إسلام ويب

إن الله عز وجل غني عن كل ما سواه، ومن غناه سبحانه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وغيره مفتقر إليه، وما كان معه سبحانه من إله يشاركه في الملك والتدبير والخلق؛ إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، وما نرى من سير الكون على نسق ونظام دقيق يمنع أن يكون هناك إلهان اثنان، وقد جاء الوعيد الشديد لمن أشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ومن فعل ذلك فقد استحق الخلود في النار وبئس القرار.

نفي الشريك عن الله عز وجل والولد

يقول المصنف رحمه الله تعالى:

[ وقوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] ].

تقدم أن هذه العقيدة كتبها الشيخ رحمه الله حينما جاءه رجل من أهل واسط، وطلب منه أن يكتب له عقيدة، فاعتل واعتذر بأن العقائد كثيرة، وقال له: اذهب إلى عقائد الأئمة، خذ أيّ عقيدة اقرأها واتخذها لك طريقاً ومسلكاً، فقال: لا أطمئن إلا بشيء تكتبه لي، فألح عليه، فكتبها وهو يريد أن يذهب إلى المسجد، يعني: بين الظهر والعصر، وكتبها من حفظه، ورتب هذا الترتيب، وذكر هذه النصوص المختصرة من حفظه، ثم بعد ذلك ترتب عليها مناظرات ومناقشات، وعقد له عدة اجتماعات مع كبار العلماء يناقشونه فيها، وفي كل مناظرة ومناقشة ينصره الله جل وعلا؛ لأن الحق معه، وفي النهاية أقروا له بأن هذا اعتقاد سلفي جيد، وإن كان في نفوسهم شيء منه.

ثم نسبت الواسطية إلى هذا الرجل؛ لأنه من أهل واسط، وهكذا بقية كتب الشيخ رحمه الله كلها أجوبة لأسئلة، ولا يوجد له كتاب واحد كتبه كما يكتبه غيره من الناس، بأن يكتب كتاباً من عند نفسه، وربما يهديه إلى الملك أو الكبير.. أو ما أشبه ذلك؛ لأن حياة هذا الإمام رحمه الله كلها جهاد.

وهو يكتب في الشيء الذي يطلب منه، أو يلح الأمر الذي وقع فيه عليه ككتاب الصارم المسلول.

فإن سبب كتابته: أن رجلاً من النصارى سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقتله -حاول قتله- ثم بعد ذلك كتب هذا الكتاب، وقال: هذا أقل ما يجب أن يقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى كتبه الكبار تكون أجوبة لأسئلة، كمنهاج السنة الذي يقع في أربعة مجلدات، وقد طبع الآن في تسعة مجلدات، وهو جواب لسؤال، وبعدما سئل عن ذلك اعتل واعتذر، وقال: هؤلاء باطلهم ظاهر، وليسوا بحاجة إلى أن يكتب رد عليهم، فألحوا عليه بأننا إذا لم نكتب رداً لهذا الكتاب اعتقدوا أن أهل السنة عاجزون عن الرد عليهم أو الجواب عليهم، عند ذلك كتبها، وفي كتاباته خير كثير ونفع للمسلمين، ورد وقهر للباطل.

المقصود: أن كتبه تسمى بأسماء يسميها الناس، وليس هو الذي يسميها، فهو يكتبها ثم يتركها للناس يتداولونها ويسمونها، ولهذا قيل: الواسطية، وقيل: التدمرية؛ لأن هذه المسألة جواب لرجل من أهل تدمر، وقيل: الحموية الكبرى، والحموية الصغرى؛ لأنها جواب لرجل من أهل تلك البلد، وهكذا مثل الصفدية وهي تقع في مجلدين وهي جواب عن سؤال.

