إسلام ويب

من أركان الإيمان الإيمان بالقدر خيره وشره، وأهل السنة والجماعة وسط في مسألة القدر بين طائفتين مخالفتين في هذا الباب، وهما: القدرية، والجبرية. أما القدرية: فقد كفروا بالقدر وقالوا بخلق العباد لأفعالهم. وأما الجبرية: فقد سلبوا العباد قدرتهم على الفعل، وقالوا بأنهم مجبورون على أفعالهم.

من أصول أهل السنة: الإيمان بالقدر خيره وشره

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتؤمن الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين] .

هذا الأصل -وهو القدر- هو من أخص أصول الإيمان والتوحيد، فإنه قول في ربوبية الله سبحانه وتعالى، مع ما هو متعلق به من شرعه سبحانه وتعالى الذي هو عبادته وتوحيده، وسوف يأتي في أصول أهل السنة والجماعة ما يبين ذلك.

وفي هذا الأصل ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: أن الخلاف في مسألة القدر إنما وقع في آخر عصر الصحابة، ومن أدرك هذه البدعة من الصحابة كـعبد الله بن عمر وأمثاله قد تبرءوا من القدرية، حتى إن ابن عمر لما سأله يحيى بن أبي كثير قال: (فإذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني منهم بريء وهم مني براء، والذي يحلف به ابن عمر لا يقبل من أحدهم عمل ولو أنفق مثل أحد ذهباً حتى يؤمن بالقدر)، ومع أن البدعة في القدر ظهرت في آخر عصر الصحابة وبعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، إلا أن كثيراً من الأقوال البدعية المقولة في القدر لم تظهر إلا بعد انقضاء عصر الصحابة كلياً، بمعنى: أن ما ظهر في آخر عصر الصحابة هو بعض أقوالهم، وأما تفاصيل هذه الأقوال وما قابلها فإنه حدث بعد ذلك، وعليه فإن الحكم الذي قاله من قاله من الصحابة في هؤلاء لا يلزم بالضرورة أن يكون مطرداً في سائر الأقوال التي ظهرت في مسائل القدر.

المسألة الثانية: الأصول المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، وعند سلف هذه الأمة في هذا الباب، وهي أصول سبعة، أشار المصنف رحمه الله إلى أكثرها.

المسألة الثالثة: الطوائف المخالفة للسلف في باب القدر، وهم في الجملة طائفتان: قدرية، وجبرية، والقدرية غلاةٌ ودونهم، والجبرية غلاةٌ ودونهم، فهذا في الجملة هو جامع هذه المسألة.

أصول الإيمان بالقدر

مذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر يقوم على تحقيق سبعة أصول:

الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب سبحانه وتعالى بكل شيء

الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب سبحانه وتعالى بكل شيء: علمه بما كان، وبما سيكون، وبما لم يكن.

وقد دخل في عموم علمه سبحانه وتعالى: علمه بأفعال العباد قبل وقوعها، وهذا المعنى هو الذي ينازع فيه غلاة القدرية الذين ينازعون في عموم علم الرب بأفعال العباد قبل كونها، ويزعمون أنها تعلم عند كونها.

فالأصل الأول: إيمان أهل السنة والجماعة بعموم علم الرب سبحانه وتعالى بكل شيء، وأنه دخل في عموم علمه سبحانه علمه بأفعال العباد قبل كونها.

وهذا الأصل -وإن قيل أنه من أصول أهل السنة والجماعة- فإنه لا يفهم من هذا أن طوائف المسلمين يخالفون في هذا الأصل، فإن الأصول المقولة عند السلف لا يلزم بالضرورة أن يخالفها كل أصناف أهل البدع، وهذا الأصل لا يخالفه أحد من أهل البدع الذين هم من أهل القبلة؛ فكل من تحقق انتسابهم إلى القبلة قد أجمعوا على أن هذا الأصل أصل محكم، وإنما نقلت المنازعة في هذا الأصل عن غلاة القدرية، الذين قالوا: إن الله -سبحانه وتعالى عن قولهم- لا يعلم أفعال العباد إلا عند كونها، أي: عند وجودها، فلا يعلمها قبل كونها.

هذا القول منقول عن غلاة القدرية، وليس هناك ضبط عند أهل المقالات لأعيان هؤلاء، وإنما هو قول ذكره بعض أهل العلم وأهل المقالات أن هذا يقول به الغلاة من القدرية.

وهؤلاء الغلاة من القدرية ليسوا من المسلمين، بمعنى: أن زعمهم للإسلام هو من باب النفاق، بل إنهم كفار، وليس لهم من الإسلام حظ، وليسوا في عداد أهل القبلة، وهذا معنىً متحقق بالإجماع حتى عند القدرية المعتزلة الذين يوافقون السلف في هذا الأصل، ولكنهم ينفون خلق الله لأفعال العباد، فإن المعتزلة قد نصوا على أن من أنكر علم الرب بأفعال العباد قبل كونها، فإنه كافر.

