الخمور، ويفعلون المنكرات، فمثل هؤلاء لابد أن يعلم أنهم ليس قولهم معتبراً، ولا أنهم أئمة في هذا الشيء، بل هم ضلالٌ ضلوا، وقالوا ما قالوه ليضلوا، لأنهم دخلوا الإسلام لا رغبة ًفيه، ولكن نكايةً فيه، وطلباً لتفرقة أهله فيه.

وسبق أن التشبيه ينقسم إلى قسمين: تشبيهٌ للخالق جل وعلا بالمخلوق، بأن يقول مثلاً: إن وجه الله كوجوه خلقه، ويده كيد خلقه، ورجله كأرجل خلقه وهكذا، وهذا في الأمة قليلٌ جداً، وقد لا يوجد، وبعض الذين ينسب إليهم هذا كذباً عليهم ما قالوا ذلك، والمشهور أن الكرامية هم الذين يرمون بالتشبيه، وليس هذا قول الكرامية، وإنما ابن كرام لما صار يجادل المعتزلة المعطلة، قالوا له: في قواعدهم واصطلاحاتهم: إن الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بما هو جسم، والمعاني تقوم إلا بالأجسام، فأنت إذا أثبت الصفات يلزمك أن تقول: إن الله جسمٌ، فقال: إذا كانت الصفات لا تقوم إلا بأجسام فأنا ألتزم ذلك، وأقول: إن الله جسمٌ ولكن لا كالأجسام، فلما التزم هذا وقال به سموه مشبهاً، فقالوا: إنه مشبه لأجل ذلك.

ثم اشتهرت نسبة التشبيه إليه وأتباعه، ومعلوم أن هذا ليس كما مثلنا، وكما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن التشبيه أن يقول: يدٌ كيدي، ووجهٌ كوجهي، وكذلك قال غيره من الأئمة، فإنهم لا يقولون هذا، وما ذكر عن مقاتل بن سليمان أنه يقول ذلك، فهذا كذبٌ عليه لم يثبت، وإنما يقوله أعداؤه، وكتبه ليس فيها شيءٌ من ذلك.

القسم الثاني من أقسام التشبيه: تشبيه المخلوق بالخالق، أي: عكس الأول، بأن يشبه المخلوق بالخالق، وهذا كثيرٌ جداً، في قديم الزمان وحديثه، الكثير من الناس يلحق المخلوق بالرب جل وعلا، فسموا مثلاً أصنامهم آلهة وأرباباً، وصاروا يطلبون منها ما يطلبونه من الله جل وعلا وهذا من التشبيه، وهو الشرك الأكبر، وكذلك الذين يدعون الأولياء والأموات شبهوهم برب العالمين، بأنهم يعلمون الغيب، ويعلمون ما في القلوب، وأنهم يقدرون على أن يجيبوهم في طلباتهم، وكذلك يقدرون على أن ينجوهم من عذاب الله، وأن يتوسطوا لهم لمطلوباتهم، أو يستطيعون أن يقوموا بها استقلالاً، فهذا تشبيهٌ لهم برب العالمين جل وعلا، وهو من أعظم التشبيه، ومن أعظم الظلم، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه لا يغفره لمن مات عليه.

وسطية الفرقة الناجية بين الجبرية والقدرية

وقوله: (وهم وسطٌ في باب أفعال الله تعالى بين الجبرية والقدرية):

يعني: أن أهل السنة وسطٌ في أفعال الله وأفعال عباده، بين الجبرية والقدرية؛ لأن الجبرية والقدرية فرقتان متقابلتان، الجبرية هم الجهمية ومن تابعهم، ولكن الجبرية ينقسمون إلى قسمين كما هو معلوم.

أولاً: الجبرية، هم الذين يقولون: إن العبد مجبورٌ على ما يفعله، وما يأتي به، وليس له اختيارٌ في ذلك والجبر: هو القهر والقسر على الشيء من غير إرادةٍ ومن غير مشيئة له، فعندهم أن العباد لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيروا مما هم فيه شيئاً، وإنما الأفعال لله جل وعلا، فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقاً في جميع أفعالهم، فإذا آمن أو كفر فإن الإيمان أو الكفر الذي وقع منه، والطاعة أو المعصية، ليست فعله إلا على سبيل المجاز، وإلا فهو فعل الله جل وعلا، لأنه لا يستطيع أن يغير شيئاً من ذلك، ولا يقدر عليه.

وهذا المذهب من أخبث المذاهب وأبطلها، وهذا لا يستقيم عليه دين ولا دنيا، لا في ملة المؤمنين، ولا في ملة الكافرين، فهو من أخبث المذاهب على الإطلاق.

