إسلام ويب

الفقه من أشرف علوم الشريعة، وأعظمها فائدة ونفعاً، ولذلك ينبغي أن تتوجه همم طلاب العلم إلى دراسته والعناية بتحصيله، وينبغي على طالب العلم أن يعرف المنهجية التي يسير عليها في ذلك، لتكون عوناً له في فهم مسألة أو حل عويصة أو تفسير مفهوم، وهي عبارة عن مقدمات يعرف بها كيف يتدرج في طلب العلم، حتى تكون لديه ملكة يستطيع بها أن يفهم المسائل الفقهية وأدلتها، وأقوال الأئمة واختلافهم فيها، ومن ثم يرجح بينها على ضوء ما تحصل لديه من تأصيل علمي متين.

المقدمـة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعـد:

فهذه كلمات يسيرة، وعبارات وجيزة أو نظرات في المنهجية في دراسة الفقه، أردت من خلالها الوقوف على أهم المسائل التي ينبغي لطالب العلم -ولدارس الفقه خاصة- أن يعلمها، وأن يقف عندها قبل توسعه وتشعبه في دراسة الفقه؛ لتكون عوناً له على فهم مسألة، أو حل عويصة، أو تفسير مفهوم، وقد ركزت فيها على الكلام على فقه المتقدمين والمتأخرين، وذكر ما بينهما من فروق؛ سواء في فهم الدليل، أو الترجيح، أو الخلاف... إلخ.

وكما أشرت إنما هي كلمات يسيرة في هذا الموضوع الطويل المتشعب، فحسبي منها أن تكون مقدمات لطالب العلم يستدل بها على ما بعدها..

والله أسأل أن ينفع بها كاتبها وقارئها، إنه على كل شيء قدير

والحمد لله رب العالمين

منهجية التسلسل في طلب العلم

قد يتبادر إلى ذهن البعض أن يُذكر ما هو مقترح في دراسة الفقه من الكتب، وهذا وإن كان داخلاً في هذا العنوان إلا أنه ليس هو المعبر عنه، وأهم منه هو ما يتعلق بقواعد المنهج في هذا الباب، وأما أن يقال: يقرأ من الكتب كذا وكذا.. فهذا قد لا يكون شأناً منضبطاً؛ فإنه يختلف باختلاف بيئات الناس وقدراتهم.. ثم إن منه قدراً مشتركاً قد يكون من الشائع بين طلبة العلم الاعتبار له، فإذا ذكر ما يتعلق بالاعتقاد -مثلاً- تجد أن ثمة كتباً قد شاع بين طلبة العلم أنها مما يدرس ويحصل ويقصد إلى شرحه والعلم به وما إلى ذلك، كالواسطية لـابن تيمية ، والطحاوية وما عليها من الشرح لـابن أبي العز الحنفي ، وبعض كتب السنة المتقدمة التي صنفها المصنفون على طريقة الإسناد والرواية، وحكوا فيها جمل الأئمة المتقدمين؛ كالسنة للخلال ، والإبانة لـابن بطة ، والشريعة للآجري ... فضلاً عما في كتب المحدثين؛ ككتاب الإيمان وكتاب التوحيد للإمام البخاري ، وكتاب الإيمان للإمام مسلم ...

وإذا أردت أن تذكر ذكراً عاماً فلك أن تقول: إن ما في كتب ابن تيمية من الرسائل والمصنفات في مسائل الاعتقاد، أو الرد على المخالفين، لا ينبغي لطالب العلم أن يبالغ في الوقوف عنده؛ لأن جملة منه شائعة معروفة، وجملة منه يختلف فيها الاختيار والنظر والتقرير، بحسب ما يقع للناس، وما يقع في بيئاتهم، وما يقع في أبواب العلم عندهم..

وهذا القدر ليس هو الإشكال، وأنا أرى أنه لا ينبغي أن يقع إشكال لطلبة العلم اليوم في مثل هذه المرحلة من تاريخ المسلمين، فيما يقرءونه من العلم.. لم؟ لأن علماء المسلمين قد صنفوا في سائر علوم الشريعة وأبوابها ما يقارب اثني عشر قرناً، وهذه القرون تجد أنها مليئة بالتصانيف في سائر فنون الشريعة؛ من التفسير أو ما يتعلق بعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والاعتقاد وما يتعلق بالفرق والرد على المخالفين والمقالات... إلى غير ذلك، فإن كل فن من هذه الفنون وغيرها فيه كتب كثيرة، وفي نفس الوقت لك أن تقول: إن فيه كتباً محققة. أي: صنفها أئمة محققون في هذا الشأن، عارفون به، وأحكموا في تصنيفها، فاجتمع فيها شرف الكتاب من جهة أن المصنف اعتنى به، ومن جهة أن المصنف له في هذا التصنيف تمام الفهم.

ولذلك صار من الشائع بين أهل العلم -ولا سيما في الطبقة المتأخرة- أنه إذا ذكر ما يتعلق بعلوم الحديث ذكروا مقدمة ابن الصلاح ، وتجد أن هذه المقدمة صارت شائعةً معروفةً يتداولها طلبة العلم ويقرءونها، وربما قرءوا قبلها نزهة النظر للحافظ ابن حجر ، ثم ألحقوها بما كتبه عليها ابن حجر من النكت، أو شرح ألفية العراقي للسخاوي ..

وإذا رجعت إلى التفسير تجد أنه كتبت فيه كتب كثيرة، وربما كانت هذه الكتب ليست محققة.. بل فيها من الضلالة والخروج عن تفسير القرآن خروجاً كثيراً، كبعض الكتب التي ألفها من لم يكتبوا آثار أئمة السنة والجماعة، لكن في المقابل فإنه يوجد في علم التفسير من الكتب المحققة المعروفة، فإن هذا الباب قد كتب على أنحاء، وهو ما يسمى بالتفسير بالمأثور، وهذا فيه كتب، ولكن قد شاع بين أهل العلم أن ما كتبه ابن جرير الطبري هو العمدة في ما يسمى بالتفسير المأثور.

فإذا قال طالب العلم: ماذا نقرأ في التفسير؟

ففي ظني أن هذا السؤال لا ينبغي أن يكون سؤالًا صعب الجواب؛ لأن هذا من البدهيات؛ فلو قرأ طالب العلم فيما يتعلق بالتفسير بالمأثور، وآثار الصحابة ومن بعدهم في كلمات القرآن وتفسيرها ومعانيها، لو قرأ تفسير ابن جرير لكفاه في الجملة، ولا نقول: إنه قد حصل تحصيلاً نهائياً، فهذا يتعذر، إنما نقول: إنه أجمع كتاب في هذا الباب وأصدقه من جهة إمامة مصنفه، وتقدم عصره.

وإذا نظرت في ما يسمى بالتفسير الذي كتب على تقدير الأحكام وجدت أن فيه كتباً، لكن ما كتبه القرطبي أجمع كتاب في هذا الباب، وكأنه أشهر كتاب وصل إلى الناس فيما يتعلق بأحكام القرآن.

وإذا ذكرت كتب الفقهاء تجد أن ثمة كتباً تعتبر إماماً في هذا العلم، فإذا ذكرت كتب الفقه المقارن اشتهر عند أهل العلم أن كتاب المغني للموفق محمد بن قدامة المقدسي على مختصر أبي القاسم الخرقي ، من أشهر وأجود كتب الفقه المقارن، وأن ما كتبه النووي -وإن كان لم يكمله- فيما سماه بالمجموع شرح المهذب، هو من جوامع كتب الفقه، بل وما كتبه أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى.

وإذا ذكرت ما يتعلق بتفسير أو شرح حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما صنف فيه، فإن من أتم هذه الكتب وأجودها -إن لم يكن هو الأجود على الإطلاق- ما كتبه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار والتمهيد على موطأ الإمام مالك ، وما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري على صحيح البخاري ، أو ما في فتح الباري لـابن رجب وإن كان لم يكمله.

وإذا نظرت فيما يتعلق بما صنفه المتأخرون من أحاديث الأحكام؛ كبلوغ المرام، أو المحرر، أو المنتقى؛ لوجدت من الشروح والتعليقات عليها ما هو معروف، وتجد أن نيل الأوطار للشوكاني يعد من جوامع التعليقات على كتاب يعد من جوامع كتب الأحكام المتأخرة، وهو المنتقى للمجد ابن تيمية رحمه الله.

المقصود من هذه المقدمة: أن ما يتردد كثيراً في مجالس طلبة العلم: ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ وبم نبدأ؟ وهل نقدم شرح الطحاوية على لوامع الأنوار، أم الواسطية قبل ذلك؟.. هذه القضايا من عقل العاقل وفقه الفاقه أن يدرك أنه ليس فيها حكم صارم أو لازم، وكأن هذا هو سلم العلم، فإذا انحاز الطالب أو القارئ عنه شيئاً فقد زل عن سبيل العلماء أو عن الطريق الصحيح للتحصيل؛ لأن هذه في الجملة مسائل يغلب عليها الاجتهاد، وفي الغالب أن حكم الإنسان على نفسه له قدر في التأثير على ذلك، بمعنى أن الناس يختلفون في قدرتهم على التحصيل والاستيعاب والإدراك، فينبغي أن يختار بالدرجة الأولى شيئاً يناسب طاقته وإدراكه وما آتاه الله سبحانه وتعالى.

