إسلام ويب

تحدث الشيخ في هذا الدرس عن معنى الغربة، ثم ذكر المقصود ببداية الإسلام غريباً، وكذلك المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسيعود غريباً) ثم ذكر أن الغربة أمر نسبي تتفاوت بين مكان ومكان، وزمان وزمان، وتحدث عن حال البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر بعض جوانب الانحراف البشري فيها، وبيَّن الفرق بين غربة الحنفاء وغربة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر انتهاء الغربة في أول الإسلام.

تعريف الغربة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أيها الإخوة: عنوان هذه الكلمة هو (المسلم بين غربتين) وفي نهاية الكلمة أحب أن أسمع من بعض إخواني تحليلاً صحيحاً لهذا العنوان، يبين لنا ما هو المقصود بهاتين الغربتين المذكورتين في العنوان.

فأما الغربة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قد بين لنا في أحاديث كثيرة -ثلاثة وعشرين حديثاً أو تزيد على ذلك- أن الإسلام بدأ في أول أمره غريباً، وأنه سيعود في آخر أمره غريباً كما بدأ أول مرة، حتى إن من العلماء من قال: إن الإسلام سينتهي برجل واحد، كما ابتدأ برجل واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

أيها الإخوة... والمقصود بالغربة في هذا الحديث؛ هو بعض معانيها اللغوية، فإن العرب يطلقون الغربة على عدة معانٍ:

فيطلقون الغربة على معنى الخفاء والغموض، ومنه قول بعض العلماء؛ أو تسميتهم للألفاظ ذات الدلالة غير الواضحة، في الأحاديث النبوية: غريب الحديث.

فالمقصود بالغريب هنا، هو: اللفظ الذي يوجد في معناه غموض وخفاء ويحتاج إلى كشف وبيان؛ هذا معنىً من معاني الغربة.

المعنى الثاني: من معاني الغربة هو: معنى النـزوح والخروج عن الوطن، ومن ذلك قول الشاعر:

وما كان غض الطرف منا سجية>>>>>ولكننا في مدحج الغربان

أي: غريبان، فهما قد نـزحا عن وطنهما.

ومن معاني الغربة أيضاً: أن يوجد الإنسان بين قوم غير قومه، وفي بلد غير بلده، وأهل غير أهله، فهو بينهم غريب؛ لأنهم لهم حال وله حال إلى معان أخرى كثيرة.

وكل هذه المعاني متحققة في معنى غربة المسلم، فالمسلم غريب بمعنى أنه قد نـزح عن وطنه وخرج عنه، إذ أن الإنسان إذا خلف في القوم الذين يقتدي بهم، شعر بالغربة، ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يتمثل بقول الشاعر:

إذا ما مضى القرن الذي أنت>>>>>فيهمُ وكلفت في قرن فأنت غريب

والمسلم غريب أيضاً، بمعنى أن الناس من حوله في العموم، مخالفون لما هو عليه، عقيدة وسلوكاً ومنهجاً، ولذلك يشعر بينهم بالغربة، بمعنى المخالفة لما هم عليه.

وكذلك المسلم يشعر بالغربة، بمعنى الغموض والاستخفاء؛ لأنه يجد في كثير من الأحيان أن المكانة والحظوة والشهرة والسمعة، هي لغير المتقين، وغير الصالحين من أهل الرياضة، أو أهل الفن، أو المال، أو الجاه أو غيرهم.

هذه بإجمال بعض مشاعر الغربة، التي تنطلق من المعنى اللغوي لهذه الكلمة، وتنطبق على المعنى الشرعي لها، ويوافقها واقع المسلم في كل زمان وفي كل مكان.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى إشارة مجملة بقوله: {بدأ الإسلام غريباً} فأشار إلى أن هذا الدين بدأ غريباً، والغربة هنا تعني غربة الإسلام في أول مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم.

المقصود ببداية الإسلام غريباً

وإلا فلو نظرنا إلى الدين جملة، وإلى معنى الإسلام الذي هو دين الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام؛ لوجدنا أن أول البشر وهو أبونا آدم كان نبياً مكلماً وكان بنوه كذلك تعلموا منه الدين، وكانوا على شريعة من الحق، بل قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[إن الناس ظلوا على شريعة من الهدى عشرة قرون]].

فالمقصود ببداية الإسلام في هذا الحديث، بدايته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول مبعثه بدأ غريباً بفرد واحد وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه سيعود.

المقصود بقوله: وسيعود غريباً

ونستطيع أن نعبر عن كلمة: سيعود بمعنى أنه سينتهي غريباً أيضاً فسيئول الأمر بالمسلمين إلى غربة كالغربة الأولى، ثم ينتهي شأن الدين تماماً، كما كان الحال في الجاهلية الجهلاء، التي لم يكن فيها بريق من نور الهداية إلا القليل.