وقابلهم القدرية، وسموا قدرية لأنهم نفوا القدر، وهؤلاء أثبتوه وبالغوا في إثباته، فقد أخرجوا أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة من الله، فضلاً عن أن تكون مفعولةً له. بل هي خلق للعباد أنفسهم وبتصرفهم والله لا يقدر على أن يخلقها فيه، فأثبتوا مع الله خالقين، وهذا شرك في الربوبية، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد عندما يذكره المؤلف.

ثم الجبرية فريقان: فريقٌ غالٍ جبرية محضة، فنفوا أن يكون للعبد أي اختيار أو مقدرة على الأفعال التي يفعلها، وفريقٌ آخر قالوا: إن الإيمان هو التصديق مع القول -قول اللسان- ولكن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، إلا أن الله جل وعلا يعاقب على المعاصي، ويثيب على الطاعات، فإذا ترك الإنسان أمراً واجباً فإن الله يعاقبه.

وقالوا: إن أهل الذنوب والكبائر إذا دخلوا النار من الموحدين فإنهم تنفعهم الشفاعة، ويخرجون بها، فالخلاف عندهم في إخراج الأعمال أن تكون داخلة في مسمى الإيمان فقط، ولهذا كثيرٌ من أهل السنة يقولون: هذا خلاف لفظي، وليس معنوياً، وهؤلاء سموهم مرجئة الفقهاء أو مرجئة أهل السنة، هكذا قالوا، فليسوا كأولئك ولا يجوز إلحاقهم بأولئك؛ لأن الإرجاء الذي هو الجبر هو أن يقال في الإيمان: إنه مجرد معرفة القلب، وهؤلاء قالوا: هو تصديقه، وفرقٌ بين هذا وهذا، ولهذا أولئك قيل لهم: يلزمكم أن يكون الشيطان مؤمناً؛ لأنه يعرف ربه جل وعلا، وأنتم لا تعرفون ربكم؛ لأن الذي تصفونه ليس هو رب العالمين، فأهل السنة وسطٌ بين هؤلاء وهؤلاء، في أفعال الله وفي أفعال الخلق، أما أفعال الله جل وعلا فهي في أحكامه وجزائه، ووعده ووعيده، وسيأتي الكلام في ذلك، وأما أفعال العباد فهي ما يترتب عليها من الجزاء والعقاب.

وسطية الفرقة الناجية بين المرجئة والوعيدية

قوله: (وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم).

المرجئة عندهم: لا يضر مع الإيمان معصية، والناس عندهم في الإيمان سواء لا تفاوت بينهم، فالصديق والذي يشرب الخمر ويترك الصلاة كلهم سواء مادام أنه عارف بالله، فالإيمان عندهم شيءٌ واحد، فلا يضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، إذا وجد الكفر والطاعات، فطاعات الكافر لا تفيده، وكذلك المؤمن عندهم إذا كان مؤمناً لا تضره المعصية، فلهذا صاروا دعاة إلى التحلل وترك أمر الله جل وعلا؛ لأنه عندهم يكفي أن يكون الإنسان مؤمناً، ولا يلزم أن يفعل الواجبات أو يمتنع من المحرمات، وهذا دينٌ خاص بهم.

أما الوعيدية فهم الذين يقولون بوجوب تنفيذ الوعيد، وهم المعتزلة الذين هم القدرية، وقوله: (وغيرهم)، يقصد بذلك الخوارج؛ لأن الخوارج وافقوهم في الحكم، وإن كانوا خالفوهم في الاسم، فعند المعتزلة يجب على الله أن يعاقب العاصي؛ لأنه لا يخلف الوعد، والوعيد والوعد سواء، وقد أخبر الله جل وعلا أنه لا يخلف الميعاد، وقد توعد بعض الناس على فعل المعاصي، فيجب أن ينفذ ذلك، ويجب أن يؤمن بهذا، فسموا وعيدية من أجل ذلك.

وأما إخوانهم الخوارج الذين وافقوهم في الحكم فلأنهم يقولون: مرتكب الكبيرة إذا مات فهو في النار، ولكنه لا يسمى كافراً في الدنيا، ولا يحل دمه ولا ماله، إذا ارتكب الكبائر خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فصار في منزلة بين المنزلتين -منزلة الإيمان والكفر- وهذا شيءٌ اختصوا به، وابتدعوه وجعلوه ركناً من أركان الدين، فالمنزلة بين المنزلتين أحد أركان دينهم الخمسة، يعني: عندهم أركان الإسلام خمسة، كما هي خمسةٌ عند أهل السنة، ولكنها ليست سواء.

فمن أركان الإسلام عند المعتزلة: المنزلة بين المنزلتين، والثاني: تنفيذ الوعيد، أي: فيمن خالف، والخوارج وافقوهم في كون مرتكب الكبيرة يكون خالداً في النار، ولكنهم خالفوهم في الاسم، فسموه كافراً خارجاً من الدين، حلال الدم والمال، واتفقوا معهم في الآخرة، فاختلفوا في الأسماء، وهم من أهل الوعيد الذين يقولون بالوعيد.