إذاً: كفر هؤلاء الغلاة مجمع عليه بين المسلمين من أهل السنة وغيرهم حتى القدرية منهم، ولذلك فهؤلاء القدرية الغالية، وإن شاركوا المعتزلة نوع مشاركة في مسألة القدر إلا أنهم ليسوا منهم، بل هؤلاء قوم من الزنادقة الذين ادعوا الإسلام وانتسبوا إليه من جنس انتساب عبد الله بن أبي وأمثاله، ولكن ابن أبي نفاقه من جهة، وهؤلاء نفاقهم من جهة أخرى.

فالمقصود أن القدرية الغلاة ليسوا من المسلمين، وقد ذكر شيخ الإسلام في غير موضع أن قولهم هذا اندثر في الجملة، بل هذا من أقوال الكفار.

الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه كتب في الذكر كل شيء

الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب في الذكر كل شيء، وقد دخل في عموم كتابته سبحانه وتعالى كتابته لأفعال العباد، فما من شيء من أفعال العباد يكون منهم إلا وقد كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقهم، وهذا الأصل مجمع عليه -في الجملة- بين المسلمين.

وإنما قُيد السياق بهذه الكلمة (في الجملة) من جهة أن الكتابة تختلف عن الأصل الأول من وجه، وهو: أن الأصل الأول -وهو عموم العلم- أصل فطري عقلي سمعي، بمعنى: أن الله تعالى فطر العباد على أنه بكل شيء عليم، وهذا من أول أصول الربوبية الفطرية.

وهو كذلك أصل سمعي من جهة أن النصوص نطقت بتفصيل علمه، كقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59] الآية، فعلمه عام بالكليات والجزئيات، لا كما يقول كفرة الفلاسفة: أنه لا يعلم الجزئيات.

وهو كذلك أصل عقلي، أي: ثابت بدليل العقل، بخلاف الكتابة: أنه سبحانه كتب في الذكر كل شيء، فهذا الأصل إنما هو أصل سمعي، أي: دل عليه الكتاب والسنة.

وإذا قيل: إنه سمعي، فلا يعني أن العقل والفطرة ينفيانه، وإنما المقصود أن العقل والفطرة لا يبتدئان في إثباته قبل ورود السمع، بخلاف الأصل الأول، فإن الفطرة والعقل يبتدئان إثباته قبل ورود السمع.

ولهذا فقد كان يقر به المشركون إقراراً فطرياً بما سلم من فطرتهم، أو إقراراً عقلياً.

وذلك بخلاف الكتابة، فإنها أصل سمعي، ولكن من المعلوم أن الأصل السمعي الذي جاءت به النصوص لا يمكن أن يكون معارضاً أو منافياً للعقل أو الفطرة، لكنها لا تدل عليه ابتداءً، فهذا هو الفرق بين هذين الأصلين.

ولما كان هذا الأصل عن الكتابة أصلاً سمعياً، قيل: إن جميع فرق أهل القبلة من المسلمين يقرون به في الجملة.

وبين السلف وجمهور الطوائف فرق من جهة التحقيق عند السلف؛ فإن هذا الأصل له قدر كلي في النصوص، وله قدر مفصل، ومفصله في السنة أكثر منه في القرآن، فهذه المفصلات عن الكتابة في السنة النبوية، من المعلوم أن أئمة السنة والجماعة أولى بها من غيرهم من جهة علمهم بها، ومن جهة تحقيقهم لهذا العلم، بخلاف غيرهم فإنه قد يتكلم في ثبوتها أو ما إلى ذلك.

إذاً: هذا الأصل من جهة عمومه محل إجماع، وأما من جهة تفاصيله فإن بعض الطوائف تتأخر عن تحقيق بعض التفاصيل لعدم علمها، أو لفساد قواعدها المتعلقة بأخبار الآحاد.

فهذا هو الأصل الثاني، وهو الإيمان بعموم كتابته، وقد دخل فيما كتب: كتابته سبحانه وتعالى لأفعال العباد؛ وفي حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) .

الأصل الثالث: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى

ِوإنما تذكر كلمة (عموم) في هذا الأصل؛ لأن الخلق من جهة أصله ليس فيه نزاع، فحتى الكفار يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق، فلذلك يقال: الأصل الثالث عند أهل السنة: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى.

وقد دخل في عموم خلقه سبحانه وتعالى لكل شيء: خلقه لأفعال العباد، فهو الخالق لها، وقد نازع في هذا الأصل القدرية بعامة، أي: جملة القدرية من الغلاة وغير الغلاة.

أما الغلاة فقد سبق أنهم قوم من الزنادقة، وأما غير الغلاة فهم أئمة المعتزلة، فإنهم هم الذين ابتدءوا القول في هذه المسألة على هذا الوجه، وتبعهم من تبعهم من الشيعة، فإنه غلب على الشيعة ولا سيما الرافضة منهم أنهم قدرية في باب القدر.