والمقصود: أن هذه العقيدة كتبها في هذا الوقت القصير، وصارت عمدة فيما بعد؛ لأنه تحرى فيها ألفاظ الكتاب والسنة حتى الأمور التي قد يكون فيها شيء مما يخفى على بعض العلماء تجنبه، مثل كلمة (التشبيه)؛ فإنه لم يذكر في هذه العقيدة هذه اللفظة؛ لأنها لم تأت في القرآن، وقد يكون في التشبيه إجمال كما سيأتي، وقد يراد به حق ويراد به باطل، فتجنب هذا وعدل عن هذا اللفظ إلى التمثيل والتكييف والتعطيل؛ لأن هذا الأمر متفق عليه.

قوله تعالى: (ما ا تخذ الله من ولد وما كان معه من إله..)

قوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:91-92].

سبق الكلام عن هذه الآية، ولكن بقي شيء: وهو أن هذه الآية يقول عنها المتكلمون: إنها دليل التمانع، والتمانع: يكون في الخلق والإيجاد والملك، وقد جعلوه دليلاً على وجود الله جل وعلا، وهو دليل واضح جلي، وإن كان لا يعرفه إلا العقلاء والعلماء، ولكنه قاطع، وقد نوزعوا في هذا؛ لأن الله جل وعلا يقول: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91] وهذا من الكمال؛ لأنه جل وعلا غني بذاته عن كل ما سواه، ولأنه جل وعلا لا مثل له، ولا سمي له، والولد يتخذ لحاجة، والله غني لا يحتاج إلى شيء، وهو جل وعلا صمد، والصمد: هو الذي تصمد إليه الخلائق لحوائجها؛ لأنه مستغنٍ بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وكذلك يقول السلف: الصمد: الذي لا جوف له، وبعضهم يقول: الصمد: الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء، والله جل وعلا يطعم ولا يطعم كما جاء في قراءة، فهو جل وعلا لا يحتاج إلى شيء، ومنزه عن الحاجات من الأكل والنوم.. وما أشبه ذلك كالولد.

وقوله: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91]، فهذا في الألوهية والعبادة، أما التمانع: فهو في الخلق والإيجاد والملك، ودليل التمانع هو قولهم: إن المشاهد من هذا الكون أنه متسق على نظام واحد، ونسق واحد، لا اختلاف فيه، ومن المعلوم عقلاً: أن هذا الكون لو كان له أكثر من صانع فلا يمكن أن يكون على هذا الاتساق والاتفاق؛ لأن التقديرات العقلية تكون على ثلاثة أمور:

التقدير الأول: إذا وجد أكثر من واحد يتصرف ويملك فلا يخلو الأمر من أن يكون أحدهما مسيطراً على الآخر، فيكون المسيطر هو الإله الذي يجب أن يكون هو الخالق والمالك، فإن كان كذلك بطل أن يكون له شريك.

التقدير الثاني: أن يعجز كل واحد عن السيطرة على الآخر، فإذا وجد ذلك، فلابد أن ينفرد كل واحد بخلقه وبتصرفه، كما هو المشاهد في ملوك الدنيا، فإن الملك إذا لم يستطع السيطرة على الآخر انفرد بملكه، وصار له مكان محدد؛ لأنه عجز عن السيطرة على الآخر، ولو كان الأمر كذلك لحصل التفاوت بين المخلوقات؛ لأن كل واحد سيتميز عن الآخر بخلقه وإيجاده وملكه وتصرفه، والمشاهد عكس ذلك، فيبطل هذا التقدير كما بطل التقدير الأول؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك إلهان اثنان يتفقان، فدل هذا على أن الخالق واحد وهو الله جل وعلا، وهذا هو التقدير الثالث.

ومثاله: مثل الشمس نراها تخرج من جهة الشرق بنظام متسق، وتذهب إلى جهة الغرب دائماً، ولا تتجاوز مسيرها، كل يوم لها مسير محدد معين، وهكذا طوال ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، كل يوم لها مطلع ومغرب، ولها مسير، ولا تتغير عن ذلك، فهذا تقدير ملك صابر قاهر ليس معه معاون ولا مناوئ، وهكذا في غير ذلك من الأمور.