فهذه الغربة الأخيرة، التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: {وسيعود غريباً} تحتمل المعنى الذي أشرت إليه وهو في نظري معنى قوي، فيكون الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ما سيكون عليه الأمر بعد خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد نـزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقتالهم للدجال، وقتلهم له، واستقرار شأن الإسلام في الأرض، وضربه بجرانه فيها، حيث يبدأ الإسلام بعد ذلك يتناقص شيئاً فشيئاً، حتى يضعف شأن المسلمين، وحتى يبعث الله الريح الطيبة، فتقبض روح من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فلا يبقى أحد في الأرض يقول الله الله، أي: لا يبقى أحد في الأرض يقول: لا إله إلا الله.

فهنا نقول: إن الإسلام عاد غريبا كما بدأ، واستحكمت الغربة استحكاماً، لا مطمع في زوالها وارتفاعها بعده، هذا الاحتمال الأول في الحديث، وعلى هذا الاحتمال، يكون قوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} بمعنى العودة التي لا مطمع في الخروج منها؛ لأن الشيء إذا بدأ في صورة وعاد في صورة إلى نفس الصورة، نقول: إنه عاد عودة لن يتغير بعدها.

أما الاحتمال الثاني -وهو معنى أشمل للحديث- فهو: احتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشار بهذا الحديث إلى ما سيحصل للمسلمين من ضعف وتقصير في جوانبهم العقائدية، والعملية وغيرها، وهذا أمر بدأ منذ زمن قديم، ونستطيع أن نقول إنه بدأ في زمن مبكر جداً من تاريخ الإسلام، واستمر في المسلمين إلى هذا اليوم، وإلى أن يشاء الله، وهو يتفاوت بين زمان وزمان ومكان ومكان.

فقد تستحكم الغربة في بلد من البلدان، حتى يضيق الخناق على المؤمنين وتكتم أنفاسهم، ولا يستطيعون أن يجهروا بشيء من دينهم، ولا من شعائرهم، وقد يتنفس المسلمون الصعداء في بلد آخر وترتفع رايتهم، بل قد يكتب لهم النصر والتمكين في بلد من البلدان، فالغربة تتفاوت بين مكان ومكان.

وكذلك تتفاوت بين زمان وزمان في سائر الأمكنة، فقد يعيش المسلمون غربة شديدة، ثم يبعث الله المجدد الموعود أو المجددين الموعودين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن، الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فبمجيء هؤلاء المجددين يضعف شأن الغربة، ويستحكم شأن الدين والإسلام، وترتفع الغربة شيئاً ما.

إذاً: فالغربة تتفاوت بين زمان وزمان، وبين مكان ومكان.

هذا هو المعنى الثاني، وعليه يجب التنبيه إلى أمر، وهو: أن وجود الغربة المستحكمة في الأمة المحمدية، أمر غير ممكن ولا متصور وجوده، إلا بعد انتهاء عهود المسيح عيسى بن مريم، والمهدي، ومجيء الريح الطيبة، التي تقبض أرواح المؤمنين، أما قبل ذلك فلا يتصور أن تعيش الأمة الإسلامية غربة مستحكمة، في جميع البلدان وفي جميع الأزمان.

والسبب في هذا، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث المتواتر الذي يقطع بصحته وثبوته كل طالب علم، أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: {لا تزال طائفة من هذه الأمة، على الحق منصورة ظاهرة، تقاتل حتى يأتي أمر الله وحتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال}.

ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، أحد هذه المواضع في كتابه القيم: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أنه لا يتصور وجود أمة جاهلية مطلقة في الأمة المحمدية أبدا، اللهم إلا ما يكون بعد قبض أرواح المؤمنين فهنا لا يبعد أن تنقرض الأمة المحمدية وتنتهي، وتسيطر الجاهلية على الأرض كلها قبيل قيام الساعة.

حياة البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم

لقد كانت البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في جميع شئونها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وقد سيطرت الروح الجاهلية على الدنيا كلها وعلى الأجناس كلها، واتسم ذلك العصر بالجهل، والهوى، والنقص، والتحيز، والتعسف وغيره من خصائص البشر حين يتخلون عن الديانات السماوية.

ومع هذه الجاهلية، فقد غاب تأثير الديانات السماوية في الأرض أو كاد، حتى إنك لا تكاد تجد في الأرض من المستقيمين على دين الله، إلا أفراداً يعدون على الأصابع.

وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن عياض بن حمار رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى قال: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي كلهم حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطاناً، وإن الله تبارك وتعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب} وإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قال الله تعالى لنبيه: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنـزلت عليكم كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً، ثم إن الله عز وجل أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: يا رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك فاغزهم نغزك وأنفق عليهم فسننفق عليك، وأبعث جنداً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك.}.