وكذلك فمن تأثر بهذا الأصل -أن الله لم يخلق أفعال العباد- بعض رجال الإسناد من أهل العلم، فإن هذا قد نقل عن بعض رجال الإسناد، وقد قال الإمام أحمد : (لو تركنا الرواية عن القدرية تركناها عن كثير من أهل البصرة)، فهذا النوع من رجال الإسناد تأثروا بهذه المقالة، ولكن في هذا النوع من أهل العلم ينبه إلى أن قولهم ليس هو قول المعتزلة، وإن كانوا قد يشاركونه في جملته الكلية، وجملته الكلية هي: أن أفعال العباد ليست من خلق الله سبحانه وتعالى، لكن دليل هذا القول عند المعتزلة ليس هو دليل هذا القول عند هؤلاء، فهم مخالفون لهم في أصل هذا القول، الذي هو مبناه ودليله، ومخالفون لهم في تفاصيل مسائله، فإن القدرية المعتزلة المتكلمة -أي: أصحاب علم الكلام- قد ضلوا في هذا القول من جهات: من جهة قدره الكلي الذي يشاركهم فيه بعض رجال الإسناد، وضلوا في هذا القول من جهة مبناه، فإنهم بنوه على الأصول الكلامية العقلية في زعمهم، وضلوا في هذا الأصل من جهة التفاصيل العلمية التي رأوها مستلزمة لهذا القول في مسائل التكليف، ومسائل التحسين والتقبيح، وما يتعلق بذلك.

إذاً: هذا القول وإن نقل عن بعض رجال الإسناد من البصريين إلا أن قول هؤلاء الذين لم ينتحلوا علم الكلام والأصول الكلامية ليس هو بتمامه قول المعتزلة وأمثالهم من المتكلمين، بل هناك اشتراك مجمل، وثمة فروق من أوجه متعددة.

وهذا الفرق الذي ذكر إنما يختص برجال الإسناد من البصريين وغيرهم.

وأما الشيعة الذين أخذوا هذا القول عن المعتزلة، فهؤلاء نقلة لهذا القول، فمادتهم فيه هي مادة المعتزلة، وأصولهم فيه هي أصول المعتزلة، والشيعة الرافضة في الأصل ليسوا من أهل العلم في علم الكلام، إنما تلقفوا علم الكلام والأدلة العقلية وما يتعلق بذلك عن المعتزلة، ولا سيما المعتزلة البغداديين؛ لأن معتزلة بغداد كانوا مائلين إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكانوا يتشيعون له من جهة الانتصار له، ومن جهة التفضيل، أو الانتصار لحربه، أو ما إلى ذلك.

فلما كان عندهم هذا القدر من الميل إلى التشيع، وإن لم يكونوا شيعة محضة -أعني: معتزلة بغداد وبعض المعتزلة من غيرهم- صارت الشيعة تتلقف أقوالهم، فنقلوا عنهم بعض معتقداتهم، وأخص ما نقلوا عنهم في مسائل الأصول العلمية هو في أصلين: في الصفات، وفي القدر؛ فما يوجد في كتب الشيعة الإمامية عن هذين الأصلين إنما هو نقل عن المعتزلة، وإلا فالشيعة ليسوا من أهل العلم في هذا الباب، وليسوا من أهل العلم بالعقليات؛ لأن مبادئهم تقوم على مسائل العصمة والتسليم المطلق بأقوال الأئمة؛ فمبادئهم من جنس طرق الصوفية الغالية الذين لا يعتبرون مسائل النظر اعتباراً متيناً، ولهذا ليسوا من أهل الإسناد، ولا من أهل العقليات، وإنما أخذوا مادة العقليات من المعتزلة وتأثروا بهم، وما يوجد في بعض كتبهم من قوة الجدل العقلي فهو -في الغالب- محصل من كلام المعتزلة، فإنهم نقلوا عنهم في أصل الصفات وأصل القدر.

فهذا الأصل الثالث من أصول أهل السنة -وهو الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى- يخالف فيه القدرية من المعتزلة وغيرهم، فيقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد.

الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئة الله تعالى

الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئته سبحانه وتعالى، وأنه دخل في عموم مشيئته مشيئته لأفعال العباد، فهو سبحانه شاء أفعال العباد مشيئة ربانية كونية.

وهذا الأصل يخالف فيه المعتزلة والقدرية بعامة على ما سبق في الأصل الثالث.

الأصل الخامس: الإيمان بعموم حكمة الرب سبحانه وتعالى

الأصل الخامس: الإيمان بعموم حكمة الرب سبحانه وتعالى، وأنه دخل في حكمته ما يتعلق بأفعال العباد، فإن هذه الأحوال التي عليها الناس هي مقتضى حكمة الرب سبحانه وتعالى وعدله وقضائه، وإن كان يقع من الناس ما هو شر وفساد فإن هذا باعتبار مبدئه، أما منتهاه فإنه يكون مطابقاً للحكمة.

وإذا اعتبر الشر والفساد قبل النظر في مبدأ هذا الشر ومنتهاه تعذر على العقل أن يعلم أن هذا من الحكم الفاضلة، لكن إذا اعتُبر مبدؤه من جهة التكليف والتشريع، وتكليف العباد واختبارهم، ومنتهاه من جهة الثواب والعقاب، صار المجموع على وفق الحكمة وعلى وفق العقل.

وهذا معنى قولنا: إن جميع ما يقع في هذا الكون هو مقتضى حكمة الرب سبحانه وتعالى.