فأهل السنة وسطٌ بين هؤلاء الضلال المرجئة الذين أخروا الأعمال عن الإيمان؛ لأن الإرجاء من التأخير، فصار الإيمان عندهم يكفي، أما الأعمال فهي لا تكون لازمة، ويكفي الإنسان أن يكون مؤمناً بقلبه، وهؤلاء الذين قابلوهم، قالوا: إن الإنسان إذا ترك شيئاً من الأعمال فإنه يكون إما كافراً وإما خارجاً عن الدين الإسلامي وغير داخل في الكفر، ثم في الآخرة يكون خالداً في النار، واستدلوا على هذا بأدلة كقوله: لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى [الليل:15]، فقالوا: هذا يرد عليكم، أنتم تقولون الذين يدخلون النار يخرجون بالشفاعة، والله يقول: لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى [الليل:15]، فمن دخلها فهو أشقى، فلا تلحقه شفاعة، ولهم أدلة غير هذا سيأتي ذكرها، ولكنها شبه باطلة.

وسطية الفرقة الناجية في أفعال العباد

قوله: (وفي أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية)، هؤلاء الذين هم المعتزلة يسمون القدرية، وسموا قدرية لإنكارهم القدر، فقابلوا الجبرية، ومعلومٌ أن مذهبين متقابلين لا يمكن أن يكونا صحيحين، هذا مستحيل! فيقطع قطعاً لا تردد فيه أن أحدهما على الأقل باطل؛ لأن هذا يقابله تماماً، ولكن الواقع أن كل واحد من الفريقين معه شيءٌ من الحق ومعه شيءٌ من الباطل؛ ولهذا السبب قال: إن أهل السنة وسطٌ بينهم، فهذا معنى الوسط أي: أنهم توسطوا، فأخذوا الحق الذي مع الفريقين واجتنبوا الباطل الذي مع الفريقين، وهكذا في بقية ما ذكر، أنهم وسطٌ بين كذا وبين كذا.

وذلك أن سبب خفاء الحق على كثيرٍ من الناس لبسه بالباطل، فيلتبس على من ليس عنده تمييز، ويخيل له أنه الحق، وهو في الواقع حقٌ خلط بباطل، فمن هنا لما قال الجبرية: إن العبد مجبورٌ على فعله، فهم نظروا إلى أن الله جل وعلا مشيئته هي النافذة في كل شيء، وأنه ليس لأحد مع الله تصرف، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقالوا: إن الله جل وعلا نفى بعض ما هو فعلٌ للإنسان وأخبر أنه فعله، كقوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، فنفى الرمي الذي هو حركة اليد والقذف بها عن العبد وأثبتها لله جل وعلا، فدل ذلك على أن أفعال العباد كلها أفعالٌ لله.

ومعلومٌ أنه لو طرد هذا المذهب لصار كل شيءٍ على نمط واحد، يعني: أنه لا يكون هناك معصية؛ لأنها أفعال الله، وقد طرده كثيرٌ ممن اعتنق هذا المذهب من الصوفية وغيرهم، فلهذا يقول أحدهم: أصبحت منفعلاً لما يراد بي، ففعلي كله طاعات، لماذا؟ لأن فعله هو فعل الله، ويقول أحدهم: أنا وإن عصيت أمره الشرعي، فقد أطعت أمره القدري الكوني، فأنا في طاعة، يعني: حتى إذا زنا وسرق فهو في طاعة؛ لأنه موافقٌ أمره الكوني، فهو لم يخرج عن تكوينه ومشيئته، فإذاً: يكون العبد ليس له تصرف ينسب إليه.

ومعلومٌ أن مثل هذا من أبطل ما يكون، حتى أمور الدنيا لا تستقيم عليه؛ لأن الإنسان لابد أن يحاسب بعمله، ويحاسب على تصرفاته، وإلا فكل إنسان يقول: ليس هذا فعلي، وهذا فعل غيري، والمصيبة أنهم يضيفونه إلى الله، ولهذا يقال: إن علاج مثل هذا أن يقابل صاحبه بالفعل كأن يضرب ويقال له: مذهبك أن الضارب ليس له تصرف، فلا تلمه، فهل يمكن أن يسكت؟! هذا لا يمكن ولابد أن يرجع الإنسان إلى تصرفاته.