فالتمانع معناه: أن هذا الاتساق والنظام يمنع أن يكون له مشارك، فسمي التمانع، ولكن الآية في الواقع تمانع في الإلوهية، وهذا الذي ذكروه تمانع في الخلق والإيجاد والملك والتصرف، والآية المقصود بها: التمانع في الحق والتأله والتعلق، فهو جل وعلا يخبر عباده أنه لو كان معه في السموات أو في الأرض إله يعبد ما استقامت السماوات والأرض ولفسدت؛ لأنه يستحيل أن يعطى العبد المملوك المقهور حق الرب القاهر المتصرف، وقد يأنف الإنسان من أن يشاركه عبده المملوك في ماله، وفيما يتصرف به وهو مثله، فكيف يكون مشاركاً لله جل وعلا عبيد مقهورون ناقصون لا يملكون شيئاً؟!

لا تستقيم الأحوال على هذا، فلهذا كرر ذلك في آيات متعددة، فيمتنع أن يكون مع الله جل وعلا معبود آخر.

وفي قوله: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام:73]، سبق أن الغيب ينقسم إلى قسمين: غيب مطلق وغيب مقيد.

أما المطلق: فهو الذي لا يطلع عليه إلا الله جل وعلا، كعلم الساعة مثلاً، وكون الإنسان لا يدري في أيِّ وقت يموت؟ وفي أيِّ ساعة يموت؟ وفي أيِّ أرض يموت؟ ومتى ينزل الغيث؟ وما في الأرحام هل هو مؤمن أو كافر؟ أو كامل الخلقة أو ناقصها؟ أو عمره مستكمل أو ناقص؟ أو غير ذلك مما تفرد الله جل وعلا بعلمه.

وأما الغيب المقيد: فهو ما أطلع الله جل وعلا عليه بعض خلقه دون بعض، فالذي أطلع عليه يكون بالنسبة إليه شهادة، والذي غاب عنه يكون غيباً، والغيب لا يخرج عن هذين القسمين، وأكثره ما اختص الله جل وعلا به.

أما ما يطلع الله جل وعلا به بعض عباده؛ فهذا ليكون آية على صدقهم، وعلى أن الله أرسلهم، كما قال جل وعلا في حق النبي: إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن:27]، يعني: أنه يوجد أمور يخبر بها تدل على صدقه، وأنها من عند الله جل وعلا، ولا دخل للمخلوق فيها؛ تكون آية للنبي، كما كان عيسى عليه السلام يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، يخبرهم بالشيء الذي في بيوتهم، والشيء الذي أكلوه، وهذا من تعليم الله جل وعلا له ليكون آية على صدقه.

قوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال)

وقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74].

الأمثال: هي الأقيسة العقلية، والأقيسة لا تصح إلا بين المتماثلين أو المتقاربين على أقل تقدير، أما بين المخلوق والخالق فلا يصح ذلك؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، ولأنه لا سمي له ولا ند له ولا مثيل له، ولهذا قال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، فالأمثال: هي القياس، ولا يجوز أن تضرب لله جل وعلا الأقيسة لا قياس الشمول ولا قياس التمثيل.

فقياس الشمول: هو الذي يتكلم به المتكلمون، ويكثر في كلام المناطقة وأهل الكلام.