والله سبحانه وتعالى منزه عن النقص المنافي للحكمة؛ ولهذا نفى سبحانه وتعالى أن يكون في خلقه شيءٌ خلقه لهواً ولعباً، إنما خلقه سبحانه وتعالى هو من الحكمة التي اقتضاها مقام صفاته سبحانه وتعالى.

الأصل السادس: الإيمان بأن العباد لهم إرادة ومشيئة قائمة بهم

الأصل السادس: الإيمان بأن العباد لهم إرادة ومشيئة قائمة بهم، ولها اختصاص من جهة وجود الفعل من عدمه، أي: أنها إرادة مؤثرة في وجود الفعل وعدمه، ولو لم توجد هذه الإرادة من العبد لما وجد فعله، ففعل العبد هنا ماهية مركبة من إرادته وحركته.

ولهذا إذا قيل: فعل العبد هل هو متعلق بإرادته؟ قيل: ما هو الفعل؟ فإنك إذا رجعت إلى العقل وجدت أنه يفرض أن الفعل شيء مستقل، ولكن فرض العقل ليس معتبراً، أما إذا رجعت إلى تصور العقل؛ فإنك تجد أن العقل لا يتصور الفعل إلا ماهيةً مركبةً من الإرادة والحركة، ولهذا يمتنع وجود الحركة من غير إرادة؛ إلا إذا كانت الحركة حركة اضطرارية؛ كحركة النائم مثلاً؛ على رغم أن البعض جعل للنائم إرادة تناسب حاله في النوم.

والمقصود: أن الأفعال التي هي مناط العباد وما يتعلق بتكليفهم، هي جميعها متعلقة بإرادتهم ومشيئتهم، والعبد إرادته هذه مؤثرة في وجود الفعل من عدمه؛ لأنها من ماهيته فعلاً، ولكن هذه الإرادة وإن كانت مختصة من جهة تعلقها بفعل العبد أو عدمه، إلا أنها ليست مستقلة بالتأثير، بل تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله هو الخالق للعباد، وهو الخالق لإرادتهم ومشيتئهم.

الأصل السابع: إحكام القول في القدر مع الشرع

الأصل السابع: أن أهل السنة والجماعة يحكمون القول في القدر مع الشرع، فإن التوحيد أصله علم وطلب، وهذا هو التقسيم الذي يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فما يتعلق بتوحيد الربوبية هو توحيد العلم، ويدخل فيه الأسماء والصفات، وإن كان بعض أهل العلم من أئمة الدعوة وغيرهم ممن قبلهم يميزون الأسماء والصفات لاختصاص المنازع فيها، وهذا من التقاسيم السائغة.

فالمقصود: أن التوحيد علم وطلب.. فالعلم هو معرفة الله، والطلب هو عبادته بما شرع، فيقال: إن من أصول أهل السنة والجماعة: الجمع بين مقام الشرع والقدر، والجمع بين معرفته سبحانه وتعالى وعبادته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (الإيمان الذي بعثت به الرسل هو معرفته سبحانه وعبادته بما شرع).

وليس هناك طائفة اختصت بالمخالفة في مسألة الجمع بين الشرع والقدر، وإنما ثمة طوائف غلت في مقام الشرع، وقصرت في مقام القدر، وثمة طوائف غلت في مقام القدر، وقصرت في مقام الشرع.

أما من غلا في مقام الشرع وقصر في مقام القدر فهم: المعتزلة وأمثالهم؛ فإن المعتزلة كانوا معظمين إلى درجة الغلو في الأمر والنهي، من جهة أنهم يرون أن من ترك واجباً تركه كبيرة فإنه يكون قد عدم الإيمان، ويكون مخلداً في نار جهنم، فهذا من باب الغلو في الأمر والنهي، مع أن المعتزلة عندهم تقصير في باب القدر، من جهة أنهم قدرية نفاة للقدر، أي: نفاة لخلق الله لأفعال العباد، نفاة لمشيئة الرب لها.

فهم لم يجمعوا بين مقام الشرع ومقام القدر، بل مالوا إلى الغلو في الشرع، وأسقطوا مقام القدر، وإذا قيل ذلك فلا يظن أنهم كفروا به من كل وجه، وإنما أسقطوا التحقيق له.

وهناك من يكون عنده غلو في باب القدر وإسقاط لما هو من الشرع، وهذا لا يقع مذهباً لقوم من النظار، وإنما يقع في بعض الطوائف من جهة أعيانهم، حتى من أهل السنة والجماعة؛ كمن يحتج على معاصيه بالقدر؛ فإن هذا قد بالغ في مقام القدر حتى جعله عذراً في معاصي العباد، وأسقط به مقام الشرع.

فمن غلا في مقام القدر إلى أن جعله موجباً لسقوط أحكام الشريعة أو المؤاخذة عليها، فهذا ممن لم يحقق الجمع بين الشرع والقدر.

فهذا هو الأصل السابع من أصول أهل السنة والجماعة، وهو الجمع بين مقام الشرع والقدر، وهم في ذلك وسط بين هؤلاء وهؤلاء.