وفيما يتعلق بالمنهجية في دراسة الفقه فإن هذا موضوع طويل متشعب، وليس المقصود أن نصل فيه إلى النهاية، أو إلى تحقيقات متينة، وإنما المقصود هنا: أن نقف جملةً من الوقفات والقراءات في هذا المفهوم، وسنجملها في عشر مسائل، على ما سيأتي..

المسألة الأولى: المـراد بالفقـه

لقد ذكرت هذه الكلمة -أعني: كلمة الفقه- في القرآن، فقال الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما في الصحيح-: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، فيُذكر هذا الاسم على معنى عام: وهو الفقه في دين الله. وهذا يشمل الفقه في مسائل الشريعة وفروعها، ويشمل الفقه في مسائل أصول الديانة، وما يتعلق بأحكام الله سبحانه وتعالى والتشريعات والتدبر لأخباره، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهذا كله داخل في اسم الفقه العام الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام.

ويذكر هذا الاسم على معنىً خاص، وهو الاسم الإضافي الذي يذكر مقارناً لجملة العلوم الأخرى، فيقال: علم الفقه، وعلم الحديث، وعلم التفسير... الخ، فإذا ذكر الفقه على هذا الاصطلاح -وهو المقصود هنا- فإنه يقصد به: المسائل الفرعية من الشريعة، بحيث تخرج أصول الشريعة؛ سواء كانت هذه الأصول مقدمات وهو ما يسمى بقواعد الشريعة، أو كانت هذه الأصول نتائج وهي ما يسمى بالاعتقاد؛ فإن الأحكام الكلية من النتائج المجمع عليها تعتبر من أصول الدين.

فإذاً يقصد بالفقه: ما يتعلق بمسألة الشريعة وفروعها، ولا يلزم من قولك: إنه يقصد بالفقه ما يتعلق بفروع الشريعة أن يكون هذا العلم لا يقصد به ذكر المجمع عليه، فإنك تعلم أن كتب الفقهاء فيها جزء كبير من مسائل الإجماع، ولكنها في باب التشريع، بمعنى أن هذا الباب يكون قدر منه قد أجمع عليه؛ كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس، أو حتى على بعض التفاصيل التي هي دون ذلك، وتجد أن أكثر هذا الباب إذا فُصلت صوره التي تُنزل على المكلفين أو تطرأ للمكلفين وجدت أن هذه الصور في الجملة تقصر عن مقام الإجماع المحقق.

فيكون المقصود بهذه التسمية الخاصة ما يتعلق بالعبادات والمعاملات؛ ولذلك ربما قيل: الفقه ينقسم إلى قسمين: العبادات والمعاملات، وإن كانت المعاملات تلحقها أبواب أخرى في تمام ونهايات كتب الفقه.

هذا أمر معروف، وهو مجرد مدخل واصطلاح في هذه المسألة.

المسألة الثانية: دليـل الفقـه

الأدلة المجمع عليها

من المعلوم أن دليل العقيدة أو أصول الدين هو: الكتاب والسنة والإجماع. وكذلك إذا ذكرت دليل الفقه فإنك تقول: الكتاب والسنة والإجماع. وهذه الأدلة الثلاثة مجمع عليها بين فقهاء المسلمين أجمعين، وثمة أدلة أخرى، وهي ما سماه أو اصطلحه بعض الأصوليين -وهي تسمية مناسبة-: الأدلة المختلف فيها، وهي تبدأ من القياس، وقول الصحابي، والاستصحاب، وهذه منزلة أولى في ما سمي بالدليل المختلف فيه، ثم تأتي منزلة ثانية دون هذه المنزلة، وهي ما سمي بالمصلحة المرسلة، وعمل أهل المدينة، والاستحسان، ونحو ذلك.

والأصل في دين الإسلام أن الاستدلال يكون بالكتاب والسنة، وهذا كقاعدة شرعية ضرورية الديانة: أن الدليل هو ما جاء عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومعلوم أن الإجماع إذا ذكر -ومسألة الإجماع فيها كلام كثير- وما عليه جملة من المتقدمين -كما يذكره الشافعي في الرسالة، وابن تيمية في الواسطية وغيرها، ونص عليه أبو محمد بن حزم - أن الإجماع المنضبط هو إجماع الصحابة أو إجماع الطبقة الأولى من الأمة في المسائل التي ضبط الإجماع فيها، بمعنى: أنه ربما زعم الإجماع على مسائل من الفروع ليس أمرها على باب الإجماع المحقق، ولما أدرك من أدرك من الأصوليين هذا المعنى تكلموا في ما سمي بالإجماع الفقهي والإجماع الظني، أو ما يسمى بالإجماع السكوتي.

فإذاً: الإجماع إذا صح وانضبط فإنه مبني على الكتاب والسنة، بمعنى: أنه لا يمكن أن يجمع العلماء على مسألة إلا وفيها نص من الكتاب أو السنة على الحكم، سواء كان هذا النص خاصاً أم بتواتر دلالة عامة.

فإذا قيل: إن كل إجماع فيه نص، فربما كان هذا النص نصاً خاصاً، وربما كان النص -أو معنى النصية هنا- عبارة عن تواتر دلالة على هذا الحكم؛ ولذلك قد تجد أن المجمعين من الأئمة يختلفون في تحصيل مناط هذه المسألة ومبتدئها من دلائل الشريعة.

الأدلة المختلف فيها

أما ما بعد ذلك فلو قال قائل: من أين دخل على المسلمين أن يستدلوا على شريعتهم بما ليس من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع المبني على النص؟

قيل: ما سمي بالدليل المختلف فيه وأوله القياس، وما يتعلق بأقوال الصحابة، والاستصحاب، ولك أن تقول: إن الاستصحاب قدر متقدم على قول الصحابي؛ لأنه بمعنى المتولد من الدليل الشرعي المنضبط.

وقد قلنا: إن الكتاب والسنة والإجماع هي أدلة لا يجادل أحد في شرعيتها، ومن تكلم في الإجماع لم يتكلم في صدقه إذا صح، إنما تكلم في إمكان صحته، ومتى يكون ممكن الصحة. وأما إذا صح وانضبط فلا أحد يجادل أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.

إذًا: فالدليل المختلف فيه لك أن تسميه بالدليل المتولد من دليل الشريعة المنضبط، فالقياس عبارة عن دليل متولد، وكذلك ما يتعلق بالاستصحاب، فهذان الأصلان من الاستدلال -ولا سيما القياس والاستصحاب- لهما قدر شائع عند العلماء، وكأن عامة أهل العلم المتقدمين -أو جماهير الأئمة المتقدمين- كانوا على تصحيح الاستدلال بمسألة القياس، وإن كانوا متفاوتين في اعتبار هذا الدليل، ولا شك أن ثمة فرقاً -مثلًا- بين فقهاء الكوفة وبين فقهاء المحدثين، أو بين أئمة المحدثين -فضلاً عن فقهائهم- في مسألة اعتبار القياس دليلاً، وسوف يأتي التنبيه إليه فيما يلحق من المسائل.

المقصود: أن هذه المسائل المختلف فيها هي أدلة شرعية في الجملة.

دليل القياس عند المتقدمين

وما يتعلق بمسألة القياس فإن جماهير الأئمة يعتبرونه، وإن كان نقل من نقل من المتأخرين عن بعض المتقدمين الإبطال له، وهذا في مسائل بعينها، أما أنهم يبطلون القياس مطلقاً الذي هو قياس التمثيل أو الشمول فهذا بعيد؛ بل لسائر هؤلاء الأئمة -ولاسيما المحدثين الذين نسب إلى قوم منهم ما يتعلق بإبطال القياس- قول معروف فيما يتعلق بقياس الشمول.

وكأن أشد الذين كانوا يغلقون مسألة القياس من المتقدمين وممن صار له أصل مشهور في الفقه هو: داود بن علي ، وتجد أن داود بن علي تكلم في النص ودليله، مع أن ما يتعلق بدليل النص ومفهومه -كما شرحه ابن حزم في سبع صور - عند داود بن علي ، تجد أن جملةً كثيرةً منها هي من باب ما يسمى بقياس الشمول، وإن كان ابن حزم يحسن التباعد عما يسمى بقياس التمثيل، فإنه يقع في تقارير فقهية مبنية على قياس الشمول.

فما أصل مسألة القياس؟

هي في أصلها مسألة اصطلاح، فإنك تعلم أن القرآن ليس فيه ذكر لمثل هذه الكلمة على هذا التقرير، فإن ما اصطلح عليه هو في الحقيقة: أن القياس رد لحكم لم ينص عليه الشارع إلى آخر قد نص عليه؛ لوجود اتفاق في علته، أو في عموم اللفظ الذي رد به الحكم إلى الحكم الثاني الذي لم ينص عليه، فهو من نقل الحكم إلى الحكم لاتحاد الموجب أو لاتحاد العلة.

فالمقصود: أن الأدلة المختلف فيها كان الأئمة في الجملة يعتبرون قدراً منها.