أما الذين قابلوهم فقد أخذوا بمثل هذه الآية ونحوها، فوجه خلط الحق بالباطل في هذا أنهم جعلوا ما للمخلوق لله، الله جل علا يقول: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الأنفال:17]، وهذه الآية نزلت في وقعة بدر كما هو معروف، وذلك أن الله جل وعلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لما قابله المشركون أن يأخذ حصى الوادي ويرميهم بيده، فذهبت هذه الرمية ودخلت في مناخرهم وعيونهم، وهم بعيدون عنه، فالذي نفي عنه غير الذي أثبت له، فالمنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو إيصال المرمي إلى عيونهم ومناخرهم، فإن هذا ليس باستطاعة الإنسان، وإنما هذا بأمر الله وقدره وكونه ومشيئته.

أما أخذ الحصباء وحركة اليد به ورميه فهذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، والآية فيها إثباتٌ شيء للرسول صلى الله عليه وسلم ونفي شيء، وليس أن الآية جعلت كل الذي حصل لله، فإن الله قال: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الأنفال:17]، فقوله: (إذ رميت) إثباتٌ له أنه رمى، والشيء الذي أثبت له هو بفعله وحركة يده، وأما الذي نفي عنه فهو إيصال ذلك التراب الذي لا يصل في العادة إلى مناخرهم وأعينهم وهم بعيدون عنه.

فإذاً: لا يكون في الآية دليلٌ لهم، والمشكلة أن فعل الإنسان لا يختلف، فما الفرق في كونه صلى أو كونه أكل وشرب؟ كله يقع باختياره ومقدرته، فإذا نفيت عنه الصلاة مثلاً فقل: ما صلى وإنما صلى الله، تعالى الله وتقدس! كذلك الأكل تقول: العبد ما أكل ولا شرب، ومن الآكل؟ هل يستطيع أن يقول: إن الآكل والشارب هو الله؟ تعالى الله وتقدس! وبهذا يتبين بطلان هذا المذهب الخبيث.

أما المذهب الذي قابله فهو مذهب القدرية، وسموا قدرية كما قلنا لأنهم نفوا القدر، والقدر كما سيأتي عبارة عن علم الله جل وعلا، وكتابته، ومشيئته وخلقه، لا يخرج عن ذلك شيء، فأوائلهم أنكروا العلم ولكن لما علموا أنه كفر رجعوا، وأقروا بأن الله علام الغيوب وعالمٌ بكل شيء، وأنكروا الكتابة وعموم المشيئة والخلق، فقالوا: إن الإنسان هو الذي يؤمن، وهو الذي يكفر حقيقةً، وهذا ليس عليه اعتراض، ولكن مقصودهم أن الله لا يخلق الإيمان في قلب الإنسان يعني: أنه لا يحبب إليه الإيمان ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله راشداً، بل العبد هو الذي يفعل ذلك، وهو الذي يكفر باختياره وقدرته، ليس لله عليه في ذلك منة، ولا دخل له فيه، وهكذا سائر الأعمال، ما السبب؟

السبب أنهم يقولون: لو قلنا: إن الكفر والإيمان يزينه الله جل وعلا وييسره ويهيئ أسبابه، لكان هذا فعلٌ من أفعال الله، فيلزم على ذلك أن يكون الله ظالماً، يعني: يعاقب على الكفر الذي يخلقه في القلب، ويثيب على الإيمان الذي يخلقه في القلب؛ فيكون ظالماً، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه ليس بظلام للعبيد، وتناقضوا في هذا، فجاءت هذه الشبهة، فنفوا من أجلها القدر، وأثبتوا أن العباد خالقين مع الله.

والجواب عن هذا أن يقال لهم: إن الله جل وعلا خلق القدرة على الفعل في الإنسان، ولم يكلفه إلا بالشيء الذي يقدر عليه، وخلق له العقل والاختيار والنظر، وأمره بالخير، ونهاه عن الشر، وقال: هذا الخير افعله باختيارك ومقدرتك، فإذا فعلته فلك الجزاء والمثبوبة، وهذا الشر فاتركه باختيارك ومقدرتك، ولم يأمر بشيء لا يقدر عليه ولا يستطيعه، فإذا فعل الخير والإيمان والطاعات، فإنه يفعله باختياره، ويكون فعلاً له حقيقةً، فهو الذي صلى، وهو الذي صام حقيقةً، ولكن هذا لا يقع إلا بعد مشيئة الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي خلق له الأدوات، وخلق له ما يفعل به، فصار في هذا جمع بين ما أنكره هؤلاء وما نفاه أولئك، وهذا معنى كون أهل السنة وسطاً في هذا الباب، وهذا بابٌ لا يزال الناس فيه مرتبكون، وكثيرٌ منهم وقع في شيء من الجبر أو شيءٍ من نفي القدر، وسيأتي تفصيل ذلك وبيانه إن شاء الله.

