إسلام ويب

مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة من المسائل التي حصل فيها الاختلاف بين الناس، فنفاها قوم نفياً مطلقاً، وأثبتها قوم إثباتاً مطلقاً، حتى زعموا أنهم يرون الله في الدنيا، وقوم توسطوا في ذلك وساروا مع أدلة الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، وهم أهل السنة والجماعة، فقالوا: إن الله عز وجل يُرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا؛ لأن الخلق الدنيوي لا يحتمل رؤية الله عز وجل، وأما في الآخرة فإن الله عز وجل قد جعل رؤيته من زيادة النعيم لأهل الجنة.

رؤية الله عز وجل يوم القيامة

يقول المصنف رحمه الله تعالى:

[ وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وقوله تعالى: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23]، وقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، وهذا الباب في كتاب الله كثير، ومن تدبر القرآن طالباً للهدى منه؛ تبين له طريق الحق. ].

ثبوت الرؤية في القرآن

إن مسألة الرؤية -رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة- من المسائل العظام، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على وقوعها في الآخرة، وأما في الدنيا فإن النصوص جاءت بنفيها وأنها لا تقع في الدنيا.

قوله: (وقول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].) (يومئذ): يعني: يوم القيامة، (ناضرة) يعني: بهية وجميلة، من النضرة والبهاء والحسن من النعيم الذي نالته ومنّ الله جل وعلا عليها به، وقوله: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، ناظرة بأبصارها، تنظر إلى ربها، وهؤلاء هم المؤمنون الذين يمن الله جل وعلا عليهم بدخول الجنة، فإنهم ينظرون إلى الله جل وعلا، وهذا لا يحتمل إلا هذا، أما تكلف المعتزلة وغيرهم بأن معنى ناظرة: منتظرة إلى ثواب الله؛ فهذا باطل فهم يقولون ناضرة إلى الآلاء وهي النعم، وناظرة: يعني منتظرة، وهذا تكلف محض لا يدل عليه وضع الكلام، ولا عقل ولا شرع، بل إن العقل والشرع يدلان على بطلانه، فهو تحريف لكلام الله جل وعلا.

قوله: (وقوله جل وعلا: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23]) الأرائك: جمع أريكة، والأريكة هي المجالس التي يتكئون عليها في الجنة، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23]، ينظرون إلى الله جل وعلا، فهذه الآية مثل الآية التي قبلها تدل على أن النظر إلى الله يكون في الجنة للمؤمنين.

قوله: (وقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26])، الإحسان هو: الإتيان بالعمل على أكمل وجه وأتمه، فهو أن يأتي الإنسان بالعبادة كأنه يرى الله.. كأنه يشاهده، ومعلوم أنه إذا كان بهذه المثابة فلابد أن يحسنها غاية الإحسان، فقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26]، الحسنى: هي الجنة وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، الزيادة: هي النظر إلى وجه الله جل وعلا، وهذه الآية صريحة؛ لأنه جعل الجنة ثواباً لإحسان العمل فلما عطف على الجنة الزيادة دل على أن الزيادة غير الجنة.

أمر آخر يدل على أن المراد بالزيادة: النظر إلى وجه الله جل وعلا، ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر هذه الآية: (بأن الحسنى الجنة، والزيادة : النظر إلى وجه الله جل وعلا)، فهذا تفسير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز مخالفته.

قوله: (قوله جل وعلا: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]) يعني: لهم ما يشاءون في الجنة من المآكل والمشارب وغيرها من سائر ما تشتهيه النفوس، وقوله: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ليس المزيد من جنس المآكل والمشارب، بل هو أمر آخر فوق ذلك، وهو النظر إلى الله جل وعلا؛ لأن النظر إلى الله هو أعلى نعيم أهل الجنة؛ ولذلك يقول الله في شأن الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فهذا من العذاب، ولما حجب الأشقياء والكفرة دل بالمقابل على أن أهل الإيمان لا يحجبون عن الله جل وعلا.