نعم، هناك نوع من الأدلة لم يعتبره الجماهير كعمل أهل المدينة، فإن مالكاً وجملةً كانوا يقدمون هذا الدليل ويعتبرونه ويحتجون به، وجملة من الأئمة -كما نص عليه الشافعي وغيره أنهم- لا يعتبرون عمل أهل المدينة حجة.

تنبيـه:

وأريد أن أنبه في مسألة ما يسمى بالأدلة المختلف فيها إلى أنه: لا يلزم أن يكون من نطق أو استعمل بعض هذه الأدلة أنه كان يراها حجةً لازمة؛ بل ربما اعتبرها حجةً محركةً إلى الحكم، مستظهرة له، أو لك أن تقول: إنها حجة ظنية، بل وربما استعمل من استعمل ما يتعلق بقول الصحابي أحياناً كما يفعله بعض الأحناف، وقد نص ابن تيمية على أن الإمام أبا حنيفة استدل بقول الصحابة في مسائل معروفة، وأن من نقل عنه من أصحابه أنه يعطل مسألة أقوال الصحابة تعطيلاً مطلقاً فإنه ليس شأنه كذلك. نعم، هو ربما جعل قول الصحابي ليس من باب الحكم وإنما من باب الترجيح.

وهذه مسألة لابد من إدراكها لطالب العلم: أن بعض الدليل الذي يسمى دليلاً مختلفاً فيه، لك أن تستعمله إما من باب التحصيل به -أي: تحصيل الحكم به- وإما أن يكون من قرائن ودلائل الترجيح لهذا الحكم.

فمثلاً: لو سأل سائل: هل عمل أهل المدينة حجة؟

قيل: الصحيح أنه ليس بحجة، وعلى هذا الجماهير من الأئمة، لكن المسألة إذا كان قدرها على قدر من عدم النص فيها، وصار ما قضت به عمومات الشريعة موافقاً لعمل أهل المدينة؛ صح لك وأنت ترجح في هذه المسألة أن تجعل من قرائن الترجيح أن أهل المدينة النبوية درجوا على هذا العمل في هذه المسألة، فهنا لم يقع لك استدلال مباشر أو تحصيل الحكم بعمل أهل المدينة، وإنما تحصل لك الحكم بجملة من الأدلة، ربما أن كل واحد منها لو انفرد لم يكن محركاً للتمام في الحكم، ولكنها لما اجتمعت صارت من باب القرائن والدلائل المجتمعة.

المسألة الثالثة: فقه المتقدمين وفقه المتأخرين

لقد ظهر في هذا العصر بين كثير من طلبة العلم التعليق على مسألة: الفرق بين طريقة المتقدمين والمتأخرين في علم الحديث والتصحيح والتضعيف، وما يتعلق بهذا العلم، وإذا تأملت ما يتعلق بشأن الفقه فإن هذه النظرية -إن صح أن تسمى كذلك- يمكن أن تكون نظريةً تستحق قدراً من الدراسة والنظر والاعتبار والمراجعة في ما يتعلق بالفقه، بمعنى: أن ثمة فرقاً بين فقه المتقدمين وبين فقه المتأخرين.

وليس هذا من باب أن تقحم الأمة أو المجالس العلمية بفرضيات للمراجعة؛ بل هذا أمر من طبيعة الأحوال وضرورتها، فإنه لا يجادل أحد في أن فقه الأئمة المتقدمين أشرف أداءً وأوعى من فقه متأخريهم، فإن الإمام ليس كالتابع له، فهذا الفرق جزء منه يعتبر جزءاً ضروري الثبوت.

تخريج الأحكام على أقوال الإمام وقواعده

إذا تأملت في مسألة الفقه، وما كتبه الفقهاء المتقدمون كالإمام الشافعي في رسالته، وما كتبه المتأخرون، أو طريقة التفقه بوجه عام؛ وجدت أن ثمة فرقاً بين فقه المتقدمين وبين فقه المتأخرين؛ ولاسيما إذا اعتبرت أن ما يتعلق بفقه المتأخرين مجمل جمهوره فيما سمي بالمذاهب الفقهية الأربعة، أو بالمذاهب الفقهية الخمسة، إذا أدخلت مذهب الظاهرية.

بمعنى: أن الفقهاء المتأخرين هم في الجملة: إما حنفي، أو شافعي، أو مالكي، أو حنبلي، أو ظاهري. وحتى يتبين لنا أن هذا التفريق له وجه محقق من جهة العلم يقال: هل الأئمة مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وداود بن علي رحمهم الله.. هل هؤلاء نصوا على سائر هذه المسائل الفقهية التي نص عليها أتباعهم؟ الجواب: قطعاً لا. هل هؤلاء في ما نصوا عليه من المسائل قد نصوا على دليل في ما ذكروه من الحكم؟ الجواب: لا.

إذاً: فثمة قدر كبير من الفروع والمسائل التي أضيفت لفقه مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو داود بن علي وهو لم ينطق بها؛ ولذلك عرف الفقهاء في المذاهب الأربعة ما يسمى بالتخريج على أقوال الإمام، وعُرفت أوجه الأصحاب، بل عرفت المحتملات -وهي ما احتمل الفقه عند الأصحاب- وعرفت أقوال الأصحاب... إلى غير ذلك.

إذاً: إذا قرأت كتاباً من كتب الفقهاء، فهل هذا الكتاب محقق على قول هذا الإمام أم أنه ليس محققاً؟ ليس بالضرورة أن تكون سائر أقوال هذا الكتاب -وإن أضيفت إلى مذهب أحمد أو الشافعي أو مالك - وهي أقواله؛ ولذلك لما صنف ابن قدامة رحمه الله المقنع، وذكر أنه هو المختار عنده في مذهب الإمام أحمد ، فإذا رجعت إلى ما كتب على المقنع مما قصد به تحرير مذهب الإمام أحمد أو تحرير مذهب الحنابلة، مثل كتاب الإنصاف؛ فإنك تجد أن صاحب الإنصاف يذكر خلافاً كثيراً على أكثر جمل المقنع: هل المذهب على هذا الوجه، أم على هذه الرواية، أم على الرواية الثانية؟ بمعنى: أنك تجد في فقه الإمام أحمد روايات كثيرة قد اختلف أصحابه أيها المذهب، هذا فضلاً عما نسبوه إليه من الرواية أو من التخريج على الرواية وليس قولاً له، فضلاً عما في كتب هذه المذاهب الأربعة وغيرها من الأقوال التي لا يضيفونها إلى الإمام، وإنما يجعلونها من تكميل المذهب، وهي أقوال أو أوجه للأصحاب.

فإذاً: لا شك أن الأئمة لم ينصوا على كل هذه المسائل بالتنصيص، كما أن ما نصوا عليه من المسائل لم ينصوا على حكمه؛ ولذلك استدل الأصحاب لما نقل عن أئمتهم من الأقوال، ولذلك ربما ضعف عندك قول من الأقوال لأحد من المتقدمين من الأئمة لأنك تقرأ في كتاب فقيه متأخر: أن هذا القول بني على دليل كذا وكذا، فيكون هذا الدليل دليلاً ضعيفاً، فإذا قلت: إن هذا الدليل ضعيف؛ حكمت على القول بأنه قول ضعيف، وربما كان التحقيق: أن الإمام الذي قال هذا القول لم يبن قوله على هذا الدليل.

ومن طريف المسائل -وإن كنت لا أحب أن أدخل في ذلك لضيق المجال-: أنه ربما استدل بعض الحنابلة المتأخرين بأدلة كان الإمام أحمد يشدد في إبطالها وردها وإنكارها من جهة إسنادها وروايتها، ولكنهم وجدوها في كتب السنة، أو في الرواية، أو كتب الأحكام خاصة؛ فاستودعوها أدلةً؛ لأنها من جهة متنها تدل على الحكم إما نصاً وإما ظاهراً وإما دون ذلك؛ وذلك لأن كثيراً ممن كتب في فقه المذاهب الأربعة لم يكن عالماً بالرواية والإسناد، وما يصح وما يضعف، فربما استدل المتأخرون لقول مالك أو أحمد أو غيرهم بدليل ضعيف، فيقال: إن هذا القول ضعيف؛ لأن دليله ضعيف. والحق: أن الإمام لم يبن القول على مثل هذا الدليل.

بمعنى: أنك تجد أن الحنابلة استودعوا في كتب فقههم المتأخرة جملة ما ذكره أبو داود -صاحب الإمام أحمد - في سننه، وما ذكره سعيد بن منصور ؛ فتجد أن غالب الأدلة في سنن سعيد بن منصور ، أو سنن أبي داود ، قد نزلها فقهاء الحنبلية على كتب فقههم، وعلى مفصل مسائلهم التي قدر كثير منها ما نطق به الإمام أحمد .

هذا ليس من باب الظلم لهذه الكتب؛ لكنه من باب تحصيل الفرق بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين.

إن الفرق بين فقه المتقدمين وفقه المتأخرين ربما يقع امتيازه وتقع فروقه في خمس وقفات:

الفرق الأول: في مفهوم الدليل

قال الزهري رحمه الله: (ليس كل شيء نجد فيه الإسناد) .