وسطية الفرقة الناجية بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية

قوله: (وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية):

أسماء الإيمان والدين: الإسلام، الإيمان، الإحسان، البر، الصلاة، الصوم، التقوى، وما أشبه ذلك، هذه أسماء شرعية ولها معانيها، وأهل السنة آمنوا بها، وأخذوها على مدلوها، ولكن المعتزلة والحرورية الذين هم الخوارج، وسموا حرورية نسبةً لحروراء، القرية التي كانوا فيها لما خرجوا على علي بن أبي طالب ، وقاتلهم فيها وقتلهم، فنسبوا إليها.

فالإيمان عندهم قولٌ وعمل وعقيدة، ولكنه لا يزيد ولا ينقص، وعندهم أن الإنسان إذا ترك واجباً فإنه يكون خارجاً من الدين.

ثم الخلاف الذي سبق أن المعتزلة لا يدخلونه في الكفر، والخوارج يدخلونه في الكفر ويخرجونه من الدين، أما المعتزلة فهم يقولون: لا مؤمن ولا كافر، بل هو في منزلة بين الإيمان والكفر.

أما أهل الحق فهم يقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو يقولون: مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، لا يعطونه الإيمان الكامل، ولا يسلبونه الإيمان، بل يقولون: معه أصل الإيمان ولكن إيمانه ناقص، وعندهم أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فهذا معنى قوله: (إنهم وسطٌ بين هؤلاء وهؤلاء).

وأما المرجئة فعندهم الإيمان شيءٌ واحد لا يتفاوت، بل إيمان أفسق الناس مثل إيمان جبريل بلا فرق، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض عندهم سواء، لا تفاوت بينهم في الإيمان، وهو عندهم شيءٌ واحد لا يقبل التفاوت، ولا يكون زائداً ولا ناقصاً، وأخرجوا من الإيمان جميع الأعمال، فهي لا تدخل في الإيمان.

وسطية الفرقة الناجية بين الرافضة والخوارج

قوله: (وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج ):

الرافضة يقولون بتكفير الصحابة، أو بأنهم ضلوا وخرجوا عن الصراط السوي، ولم يبق على الهدى إلا أربعة، أو أكثر قليلاً مثل: عمار، وأبي ذر ، المقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، أما البقية فقد كفروا بما فيهم الخلفاء الثلاثة، وبما فيهم الذين شهد لهم بالجنة، وغير ذلك.

وأما الخوارج فهم يكفرون علي بن أبي طالب، أي: هم عكس الرافضة الذين يجعلون علي بن أبي طالب رضي الله عنه معصوماً لا يتطرق إليه خطأ، هو والأئمة الاثنا عشر.

فالخوارج يجعلونه كافراً؛ لأنه رضي بتحكيم الرجال وبالقتال الذي حصل؛ لأن القتال من كبائر الذنوب، والكبيرة إن لم تكن كفراً فهي ذات صلةٍ بالكفر، فهم في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بين طرفين.

أما أبو بكر وعمر ومن كان على منهجهما ولم يدخل في الحروب فإن الخوارج لا يكفرونهم ولا يضللونهم، وإنما الكلام فيمن دخل في القتال والتحكيم عندهم.

والمقصود أنهم صاروا متناقضين، فهؤلاء يزعمون أن علي بن أبي طالب معصوم، وأنه لا يتطرق إليه خطأ، وهؤلاء يزعمون أنه كافر، وأهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فهم يرون أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأمة على الإطلاق، وأنه لا أحد يلحقهم في فضلهم، وأفضلهم الخلفاء، أولاً: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، ثم العشرة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من الوقوع فيهم، وقال: (من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وأخبر أن خير القرون القرن الذي بعث فيهم صلوات الله وسلامه عليه، فأهل السنة يرون حقهم، ويترضون عنهم.

أما ما وقع بينهم أخيراً من نزاعٍ وقتال فإنهم لا يخرجون عن أمرين: إما أن يكونوا مجتهدين طالبين للحق والصواب، فأخطئوا، فلهم أجرٌ وخطؤهم معفوٌ عنه، أو يكونوا مصيبين فلهم أجران، لا يخرجون عن ذلك، فضلاً عن أن يضللوا أو يكفروا كما تقوله الخوارج الضلال، فأهل السنة وسطٌ بين هؤلاء وهؤلاء، لا جفاة يجفون، ولا غلاة يغلون، فالرافضة جفوا من جهة، وغلوا من جهة أخرى، وهؤلاء جفوا -يعني: الخوارج- لأنهم كفروا الفريقين الذين وقع منهم شيءٌ من النزاع والقتال، ومعلومٌ أن الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم طعن في الدين، وذلك أن الذي نقل لنا ديننا، والواسطة الذي نقل ديننا هم الصحابة رضوان الله عليهم، فهم الذين نقلوا القرآن عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك سنته، فالطعن فيهم طعن في ديننا.