هذا الحديث العظيم -أيها الإخوة- أريد أن أقف عنده وقفات لنستدل منه:

جوانب إغراق الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم

أولاً: بعض جوانب الانحراف البشري، الذي وقع فيه الناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أشار عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث، إلى انحراف الناس في عدة جوانب:

الانحراف في النواحي الدينية

الجانب الأول: انحراف النواحي الدينية، وفساد حملة الأديان السماوية، من اليهود والنصارى وغيرهم، وهذا الانحراف يكون:

أولاً: بخروج الناس عن الأديان السماوية، بعد ما دخلوا فيها، كما يكون بعدم دخولهم في الأديان السماوية أصلاً، وأخطر صورة من صور الانحراف على مدى التاريخ، هي الشرك بالله عز وجل؛ ولذلك بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث، حيث قال: {وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطاناً}.

الانحراف في الجوانب التشريعية

الجانب الثاني: هو: الانحراف في الجوانب والأوضاع التشريعية، حيث كان الناس يتحاكمون فيما بينهم إلى أوضاع، ونظم، وأعراف، وتقاليد ما أنـزل الله بها من سلطان، إنما كانت بمحض الهوى والآراء البشرية.

وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الجانب، في قوله في بداية الحديث القدسي: {كل مال نحلته عبداً حلال، كل مال نحلته عبدا حلال } فهذا إشارة إلى ما كان أهل الجاهلية يفعلونه بأموالهم حيث كانوا يجعلون الأموال لأصنامهم وغير ذلك، وقد أنكر الله عز وجل عليهم بقوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة:103] فهذه إشارة إلى جانب، وهو: انحراف الأوضاع التشريعية.

ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: { وحَرَّمت عليهم ما أحللت لهم} وهذا ما أنكره الله عز وجل في كتابه، حيث قال: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59] فأشار إلى ما آتاهم الله من رزق، فجعلوا منه الحلال والحرام، هل هو بشرع الله أم بالهوى والافتراء؟!

فساد المصلحين

الجانب الثالث من جوانب انحراف البشرية، التي أشار إليها الحديث النبوي، وهذا الانحراف هو قاصمة الظهر- وهو: فساد المصلحين، فإن البشرية، مهما بلغ فيها الانحراف يمكن أن ترجع إلى شرع الله عز وجل وإلى دينه بشرط، هذا الشرط أن يوجد في البشرية من ينهى عن الفساد في الأرض ويدعو إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].

فمهما بلغ الانحراف؛ يمكن أن يرجع الناس إلى الدين، بشرط أن يقوم أناس مصلحون، يدعون إلى دين الله وشرعه، وهؤلاء بالضبط هم الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهو حديث المجدد الذي أشرت إليه سابقا، لكن إذا غاب هؤلاء المصلحون، أو انحرفوا فماذا يصلح الناس؟

ولذلك كان بعض السلف يخاطب القراء، وطلاب العلم، والعلماء، والمحدثين، فيقول لهم:

يا معشر القراء يا ملح البلد>>>>>ما يصلح الملح إذا الملح فسد

يعني إذا كنتم أنتم- وأنتم ملح الناس وأنتم زين الناس وأنتم صلاح الناس- فسدتم، فكيف يصلح الناس إذا جاءت العلة من قِبلِكم، فمن أين تأتي العافية؟!

وهذه المشكلة التي قامت في الجاهلية، حيث انحرف الناس، حتى أصحاب الديانات السماوية من اليهود والنصارى.

وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: {وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم -والمقت هو أشد البغض- عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب} أي: حتى أصحاب الكتب السماوية، انحرفوا، ومقتوا، وسقطوا من عين الله عز وجل، إلا بقايا منهم، وكلمة بقايا تدل على القلة، وأن هؤلاء الصالحين آثار باقية، بعدما انحرف اليهود والنصارى وغيرهم.

وهذه البقايا التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، يمكن أن نقول: إنهم كانوا غرباء في الجاهلية، غربة شديدة فلننظر كيف كانت غربة هؤلاء:-

نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم، أشار -بعد ما ذكر هذا الانحراف المجمل- إلى وجود قلائل صالحين، هؤلاء القلائل كانوا متفرقين في الدنيا كلها.

فالأمة العربية -مثلاً- وهي تعاني أشد ألوان الانحراف الذي ذكرناه، وقد ابتليت بانحطاط شديد، في أخلاقها وأديانها وعقائدها، حتى وصلت إلى الحال التي يصفها أبو رجاء العطاردي كما في صحيح البخاري أنهم: [[كانوا يعبدون الحجر، فإذا وجدوا حجراً هو أخير منه، تركوا الحجر الأول، وعبدوا الحجر الجديد]] ووصلوا إلى الحال الذي كان يأخذ بعضهم أربعة أحجار، فيضع ثلاثة منها تحت قِدْره، ويجعل الحجر الرابع له إلهاً يعبده ويصلي إليه، فإذا لم يجد حجراً حثا حثوةً من تراب، جاء بالشاة، فحلبها على هذا التراب فصلى إليه.

وإلى حد الانحطاط الخلقي، الذي كانت النساء فيه -البغايا- يضعن أعلاماً على بيوتهن، حتى يعرفهن الناس فيأتوا إليهن طلباً للرذيلة والخنا والفساد.