ثبوت الرؤية في السنة المتواترة والآحاد

تقدم ذكر الآيات الدالة على الرؤية، وأما الأحاديث فسيأتي ذكر بعضها عندما يذكر المؤلف الصفات من السنة؛ لأنه أراد أن يبين أن أصل المسلم الذي يجب أن يرجع إليه هو كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا غير، أما ما يدعى من أن الأمور الاعتقادية لا يجوز الاعتماد فيها إلا على الأمور اليقينية القطعية، ثم يجعلون ما دلت عليه آراءهم وأنظارهم وأفكارهم القاصرة أموراً يقينية قطعية، وما دلت عليه النصوص أموراً ظنية! فالواقع أن الأمر عندهم معكوس تماماً، فإذا عكست القضية كانت هي الصواب كما هو مذهب أهل الحق.

وأما نصوص السنة الدالة على إثبات الرؤية فكثيرة جداً، ومنها: حديث جرير البجلي رضي الله عنه -وهو ثابت ثبوتاً يكاد أن يكون متواتراً- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، ليس بينكم وبينه حجاب)، ولو تكلف إنسان مهما أوتي من البلاغة والفصاحة أن يبين الرؤية التي يرى بها المؤمنون ربهم بأكثر مما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ما استطاع، فهي في غاية البيان، ومن خالف ما دل عليه هذا الحديث ونحوه فليس له عذر يعذر به، ويخشى عليه أن يحجب يوم القيامة؛ لأنه أنكر أمراً متواتراً وهو رؤية الله جل وعلا.

والأحاديث في هذا كثيرة جداً ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله، أما الآيات القرآنية فذكر المؤلف بعضاً منها، وترك كثيراً مما يدل على الرؤية، وهي كثيرة جداً في كتاب الله، وليست محصورة في أربع آيات أو خمس بل قد يعسر على الإنسان استقصاؤها من كتاب الله جل وعلا، ولكن العلماء ذكروها إجمالاً، فكل آية فيها ذكر اللقاء فإنها تتضمن الرؤية كقوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، فملاقيه: تتضمن رؤية الله جل وعلا، ولكن هذه رؤية مجملة، وليست كالرؤية التي ذكرت في الآيات السابقة، وكذلك ما جاء في حديث عدي عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان)، ولكن هذا اللقاء يحتمل أنه للنعيم، ويتضمن الجزاء والثواب ويحتمل أنه للمحاسبة؛ فقد يجازى الإنسان بعده بالعقاب، وقد يجازى بالثواب وأما الآيات التي نص عليها المؤلف فهي صريحة وواضحة لا إشكال فيها على أن الرؤية من أعلى نعيم أهل الجنة وهذا واضح وبين في كتاب الله وسنة رسوله، ومع ذلك فإن أهل البدع يخالفون في هذا.

أقسام الناس في مسألة الرؤية

والناس في الجملة بالنسبة للرؤية أقسام ثلاثة طرفان ووسط:

الطرف الأول: النفاة الذين نفوا الرؤية مطلقاً، وهم المعتزلة والجهمية ومن سار على نهجهم من الرافضة والخوارج وغيرهم، فإنهم نفوا الرؤية نفياً مطلقاً. الطرف الثاني: وهو يقابل الطرف الأول، من يثبتونها إثباتاً زائداً على الحق، ويقولون: إنه يُرى حتى في الدنيا، وهم كثير من الصوفية، ويقولون: إنا نشاهده في بعض الأحيان، والمشاهدة لا تقبل الإنكار، فنحن نشاهده مشاهدةً بأبصارنا، ونحن مقتنعون بذلك! ويقال لهم: نعم أنتم تشاهدون ربكم، ولكن الذي تشاهدونه ليس هو رب العالمين، ولكنه الشيطان، فهو ربكم يتمثل لكم ويغويكم في ذلك، أما رب العالمين فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)، وكما قال الله جل وعلا في قصة كليمه موسى عليه السلام لما طلب من ربه أن يراه : لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] فدلت هذه الآية على أن الرؤية في الدنيا غير ممكنة وغير واقعة كما دل على ذلك الحديث صراحة.

الطرف الثالث: أهل السنة الذين يقولون: إن رؤية الله ممكنة في الدنيا، ولكنها غير واقعة في الدنيا، وهي واقعة في الآخرة للمؤمنين في الجنة وفي الموقف، أما في الجنة فهم يتفاوتون في الرؤية؛ فمنهم من يرى ربه بكرةً وعشياً، مرتين في اليوم، ومن المعلوم أن أهل الجنة ليس عندهم شمس ولا ليل ولا نهار، وإنما نور الجنة من نور العرش، ونوره من نور الله جل وعلا، ولكنهم يعرفون مقدار اليوم والليلة، فيرون ربهم بكرة وعشياً؛ ولهذا في حديث جرير أنهم قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا؟ قال: (هل ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا قتر؟ قالوا: نعم، قال: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا قتر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاتين: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا)، قال العلماء: في هذا دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين يكون من جزائه رؤية الله جل وعلا في الجنة.