وممن يغلو في مقام القدر ويُسقط به ما هو من الشرع، لا على سبيل التعيين كحال الفجار من العصاة الذين يفجرون ويأتون الكبائر ويعتذرون بالقدر: بعض الطوائف من الصوفية، أصحاب الفناء، والفناء عند الصوفية يأتي على ثلاثة أوجه: الفناء عن وجود السوى، وعن إرادة السوى، والفناء عن شهود السوى.

والفناء الذي يذكر أهل العلم كـشيخ الإسلام أنه من الفناء الشرعي، إنما ذلك باعتبار معناه، وإلا فاللفظ صوفي، وهو الفناء عن إرادة السوى، أي: أنهم لا يريدون بأعمالهم إلا الله.

أما الفناء عن شهود السوى ووجوده فهو فناء الصوفية المنحرفة عن السنة والجماعة: إما انحرافاً غالياً إلى حد مادة الكفر؛ كفناء الوجودية الصوفية كـابن عربي وأمثاله، الذين عندهم فناء عن وجود السوى، وإما فناء عن شهود السوى بما هو من إسقاط بعض مقامات الشرع، وهذا يقع في كلام بعض الصوفية الذين لا يصلون إلى حد ابن عربي وأمثاله، كـأبي إسماعيل الأنصاري الهروي ، ومن ذلك قوله: (إن من شهد هذا المقام -مقام القدر والربوبية- لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة)، مع أن الهروي رحمه الله لا يلتزم بطرد أصله في مسألة القدر على مسائل التشريع كطرد الباطنية الذين يسقطون التشريع بالأعيان.

فيوجد في كلام هؤلاء مادة من الغلو في القدر وإسقاط ما هو من الشرع، وقولهم ليس منتظماً كقول المعتزلة، ولكنه مادة شائعة في كلام الصوفية، وهم فيها على درجات.

وفي الغالب: إذا تكلمت مع المتكلمين تستطيع أن تضبط أقوالهم؛ لأن أقوالهم في الغالب تأتي على التعيين، وأما إذا تكلمت مع الصوفية، فإنه في الغالب يتعذر الضبط لأقوالهم؛ لأن مادتهم تقوم على المراميز (الرموز)، وعلى الإشارات، وعلى الإفصاح وعدم الإفصاح، وغير ذلك.

ولذلك قد يتكلم بعضهم بحرف يتكلم به الآخر، ويكون مقصود الأول بهذا الحرف غير مقصود الآخر.

فالصوفية لا يفسر كلامهم على وجه واحد، بل لابد من اعتبار درجة المتكلم، فقد يختلف الصوفية في تفسير الحرف.

وبعض من يدرس كلام بعض الصوفية المقتصدة (المعتدلة) في كثير من المسائل، قد يرى في كلامهم بعض الأحرف التي تكلم بها الغلاة منهم وفسروها، فيفسر كلام هذا المقتصد بما فسر به ذاك الغالي هذا الحرف؛ لأن الحرف حرف واحد، وذلك كلفظ (الفناء) -وهذا من أقرب الأمثلة- فالفناء مستعمل في كل درجات الصوفية، فكل طبقات الصوفية يتكلمون بحرف الفناء، لكن ابن عربي والتلمساني إذا تلكموا في الفناء فمعناه عندهم شديد، وإذا تكلم عنه أمثال الهروي فمعناه دون ذلك، وإذا تكلم به الجنيد بن محمد فمعناه دون ذلك بكثير.

فالمقصود: أن الحرف الواحد ليس ملزماً، ولا يفسر في الغالب بمادة واحدة.

الطوائف المخالفة في باب القدر

الطوائف المخالفة في باب القدر طائفتان: القدرية والجبرية.

القدرية

القدرية غلاة، وقد سبق أنهم ليسوا من المسلمين، وإنما يسمون بهذا المذهب لكفرهم بالقدر، ودونهم -وهم المعتزلة- الذين يقولون: إن الله علم أفعال العباد -فيقرون بالأصل الأول- وكتبها، فيقرون بالأصل الثاني إجمالاً؛ لأنهم قد يقصرون في تفصيل الكتابة الواردة في السنة، ولكنهم يقولون: إن الله لم يخلقها ولم يشأها، وهل يقولون: إن العبد هو الخالق لفعله؟

المعتزلة لهم ثلاثة أقوال: منهم من يسكت عن هذا السؤال، ومنهم من يقول: إنه لا يقال: إن العبد خلقها، ومنهم من يقول: إن العبد خلقها.

وكل الأقوال مشكلة في نفسها، فإن من سكت فإنه سكت عن السؤال اللازم، والسكوت عن السؤال اللازم عن القول ممتنع، فإنه يدل على فساد القول نفسه، أو على امتناع العلم في القول نفسه، فالجهل هنا ليس محتملاً؛ لأنه يستلزم الجهل بالأصل الملازم له.

ومن قال: إن العباد خلقوها، فهذا هو الغلط البين من جهة أن الله هو الخالق لكل شيء.

ومن قال: إنه لا يقال: إن العباد خلقوها، مع قوله: إن الله لم يخلقها، فهذا قول متعذر؛ لأنه يستلزم وجود ما له ماهية ووجود بدون خالق له.