هذه الكلمة لـمحمد بن شهاب الزهري -وهو إمام مدني متقدم مجمع على إمامته- تعطي إشارة إلى نوع من الفقه الذي كان عليه المتقدمون من الفقهاء الأوائل، ومعنى هذا: أن مفهوم الدليل عند المتقدمين كان عبارة عن فقه استقراء للشريعة، ولذلك فإن المتقدمين من الفقهاء وأولهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم من بعدهم من التابعين والأئمة قد نصوا على مسائل الفقه، وتكلموا واطرد فقههم قبل أن كتبت ما يسمى بكتب أصول الفقه، بل حتى ما كتبه الشافعي في رسالته ليس عبارة عن نظم أصولي اطرادي على آحاد الفروع من جنس النظم الذي كتبه الغزالي في المستصفى أو البرهان لـأبي المعالي الجويني ، بل ما ذكره الشافعي في الرسالة فيه تفعيل لمسألة الفقه وشرحه، وربما تأتي الإشارة إلى مقصود الشافعي بذلك في الجملة.

إن مفهوم الدليل عند المتقدمين لم يكن مجرد النص، فإنك إذا تقلدت النص على المسألة، وجعلت لذلك نظاماً: أن ما لا نص فيه من المسائل فإنه يرد إلى أصل عام، كالاستصحاب مثلاً، أو كالقول بالبراءة الأصلية، وربما أن ما لا نص فيه أدخله بعض المتشددين في الفقه في باب الاحتياط والإغلاق.. هذا لا شك أنه لم يكن فقهاً متقدماً، بمعنى: أن المتقدمين كانوا يأخذون النص، وكانوا يأخذون كثيراً من فقههم من قرائن الشريعة العامة، وهذا في الجملة هو الذي فات كثيراً من المتأخرين -إن لم يكن الأكثر من المتأخرين- التحصيل له، بمعنى: أن مالكاً والزهري والشافعي وأمثال هؤلاء كانوا على فقه لجملة أبواب الشريعة، وهو ما يسمى بفقه الاستقراء.

وفقه الاستقراء يحصل بوجهين: الوجه الأول: من فقه القرآن والتدبر لكلام الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كانوا عارفين بفقه القرآن من جهة أحكام القرآن نفسها، أو من جهة مقاصد التشريع في القرآن.

الوجه الثاني: أنهم عارفون بمفصل سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفقه الصحابة لهذه السنة، ولذلك مما درجوا عليه: أن كل باب من أبواب الشريعة؛ كباب الطهارة، أو باب الصلاة، أو الزكاة، تجد أن لهم قبل أن ينظروا -كما يصنع كثير ممن يطلب الفقه من المتأخرين- في آحاد المسائل الفقهية، يكون لهم نظر أول هو: تقعيد سبل الاستقراء. هذا النظر الأول هو عبارة عن فقه أو فهم مفهوم الشارع ومقاصده في هذا الباب من الشريعة، فتجد أن باب الزكاة مثلاً فيه أصول شرعية انضبطت، وتجد أن ما يحل من المأكولات وما يحرم فيه أصول قد انضبطت، فيقعدون هذه الأصول التي يحصلونها من القرآن، ومن مجمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ من فعله وقوله وتقريره، فتجد أن عندهم في كل باب من أبواب الشريعة جملةً من الأصول.

ثم إذا دخلوا في مسألة الفروع لهذا الباب: فإذا كان الفرع فيه نص استعملوا هذا النص، ويكون هذا النص موافقاً لهذا الباب، وإذا لم يكن هناك نص لهذا الفرع؛ وذلك لأن التفريع الفقهي في الغالب لا يكون متناهياً؛ لأنه اعتبار للطارئ من أحوال المكلفين؛ ولذلك يقول الفقهاء: فإن ترك ركناً.. فإن ترك واجباً.. فإن سلم قبل أن يسجد للسهو.. فإن هذه أمور تعتبر مما يطرأ على المصلي؛ فيردون هذه الطوارئ -وهي الفروع الفقهية التي تشققت في كتب الفقهاء- إلى الأصول المقررة عندهم، بل صار من فقههم أنهم لو وجدوا حديثاً فرداً -أي: من آحاد الرواية على معنى المحدثين الأوائل لا المتكلمين- في باب، وإسناده ليس بذاك التام، ولم يعتبره أئمة الشأن من جهة الصحة، ولو قواه من قواه منهم، ووجدوا أن هذا الحديث يخالف ما يتعلق بأصول هذا الباب؛ وجدت أنهم يقدمون في الحكم اعتبار الأصول في هذا الباب على اعتبار دليل تفرد به من تفرد.

مثال: عندما سئل الإمام أحمد عن زكاة حلي النساء، قال: (إن خمسةً من الصحابة يقولون: لا زكاة فيه). فهل مذهب الإمام أحمد : أن كل مسألة للصحابة فيها قول يلتزمه؟ الجواب: لا؛ لكنه يزيد المسائل؛ بمعنى: أنه وجد أن الأصل في باب الزكاة: أن ما يتعلق بأموال القنية والارتفاق في بني آدم كمنازلهم ولباسهم ونحو ذلك لا زكاة فيه، مع أن أجود حديث في هذا الباب هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده -على المشهور عند الجمهور- هو عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من أشهر المفتين من الصحابة بأن حلي النساء لا زكاة فيه، وإن كان المتأخرون في كتب الأصول يذكرون قاعدة: إذا خالف الراوي ما روى فإن المقدم عند الجمهور الرواية وليس الرأي، وربما قالوا: هذا مذهب مالك والشافعي والإمام أحمد ، خلافاً للأحناف الذين يقدمون الرأي على الرواية.

وهذه قاعدة متأخرة ليست محكمة، وقد قدم الأئمة فتوى بعض الصحابة التي خالفت ما نقل عنهم من الرواية، بل ربما صار عندهم -كما هو عند أحمد وأمثاله من الأئمة المتقدمين- أن فتوى الصحابي بخلاف ما نقله عنه بعض أصحابه دليل عنده على عدم صحة هذه الرواية عنه، ولذلك لما سئل الإمام أحمد عن حديث طاوس عن ابن عباس في الطلاق وهو في صحيح مسلم : (كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله، وأبي بكر ، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة). قال الإمام أحمد : أكثر الناس يروون عن ابن عباس خلاف هذا. فلما وجد أن الفتوى التي شاعت عن ابن عباس أنه استقر أصحابه في نقل فتواه على أنه يفتي أن طلاق الثلاث ثلاث؛ لم يعتمد الإمام أحمد هذه الرواية عن ابن عباس ، مع أن مسلماً قد خرجها في صحيحه.

وبهذا يتبين أن بعض تقعيدات المتأخرين ليست من التقعيدات الصحيحة، وما كان منها ممكناً فهو في كثير من الأحوال لا يكون لازماً.

إذاً: مما يتعلق بمسألة الدليل هو هذا المعنى: التوسيع لمسألة الاستدلال عند المتقدمين على معنى فقه الشريعة، ونحن المتأخرون ندرك أنه ربما تعذر علينا أن نتصور هذا النوع من الدلالة التي لم تتحصل لكثير من المتأخرين؛ لأن الفرق بين التحصيل الذي كان عليه الأوائل يختلف عما حصله المتأخرون من الناس أكثر من أهل العلم منهم.

إذاً: ما يتعلق باعتبار قواعد الشريعة وأصولها؛ نجد أن النووي أحياناً يحاول السلوك في مثل هذا المسلك، ونجد أنه يقول -مثلاً-: سجود السهو مبني على خمسة من الأدلة هي: سنة النبي... فيرد مفصل أحكام السهو في الصلاة إلى هذه الأدلة الخمسة. وهذا نوع من القصد الحسن، لكنه لا يصل إلى تقعيد المتقدمين.

إذاً: ينبغي على طالب العلم أن يقصد إلى فقه هذا الباب؛ حتى لا يقع في الاضطراب، بل يكون فقهه فقهاً مطرداً؛ وهو مراعاة قواعد الشريعة العامة والخاصة في باب من الأبواب.

وأؤكد على كلمة الزهري لما قال: (ليس كل شيء نجد فيه الإسناد) .

الفرق الثاني: في مفهوم الاستدلال

سبق أن المتقدمين قد كتبوا علمهم أو قالوا فقههم قبل أن يرسم ما يسمى بعلم أصول الفقه على رسمه المتأخر المعروف، فما يتعلق بمسألة الاستدلال تجد فيه التفصيل بما يسمى بالأحكام التكليفية أو الوضعية.

فمثلاً: قاعدة: الأمر يدل على الوجوب إلا إذا صرفه صارف.

هذه القاعدة بوجهها العام لا إشكال فيها، بل إن الشافعي رحمه الله قد نص على هذه القاعدة، وقد قال ما يقارب هذا المعنى: أن الأصل في أمر الله ورسوله هو العزم واللزوم. ولكن تجد أن الإشكال في مذهب الاستدلال بهذه القاعدة، بمعنى: أنه قد يقع عند كثير من المتأخرين -ولاسيما من يميل إلى تعظيم الدليل، والأخذ بصريح السنن، والانضباط على القواعد- بغض فقه الاستقراء.