اختلاف الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج

اختلف الصحابة ومن بعدهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، فجاء نفيه عن أكثر الصحابة، وجاء إثبات ذلك عن بعضهم مثل ابن عباس ، والصواب أن ابن عباس جاء عنه شيء مجمل، فقد جاءت عنه روايتان: الأولى: أنه قال: رآه، يعني: رؤية مطلقة، والثانية: جاءت مقيدة فإن رآه بفؤاده، ومن المعلوم أنه إذا جاء نص فيه إطلاق وجاء نص أخر مقيد أن المطلق يحمل على المقيد.

وأما عائشة رضي الله عنها فإنها نفته نفياً باتاً بل لما قال لها السائل: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، قالت: لقد تكلمت كلمة قف منها شعري! من قال لك: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب والله جل وعلا يقول: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، ومن قال: إنه كتم شيئاً فقد كذب والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، فأنكرت ذلك إنكاراً عاماً، والصواب في هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر (أنه قال: قلت: يا رسول الله! هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنّى أراه؟!) وفي رواية: (رأيت نوراً) وفي رواية: (رأيت ناراً)، وهذا نص صريح في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره.

من الناس من إذا قيل له: إن صفات الله جل وعلا وأسماءه والتوحيد لم يقع فيه خلاف بين العلماء يعترض بمثل هذه المسألة، وهذا الاعتراض ليس في مكانه؛ لأن هذه مسألة فرعية في الصفات، ولو ثبتت لوجب القول بها، ولكنها لم تثبت فإذا لم تثبت فإنه لا يكون في ذلك خلاف، وأما الخلاف الذي وقع فقد ارتفع.

الأصل الذي بنى عليه نفاة الرؤية مذهبهم

الذين نفوا الرؤية يعتمدون -على زعمهم- أن الرؤية لا تقع إلا على جسم، وقالوا: لو أثبتنا الرؤية لأثبتنا أن الله جسم وهذا كفر، وإذا انتفى هذا ينتفي الملزوم فلازم الكفر كفر، فعلى هذا يكون عندهم القول بإثبات الرؤية كفر، وهكذا ينعكس الأمر عند من أراد الله جل وعلا فتنته، فيصبح الحق باطلاً والباطل حقاً وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، وشابهوا الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات.

ولذلك فإن أصل التعطيل هو التشبيه فهم عندما لم يفهموا ويعقلوا رؤية الله إلا بما فهموه من أنفسهم قالوا: إنها لا تقع إلا على شيء مقابل، والمقابل لابد أن يكون جسماً يصطدم به الشعاع الذي ينطلق من العين حتى إذا انعكس حصلت الرؤية، أما لو لم يكن هناك شيء يقابل الرائي فلا يمكن أن يرى شيئاً، هذا هو أصلهم الذي بنوا عليه نفي الرؤية، وقد سبق أن قلنا: إن كلمة جسم من الكلام المجمل الذي لا يجوز إثباته ولا نفيه، فإذا أراد بالجسم ما يعرفه به المتكلمون، فإنهم مختلفون في تعريف الجسم! ولكن الجسم في اللغة العربية: هو البدن، بدن الإنسان أو بدن الحيوان، وكذلك ما لم يكن حياً مثل الحصى وغيرها فهي أجسام، وهو كل شيء له مكان يشغله أما أهل الكلام فقد اختلفوا في تفسير الجسم، فمنهم من قال: الجسم كل ما شغل مكاناً، ومنهم من يقول: الجسم ما صح أن يقال: هو هنا أو هناك أو فوق أو تحت، ومنهم من قال: الجسم ما صحت الإشارة إليه، إلى غير ذلك من تفسيراتهم، وكلها باطلة، مع أنه لا يجوز إطلاق لفظ الجسم ولا نفيه على الله؛ لأنه إذا أطلق فقد يوهم باطلاً: قد يوهم أنه جسم كأجسام الخلق تعالى الله وتقدس، وإذا نفي فقد يوهم أن الله لم يقم بنفسه تعالى وتقدس.