أما التمثيل: فهو قياس معروف في أصول الفقه: إلحاق فرع بأصل في الحكم، لعلة تجمع بينهما، وهذا لا يجوز أن يستعمل في حق الله جل وعلا، وكذا قياس الشمول الذي تستعمل فيه أداة الشمول والعموم كما يستعمله المتكلمون، فهذا باطل بنص قول الله جل وعلا: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]، وضرب الأمثال يكون للجاهل الذي لا يعرف ربه جل وعلا، فيضرب له المثل تعالى الله وتقدس؛ لأن المثل يجعله متعارفاً عليه بين المخلوقين، وهذا لا يجوز بحال، والسبب في هذا: أن الله جل وعلا لا مثل له في ذاته، فذاته جل وتقدس لا تشبه شيئاً من ذوات الخلق، وهذا أمر متفق عليه بين جميع الفرق من أهل الإسلام، لا يخالفون في هذا حتى الجهمية يقرون بهذا ويؤمنون به، وهذا أمر متفق عليه، فمن المعلوم أن الصفات تبع للذات، يحتذى فيها حذوها، فمن كان في ذاته لا مثل له يجب أن يكون في صفاته لا مثل له، فكما أنه في ذاته لا مثيل له فهو كذلك في صفاته لا مثيل له.

ومن هنا نهي عن ضرب الأمثال، ولكن استثني في مثل قياس الأولى: وقد اختلف في المراد به، ما المراد بمثل قياس الأولى؟ فمثل الأولى -الذي اشتهر عن السلف- أن الكمال الذي يتصف به المخلوق، ولا يكون فيه نقص بوجه من الوجوه، وأمكن أن يتصف به الخالق فاتصاف الخالق جل وعلا به أولى؛ لأنه تعالى هو الواهب للكمال، ولا يمكن أن يكون واهب الكمال معدوماً.

ومن الأمثلة على هذا: أن الله جل وعلا قد عاب على المشركين كونهم يعبدون من لا ينطق ولا يسمع، يعني: لا يرد الجواب، ولا يسمع الخطاب، ولا ينفع ولا يضر، فدل هذا على أن الكلام كمال، والسمع كمال، والنفع كمال، والضر بمن يستحقه كمال، فيكون الرب جل وعلا موصوفاً بذلك، فهذا يدلنا على أن مثل الأولى لا يثبت به الشيء لاستقلاله، وإنما يقال عند المجادلة وعند إقرار الحق لمن ينكره ويخاصم به، فإن هذا يلزمه، فالكلام -مثلاً- الذي ينفيه عن الرب جل وعلا ويزعم -كما سيأتي- أنه نقص أو أن فيه تشبيه، يقال -باتفاق العقلاء: إن المتكلم أكمل ممن لا يستطيع الكلام، والكمال في المخلوق ليس الكمال الذي يكسبه المخلوق بنفسه، وليس الذي يكسبه إياه مخلوق آخر مثله، فلابد أن يكون الذي أكسبه هذا الكمال هو الخالق جل وعلا، فكيف يعطي الخالق العبد هذا الكمال وهو عار منه؟! هذا لا يجوز أن يكون ولا يصح حتى في العاقل فكيف بالخالق؟!

ثم هذا في الأصل، ولا يلزم المماثلة في أن كلام الرب جل وعلا ككلام المخلوق، ولكنه يماثله في الأصل الذي هو أصل الكلام، وكونه يتكلم كلاماً يصدر منه ويسمع، وإلا فكلام الله لا يشبه كلام المخلوقين، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في الصحيح معلقاً، ورواه في خلق أفعال العباد مسنداً من حديث أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)، وصوت المخلوق لا يكون كذلك، وإنما يسمع من البعد بواسطة المكبرات والآلات، أما الرب جل وعلا فهو بخلاف ذلك، ولهذا ترجم البخاري على هذا وقال: باب: أن الله يتكلم وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوق.

فدل بهذه الترجمة على أنه غير مشبه له، وهذا هو قول الأئمة وهو الحق.

قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن...)

وقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

أولاً: مقصود المؤلف بهذا الآية: أن القول في الصفات بلا علم من أعظم المحرمات، وأن الله حرم هذا، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في صفة من صفات الله أو في اسم من أسمائه وليس عنده في ذلك برهان، فإن ارتكب ذلك فقد وقع فيما هو أعظم من الشرك، هذا مراده من إيراد الآية.