فقه الاستقرار وفقه السياقات

وأنا أؤكد كثيراً على مسألة فقه الاستقراء وفقه السياقات وما إلى ذلك؛ لأن هذا هو مبلغ السلف في أصول الدين وفروعه. والمقصود بالاستقراء إما للشريعة بعامة أو لباب خاص منها، وفقه السياق هو ما يتعلق بسياق النص.

ما يتعلق بسياق النص: تجد أن بعض الكلمات ربما صارت عزماً، مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وفي كلام الأصوليين أن من أدوات الوجوب (على)، وأن (على) تدل على الوجوب لمثل قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] ، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (غسل الجمعة واجب)، فكلمة (واجب ) من اللزوم، وقوله: (على) أيضاً من اللزوم. ولذلك قالوا: ظاهر السنة أن غسل الجمعة يكون فرضاً على المكلفين، أو ربما قال من قال: لابد من صارف يصرف هذا الحكم عن الوجوب إلى الاستحباب.

والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا تكلم بالكلمة هي في أصلها لم تدل على الوجوب، أما أن نقول: إنها دلت على الوجوب أثناء كلامه، أو قصد بها الوجوب ثم صُرفت صرفاً آخر، فإذا وصل الأمر إلى هذا الإدراك فهذا هو النسخ، بمعنى: أنك إذا قلت: إن الأمر مصروف عن الوجوب إلى الاستحباب، فمعنى هذا -كمقدمات أولى في العقل والفقه-: أن الأمر لم يتكلم به الشارع على سبيل الوجوب، ولكن الفاقهين لهذا النص أدركوا أن نبيهم لم يقصد الوجوب بهذا الدليل من تشبيه متقدم من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو تشبيه مقارب لهذا النص.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه)؛ عُلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد أن الغسل واجب بمعنى أنه فرض حتماً؛ لأنه ذكر السواك والطيب؛ مع أن السواك والطيب ليس واجباً، وليس هذا من باب دلالة القرائن الضعيفة، بل هو من باب الاطراد في الحكم، بمعنى: أن الغسل والسواك واجب على كل محتلم، ويمس من الطيب ما قدر عليه، فهذا لم يذهب إليه أحد إلا من شذ في إيجاب السواك.

إذاً: النص إذا استقرئ دل على أنه لم يقصد به الوجوب.

إن مسألة الاستدلال -وهي النقطة الثانية في الفرق بين فقه المتقدمين والمتأخرين- طالب كثير من المتأخرين في هذا النوع من القواعد، مثل قاعدة: الأمر يدل على الوجوب، وقالوا: لابد من صارف خاص؛ ولذلك ربما قالوا في أمر كثير: إنه واجب. وفي نهي كثير: إنه محرم. مع أنك تجد أن جماهير المتقدمين بل وعامة الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنه قال: إن هذا الحكم واجب. وربما ستر البعض عدم فقهه وعدم استقرائه فقال: نحن متعبدون بالنص، ولسنا متعبدين بأقوال الرجال.

والحقيقة أن البحث لم يصل إلى هذا السؤال: هل نحن متعبدون بالحق أو متعبدون بأقوال الرجال؟ لأن هذه مسألة متفق عليها، وإذا كنت تقول: إننا متعبدون بالحق، فالمتقدمون أولى هنا بهذه المقولة، وهم أولى منا فقهاً وإدراكاً وتحقيقاً في اتباع الكتاب والسنة، وعدم اتباع أقوال الرجال.

هذه القاعدة الإيمانية لا يمكن أن تفهم بهذا الأسلوب إلا إذا ناسب لها المقام، فمثلاً: إذا ظهر شخص متعصب، أو مقلد تقليداً أعمى استعملت معه هذه القاعدة، كما قال ابن عباس : (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، وقد قال هذه الكلمة في صورة خاصة، ولم يكن ابن عباس في كل خفض ورفع، أو في كل فتوى يقدم بين يدي فتواه أن يقول: (توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، إنما قالها في مسألة قد أظهر ابن عباس للسائل فيها الدليل الصريح، فلم يقدِّر هذا الدليل حق قدره، فقال ما قال رضي الله تعالى عنه. أما أن تكون هذه المقولة مقدمة بين يدي الفتوى والمسائل، فهذا لم يكن شأناً للسلف ولا للصحابة رضي الله تعالى عنهم.

إذاً: مما يتعلق بمفهوم الاستدلال: أن هناك أموراً كثيرة في الشريعة لا تكاد تجد أن صارفاً خاصاً -أي: نصياً- قد صرفها عن الوجوب، ومع ذلك الأضبط بل ربما أجمع العلماء على أنه ليس واجباً، وأن هذا النهي ليس محرماً، وإن قلت: إن الإجماع لم ينضبط. فربما صح لك هذا، لكن إذا ورد عليك السؤال: من قال من المتقدمين بالوجوب أو التحريم؟ ربما تجد أنه يعوزك التحصيل أن تجد إماماً متقدماً من الصحابة أو التابعين ونحو طبقتهم نطق بالوجوب أو بالتحريم.

فهذا مما ينبغي أن يعالج فقهاً، لا أن يرد إلى قواعد ليست هي محل الجدل هنا، وهي القواعد الإيمانية. نعم، هي الأصل، لكنها تستعمل في حق من يتعصب لمذهب أو لقول فقهي، أو حتى لقول صحابي ويدع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهنا يقال له: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، أما أن يقال هذا كمنهج عام فلا.

ومما يتعلق بمفهوم الاستدلال: أنه ربما يظهر لك في مسألة ما أنها مما ليس عليه دليل، مثلاً: ما يتعلق بكون المرأة إذا طهرت من الحيض في وقت العصر فإنها تصلي الظهر والعصر.

تنبيه: كل مسألة أذكرها ليس المقصود منها الانتصار أو الترجيح لمذهب على آخر، أو أن هذا غلط وهذا صواب. إنما المقصود أن نصل إلى قدرٍ كافٍ من التفقه فيما نحن بصدده.

أقول: نجد أن الجمهور من أهل العلم الأوائل ذهبوا إلى أن المرأة إن طهرت في وقت العصر فإنها تصلي الظهر، مع أنك إذا نظرت إلى الدليل المفصل، أو ما نسميه بالنص أو بالإسناد الخاص -كما قال الزهري - لا تجد إسناداً خاصاً على أن المرأة يلزمها أن تصلي الظهر وقد طهرت في وقت العصر، لكن الإمام أحمد لما سئل عن هذا القول قال: عامة التابعين على هذا القول، إلا الحسن .

كما نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس الطائفي في السنن ، في قصة مجيئه إلى عرفة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا قبل حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه)، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الوقوف بعرفة لا يكون مجزئاً إلا من بعد زوال الشمس، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلاً أو نهاراً).

وقال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) ، وهو في الحج، ففعل فعلاً فقال عامة أصحابه ومن اتبعهم من الأئمة: إن هذا فرض، وأصل في الحج. وفعل فعلاً آخر فقال جمهور أصحابه ومن بعدهم: إن هذا واجب في الحج. وفعل فعلاً آخر فقال جمهور أصحابه ومن بعدهم: إن هذا مستحب في الحج. مع أن النبي عليه الصلاة والسلام ما نطق بالتصريح على أن هذا واجب أو ركن أو مستحب، وهذا من باب -كما قلت- فقه الاستقراء، وفقه مقاصد وأبواب العبادات.

لكن لما جاء ابن حزم رحمه الله -مع شرف علمه وديانته وفضله- وأخذ الأمور على ظواهرها، ووجد أن الله سبحانه وتعالى يقول في سياق آيات الحج: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] ، قال: إن الله قال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:198] ، فنص على ذكره عند المشعر الحرام؛ فدل ذلك على أن ذكره في هذا المقام فرض واجب؛ لأنه وقف مثل هذه الوقفة التي ربما ظن من ظن أنها نوع من الاستمساك بعروة الدليل، والحق أنها ليست استمساكاً محققاً؛ ولذلك لم ينتحل هذا الفقه في جمهور أمره عامة الصحابة أو جمهورهم رضي الله تعالى عنهم.

الفرق الثالث: في اعتبار القرائن

الأئمة المتقدمون لسعة علمهم يعتبرون القرائن في الحكم.

فمثلاً: من فقه المتقدمين ما يتعلق باستصحاب أصل في الباب، كقولهم مثلاً: إن الأصل في العبادات التوقيف أو الحظر، وإن الأصل في المعاملات الحل.

أيضاً: استصحاب ما يتعلق بقرائن تقود إلى ترجيح حكم على آخر، مثلاً: إذا وجدوا أن هذا الدليل قد ذهب إلى مدلوله أو حكمه الأكثر من الصحابة، أو أن أبا بكر وعمر كانوا يفتون به، فربما قووا حديثاً فرداً وانتصروا له، في حين أنك إذا أخذت المسألة أخذاً -إن صح التعبير- رياضياً؛ تجد أن هناك حديثاً آخر هو أقوى من جهة التحصيل الرياضي أو التحصيل العلمي المجرد بمسائل الإسناد والرواية، وربما كان أصرح منه دلالة؛ ومع ذلك تجد أن المتقدمين أخذوا بما هو عند التجريد أقل دلالة. لماذا؟ لأنه وافق عمل الصحابة، والثاني خالف فتوى الصحابة.