إذاً: فالمبنى الذي بُني عليه نفي الرؤية مبنى باطل، وما بني على باطل فهو باطل، ومع ذلك نقول: إن الواجب على العبد أن يعلم أن الله جل وعلا أكبر وأعظم من كل شيء، وأنه فوق المخلوقات كلها، وأنه تعالى يقبض السماوات كلها ويطويها بيده وتكون صغيرة بالنسبة إليه هذا أمر، الأمر الثاني: أنه يجب على العبد أن يؤمن بما قاله الله جل وعلا ولو لم يدركه عقله وكذلك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا حكم على قول الله وقول رسوله بعقله فهو ضال وتائه.

ومن المعلوم منطقياً وعقلياً أنه لو وجد رجلان، واحد يؤمن بما قاله الله وما قاله الرسول: من أن الله يرى رؤيةً حقيقية... إلخ، والآخر يقول: هذا كفر؛ لأنك إذا قلت ذلك لزمك أن تجعله جسماً، وإذا جعلته جسماً كفرت؛ لأن التجسيم كفر، ثم مضيا إلى الله جل وعلا كل على اعتقاده، فأوقفهم الله جل وعلا بين يديه، فقال الأول لما سأله ربه: يا رب! آمنت بقولك وبقول رسولك صلى الله عليه وسلم، واتبعت ذلك، وعلمت أنك خاطبتنا باللغة العربية التي نفهمهما، وهذا الذي أفهمه من اللغة، وقال الآخر: يا ربي! اعتمدت على عقلي وفكري، وتأولت قولك الذي قلته وقول رسولك الذي قاله، وأرجعتهما إلى عقلي، فدلني عقلي على أن هذا كفر، فأيهما أولى بالعذر وقبول الحجة الأول أم الثاني؟ لا شك أنه الأول، أما الثاني فلا حجة لديه، وليس معذوراً؛ لأنهما لم يكلفا بعقلهما، وإنما كلفا بكتاب الله جل وعلا وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أدلة النفاة والرد عليهم

احتج نفاة الرؤية بقول الله جل وعلا: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، وقالوا: إن (لن) في لغة العرب تدل على النفي المؤبد! وهذا كما يقول ابن القيم رحمه الله: كذب على اللغة العربية، فإن (لن) لا تدل على النفي المؤبد، وقد جاء في القرآن ما يدل على خلاف ذلك، فإن الله جل وعلا ذكر عن اليهود أنهم لن يتمنون الموت أبداً، وزيادة على (لن) جاءت (أبداً) بعدها فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95]، ولما قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، قيل لهم: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت؛ لأن الذي هو حبيب لله جل وعلا وقريب إليه إذا مات يكون سعيداً سعادة لا تشبه سعادة الدنيا، فإذا كنتم صادقين فتمنوا الموت، فأخبر الله جل وعلا أنهم (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني: بسبب ما عملوه، ثم أخبر في آية أخرى أنهم يتمنون الموت إذا كانوا في النار، فقال: َوَنَادَوْا يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، ليقض: يعني ليمتنا: قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، فدل هذا على أن دعواهم أن (لن) تفيد التأبيد باطلة، ثم الآية تدل على عكس ما استدلوا به، وتدل على بطلان قولهم من وجوه:

الوجه الأول: أن موسى عليه السلام سأل ربه الرؤية، وموسى عليه السلام لا يسأل شيئاً مستحيلاً، ولا يسأل شيئاً غير ممكن، وهذا يتنزه عنه الأنبياء؛ ولهذا قال العلماء: إن رؤية الله في الدنيا ممكنة ولكنها غير واقعة لضعف خلق البشر؛ فإنهم لا يستطيعون ذلك، بل الجبل ما استطاع أن يقوم لرؤية الله بل تدكدك؛ لأن المخلوقات في هذه الحياة خلقت للفناء فلا يمكن أن تقوم لرؤية الله جل وعلا كما جاء في حديث أبي موسى الذي في صحيح مسلم : (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، قال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، ومن المعلوم أن بصر الله جل وعلا لا يحجبه شيء، ولا يمكن أن يستتر عن بصر الله جل وعلا شيء، فمعنى ذلك: أنه لو كشف الحجاب لذاب كل شيء، وقوله: (سبحات وجهه)، يعني: بهاؤه وجماله جل وعلا.