والآية فيها أمور كثيرة:

فقوله: قُلْ هذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول، وقد استدل العلماء بهذا على أن القرآن كلام الله، ووجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له في هذا دخل إلا البلاغ، فقيل له: قُلْ فقال كما قيل له، فأدى الذي جاءه به جبريل، لم ينقص منه حرفاً واحداً؛ لأن هذا أمر موجه إليه، قال الله جل وعلا له: قُلْ فقال كما قال الله له، لم ينقص حرفاً واحداً، مع أن هذا في الظاهر خاص به، ولو قال مثلاً: (إنما حرم ربي الفواحش) وترك كلمة قُلْ يكون قد أدى ما أمر به، ولكنه لم يترك حرفاً من قول الله جل وعلا، فقال كما قيل له، ولهذا لما سئل عن ذلك، قال: (قيل لي: قُلْ فقلت كما قيل لي)، وهذا دليل واضح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدى كل ما سمعه من جبريل تاماً بلا نقص، ولهذا اتفق العلماء على أن ما بين دفتي المصحف كله كلام الله، لا يجوز أن ينقص منه حرف ولا يزاد عليه حرف، فمن فعل ذلك لا يكون مسلماً.

وقوله: إِنَّمَا : هذه أداة حصر كما هو معروف، يعني أنها تحصر المحرمات فيما ذكر، وتخرج التحريم عما عدى ذلك، ولا يكون هذا دليلاً على أن المحرمات محصورة فيما ذكر؛ لأنه إذا جاء دليل آخر فيه زيادة على ذلك فلا يكون ذلك نص على القول الصحيح، بل يكون زيادة أمر وتشريع آخر، كما هو معروف.

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي : والتحريم في اللغة: هو المنع والحظر ويكون من الله جل وعلا على نوعين:

الأول: تحريم قدري كقوله جل وعلا: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95]، حرام أي: قدراً وكوناً.

الثاني: تحريم شرعي، كما في هذه الآية، فالتحريم الشرعي هو الذي حرمه على عباده، يعني: هو الأمر الذي يأمر به، فما أمر الله جل وعلا به ونهى عنه عباده فهو محرم.

أما في الاصطلاح فالمحرم: هو ما أثيب تاركه وعوقب فاعله، وهذا في اصطلاح الفقهاء، أما مجرد الترك بدون أن يكون تركه لله فلا يثاب عليه؛ لأنه قد يكون عاجزاً عن فعله، وقد يكون غير متمكن، وقد يكون لا يريده، فلا يكون بذلك مثاباً على الترك حتى يتركه لله جل وعلا، امتثالاً لنهي الله جل وعلا.

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ الفواحش: هو كل ذنب كبر في نفسه، وفحش في نظر وفطر الناس الذين لم تتغير فطرهم، وإلا فالإنسان قد يكون أسوأ من البهيمة وأخبث منها، فتصبح الفاحشة عنده ليست فاحشة، بل هي مستساغة، وكما يقع لأهل الانحلال من الأمور القبيحة حتى الانحلال من الأخلاق، فيصبح الإنسان بهيمة، كما قال الله جل وعلا: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:4-5]، فرده أسفل سافلين نهايته جهنم، ولكنه في الدنيا يكون أسفل من الحيوان وأحط منه، ويكون الحيوان أرفع منه وأحسن، وهذا من الرد إلى الأسفل، فالفواحش: هي ما فحش في نفسه بأن كبر وعظم، وكذلك فحش في فطر ذوي الفطر السليمة وأذواقهم، وكذلك في شرع الله جل وعلا وأمره، فعلى هذا يشمل جميع المحرمات المعظمة، وبعضهم يطلقه على ما فيه شهوة وليس لازماً.

وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، فسر أن ما ظهر: ما أعلن ورئي وصار مكشوفاً يراه الناس، وما بطن: ما أسره الإنسان وفعله في الخفية فكله محرم، ويقول المفسرون: السبب في هذا أن المشركين كان عندهم في فطرهم وأذواقهم أن الزنا يكون فاحشة إذا كان ظاهراً، أما إذا كان في السر فليس فاحشة، ولا يلام الإنسان عندهم عليه! فلهذا قال: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، هذا على قول.