ولهذا يقول أبو زرعة رحمه الله: الذين يطعنون في الصحابة يطعنون في الدين الإسلامي وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم لما رأوا أن الذين نقلوا الدين الإسلامي هم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهوا الطعن إليهم لأنهم لا يستطيعون أن يوجهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان الذي ينقل الدين الإسلامي كافراً فكيف يوثق به، وهو غير مأمون، ونقله غير صحيح.

والصحابة قد رضي الله عنهم، قال الله جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة:100]، هذا خبر الله، فكيف يأتي متقول ويقول: إنهم كفروا، أو إنهم ضلوا؟ والله جل وعلا إذا أخبر عن أشخاص أو شخص أنه رضي عنه لم يجز أن يرتد؛ لأن الله علام الغيوب، يعلم ما سيكون.

كذلك يقول جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29].

الأسئلة

بطلان إطلاق العبارة: الإنسان مخير ليس مسيراً)

السؤال: هل هذه الكلمة صحيحة: الإنسان مخير ليس مسيراً؟

الجواب: هذه الكلمة باطلة، فلا يجوز أن تقول: الإنسان مسير ولا مخير، فالإنسان لا مسير ولا مخير؛ لأنه إذا قال إنه مسير، فمعنى ذلك أنه يجبره، وإذا قال: مخير، معنى ذلك أنه يفعل باختياره، وهذا قول القدرية، وأنه لا دخل لتقدير الله، فالإنسان جعل الله له حداً ومقدرة، خلق فيه إرادة وقدرة على الفعل، وجعل ذلك إليه، ثم مشيئة الله جل وعلا من وراء هذا، فلا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، وإذا أراد جل وعلا تزيين الإيمان في قلب الإنسان وحسنه كره إليه الردة، فأقبل عليه وأحبه، فهذا فضل الله، أما إذا منعه من ذلك فإنه يكله إلى نفسه، ونفسه قد يكون الباطل عندها أحسن، فيتبع الباطل فيهلك.

ولابد للإنسان أن يسأل ربه وأن يعلم فقره وضعفه، وأنه إذا لم يكن له من ربه عون فإنه هالك لابد، أما أن يعتز بنفسه يقول: أنا الذي أفعل، أنا أؤمن بقوتي ومقدرتي واستطاعتي، وليس لله علي فضل، كما يقوله هؤلاء الضلال، فإنه خليقٌ بأن يضله الله جل وعلا، ويكله إلى نفسه، فلا يستطيع أن يتحصل على شيء من السعادة.

عقيدة أهل السنة في الصحابة

السؤال: ما حكم من قال: إن الصحابة تقاتلوا على الملك، أو إن علياً على حق أو معاوية؟

الجواب: مذهب أهل السنة -الفرقة الناجية- الإعراض عما شجر بين الصحابة، وعدم الدخول فيه في شيء، لأنها أمورٌ وقعت وانتهت فيقال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، فلا فائدة في الدخول في ذلك، هذا في الجملة، وأما إذا قيل: لابد من النظر، فالنظر أن نقول مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنه يمرق مارقة على حين اختلافٍ من المسلمين يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق)، وهذا يدلنا على أن الطائفتين كلاهما معه شيءٌ من الحق، ولكن أقربهما إلى الحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم الذين أخطئوا معذورون باجتهادهم.

أما ما يروى في كتب التاريخ من الأشياء الكثيرة، فكتب التاريخ وللأسف غالب رواتها إن لم يكونوا كلهم من الرافضة، ففيها مزيد وفيها منقوص، وفيها محرف عن وجهه، فإذا جاءت هذه الأمور لا يجوز أخذها على القبول، بل يجب أن تمحص وينظر فيها إلى السند هل هو ثابت أو غير ثابت؟ فإن لم يثبت فلا يجوز أن نثبته، وإذا كان ثابتاً فينظر ما وجهه، ووجهه لا يخلو إما أن يكون صاحبه مجتهداً مخطئاً، أو مجتهداً مصيباً، والمجتهد المخطئ له أجرٌ، وخطؤه مغفور، وإذا كان مصيباً فله أجران، هذه عقيدة أهل السنة في الصحابة رضوان الله عليهم.

طوائف الروافض وفرقهم

السؤال: ما هي أقسام الروافض من حيث شدة غلوهم في علي رضي الله عنه؟

الجواب: هم أقسام وطوائف كثيرة: اختلفوا إلى أكثر من عشرين فرقة، وهي مذكورة ومعروفة.