وحتى صارت الأمة العربية، لا تعدو أن تكون أمة ذليلة، تابعة لإحدى الدولتين العظميين آنذاك، فارس أو الروم، ومع هذا الانحطاط الشديد الذي ابتليت به الأمة العربية، كان يوجد فيها قلائل ممن يسمون بالحنفاء، وهؤلاء الحنفاء هم الذين بقوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن أشهرهم زيد بن عمرو بن نفيل، وكان هذا الرجل يبحث عن الدين الصحيح، فذهب إلى الشام والتقى بـاليهود، وسألهم عن الدين الصحيح، فلم يجد عندهم علماً، وقالوا لا يمكن أن تكون معنا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله فقال: إنما أفر من لعنة الله، فسألهم عن الدين، فقالوا: لا نعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ديانة إبراهيم عليه السلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً.

قالوا: فسألهم أين يوجد هذا الدين؟ فلم يذكروا له خبراً، فخرج إلى النصارى، فلم يجد عندهم علماً، وسألهم عن الدين الصحيح قالوا: لا نعلمه إلا أن يكون حنيفاً، دين إبراهيم عليه السلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، فسألهم أين يوجد؟ فلم يذكروا له من ذلك خبراً، فخرج رضي الله عنه وأرضاه، حتى إذا ظهر في الصحراء، رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني على دين إبراهيم حنيفاً، وما أنا من المشركين.

وقد ورد أنه قتل في الصحراء، حيث تعرض له بعض الناس وقتلوه، وورد في صحيح البخاري أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يسند ظهره إلى الكعبة، وينظر إلى قريش وهم يعبدون الأصنام، فيقول لهم: يا معشر قريش! ثم يقول لهم: هذه الشاة خلقها الله عز وجل وأنـزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض العشب، ثم أنتم تذبحونها لغير الله فينكر عليهم أن يذبحوا لغير الله.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أيضاً، أنه التقى به فقدمت له شاة مشوية أو مصلية، فابتعد عنها زيد بن نفيل وقال: لا آكل مما ذبح لغير الله.

وكذلك كان إذا علم أن رجلاً يريد أن يئد ابنته -جرياً على العادة الموجودة، في بعض القبائل في الجاهلية -جاء إليه وقال: لا تئدها، فأنا أكفلها لك؛ لأنهم كانوا يئدون البنات أحياناً؛ لما يجدونه من الجوع والمسغبة، فكان زيد بن عمرو بن نفيل يقول لمن هَمَّ بوأد ابنته لا تئدها وعَلَّي طعامها وشرابها، فيفتديها منه وفي ذلك يتمدح الشاعر بقوله:

ومنا الذي منع الوائدات >>>>>وأحيا الوئيدة لم تؤأد

فافتخروا بتدخله في منع وأد البنات، وبالمناسبة مدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه في الجنة فهو مسلم.

إن زيد بن عمرو بن نفيل لم يكن وحيداً في الجاهلية، بل كان يوجد أفراد متفرقون على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانوا يعيشون غربة شديدة في ذلك الوقت، فهذه غربة.

ولما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم، كان مبعثه انتصاراً لهؤلاء الغرباء، المشردين المضطهدين، الذين قتلوا في سبيل الله أو أوذوا أو ضويقوا.

كان مبعثه صلى الله عليه وسلم انتصاراً لهؤلاء القوم، بل كان مبعثه انتصاراً لديانات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه جاء بالدين الذي جدد دين الأنبياء السابقين جميعاً، فكان مبعثه انتصاراً للحقيقة، وهذا جزء من معنى قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] فقد نصر الله عز وجل رسله في الحياة الدنيا، نصرهم بالتمكين لدينهم، سواء في وقتهم أو على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ونصرهم بخذلان أعدائهم ومناوئيهم في وقتهم أو بعد ذلك على يد محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى يدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

كان مبعثه صلى الله عليه وسلم، انتصاراً للرسل والأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وقد بعث غريباً فرداً مطلقاً غرابة مستحكمة، ومر وقت من الأوقات، لم يكن في الدنيا كلها مسلم إلا رجل واحد، هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الدنيا كلها تقف في صف وفي معسكر، وهو معسكر الكفر والشرك بالله عز وجل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وحده، يقف في المعسكر الآخر، غريباً وحيداً فريداً ليس معه إلا الله عز وجل.

الفرق بين غربة الحنفاء في الجاهلية وغربة النبي صلى الله عليه وسلم

وهنا أريد أن أشير إلى قضية مهمة جداً، وهي قضية: الفرق بين غربة الحنفاء في الجاهلية وبين غربة النبي صلى الله عليه وسلم.