وقيل: مَا ظَهَرَ مِنْهَا : ما فعل بالجوارح بالأيدي والأبصار والأسماع، يعني: نظر إليه بالبصر أو استمع إليه بالأذن كالغناء والمزامير.. وما أشبه ذلك، وكذلك ما يتناول باليد أو مشي إليه بالرجل، يعني: ما فعل بالجوارح، هذا في قوله ما ظهر، وقوله: وَمَا بَطَنَ أي: ما انطوى عليه القلب من النيات والمقاصد، فإن النيات قد تكون الذنوب فيها أعظم من الذنوب في الجوارح.

والصواب: أنه يشمل هذا وهذا، وكله داخل في معنى الآية، ما ظهر وما بطن: يشمل السر والعلن، ويشمل ما فعل بالجوارح والنيات والمقاصد، وانطوت عليه القلوب.

قوله: وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ : الإثم والبغي: مقترنات وأحدهما يدخل فيه الآخر، فإذا جاءا مقترنين تداخل المعنى وصار قريباً بعضه من بعض، ولهذا قال جل وعلا في الآية الأخرى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

أما من ناحية المعنى كإفراده فالإثم: كل ما يحصل به ذنب يترتب عليه عقاب، فكل ما حصل عليه عقاب فهو الإثم، أما البغي: فهو ما حصل فيه تجاوز وتعدي، فيكون أخص من الإثم، ولهذا لما ذكر جل وعلا حل الميتة للمضطر قيده بذلك؛ لأنه غير متعدٍ أي: لا يتعدى الشيء الذي يسد رمقه ويقوم بحياته، فإن تعدى ذلك فقد ارتكب المحرم.

وكذلك البغي يكون في حق الله، ويكون في حق الإنسان، ففي حق الإنسان يلزم منه الظلم؛ لأنه قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وقد يكون أيضاً بالفعل الذي لا يكون لا باليد ولا باللسان، وكله ظلم وتعدٍ؛ لأنه تعدى الشرع، فكل ما كان فعلاً وتعدي به المشروع فهو من التعدي ومن البغي، وقد فسر بعض العلماء الإثم بذنب خاص وهو شرب الخمر، فهي تسمى إثماً، كما جاء في بيت الشعر:

شربت الإثم حتى ضل عقليكذاك الإثم تضل به بالعقول

الإثم: يعني: الخمر، والصواب أنها ليست هي المقصورة بالإثم، ولكنها داخلة فيه، فهي أم الخبائث، وهي داخلة في الإثم؛ لأنها تدعو إلى الإثم وتجر إليه كما هو واضح.

وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ : قيد للتعدي، أما إذا حصل التعدي الذي فيه تجاوز الحق الذي يكون للمخلوق على الآخر، فإن هذا قد يكون بحق؛ لأنه ظلم، واستحق أن يتجاوز، وهذا من باب المقابلة فقط، وفي الشرع لا يعد بغياً، لهذا قيده بقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ .

السلطان: المقصود به: الحجة والبرهان والدليل، والحجة والبرهان والدليل ألفاظ مترادفة، بعضها يقوم مقام الآخر.

والسلطان يستعمل في استعمالات ثلاثة: الأول: أنه يأتي بمعنى الحجة كما في هذه الآية.

الثاني: أنه يأتي بمعنى السيطرة، كقوله جل وعلا في إبليس أنه ما كان له على المؤمنين من سلطان: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [النحل:100]، فليس له على المؤمنين سلطان، يعني: ليس له سيطرة عليهم، وليس له قوة ولا قهر، وإنما سلطانه وقهره على الذين يتولونه بأن يطيعوه ويتركوا أمر الله جل وعلا.