الخوارج لا يكفرون بصغائر الذنوب

السؤال: هل صحيح أن مذهب الخوارج تكفير صاحب الصغيرة؟

الجواب: لا، فإن مذهبهم تكفير صاحب الكبيرة، ولكن منهم من يقول بالذنوب مطلقاً، وذكروا أشياء تدل على هذا من قصص، ولكن يجب أن يعلم أنهم طوائف متعددة، وليست طائفة، هم أكثر من عشرين طائفة، وكل واحدة تكفر الأخرى، وهذا من العجيب!

الفرق بين أهل السنة والخوارج في مسمى الإيمان

السؤال: ما الفرق بين أهل السنة والخوارج في مسمى الإيمان؟ وهل يصح أن نقول: إن أهل السنة يجعلون العمل شرطاً لصحة الإيمان، والخوارج يجعلونه شرطاً لكمال الإيمان؟

الجواب: سيأتي هذا البحث إن شاء الله، ولكن هنا جواب مجمل: الإيمان عند أهل السنة والخوارج أنه: قولٌ وعمل واعتقاد، ولكن أهل السنة يقولون: يزيد وينقص، وأما الخوارج فيقولون: لا يزيد ولا ينقص، وإذا ترك الإنسان شيئاً من العمل يكون كافراً كما سبق، هذا عندهم، وهو عند أهل السنة ناقص الإيمان ولا يكون خارجاً منه، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.

إمكان رؤية الله في الدنيا

السؤال: هل رؤية الله في الدنيا مستحيلة أم هي ممكنة ولكنها لم تقع لأحد ولن تقع أيضاً؟

الجواب: ما الفائدة في هذا السؤال! العلماء يقولون: ممكنة؛ لأن موسى عليه السلام سألها ربه وموسى عليه السلام لا يسأل شيئاً غير ممكن، ولكنها غير واقعة، فهي ممكنة عقلاً غير واقعة بالفعل.

عدم صحة ادعاء أن مقاتل بن سليمان من المشبهة

السؤال: يقول السائل: ذكر الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) عن بعض الأئمة أنه قال في مقاتل بن سليمان: إِنه من المشبهة؟

الجواب: نعم، هذا ذكر ولكن هل يصح؟ جاء عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: مذهبان جاءا من الشرق: مذهب مقاتل ومذهب جهم وهما متطرفان، واحد في الإثبات وواحد في التشبيه. وغير ذلك جاءت أقوال، ولكن كلها غير ثابتة، فيجب أن يتثبت في هذا الشيء؛ لأن أعداءه صاروا ينشرون هذه الأشياء، وهو أيضاً جاء عنه أقوال تنفي هذا، فقد استدعاه أحد الأمراء فقيل له: إنهم يقولون: إنك مشبه؟ قال: أما أنا فإني أقول: إن الله سميع بصير، وأنه ليس كمثله شيء. فالمقصود التثبت في الشيء الذي ينقل أو يقال.

رؤية الساق في الموقف ورؤية الوجه في الجنة

السؤال: يقول السائل: جاء في الحديث الصحيح: (أن المؤمنين يعرفون ربهم يوم القيامة بالساق) وهذا دليل على أنهم يرون ساقه سبحانه، فكيف نوفق بين هذا الحديث وكون الرؤية يوم القيامة تكون لوجهه الكريم فقط؟

الجواب: رؤية الوجه تكون في الجنة، أما الساق فهذه علامة جعلها الله بينه وبينهم يعرفونه بها، فرؤية الساق تكون في العرصات في الموقف، فيأتيهم متنكراً لا يعرفونه من باب الابتلاء فيقول: (أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم. الساق، فإذا كشف ساقه خروا له سجداً، كل مؤمن يخر ساجداً، أما المنافق فيبقى ظهره طبقاً واحداً، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه) .

تفاوت المؤمنين في رؤيتهم لربهم

السؤال: هذا يقول: ذكرتم الحديث الذي يقول: (إنكم سترون ربكم) وهذه الرؤية مما لا شك فيها أنها ستكون لعباده المؤمنين، هل المسلمون جميعاً مستوون في رؤية المولى سبحانه وتعالى، حتى الذين يعذبون في النار ثم يدخلون الجنة، أم أن الرؤية مقتصرة على الذين نصت عليهم الآية: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] ؟

الجواب: كل من دخل الجنة فسيرى الله، ولكن الرؤية تتفاوت، منهم من يراه بكرة وعشياً، ومنهم من يراه في الأسبوع مرة في يوم جمعة، كما جاء النص في ذلك، فالرؤية تتفاوت حسب الأعمال والإيمان كما تتفاوت درجات الجنة.

حقيقة تجلي الله عز وجل للجبل كما في قصة موسى

السؤال: هل تجلي الله عز وجل للجبل على حقيقته؟

الجواب: لا، تجلى شيئاً قليلاً، حتى قال بعض العلماء: كشف من الحجاب قليل جداً مثل سم الخياط، فتدكدك الجبل من هذا القليل.