إن الحنفاء في الجاهلية، لم يكونوا يطمعون بإصلاح الأوضاع، ولم يكونوا يملكون منهجاً للتغيير والدعوة إلى الله عز وجل، بل قد قنعوا بصلاح أنفسهم، ونجاتها من الشرك والكفر في الدنيا، ونجاتها من العذاب في الآخرة، ويئسوا يأساً مطلقاً من إصلاح الناس، فهم مثل الشمس التي قد قاربت الغروب، فبقيت أشعتها الباهتة في أعالي النخيل، وعلى رءوس الأبنية المرتفعة أشعة صفراء، وما هي إلا دقائق حتى تغرب وتنتهي.

أما غربة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت غربة بداية؛ فهي تشبه أشعة الشمس في أول طلوعها، وإن كانت أشعة قليلة لا تبرز إلا في أعالي الأبنية والنخيل؛ إلا أنها سرعان ما ترتفع حتى تشمل بأشعتها وأنوارها الدنيا كلها.

إذاً: لم يقنع الرسول صلى الله عليه وسلم بترديد أنه غريب، وأن الناس على منهج مخالف لمنهجه، ودين مخالف لدينه، ويقف عند هذا الحد! بل قام يدعو إلى الله عز وجل بكل وسيلة، حتى التف حوله بعض الصالحين من قريش، واحد واثنان وثلاثة وأربعة، وكانوا قلائل، حتى كان الواحد منهم يقول: إني يوم أسلمت، كنت ثلث الإسلام، كنت ربع الإسلام، كنت خمس الإسلام، كنت سدس الإسلام، كل هذا ثبت عن بعض الصحابة الذين تقدم إسلامهم.

كان الواحد منهم يقول: إنه ثلث الإسلام؛ لأنه لا يوجد إلا مسلمان وهو ثالثهم، وآخر يقول إنه ربع الإسلام، بمعنى أنه يوجد في الدنيا ثلاثة هو رابعهم.

ولما سأل عمرو بن عبسة رضي الله عنه، النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم وغيره: {من معك على هذا الأمر -يعني الإسلام- قال: حر وعبد}.

أما الحر فهو: أبو بكر، أو علي بن أبي طالب وأما العبد فهو: بلال، هذا على القول بأن المقصود، حر يعني: فرد واحد، وعبد يعني: فرد واحد.

لكن هناك معنى آخر، ذكره ابن كثير رحمه الله: أن يكون المعنى من الأساليب، التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم للتعمية على أعداء الدعوة فأعطى هذه اللفظة المحتملة يعني أن معه جنسان: جنس الأحرار وجنس العبيد، وعلى هذا لا إشكال، فيدخل في الأحرار أبو بكر، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ممن تقدم إسلامهم، كـزيد بن حارثة، ويدخل في العبيد بلال، وعمار وغيره أيضاً، ممن تقدم إسلامه.

وعلى أي حال فقد كان عدد المسلمين أفراداً يعدون على الأصابع، ولكنهم أيضاً كانوا يحملون هَمَّ الدعوة في نفوسهم، ولذلك ما مر إلا سنوات قليلة حتى أسلم الأنصار، وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأقام الدولة ودفع الغربة.

ثم ما هي إلا سنوات حتى انفضت الأحزاب التي هاجمت المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الآن نغزوهم ولا يغزونا}.

وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة الهجوم من مرحلة الدفاع، وما هي إلا سنوات قليلة حتى خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجمع غفير صوب مكة، فذهب وفتحها ودخل وعلى رأسه المغفر، وأصبحت الجزيرة العربية كلها للحكم المتبع للإسلام، لأنهم كانوا يتربصون بإسلامهم إسلام قريش.

فلما فتحت مكة وأسلمت قريش بدأ الناس يدخلون في الإسلام أفواجاً، وحصل ما يسمى بعام الوفود، الذي أرسلت فيه القبائل العربية وفودها، تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام.

ولم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى أقر الله عز وجل عينيه برؤية هذا الدين، الذي بعث به ظاهراً ظافراً منتصراً، وحتى رأى صلى الله عليه وسلم هذه العصابة الضعيفة التي كان يخاف عليها صلى الله عليه وسلم من الاستئصال حين كان يقول في بدر: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض} أقر الله عز وجل عينه برؤية هذه العصابة وهي التي تحكم الجزيرة العربية وتستعد للانقضاض على صروح الكفر، في الشام والعراق وغيرها من بلاد الأرض.

إذاً غربة النبي صلى الله عليه وسلم، غربة البداية، غربة الداعية الذي يحمل منهجاً للإصلاح ويرتب للدعوة، ويرفع راية التوحيد، ويدعو الناس إليها.

شبهة من يقول إن الغربة اليوم هي كغربة الحنفاء

أما غربة الحنفاء في الجاهلية، فهي غربة النهاية، وغربة من لا يملك إلا الصبر، والسكوت والاستسلام، حتى يأتي أمر الله.

وهكذا الحال بالنسبة للمسلم الموصوف بأنه غريب، يمكن أن يسلك المسلم أحد الطريقين.