أضرب لذلك مثلاً: مسألة الطلاق الثلاث: تجد أن الأئمة الأربعة بل والجمهور، وكما قال ابن رجب -وإن كان قد بالغ-: اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المتبوعين أنه جعل الطلاق الثلاث واحدة. فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة يقولون: إنه قول طائفة من السلف.

المقصود: أنه بالقطع أن قول الجماهير من المتقدمين أن طلاق الثلاث ثلاث، مع أن مسلماً روى عن ابن عباس من رواية طاوس ما تقدم: (كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله، وأبي بكر ، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر : إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيها أناة، فلو أمضيناه عليهم)، فهنا الجمهور لم يعملوا برواية طاوس عن ابن عباس .

فهل هناك نص صريح من القرآن أو السنة أن طلاق الثلاث ثلاث؟ أو هل هناك نصح صريح على المعتاد بالتصريح عند المتأخرين؟ لا. ومع ذلك تجد أن الجماهير درجوا على هذا، ومن المتأخرين من قال: إنهم قلدوا عمر ، وهذا ليس بالمحكم؛ لأن عمر لو صحت الرواية لكان فعله من باب التعزير وليس من باب الاستقرار الحكمي، ولا يمكن أن يقلدوا عمر في تعزيره ويدعوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم الماضية الصالحة لكل زمان ومكان.

في حين أن مسألةً أخرى من رواية ابن عباس ، كما روى أبو داود وغيره عنه أنه قال في الحج: (من ترك نسكاً فليهرق دماً)، تجد أن الأئمة الأربعة والعامة من أهل العلم درجوا على أن من ترك واجباً في الحج فعليه دم.. وهل هناك نص من الكتاب والسنة أن ترك الواجب فيه دم؟ الجواب: ليس هناك نص صريح، لكنهم اعتبروا قول ابن عباس ، وصار الإمام أحمد وغيره إذا سئل عن هذه المسألة أجاب بقول ابن عباس ، فلماذا تواردوا على قول ابن عباس ؟ لأن هدي الصحابة وقرائن الشريعة قضت به، ولذلك ذكر ابن تيمية في منهاج السنة النبوية أن قواعد الشريعة قضت بما قاله ابن عباس ، قال: فإن كل واجب فعلي في الشريعة في أفعال العبادات كالصلاة ونحوها لابد فيه من جبران، فكما أن الصلاة تجبر بسجود السهو، فإن الجبران في مسائل الحج هي الدماء.

هذا نوع من اعتبار ما يسمى بفقه القرائن، ولذلك ربما تعجب متعجب من المتأخرين أو بعض طلبة العلم وقال: كيف ذهب الأئمة الأربعة أو الجمهور من المتقدمين إلى مسألة مع أننا لا نجد فيها دليلاً؟

الحقيقة أن فيها دليلاً لكنه ليس نصاً، وربما تعجب من تعجب فقال: كيف ترك الأئمة المتقدمون أو جمهورهم هذا النص الذي صح بظاهر إسناده كحديث طاوس عن ابن عباس ؟ قلنا: هذا من باب اعتبار الفقه بالقرائن.

الفرق الرابع: في مفهوم الترجيح

مفهوم الترجيح عند المتأخرين، ولاسيما أصحاب المذاهب الأربعة -وقيل الخمسة- هو نوع من الانتصار، وهو نوع من أن قولهم يكون صحيحاً، وأن قول من خالفهم يكون غلطاً؛ ولذلك تجد أنهم يقولون: الرد على دليل المخالف، أو الجواب عن دليل المخالف.

وهذا -مع الأسف- انتظم في الأكاديميات العلمية الآن، فإذا ذكرت أقوال المذاهب الأربعة فقلت: إن الشافعية على قول، والمالكية على قول، والأحناف والحنابلة على قول، ثم رجحت قول الشافعية مثلاً، يلزمك أن تجيب عن كل أدلة الحنابلة والحنفية والمالكية! ولذلك ربما عبر بعض طلبة العلم أحياناً بقوله: والراجح كذا، وأما القول الآخر فلا دليل عليه.

إنه إذا انضبط قول من أقوال المجتهدين الأوائل، وليس هذا القول شاذًا؛ لا يمكن أن يكون ليس عليه دليل، وليس معنى هذا أن هذا القول عليه دليل وذاك القول عليه دليل والشريعة متعارضة.. لكم المقصود أنه دليل يقبل الاستدلال به، أما أنه دليل يصح أو لا يصح فهذه مسألة أخرى..

إذاً: القول الذي يجوز لك أن تقول: إنه لا دليل عليه. هو ما كان بدعة، كقولك: قول المعتزلة في صاحب الكبيرة قول لا دليل عليه، ومثله إذا كان قولاً فقهياً شاذاً فإنه يسعك أن تقول: وهذا القول الذي خالف العامة من أهل العلم قول لا دليل عليه. أما أن تأتي بالترجيح -كما يصنع كثير من المتأخرين- فيرجح مذهباً من المذاهب الأربعة، أو قولاً لغير المذاهب الأربعة، ثم يقول: والقول الآخر لا دليل عليه. مع أن القول الآخر ربما عليه جمهور من الأئمة المتقدمين، فهذا نوع من الحمق الفقهي! إذ لا يمكن أن يذهب الجمهور من المتقدمين إلى مذهب ثم يقال: وهذا القول ليس عليه دليل.

أما المتقدمون فإنهم يفهمون الترجيح على أنه نوع من المؤانسة أو الاستظهار في التقديم لقول على آخر؛ ولذلك لم يظهر عندهم الإنكار الشديد في جمهور ما اختلفوا فيه؛ إلا أن يكون المخالف خالف نصاً وسنةً، فهنا ينكرون عليه، كما هو معروف في شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ فقد كانوا يدركون مسألة الخلاف على هذا الوجه.

إذاً: فرق ما بين المتقدمين والمتأخرين في مفهوم الترجيح: أن الترجيح عند المتأخرين نوع من العزم اللازم الذي معناه: تصحيح القول المرجَّح وإبطال أو إسقاط أو تفريغ غيره من الدليل، أما عند المتقدمين فما كان شأنهم على هذا إلا في مسائل خاصة قد ظهرت سنتها وبان دليلها بياناً واضحاً.

الفرق الخامس: في مفهوم الخلاف

كل من المتقدمين والمتأخرين -من حيث الجملة- يعرف الخلاف، لكن هناك فرق في وعيهم لدرجة الخلاف، فالمتقدمون يعرفون درجة الخلاف، بمعنى: إذا قال الإمام أحمد أو مالك أو الشافعي أو ابن مهدي قولاً، فإنهم يعرفون نسبة القائلين بهذا القول من الأئمة، وإذا خالفوا قولاً فإنهم يعرفون نسبة هذا القول من المخالفين.

أما المتأخرون فغلب عليهم -ولنا أن نصطلح كتمييز- معرفة الخلاف أكثر من معرفتهم بدرجته: وما الفرق بين معرفة الخلاف ومعرفة درجة الخلاف؟

إن من يعرف الخلاف يعرفه معرفةً مجملة، أي: يعرف أن هذا قول وأن القول الآخر كذا وكذا، لكن.. القول الآخر من قال به؟ فإن مسألة اعتبار القائلين مسألة لابد منها.. أو القول الآخر ما مبناه؟ فإنه أحياناً يكون القول الآخر عليه جمهور من الأئمة، ويأتي فقيه فيستدل لهذا القول الذي عليه جمهور من الأئمة بدليل ضعيف أو بدلالة ضعيفة، فيأتي المرجِّح ويبطل قول هذا الجمع من الأئمة؛ لأن فقيهاً مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً متأخراً قد نصر هذا القول بطريقة يُعلم أنها غلط.

فإذاً: اعتبار الإدراك لدرجة الخلاف لابد منه.

هذه خمسة مميزات للفرق بين فقه المتقدمين وفقه المتأخرين، وهي نوع من فتح هذه المسألة للدراسة والمراجعة في تحقيق الفرق بين فقه المتقدمين والمتأخرين. وفي مسألة الترجيح لك أن تشير إلى أن المتقدمين لم يكن عندهم باب التقليد والتعصب، وإنما كان عندهم باب الاعتدال.. باب الاتباع.. باب سؤال أهل الذكر.. باب اقتداء المفضول بالفاضل... إلى غير ذلك، أما المتأخرون فمما نقصهم من الفقه: أنه غلب عليهم التعصب والتقليد، ولا شك أن التعصب والتقليد مذموم، وهذا سيأتي في المسألة الرابعة وهي: التمذهب.

المسألة الرابعة: التمذهب

لقد تكونت في الأمة عدة مذاهب، ولكن الذي انضبط في ما بعد هي المذاهب الخمسة التي أشرت إليها سابقاً، ثم جاء -ولاسيما بعد القرن العاشر- من صرح بنقد التمذهب، ونحن نقول: هل التمذهب نوع من التدين أم أنه نوع من الترتيب العلمي؟

لقد كان التمذهب في أصله ترتيباً علمياً، بمعنى: أنك إذا قلت: إن فلاناً من الشافعية، أو الحنفية، أو إن ابن عبد البر مالكي، فإن معنى ذلك: أنه على أصول الإمام مالك في الاستدلال؛ لأنه سبق معنا أن الأدلة: الكتاب والسنة والإجماع، ثم ما يسمى بالأدلة المختلف فيها.