الاستعمال الثالث: بمعنى: الملك، لهذا خص الله جل وعلا نفسه بذلك، فهو ذو السلطان القديم جل وعلا، فله الملك التام والسلطان الكامل.

وقوله: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [الأعراف:33]: يقول العلماء في هذه الآية: إنها تخرج مخرج الغالب، وإلا لا يوجد شرك أنزل الله جل وعلا به سلطاناً أصلاً، فكل الشرك لم ينزل الله جل وعلا به سلطاناً، فهذا القيد غير مراد، فكل شرك محرم، ولم ينزل به الله جل وعلا سلطاناً.

والشرك أنواع، وقد علم أنه قسمان: أكبر وأصغر، أما تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، فالثالث لا يخلو أن يكون داخلاً في الأكبر أو الأصغر الذي هو الخفي.

والخفي: إما أن يكون أصغر، وإما أن يكون أكبر، فلا يكون التقسيم خارجاً عن القسمين.

والأكبر: هو أن يجعل شيئاً مما هو من خصائص الله ومن حقه للمخلوق، فكل حق أوجبه الله جل وعلا على عباده إذا صرف منه شيء للمخلوق فقد وقع ذلك الصارف في الشرك الأكبر.

أما الأصغر فحده بالنصوص، فما جاء في النص: أنه سمي شركاً أصغر فهو الشرك الأصغر، وإلا لا ضابط له، أما كونه يضبط: بأنه كل وسيلة توصل إلى الشرك الأكبر فليس بصحيح، ولهذا يحده كثير من العلماء بالأمثلة، فيقولون: كيسير الرياء، وكقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ولولا الله وفلان، والحلف بغير الله، وهذا ليس مطلقاً؛ لأن هذه الأشياء قد تكون شركاً أكبر حسب ما يقوم في نفس الإنسان.

ويفارق الشرك الأصغر الشرك الأكبر بأمور:

الأول: أنه لا يخرج من الدين الإسلامي بالاتفاق.

الثاني: أن الشرك الأصغر على القول الصحيح داخل تحت المشيئة، يعني: كسائر الذنوب يغفره إذا شاء، هذا على القول الصحيح.

الثالث: أن المشرك شركاً أصغر إذا مات لا يكون حكمه حكم المشرك شركاً أكبر بأن يكون خالداً في النار، بل قد يعذب وقد لا يعذب، ثم يكون مآله الجنة، وهناك فروق أخرى معروفة ظاهرة.

والشرك الأكبر أقسام كما هو معلوم؛ لأنه قد يتعلق بذات الله، وقد يتعلق بصفات الله، وقد يتعلق بحقوقه، ولكن المشهور المعروف ما يتعلق بحقوقه، وقد جاء في القرآن تقسيمه إلى أربعة أقسام:

الأول: شرك الدعوة، الثاني: شرك الطاعة، الثالث: شرك الدعاء، الرابع: شرك المحبة، وكلها مذكورة في آيات معروفة مشهورة، في كتاب الله جل وعلا والتفصيل ليس هذا محله.

وقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، يعني: وحرم عليكم أن تقولوا عليه ما لا تعلمون، وهذا هو الشاهد من الآية وهو المراد من إيرادها.

فالكلام في صفات الله أو في أسمائه بلا دليل شرعي جاء عن الله جل وعلا أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم هو القول على الله بلا علم، فيكون من أعظم المحرمات؛ لأن الله جل وعلا في هذه الآية رتب المحرمات على مراتب أربع، فبدأ بالأسهل وهي الفواحش، ثم بما هو أعظم من ذلك وهو البغي والإثم بغير الحق، ثم ثلث بما هو أعظم من ذلك وهو الشرك، ثم ربع بما هو أعظم من الشرك وهو القول عليه بلا علم.

وهذا دليل على أن القول على الله بلا علم أعظم من الشرك وأكبر؛ لأن هذا الترتيب على حسب هذه الذنوب.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الواسطية [2] للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

https://audio.islamweb.net