أيها الإخوة: يمكن أن يكون بعض من يرددون: بأن المسلمين غرباء يعنون غربة كغربة الحنفاء، فيظنون أن الدين قد عاد اليوم غريباً كما بدأ، وأنه لا مطمع في الإصلاح، فيكفون عن الدعوة إلى الله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن نشر العلم الشرعي الصحيح، ويتعللون بأن الدين قد عاد غريباً كما بدأ.

الرد على هذه الشبهة

هذا فهم غير صحيح بلا شك؛ بل إن المسلم المتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم، يشعر أن الغربة التي يجب أن يشعر بها في هذا الزمان وفي كل زمان، هي الغربة التي كان يشعر بها سيده ومتبوعه صلى الله عليه وسلم.

حيث كان يشعر بالغربة، التي تدعوه إلى دفع الغربة، وإلى الدعوة إلى الله، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا الشعور، من شأنه أن يجعل المسلم:

أولاً: معتزاً بالدين الذي ينتسب إليه، فلا يستوحش من كثرة المخالفين والمعاندين والفاسقين والمنافقين أبداً؛ لأنه يشعر أن الله عز وجل قد خصه من بينهم بهذه الخصيصة التي هي التميز عنهم بالتمسك بالدين، والعناية بالسنة، وطلب العلم الشرعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يشعر أنها موهبة وهبها الله عز وجل له، يجب أن يشكرها.

وثانياً: فإن هذا الشعور، لا يجعله يستسلم للقعود، ويخلد إلى الراحة، ويترك الدعوة إلى الله عز وجل، لا،بل يجعله يشعر، كما بدأ الإسلام غريباً، ثم زالت غربته بجهود الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهود أصحابه، فإنه حين توجد غربته في بلد من البلدان، في زمن من الأزمان، يجب أن يقوم الغرباء حينئذٍ بجهود قوية قدر ما يستطيعون لدفع الغربة عن هذا الدين وإعادته عزيزاً قوياً، كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو قريباً من ذلك.

وهذا المعنى، هو الذي فهمه العلماء العاملون من هذا الحديث، وأضرب مثلاً بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه ذكر هذا الحديث، وقال: " إن كون الإسلام يعود غريباً، لا يعني جواز التخلي عنه والعياذ بالله فإنه حين بدأ غريباً، لم يكن غيره من الدين مقبولاً حينئذٍ، بل كما قال عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] وقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ [آل عمران:19] ".

فهذا المعنى في نظري، من المعاني التي تخفى على كثير من الناس، الذين قنعوا بسماع هذا الحديث، ورأوا في واقعهم كثيراً من المعاصي المشتهرة المنتشرة، التي يصعب -ولا أقول يستحيل- بل يصعب تغييرها وإنكارها، فاكتفوا بترديد هذا الحديث، ورأوا أنه إشارة إلى جواز السكوت والقعود.

وأقول: إن جواز السكوت والقعود مطلقاً، للأمة كلها وللغرباء كلهم في كل زمان وفي كل مكان إنما يجوز في حال واحدة، هي التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، ودع أمر العامة}.

وهذه الحال، حال لا يمكن أن نقول إنها موجودة الآن في الأمة الإسلامية على الإطلاق، أبداً، لأننا نجد في هذا الزمان قبولاً للحق، وانقياداً له، واتباعاً للسنة، وإن كنا نجد نوعاً من الهوى، ونوعاً من إيثار الدنيا، ونوعاً من طاعة الشح، ولكن هذه الأشياء موجودة منذ أزمنة غابرة.

بل إننا نجد من كتب من العلماء المتقدمين كـابن بطال المغربي وابن حجر وغيرهما، أشاروا إلى بدايات هذه الأمور منذ زمن بعيد.

إذاً: يجب علينا أن ندرك أن الشعور بالغربة يجب أن يكون شعوراً دافعاً لنا، لدفع هذه الغربة وإزالتها.

المقصود بالغربتين

في نهاية هذه الكلمة أحب أن أسأل بعض الإخوة، عن معنى العنوان لعله اتضح، حيث ذكرت أن عنوان هذه الكلمة: المسلم بين غربتين، فأريد أن يبين لي أحدكم ما المقصود بالغربتين إذاً؟

إنه يقول: غربة الحنفاء في الجاهلية، وغربة الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام.

فنقول: المسلم المعاصر، أنا وأنت اليوم، كيف نكون بين غربتين؟ ما الغربتان؟

إن المسلم في هذا العصر، تتناوبه غربتان، أو الشعور بالاغتراب لدى المسلم في هذا العصر يمكن أن يكون على وجهين:

الوجه الأول: الشعور باليأس والاستسلام، والقعود عن الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الوجه الثاني: الشعور بالغربة التي تدفعه إلى العمل والدعوة إلى الله والتغيير، وفرق بين شعور الاستيئاس والاستسلام، وبين شعور القوة والدعوة والأمر والنهي.