فهذا معنى التمذهب بصورته العلمية السائغة الذي هو من باب التراتيب العلمية، أي: أن جماعةً من أهل العلم اختاروا أصول فقه الشافعي ، وجماعةً أخرى اختاروا أصول فقه أحمد أو أهل الحديث من البغداديين ونحوهم، وجماعةً أخرى اختاروا أصول فقه الإمام مالك .. وهكذا.

فإذا فهم التمذهب على هذا الوجه فهو من باب التراتيب العلمية.. وهل هذا هو الذي وقع في التاريخ أم أن الذي وقع هو التعصب؟

نقول: لقد وقع في التاريخ هذا وذاك، فكما أن ثمة محققين من أصحاب الأئمة الأربعة يسمون مذهبيين، على هذا المعنى السابق الذي ليس هو من باب التدين والتعصب، وإنما من باب التراتيب العلمية والاختيار في الاجتهاد، فكذلك وُجد المتمذهبون المتعصبون.

ولذلك إذا قيل: هل ينكر التمذهب أو لا ينكر؟

قيل: بحسب المقصود: أما من ينكر التمذهب جملةً وتفصيلاً فيقول: إنه لا يجوز لعالم أن يقول: إنه حنبلي أو شافعي، حتى وإن قصد أنه يختار أصول الاستدلال عند الشافعي ويقدمها على أصول الاستدلال عند مالك ، بمعنى: أنه مثلاً لا يستعمل إجماع أهل المدينة، خلافاً للمالكي الذي يستعمل إجماع أهل المدينة، فيبني فقهه على أصول الإمام الشافعي ، فإن هذا التمذهب بهذا المفهوم بدعة أو ضلالة. فهذا تقحم في المسائل فيما يظهر. لماذا؟

لأنه يخالف إجماع الأمة في قرون مضت؛ لأنك وإن قلت: إنه وجد من العلماء من لم يتمذهب، فإنه لم ينقل عن عالم في جملة من قرون الأمة أنه صرح بإنكار التمذهب على هذا المفهوم.

ثم إن التمذهب بهذه الصورة والذي هو اقتفاء بعض أصول الفقه عند فلان أو فلان، لم ينشأ مع المذاهب الأربعة، بل نص الشافعي في رسالته وقال: كان كثير من المكيين أو أكثرهم لا يخرجون عن قول عطاء ، وكان كثير من أهل المدينة لا يخرجون عن قول سعيد بن المسيب ، ثم لما ظهر فيهم مالك واشتهر علمه بدؤوا يتبعون الإمام مالك ، قال: وكان أهل العراق يأخذون بقول النخعي .

فكان هذا أمرًا معروفًا عند العلماء، ولذلك إذا قرأت في كتب العلم المطولة، أو ما يتعلق ببعض الفقهيات؛ تجد أن مالكاً في الموطأ أو في جواباته في المدونة ربما علل كثيراً من جوابه بقوله: أدركنا العلماء على ذلك.. وهذا ما مضى عليه شيخنا.. لم يذكر أحد من أهل العلم يقول بذلك.

فالاقتداء بهذا المفهوم على نوع من الاجتهاد والتقديم لأصول إمام على إمام لا بأس به، وقد شاع في قرون المسلمين.

أما إذا تحول التمذهب إلى أن هذا المذهب هو الراجح وما عداه يكون مرجوحاً، أو تقديم قول الحنابلة على الشافعية مطلقاً، أو التعصب، أو هجر السنن النبوية تقديماً للمذاهب الفقهية؛ فلا شك أن هذا تمذهب مذموم في شريعة الله، وبإجماع أئمة المسلمين المتقدمين.

المسألة الخامسة: أسبـاب الخـلاف

هناك أسباب للخلاف معروفة وشائعة، كقولهم: إن من أسباب الخلاف: أن يكون الحديث صح عند إمام ولم يصح عند الآخر، أو بلغ هذا ولم يبلغ هذا... إلخ. هذه أسباب عامة معروفة؛ ولكن الذي أحب أن يكون من عناية طالب العالم -ولاسيما الدارس للفقه- أن يتبين في سبب خلاف العلماء المتقدمين، فإن كثيراً من اختلافهم يكون مبنياً على سبب، وربما كان هذا السبب نوعاً من الغائب في الطريقة الفقهية المعاصرة، أو ربما كان هذا السبب مما لا يقدَّر قدره.

مثال ذلك: إذا تكلمت عن خلاف الأئمة الأربعة، أو غيرهم ممن قبلهم أو ممن تقدمهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين؛ وجدت أن سبب الخلاف هو التردد في كون هذه المسألة من باب النص، بمعنى: أنهم يتفقون على نوع من الدلالة في هذه الآية أو في هذا الحديث، ولكن لا يكون هذا عندهم من باب النص، وربما دخله شيء من التردد في درجة الحكم من جهة الوجوب أو عدم الوجوب؛ وذلك مثل كثير من اختلافهم في مسائل الحج، فإنك تجد أن بعضهم كان يذهب إلى لزومها، وبعضهم يذهب إلى أنها من باب المستحبات، مع أنك لو أجريت بعض الطرق الأصولية المتأخرة التي نظمها الأصوليون؛ لربما تحصل لك أن القول البيِّن هو مع أحد هؤلاء، مع أن حقيقة المسألة قد لا تكون بهذا البيان أو هذا الظهور.

وفي الجملة: أنهم إذا اختلفوا -أعني: الأئمة المتقدمين من الفقهاء والمحدثين- فإن الغالب على هذا الخلاف أن يكون له محرك وسبب يقضي به، وإذا اعتبرت هذه القاعدة العامة -ولاسيما إذا كان الخلاف ليس شاذاً- تحصل لك أن مسألة العزم على أقوالهم بالإبطال في غير ما اخترت أو رجحت، أو ما إلى ذلك؛ ليس من باب الفقه أو من باب الحكمة.

المسألة السادسة: مراتـب الخـلاف

كثيراً ما يقال: إن الفقه طويل. وكثيراً ما يقال: إن التتبع والدراسة لآحاد مسائل الفقه يطول، وهذا كلام صحيح؛ ولكن قد نستعمل أحياناً طرقاً ونظن أنها هي الطرق الصحيحة الوحيدة، ولك أن تقول: إنها طرق صحيحة، لكن قد تكون طرقاً مثالية، وقد تكون أحياناً ليست مثالية بل افتراضية في دراسة مسائل الفقه، وهي: أن تتبع كل مسألة من مسائل الفقه بالدراسة والتدقيق والتحقيق والترجيح... إلى النهاية، هذا افتراض، ، إن لم يكن على أقل درجاته أنه مثالثًا، بل ربما كان من باب الافتراضات، وليس من باب المثاليات الممكنة.

وفي ظني أن مسائل الفقه -من باب التقرير للتعامل مع الفقه والتعامل مع الخلاف الفقهي- يمكن أن تصل إلى خمسة أنواع:

النوع الأول: مسائل أجمع عليها الفقهاء:

وهذه لا ينبغي الإكثار والتردد في التشكيك في شأنها أو في أدلتها؛ لكونها محسومة بنص وإجماع، وهذه منتهية بالنسبة لطالب العلم.

النوع الثاني: المسائل التي فيها ما يقارب الإجماع:

وهي ما يعبر عنها الفقهاء -كـابن قدامة وغيره- بقولهم: لا نعلم فيها خلافاً. وربما قال بعض المتقدمين: أدركنا الفقهاء من أهل العلم يقولون بها. كما يقوله مالك ، وإن كان في الغالب يقصد المدنيين أو ربما الحجازيين.

ولكن يوجد في كلام الترمذي أحياناً ما يشابه الإجماع وليس إجماعاً، بمعنى: أنه يُعرف أن ثمة خلافاً، ولكن هذا الخلاف أشبه ما يكون بالخلاف الشاذ، أو الخلاف الفرد، مثل تفرد القاسم ، أو عطاء ، أو الحسن البصري عن جمهور أئمة التابعين بقول ما، ومع ذلك يقول بعضهم: لا نعلم فيه خلافاً.. ونحو ذلك، وتجد أن ثمة استطراداً في هذا النوع من المسائل، وليس بالضرورة أن هذه هي القاعدة اللازمة، لكن الأصل فيه: أن الصواب يكون مع العامة من أهل العلم.

وكقاعدة عامة: أن ما كان الخلاف فيه شاذاً، فإنه في الجملة لا يمكن أن يكون الصواب مع من شذ عن عامة العلماء.

إذاً: هذه مسائل -إن صح التعبير- قد كفيت شرها.