فهؤلاء هم المعتزلة، وقد أخذ من مادة قولهم بعض رجال الإسناد، والذين سبق بيان ما في قولهم من الامتياز عن قول المعتزلة، وإن كان هؤلاء -أي: بعض رجال الإسناد- ليسوا هم كبار الأئمة المحدثين، وإنما هم من آحاد الرواة، ولذلك لم ينضبط القول بمذهب القدرية -أي: أن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يشأها- عن إمام من أئمة الحديث أو أئمة الفقه الكبار، وإن كان هذا القول نسب إلى أبي حنيفة ، إلا أنه كذب عليه، ونسب إلى الحسن البصري ، وهو كذب عليه وليس من أقواله، بل كان من أشد الناس على القدرية، ومع ذلك نسب إلى الحسن البصري ، وهناك رسالة منسوبة إلى الحسن البصري ، والأظهر فيها أنها من كتابة بعض الشيعة الذي كانوا يقولون بهذه الطريقة، ونسبوها إلى الحسن البصري رحمه الله.

الجبرية

الطائفة الثانية: وهي الجبرية، وهم الذين يقولون: إن العباد مجبرون على أفعالهم، وهؤلاء الجبرية غلوا في الأصول الأربعة الأولى، ولا سيما في الأصل الثالث والرابع، حتى سلبوا العبد قدرته ومشيئته وإرادته، فينكرون الأصل السادس الذي هو: أن العباد لهم مشيئة وإرادة مختصة في وجود الفعل من عدمه، ويقولون: إن العبد ليس له إرادة بل هو مجبور على فعله، وهذا مذهب الجهم بن صفوان ، وهو مهجور عند جهور طوائف المسلمين فضلاً عن سواد العامة، وإنما تأثر به من تأثر لما استقى من مادة هذا القول بعض متكلمة الصفاتية، وأخصهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله، فإن الأشعري لما رجع عن قول المعتزلة ومذهبهم -والمعتزلة قدرية في باب القدر- رجع إلى مذهب كان يظن أنه مذهب السنة والجماعة، وهو ما سماه الأشعري في كتبه بمذهب الكسب، والكسب حرفٌ قرآني، أما الجبر فليس حرفاً قرآنياً، فليس في القرآن أن أفعال العباد جبر، لكن في القرآن أن أفعال العباد كسب، كقول الله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] ، فهي كسب للعباد، ولكن الأشعري أقام على لفظ الكسب وفسره بما هو فاسد في معناه، فصارت حقيقته الجبر، فيؤخذ على الأشعري في اللفظ والمعنى.

أما في اللفظ: فيؤخذ عليه إقامته عليه، فإنه إذا ذكر مسألة القدر قصرها على هذا الحرف، مع أن القرآن في أفعال العباد فيه حروف كثيرة، وإنما اجتنبها الأشعري لأن مادتها تشكل على مادته، فكان يقصد إلى عدم ذكرها هو وأكثر أصحابه، فيؤخذ عليهم إقامتهم على هذا الحرف من جهة وتركهم للحروف والألفاظ الأخرى؛ هذا من جهة اللفظ.

أما من جهة المعنى: فإن الأشعري فسر الكسب تفسيراً منغلقاً حتى على كثير من أصحابه، وقد صرح بأنه منغلق، والمحصل من هذا التفسير أن العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها مسلوبة التأثير، وهذا لا بد أن يكون جبراً.

وقد صرح بأن هذا جبر جماعة من أهل العلم كـشيخ الإسلام ابن تيمية ، ولكن إذا أردت مقام الرد، وقلت: إن شيخ الإسلام قال: إنه جبر، فإن المخالف في هذا قد لا يكون مستجيباً؛ لأن المفسر لقوله إمام خارج عن مذهبه، فيكون الأقوى هنا إذا وجد في كلامهم من يلتزم بهذا اللازم من جهة الحروف.

وقد صرح الشهرستاني في كتبه، وكذلك محمد بن عمر الرازي في المطالب العالية، أن مذهبهم في هذا الذي ذكره الأشعري جبرٌ متوسط، فليسوا جبرية غالية، وهذا القول الذي قاله الرازي والشهرستاني صحيح، فإنهم ليسوا جبرية غالية من جنس غلو جهم بن صفوان .

وكما أن ثمة فرقاً بين رجال الإسناد والمعتزلة، فثمة فرق بين الأشعرية وجهم بن صفوان ، وإن كان الأشعرية أنفسهم قد صرحوا بأن قولهم هذا جبر، ولكنهم قالوا: جبر متوسط.

فالمقصود: أن هذا القول حقيقته أنه جبر.

وقد تقلد هذا القول بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأصحاب مالك الذين تأثروا بمذهب أبي الحسن الأشعري في مسألة القدر، فقول الأشعري في القدر هو قول منغلق، ومادته في نفس الأمر هي مادة جبرية، وإن كان حرفه من الأحرف القرآنية.

فهذه هي الطوائف المخالفة للسلف في باب القضاء والقدر.

درجات الإيمان بالقدر

الدرجة الأولى: العلم والكتابة

قال المصنف رحمه الله: [فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق، وهم عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق] .