وفي نهاية هذه الكلمة أرجو الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس ويصلحون ما أفسد الناس، وأن يحشرني وإياكم في زمرة المتقين المفلحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الأسئـلة

الحكم على حديث: أحبب حبيبك هوناً

السؤال: فضيلة الشيخ: هل الحديث ا لتالي صحيح أم ضعيف، يقول: {أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما

الجواب: الذي يظهر لي أن السائل ربما يكون سمع، أو رأى أنني استشهدت بهذا الحديث في أحد المرات، والذي يظهر لي الآن أنه صحيح، وإن كنت ذكرت أنه صححه بعض العلماء، ولم أجزم بأنه صحيح.

العنف والشدة في التربية

السؤال: لي أخوان في سن العاشرة، وأبي ليس موجوداً، وأريد أن يتوجهوا ويكونوا صالحين مهتدين ولقد عاملتهم بالعنف فلم يفد فيهم فماذا أفعل؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من دعا إلى حسنة كان له مثل أجور من تبعه، أو من دعا إلى سيئة كان له مثل أجور من تبعه} أو كما قال: فماذا أفعل أفتونا مأجورين؟

الجواب: الحقيقة أن العنف والشدة، هي الأسلوب الغالب في طريقة الناس في التربية في هذا الزمان، مع أنها ليست هي أنجح الأساليب، بل إنني أعتقد إنها كالكي الذي هو آخر الدواء.

أما أن تكون هي البداية وهي الأسلوب الوحيد، فهذا خطأ، خاصة حين يكون الذي يقوم بالتربية أخ لهؤلاء الإخوة، وحينئذٍ يفترض أن المسافة الزمنية بينهم ليست بعيدة، فأعمارهم متقاربة نوعاً ما، وحينئذٍ يكون أسلوب الضرب أو العنف أكثر سوءاً وأقل فائدة.

فالذي أنصح به هذا الأخ وغيره، أن يسلك الأساليب المناسبة في الدعوة إلى الله، وأن يحرص على ربط إخوته يدرس من دروس القرآن -مثلاً- وببعض الأصدقاء الطيبين، ويختار لهم بعض القصص المفيدة التي تناسب سنهم، ويغريهم بالقراءة وحفظ القرآن، وحفظ الوقت، بالوسائل المناسبة كالجوائز التشجيعية والمسابقات وغيرها، ويستبعد أسلوب الشدة نهائياً إلا في حالات خاصة.

هذا هو ما أنصح به هذا الأخ وأنصحه بعدم العجلة، فإن كثيراً من الناس يطمعون أن يروا نتائج أعمالهم بسرعة، وآثار التربية لا تظهر إلا بعد زمن، فيجب أن يبذل الجهد وينتظر، ويثق بأن الله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

وبالمناسبة أقول: حتى حين تفشل جهود الإنسان في التربية، لا يجب أن يعتبر أنها فاشلة فعلاً؛ لأننا نجد أن الإنسان المنحرف حتى وهو منحرف إذا كان واجه في بداية حياته دعوة، وتربية، ونصيحة، يكون انحرافه أقل من انحراف ذاك الذي لم يواجه دعوة، ولا تربية ولا نصيحة، إذاً فالتربية لا يمكن أن يضيع أثرها بحال من الأحوال.

تقليد الأئمة من تصحيح الأحاديث وتضعيفها

السؤال: من المعلوم أن كثيراً من السلف -أهل الحديث- قد خدموا السنة خدمة جليلة في تصفيتها وتنقيتها من الكدر والكذب، وهم أرباب لهذه الصنعة، كالإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهم الكثير، وقد خلصوا إلى تصحيح أحاديث وتضعيف أخرى، قد يتفقون أحياناً وقد يختلفون في ذلك، والآن من أكبر المعدودين هو الشيخ الألباني حفظه الله، وأرى كثيراً من طلبة العلم الذين يعدون مقلدين في هذه الساحة يعتمدون قول الألباني باطمئنان، حتى ولو خالف السابقين، وقد حصل ذلك، كما تعلمون سواء في التصحيح أو التضعيف.

فأقول هل يعد هذا ا لمنهج صحيحاً، خاصة وأنا أعتقد أن من سبقوا الألباني يقدمونه ويفوقونه علماً، أو ليس هذا هو المنهج الصحيح؟

الجواب: الذي أعتقده أن الأخ لم يدع مقالاً لقائل، فقد سأل وأجاب، رزقنا الله وإياه الأجر والثواب، فليس لي تعليق على ما ذكره الأخ.

وإن كنت أقول إن قضية تصحيح الأحاديث وتضعيفها، أمر اختلف فيه العلماء قديماً وحديثاً، وعامل الزمن لا يجب أن يحول بيننا وبين أخذ الحق ممن جاء به، إذا وجدت الحق عند إمام متقدم فافرح به، وإن وجدته عند إمام متأخر فكذلك، ومن نعمة الله على هذه الأمة أنه لا يزال فيها من يُعنى بحفظ السنة، فشأنها كما قال الشاعر:

إذا مات فينا سيد قام سيد >>>>>قئول لما قال الكرام فعول

ولكن إذا اختلفت أقوال الأئمة في الحديث بغض النظر عن كونهم قدماء أو معاصرين، إن اختلفت هذه الأقوال فلا يجوز للإنسان أن يأخذ بالتشهي فقط، فيأخذ أقوال فلان من الناس جملة وتفصيلاً، بل عليه أن يسلك مسلك البحث ويأخذ من الأقوال ما يجد أنه أقرب إلى الصواب، هذا إذا كان من طلاب العلم، أما إن لم يكن كذلك فالأمر يختلف.