حقيقة رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام لربه حين المعراج

السؤال: قرأت في بعض الكتب في موضوع مراتب الوحي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بلا واسطة مع الرؤية، وذلك في الإسراء والمعراج ، وفي الحديث: (نور أنى أراه) كيف نوفق بين هذا وذاك؟

الجواب: الوحي غير الرؤية، الوحي يمكن والكلام كذلك يمكن من وراء حجاب، والوحي أبعد من ذلك، فلا يلزم من كونه كلمه أن يراه، فموسى عليه السلام يسمع كلام ربه بلا واسطة وهو في الأرض، والله فوق عرشه، فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى سدرة المنتهى؟! فهو كذلك سمع كلام ربه وخطابه، ولكن الرؤية ما رآه، ولذلك لما سأله أبو ذر كما في صحيح مسلم، قال: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) وفي رواية: (رأيت نوراً)، وفي رواية: (رأيت ناراً).

معنى الصورة في قوله: (رأيت ربي في أحسن صورة)

السؤال: (رأيت ربي في أحسن صورة) هل يدل على أن الصورة مخلوقة؟

الجواب: كل موجود له صورة إذا كان له حقيقة، أما إذا كان معنى من المعاني فهذا لا يمكن أن يكون قائماً بنفسه، لا بد أن يقوم بغيره، أما الموجود القائم بنفسه فله صورة وصورته هي التي هو عليها. نعم، الناس ينفرون من كلمة صورة؛ لأنها غريبة عندهم، الصورة كما يقول ابن قتيبة رحمه الله : ليست بأغرب من اليد ومن الوجه، فقد ثبت أن لله يدين والمؤمنون يؤمنون بذلك، وهذا أبلغ، واليدان لها أصابع كما ثبت في الصحيحين، وكل يد لها خمسة أصابع كما ثبت ذلك، فإنه ثبت أن حبراً من اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله يضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر والثرى على أصبع ، والجبال على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما قال: وقرأ قول الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]) .

معنى قوله: (أربعوا على أنفسكم)

السؤال: في الدرس الماضي حديث: (أربعوا على أنفسكم) هل يؤخذ من هذا الحديث أن المأمومين عندما يكونون خلف الإمام في صلاة القنوت لا يرفعون أصواتهم بآمين؟

الجواب: لا، فقد جاء أنه يشرع رفع الصوت بآمين، وأن هذا يغيظ اليهود ، ويحسدوننا على ذلك، الشيء الذي جاء فيه النص يجب أن يثبت، ولكن عند الدعاء إذا كنت تناجي ربك، وتدعوه فلا ترفع صوتك؛ لأن الله قريب منك يسمع كلامك وإن كان بينك وبين نفسك.

عدم وجود المتشابه في آيات الأسماء والصفات

السؤال: هل آيات الأسماء والصفات محكمة كلها أم بعضها متشابه وبعضها محكم؟

الجواب: ليس فيها شيء متشابه، وكلها محكمة؛ لأن معانيها واضحة وجلية لا إشكال فيها، أما دعوى أهل البدع أنها متشابهة فهذه دعوى باطلة، وآيات الصفات أكثر من آيات الأحكام بكثير، ولو كانت متشابهة كان كل القرآن متشابهاً، والمقصود أنها لم تشكل على أحد من الصحابة ولم يسأل واحد منهم عن معناها، بخلاف الأحكام، فإنهم سألوا عن بعضها، فسألوا عن المحيض وسألوا عن اليتامى، وسألوا عن غير ذلك، أما آيات الصفات فلم يسألوا عن شيء من ذلك؛ مما يدل على أنه واضح وجلي، والأسئلة التي جاءت في غير هذا ليست من باب الإشكال.

حكم رؤية الكفار والمنافقين لله عز وجل

السؤال: هل يرى الكفار والمنافقون الله تعالى كما جاء هذا في الحديث الصحيح؟

الجواب: لم يأت هذا في الحديث الصحيح، شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: من قال إن الكفار يرون الله فإنه من أهل البدع، أما المنافقون فثبت أن الله يأتيهم مع المؤمنين، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وحديث أبي سعيد : (إذا جاء الله للفصل بين عباده وكلمهم وقال: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيقولون: بلى، فيمثل لكل عابد معبوده في الدنيا فيقال: اتبعه، فيتبعون معبوداتهم إلى النار، حتى اليهود يقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً، ويقال للنصارى: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: المسيح ابن الله؟ فيقول الله: كذبتم ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً.

ثم يقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: ظمئنا نريد الماء، فيخيل إليهم جهنم كأنها سراب ويقال: انظروا! فيردون إلى جهنم، فيتساقطون فيها، وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله جل وعلا في الصورة التي لا يعرفونها فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا) إلى آخره.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الواسطية [13] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net