الفلاسفة يقولون: إن الله لا يعلم الجزئيات، فهؤلاء كفار، وهم لم يكونوا يتكلمون عن الرب الخالق للسماوات والأرض رب العالمين، الذي فطر الله سبحانه وتعالى العباد على الإيمان به، ونزلت الكتب السماوية معرفة به؛ بل كان لهم طرق أخرى في تحقيق الآلهة وما إلى ذلك، فهم يقولون: لا يعلم الجزئيات، وإنما يعلم الكليات، فقولهم هذا بين الهجر، وهو من الكفر، كما قال أبو حامد الغزالي ، فضلاً عن أئمة السنة.

لكن أحياناً يوجد في كلام بعض أهل العلم من التفصيل في مسائل القدر ما ليس محموداً.

وقد ذكرنا -بناءً على المنهج الذي ذكرناه سابقاً- أن مسائل أصول الدين الغيبية، والعقائد، وأفعاله سبحانه وتعالى لا ينبغي كثرة إيراد الأسئلة عليها، وإن كان السؤال قد يكون وراداً على كثير من الأذهان، فإن وروده على كثير من الأذهان لا يعني أنه سؤال مشروع أو سؤال صحيح، أو سؤال يمكن العلم به والجواب عنه، فكل هذا ليس بلازم.

ابن القيم رحمه الله في مناظرته بين السني والقدري افترض مناظرة ليست حقيقية، فبدأ يورد أسئلة لتحقيق صورة المناظرة، فأحياناً يأتي ببعض الأسئلة التي يفرضها على لسان القدري، ثم يورد كلاماً هو جواب السني، وبعض التزامات ابن القيم في جواب السني ليست محكمة.

فمثلاً: قوله: (إرادة الله لأفعال العباد)، هل هو مريد لكل همسة ولمسة وحركة من أفعالهم، أم أنه مريد سبحانه وتعالى للفعل جملة، أم أنه مريد لجنس الفعل؟ ثم قال: (إن الماء إذا كان يجري فالنهر يجري بإرادة الله، لكن لا يلزم أن كل جرية بعينها وكل نقطة من هذا الماء بعينها تكون متعلقة بإرادة مختصة)، وقال: كالرجل إذا حمل العبل من الحب، فهو حامل لكل حبة وإن كان لم تعقل إرادته بكل حبة على حدة، وبدأ يأتي بالمسألة من هذه الأوجه، ويديرها من هنا وهناك.

والصواب: ترك هذا الكلام؛ لأن من فطرة البشر إذا قيل: هذا الشيء مرادٌ لهذا المعين، أن يفهموا ذلك بالفطرة؛ لأن كل أمرهم أصلاً هو الإرادة، فإذا قيل: إن هذا الكأس جاء هنا بإرادة فلان من الناس، لم يحتج ذلك إلى التفصيل: كيف جاء؟ وهل كل أجزائه من الكأس؟ وهل الماء هو الكأس؟ وهل الكأس دون الماء؟ وهل جاء الماء قبل الكأس؟ وكأن هذا مشكلة القدرية مع أهل السنة.

وأنا لا أنتقد الإمام ابن القيم ، فهو إمام معروف شأنه وعلمه، لكن المقصود من ذلك: أن كلاً يؤخذ من قوله ويرد.

وطالب العلم الفقيه الفاضل يعظم أهل العلم، لكنه يتجنب بعض هذه الطرق، وأنا أشير إلى هذا لأن الناشئين المقبلين على طلب العلم، لو كان عندهم منهج محكم من جهة العلم والتربية في طلب العلم، لكان لديهم مناعة -إن صح التعبير- عن مثل هذه الأشياء، ولما كان التنبيه إلى ذلك مقصوداً، لكن لأن كثيراً من الشباب يهتمون بهذا الزغل من العلم، وبهذه اللفتات من العلم، لأنها تحتاج إلى دقة الذهن، وفيها نوع من التميز، أما القول بأن الله خالق أفعال العباد فهو أمر معلوم منشور، حتى العوام يعرفونه؛ فطالب العلم حينما يرجع إلى معنىً دقيق، تشعر نفسه بنوع من امتيازه في فقه هذه المسألة.

وهناك نفوس كثيرة علمية فاضلة، لكنها أصبحت تتذوق هذا الأمر وتعشقه، فإذا وجدوا مثل ذلك لـابن القيم على جلالته، بدءوا يتتبعون مثل هذا النفس، وتتبع هذا النفس في هذا النوع من المسائل ليس محموداً.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة] .

هذا حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى الحديث أن القلم هو أول المخلوقات، ومن البين عند جمهور أهل السنة والحديث أن العرش سابق للقلم.

قال المصنف رحمه الله: [فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] ] .

والأول هو جزء من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس .

[وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] ، وهذا التقدير لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات: فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكروه اليوم قليل].

وهذه الكتابة ثابتة في الصحيح عن ابن مسعود وحذيفة بن أسيد ، وإن كان بينها في بعض التراتيب نوع من الاختلاف والتنوع.

الدرجة الثانية: المشيئة والتقدير

قال المصنف رحمه الله: [وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته] .

هذه إشارة من المصنف إلى مسألة الجمع بين الشرع والقدر، وهي أن العباد مأمورون بما أمر الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، وأن هذا الشرع لا يعارض بشيء من القدر.