الجمع بين أحاديث أشراط الساعة

السؤال: كيف نجمع بين الأحاديث الدالة على خروج الدابة والتي تقسم الناس إلى مؤمن وكافر، وبين الأحاديث التي تصرح، بأن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها؟

الجواب: فيما يتعلق بأشراط الساعة الكبرى، هناك اختلاف بين العلماء في ترتيب هذه الأشراط، وليس هذا محل ذكر هذا الخلاف والحديث عنه.

ولكن القضية الظاهرة، التي لا تخفى على من قرأ الأحاديث المتعلقة بأشراط الساعة الكبرى، أنه بعد هبوب الريح التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن مسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، وأنها تقبض أرواح المؤمنين، أنه بعد هذا الأمر لا يوجد في الأرض من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.

وفي القرآن الكريم ذكر الله عز وجل في قوله تعالى يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً [الأنعام:158] فقوله (يوم يأتي بعض آيات ربك) صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فسر ذلك بطلوع الشمس من مغربها، فنقول: إذا طلعت الشمس من مغربها لم ينفع نفساً حينئذ إيمانها، لأنها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

أما الدابة فإنها تسم الناس المؤمن والكافر، وهذا يشعر -والله أعلم- بأنه حينئذٍ لا توبة؛ لأن المؤمن صار مؤمناً والكافر صار كافراً، ولا يتحول أحدهما، فلا المؤمن يرتد عن دينه، ولا الكافر يتوب إلى الله عز وجل والله أعلم.

حقيقة المجدد

السؤال: قد يثير بعض الناس شبهة أو استفساراً حول قول الرسول صلى الله عليه وسلم {يبعث على رأس كل مائة سنة مجدد} فيقول: نحن لم نر مجدداً سوى محمد بن عبد الوهاب، فماذا نرد على هذه الشبهة؟ أفيدونا أفادكم الله؟

الجواب: يقول العلماء رحمهم الله [[عدم العلم لا يعني العلم بالعدم]] وهذه القاعدة مفيدة هاهنا، عدم علمك بالشيء لا يعني أنه غير موجود أي: لا يعني علمك بعدمه.

فنقول لهذا السائل أو هذا المشبه، نقول له عدم علمك بوجود مجددين لا يعني عدم المجددين وعدم وجودهم، فعدم العلم لا يعني العلم بالعدم، وقد مَنَّ الله على هذه الأمة بمجددين على مدار القرون، سواء على شكل أفراد أو على شكل مجموعات وطوائف.

ومن أشهر المجددين: الإمام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز وقد عده الزهري ومن بعده من العلماء من مجددي أو هو مجدد القرن الأول، ولا يعني أنه بالضرورة انفرد بذلك، بل لا يمنع أن يكون له نصيب من التجديد وهو النصيب الأوفر ولغيره من حوله نصيب كذلك.

ومن المجددين المعروفين الإمام أحمد، والإمام الشافعي وغيرهما، وقد عد العلماء في كل قرن مجدداً، وممن عد ذلك واستقصى القرون -على سبيل المثال لا على سبيل الحصر- الإمام ابن الأثير، في كتابه جامع الأصول، حين شرح هذا الحديث.

وممن عدهم: الإمام الذهبي أيضاً، والمناوي في فيض القدير، والسيوطي في رسالة له مخطوطة، اسمها: التنبئة فيمن بعثه الله على رأس المائة، وغيرهم.

ولكن لا يلزم أيضاً أن تجد في كل قرن فرداً أطبقت الأمة على أنه هو المجدد، بل قد يكون المجدد أكثر من فرد، فيكون -مثلاً- في الجزيرة العربية مجدد، ويكون في بلاد الهند مجدد آخر وفي الشام وفي مصر وفي غيرها، بل قد يوجد المجدد لجانب من جوانب الدين، كأن يجدد في جانب الفقه والحديث مثلاً، وآخر يجدد في مجال نشر العقيدة السلفية الصحيحة، وثالث يجدد في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، ورابع يجدد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخامس يجدد في مجال إحياء الجهاد في سبيل الله وهكذا، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: {من يجدد لها } مَنْ يمكن أن تحمل على الفرد وعلى الجماعة، ولا مانع من ذلك، ولم يرد حديث صحيح يدل على أن المجدد فرد، والقول الراجح أن المجدد طائفة ولا يلزم أن يكون فرداً.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المسلم بين غربتين للشيخ : سلمان العودة

https://audio.islamweb.net