النوع الثالث: ما فيه خلاف لا نسميه شاذاً، وإنما نسميه خلافاً محفوظاً، ولكنه يخالف قول الجماهير:

هذه المسألة لا يجوز لأحد أن يقول: إنه يرجح فيها قول الجمهور مطلقاً؛ بل ربما أصاب الجمهور وربما أخطئوا، لكن من قرائن الترجيح: أن القول إذا ذهب إليه جمهور الأئمة المتقدمين، ولاسيما إذا اختلفت أمصارهم واتفق أصلهم؛ كـالليث بن سعد في مصر، والأوزاعي في الشام، والثوري في العراق، ومالك في المدينة والحجاز -هؤلاء الأربعة يسمون أئمة الدنيا في زمانهم- فإذا وجدت أن جمهور المتقدمين مع اختلاف أمصارهم ذهبوا إلى مذهب؛ ففي الغالب وفي الجملة أن هذا المذهب يكون هو الصحيح، وقد نص ابن تيمية على هذا وقال: تأملت مسائل الشريعة فظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من المتقدمين، ولاسيما إذا اختلف مصرهم؛ ففي الجملة هو الصحيح.. قال: وهذا معلوم بالعقل والشرع، فإنه يتعذر -ولاسيما إذا قيدت مسألة اختلاف المصر- أن يفرض فارض ويقول: لعل الحديث لم يبلغ المدنيين، فأنت تقول: هؤلاء مدنيون وحجازيون وعراقيون وشاميون. بل نص على ذلك الكثير.

وممن أشار إلى ذلك -ولا أجزم أنه نص عليه على التقضية به- الإمام الشافعي ، فإنه قدم اختيارات له في الرسالة، وعلل تقديمه لهذا القول بأنه عليه الأكثر.

وتجد أن الإمام الترمذي في سننه ربما قدم بعض الأحكام، وأشار إلى أن هذا هو الذي عليه الأكثر من أهل العلم.

فالاعتبار برأي الأكثر لا نقول: إنه لازم، وإنما نقول: هو أحد قرائن الترجيح القوية، بمعنى: أنك لا تخرج عنه إلا وأنت متدين، وإذا خرجت عنه متديناً فإنك لا تذم هذا القول.

النوع الرابع: ما كان من الخلاف قد شاع واشتهر:

ولا تستطيع أن تقول: إن الجماهير من المتقدمين من الفقهاء والمحدثين لهم قول، إنما لك أن تقول: إن الخلاف هنا خلاف شائع مشروع؛ فإنك تجد أن المدنيين أو الحجازيين اختلفوا، والعراقيين اختلفوا، والشاميين اختلفوا، بل الصحابة اختلفوا، فما كان من هذا النوع، وقد اختلف فيه الفقهاء اختلافاً بيناً، وشاع خلافهم في الأمصار، ففي الجملة -فيما يظهر لي والله تعالى أعلم- أن هذا النوع من المسائل لا شك أنك بحاجة إلى ترجيح فيه، حتى العامي بحاجة إلى ترجيح ليعمل بأحد القولين، لكن المقصود: أنك إن رجحت هذا القول أو هذا القول فلا تبالغ في الانتصار.

مثال: تحية المسجد في وقت النهي.. هذه مسألة قد شاع الخلاف فيها شيوعاً قوياً، وكان ابن تيمية -وهو من فضلاء المتأخرين المحققين- قد نص على أنه كان متوقفاً في شأنها، وبعض الأئمة المتأخرين كـالشوكاني قال: أفضِّل أن الإنسان لا يقصد دخول المسجد في وقت النهي حتى لا يقع في الإشكال.

إذاً: ما كان فيه الخلاف مشهوراً فرجح فيه ترجيحاً هادئاً بارداً ولا تبالغ في المسألة.

وفي ظني أن هذا النوع من الخلاف ينبغي إشاعته بين المسلمين، إلا إذا اقتضت مصلحة شرعية في مصر من الأمصار أن لا يشاع، أما إذا كانت المصلحة لا تعارض ذلك، فهذا النوع من الخلاف ينبغي أن يكون مألوفاً شائعاً، وقد كان الخلاف مألوفاً شائعاً زمن المتقدمين من الصحابة والتابعين، ولم يكن التعصب والتقليد لآحاد الرجال معروفاً بينهم.

النوع الخامس: فروعات الفقهاء المتأخرين، المحتملات في المذهب أوجه الأصحاب:

فعلى طالب العلم أن لا يجهد نفسه فيها، ولاسيما في أول طريقه فيها حتى يستقر فقهه للخلاف؛ لأنها مسائل كثيرة ولا تتناهى.

وهنا في هذه المسألة كلمة أخيرة: أن من أهم الفقه -فيما أظن ويظهر- الذي يحصله طالب العلم: أن يفقه الخلاف، فمن الجيد أن طالب العلم خلال سنتين أو ثلاث أو أربع، يدرس في مذهب متن فقهي كالزاد وغيره، لكن المهم أن يعرف الخلاف، وليس فقط أن يعرف متناً فقهياً كتبه متأخر في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر، على رأي واحد، داخل مذهب واحد، فهو قد كفي الربط، وما إلى ذلك من التطويرات، لكن المعرفة بالخلاف جزء كبير من الفقه، وقد كان بعض المتقدمين يقول: من لم يعرف الخلاف لا يحل له أن يفتي.

المسألة السابعة: الترجيح

قد تكلمنا فيما سبق عن الترجيح، وكان مما أشرنا إليه أنه ينبغي في الترجيح أن يكون هناك عقل، وليس عزماً وإبطالاً لأقوال الناس، إلا إذا خالفت سنناً بينة.

المسألة الثامنة: الاجتهـاد والتقـليـد

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران)، فقد أقر الشارع الاجتهاد، بل قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) .

إن هناك -أحياناً- تقارباً بين الاجتهاد والتقليد، أو تقابلاً بينهما، وقد تجد أن البعض يفهم من الاجتهاد ما نظمه الأصوليون بأنه لابد أن يكون المجتهد عارفاً بالناسخ والمنسوخ، والحلال والحرام، واللغة... إلى غير ذلك، مع أن هذا هو نوع من الاجتهاد الأول الذي يكون لأصحاب المقام الأول من الفقهاء والحاكمين في مسائل النوازل ونحوها، لكن هناك قدر من الاجتهاد وهو النظر في الترجيح وما إلى ذلك، فينبغي أن يكون هناك استفصال في مسألة الترجيح السائغة، وفي مسألة الاجتهاد السائغة، وفي مسألة التقليد الذي ربما يكون جائزاً لبعض العامة أو نحوهم ممن لم يسعه التحصيل باجتهاد أو نظر.

المسألة التاسعة: فقـه التيسير والتشـديـد

إن الدين الإسلامي كله يسر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في البخاري وغيره: (إن هذا الدين يسر)، والله يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

ثم إن هذا الاصطلاح: فقه التيسير وفقه التشديد، فيه نظر. وكأن التيسير يقابل التشديد، لكن ربما اعتذر عن ذلك أنه في باب التقابل، فيسهل الأمر.

إذاً: الأصل في شأن الأمة هو التيسير، لكن ينبغي أن لا يكون التيسير مخالفاً للسنة؛ لأن الشارع لما قال: (إن هذا الدين يسر) قال بعدها: (فسددوا)، ومعنى السداد: إصابة الشيء، تقول: تسدد السهم، إذا أصاب غرضه وهدفه. والمعنى: أي: تقصدوا الحق واقصدوه وانتهوا إليه، ولكن لعلمه عليه الصلاة والسلام أن تحصيل الحق في كل جزئيات الشريعة قد لا يلزم أن يكون بيناً بياناً تاماً قال: (فسددوا وقاربوا)، فالمسألة مسألة مقاربة.

فإذا ما فسر التيسير بالتسديد، أو باتباع السنن والآثار وهدي الأئمة المرضيين، مع قصد من المقاربة والتخفيف على الناس، وتحصيل فقه الشريعة؛ فإن هذا هو التيسير الشرعي، وهو محمود ولا يجوز ذمه لسبب من الأسباب.

أما إذا استعمل التيسير على معنى المراعاة لأمور ما كان من مقاصد الشريعة أن تراعى؛ فلا شك أن هذا تيسير بعيد عن الشريعة، وهو ليس منها، والشريعة منه براء.

المسألة العاشرة: الفتـوى بالاحتيـاط

وأخيراً أنبه إلى مسألة: الفتوى بالاحتياط.

هذه المسألة لم تكن محمودةً عند الأئمة، فإن بعض الناس إذا لم يكن عارفاً بالحكم أفتى العامي أو السائل بالأحوط، مع أن هذا الأحوط قد يكون حرجاً.

وهنا سؤال: هل بالضرورة أن الاحتياطات دائماً هي أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر؟ الجواب: لا. فقد يكون الشارع ما أوجب زكاةً -مثلاً- على النساء في الحلي، وأنت تقول: بل فيه زكاة.

فبعض الناس يظن أن الاحتياط هو الديانة، وهذا ليس بصحيح؛ فإن الاحتياط ليس ديانةً، إنما الديانة قصد الديانة بحسب ما يظهر لك من الدليل، ثم إن الأبواب مختلفة، وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن اليهود لما ضيق عليهم الأحبار مسائل المعاملات وحرموها، لجئوا إلى صريح المحرمات؛ ولذلك استعملوا الربا وقالوا: إنما البيع مثل الربا.

نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يرزقنا الاتباع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء بحكمه وبقضائه عليه الصلاة والسلام. كما نسأله بأسمائه وصفاته أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته.

والله أعلم

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المنهجية في دراسة الفقه للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net