الوجه الثاني: أن الله جل وعلا علق إمكان رؤيته على إمكان استقرار الجبل في مكانه، واستقرار الجبل ممكن؛ فدل على أن الرؤية ممكنة.

وهناك أوجه أخرى كثيرة في الآية تدل على بطلان قولهم.

أما استدلالهم بقوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، فهو أيضاً لا يدل على ما قالوا، ونحن نقول أيضاً: إن الله جل وعلا لا تدركه الأبصار، ولكن نفي الإدراك لا يدل على نفي الرؤية، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه، نحن نرى السماء ولكن لا ندركها، ونرى الشمس ولا ندركها وهي صغيرة بالنسبة للسماء فكيف برب العالمين؟! ويدل على هذا ما ذكره الله جل وعلا في قصة موسى مع فرعون فإن موسى لما أمره الله جل وعلا أن يخرج ببني إسرائيل من مصر فسرى بهم ليلاً، فلما علم فرعون أرسل في المدائن حاشرين يحشدون الجنود لاتباعهم وقتلهم، فتبعهم فرعون بجنوده فلما صار بنو إسرائيل مع موسى أمام البحر، ويرون فرعون خلفهم، فقالوا لموسى: إنا لمدركون، فنفى موسى عليه السلام ذلك وقال -كما أخبر الله عنه-: كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] فدل هذا على أن الإدراك غير الرؤية، فتصح الرؤية مع نفي الإدراك، قالوا: إنا لمدركون، قال: كلا لن ندرك، وكل فريق يرى الثاني فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62] فتبين بهذا أن الإدراك شيء آخر، وهو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه.

وجميع ما استدلوا به وتسمكوا به في الواقع أنه شبه وليس أدلة، ومن العجب أن ترى النفاة يتمسكون بهذه الشبه، ويتركون الأدلة الواضحة الجلية السالمة عن المعارضات، والكثيرة الوفيرة حتى في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم المروية عنه، فقد جاء فيها تقرير هذه المسألة، فجاء عنه أنه قال: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، فهذا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد دلت النصوص على أن أعلى نعيم يتمتع به أهل الجنة هو مشاهدة ربهم ورؤية وجهه الكريم جل وعلا.

رؤية الله في أرض المحشر عامة

الرؤية التي تكون في المحشر هل هي للناس عامة أو للمؤمنين خاصة؟

الأحاديث التي جاءت فيها تدل على أنها ليست خاصة بالمؤمنين، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (أنه إذا شفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه جل وعلا ليفصل بين خلقه... يقول: ثم آتي وأقف مع الناس -يعني: في الموقف- ثم يأتي رب العزة جل وعلا فيقول: يا عبادي! أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا فيقولون: بلى يا رب! فيؤتى بكل معبود عُبد في الدنيا من الأصنام وغيرها، أما إذا كان المعبود من عباد الله الصالحين فإنه يؤتى بتمثاله.. بصورته.. بشيطان على صورة ذلك المعبود ثم يقال لهم: اتبعوهم، فيتبعونهم إلى النار ويكبكبون هم ومعبوداتهم فيها -كما قال جل وعلا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]- فيبقى المؤمنون ومعهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم ماذا تنتظرون وقد ذهب الناس؟! فيقولون: فارقناهم أحوج ما كنا إليهم، وإن لنا رباً ننتظره، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه آية؟ فيقولون: نعم الساق، فيكشف عن ساقه جل وعلا فيخر له كل مؤمن ساجداً، ويبقى المنافقون ظهر أحدهم طبقاً واحداً كلما أراد أن يسجد خر على قفاه)، وهذا تفسير لقوله جل وعلا: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43]، يعني: كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود وهم أصحاء ليس فيهم علة فيأبون الإجابة، فجزاءهم أنهم منعوا من السجود، وهذا يدلنا على أن المنافقين يرون الله جل وعلا في ذلك الموقف، ولكن هذه الرؤية ليست رؤية نعيم، بل رؤية عذاب والعياذ بالله!



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الواسطية [7] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net