قال المصنف رحمه الله: [وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، والعباد فاعلون حقيقة، والله خلق أفعالهم] .

قوله: (فاعلون حقيقة) (فاعلون) خلافاً للجبرية، (حقيقة) خلافاً للأشعرية الذين يوافقون أئمة السلف في الجملة اللفظية ويقولون: هذا من باب المجاز وما إلى ذلك.

قال المصنف رحمه الله: [والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29] ، وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة] .

جاء هذا في حديث ابن عمر : (القدرية مجوس هذه الأمة) ، والمصنف هنا أطلق الحديث، وإن كان الحديث مما يعلم أنه فيه كلاماً من جهة صحته، فمن أهل العلم من حسنه، ومنهم من لم ير صواب ثبوته، وهو الصحيح؛ فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في طوائف المبتدعة نص من جهة التسمية، فكل النصوص المنقولة في تسميته للرافضة أو تسميته للقدرية وما إلى ذلك، كلها ليست صحيحة من جهة رفعها.

قال المصنف رحمه الله: [ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره] .

قوله: (ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات): إشارة إلى الأشاعرة، وهذه الإشارة فيها لطف مع المخاطبين، وإن كانت لم تتضمن تقصيراً في المعنى المراد، وهذا هو المنهج المشروع في الأصل، أن المجادلة للمخالف لا تكون بالألفاظ الموجبة لجفائه، وإن كان هذا موجوداً في كلام أهل السنة، وقبل أن يكون ذلك موجوداً في كلام أهل السنة هو موجود في القرآن مع الكفار، لكن ليس الموجود في القرآن هو الألفاظ المحركة للنفوس إلى الجفاء، فليس كل ما ورد في القرآن من مخاطبة الكفار يحرك نفوسهم إلى الجفاء، ولذلك من التزم هذا المنهج، وقال: هذا هو منهج السلف، فقد أخطأ على السلف، نعم.. يوجد في كلام السلف حروفٌ فيها جفاء مع المخالف الذي فيه مادة عناد أو مكابرة، أو كان ذلك لمصالح شرعية، لكن ليست هذه الحروف من الجفاء في الكلام معهم هي الحروف المشروعة وحدها، فهذا ليس صحيحاً، كما أن العكس غلط، فهناك البعض الآن حتى من طلاب العلم الذين قد يكون عندهم نظرة أخرى، يقولون: ينبغي له أن يحدث بالألفاظ اللينة وما إلى ذلك، فهذا ليس صحيحاً، بل هذا مشروع وهذا مشروع، كما قال الله في أهل الكتاب: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] ، وقال لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44] ، وهذا في الابتداء، لكن في قصة موسى وهارون مع فرعون إذا رجعت إليها في تفاصيلها في القرآن وجدت فيها قول موسى له: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102] ، وهذا فيه شدة.

فالله قال في كتابه: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44] ، وموسى قال له: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102] ، وليس هذا من عدم تطبيق موسى لأمر الله، فإن الله شرع له ذلك في الابتداء، ولهذا فإن الأصل في الابتداء في خطاب المعين: أنه يُقصد إلى ما يحرك نفسه إلى قبول الحق، أما إذا صار عنده مادة من الاستكبار والعلو، فإنه يقال له ما يوجب كسر بأسه، وشدته، وعلوه، ونشره لهذا الباطل، ولذلك في أهل الكتاب لم يقل الله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] على الإطلاق؛ لأن من أهل الكتاب من هو ظالم، وليس في قلبه إلا الكبر والعناد، فقال سبحانه وتعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] .

فأهل البدع على كل تقدير هم أقل من الكفار، فهم بحاجة إلى الخطابين، ومن صدق النظر وصار صاحب عقل وفهم استطاع أن يجد في كلام السلف هذا وهذا، وأما من ضاق عقله في الغالب، فتجد أنه يغلو ولا يتكلم معهم إلا بالسيئ من الكلام.

وهذه الأمة مما حسن الله سبحانه وتعالى في حقها الأخلاق، وليس لها مثل السوء حتى في لسانها، ولهذا فإن المؤمن ليس بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء، والبذاءة مع المخالف هي مشروعة إذا اقتضتها المصلحة الشرعية، أما أنها تكون بذاءة نفسية فيتعود الإنسان على البذاءة دائماً فلا.

والمنهج القرآني في خطاب الكفار، وكذلك منهج السلف مع أهل البدع هو استعمال اللفظ المقرب للنفوس، وقد يستعمل معهم لفظ يكون محركاً لنفوسهم للعناد عندما يحققون هم مقام العناد.

وهذا على كل حال فقه لا يمكن ضبطه في كلمة أو كلمتين، والمقصود أن هذا مشروع وهذا مشروع، فمن هجر أحدهما فليس هو على استقامة تامة.

قال رحمه الله تعالى: [ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها] .

هذه إشارة إلى مسألة الحكمة.

إذاً: إذا تأملت كلام شيخ الإسلام في باب القدر في الواسطية وجدته ذكر الأصول السبعة، فبعض الأصول سماها على درجات، وبعضها ألحقها ببعض المسائل الأخرى من باب التلازم لا من باب اختصار معناها.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الواسطية [18] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net