إسلام ويب

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن آيات الصفات، وعن عقيدة أهل السنة في صفات الله عز وجل، فبدأ إجابته بأن القول في الصفات هو ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما قاله السلف الصالح وأئمة الهدى في هذا الباب، ثم بين أن الله تعالى بعث نبيه بالهدى ودين الحق، وإذا كان كذلك فمن المحال أن يترك هذا الباب من دون بيان لما يجب أن يعتقد فيه.

مسائل أصول الدين معتبرة بالكتاب والسنة والإجماع

قال المصنف رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. سئل شيخ الإسلام العالم الرباني تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات، كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11] إلى غير ذلك من آيات الصفات، وأحاديث الصفات كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار) إلى غير ذلك؟ وما قالت العلماء فيه؟ وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى].

الملاحظ في السؤال أنه وقع على ما يتعلق بالصفات الفعلية كمسألة الاستواء على العرش، وكذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن)لأن الصفات اللازمة -في الجملة- ليست محل إشكال عند الأشعرية.

[فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره].

هذه المقدمة هي مقدمة يحصل بها أن التدين في أصول الدين، بل وفي غيرها لا يصح إلا بما كان في كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وما أجمع عليه السلف، فهذه الأصول الثلاثة مجمع عليها.

أما في الفقه فإن ثمة بعض محال الاستدلال التي هي محال نزاع عند الفقهاء، كالقول في القياس؛ فإن جمهور الأئمة يعتبرونه وإن كانوا يختلفون في درجة اعتباره، وكالقول في حجية قول الصحابي والمصالح المرسلة والاستحسان وأمثال ذلك.

أما في مسائل أصول الدين فإن الاعتبار يكون بالكتاب والسنة والإجماع.

فإن جميع أصول الدين متحققة من جهة الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع، فلا يوجد أصل من أصول الدين لا يقع الاستدلال عليه إلا بالقرآن وحده، ولا يوجد أصل من أصول الدين لا يقع الاستدلال عليه إلا بالسنة وحدها، ولا يوجد أصل لا يقع الاستدلال عليه إلا بالإجماع وحده، بل كل أصل من أصول الدين عليه دلائل من الكتاب والسنة والإجماع.

على ماذا يترتب الإجماع

من المعلوم أن الإجماع لا ينعقد إلا مع نص، وهذا يقرره الأصوليون، وإن كان بعض المتكلمين من الأصوليين ومن وافقهم من الفقهاء الذين تكلموا في الأصول يعارضون في هذا، إلا أنه لا شك أن هذه المعارضة غلط محض، وبإجماع السلف؛ فإن الإجماع يدل على ثبوت النص في المجمع عليه.

لكن يبقى أنه إذا انعقد إجماع العلماء فهل يلزم بالضرورة أن هذا الإجماع يترتب على دليل واحد أم قد يختلف دليله؟

أي: إذا تحقق الإجماع سواء في مسائل أصول الدين أو في الفقهيات فهل يعني هذا أن الإجماع ترتب على دليل معين، بمعنى أن هؤلاء المجتهدين جميعهم نظر في هذا الدليل المعين -كآية معينة من القرآن أو حديث معين من السنة- فصار اتفاقهم على فهم دلالته هو المحصل للإجماع؟

يقال: أما إذا كان القول في أصول الدين فإن علماء السلف إذا أجمعوا على مسألة من المسائل المعتبرة في أصول الدين فهذا يدل على تحقق الإجماع في الدليل المعين فيه، وإن كانت المسألة قد يستدل عليها بدليل قد يدخله النزاع.

مثال هذا: أجمع السلف رحمهم الله على أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة وفي الجنة، وعلى هذا دلائل من القرآن والسنة أجمع السلف على دلالتها على هذه المسألة، لكن هناك دلائل من القرآن استدل بها بعض الأئمة على هذه المسألة وإن كان غيرهم ينازعهم في الاستدلال كقوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]فكلمة مزيد استدل بها بعض الأئمة على أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، مع أن هذه الكلمة ليست نصاً في الرؤية، ولكنهم لما وجدوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسر الزيادة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] بأنها النظر إلى وجه الله كما في حديث صهيب عند مسلم ، افترضوا هذا الحرف في المحل الآخر من القرآن لتقارب السياق.

ورأى بعض العلماء أن هذا ليس بالضرورة يدل على ثبوت الرؤية.

فهنا كان الاختلاف في دليل معين، والاتفاق في دليل معين آخر.

وبهذا يظهر أنه ليس هناك خلاف بين السلف في الرؤية، ومن ادعى أن أهل السنة اختلفوا في رؤية الله لاختلافهم في مثل قوله تعالى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] قيل له: هذا اختلاف في دليل معين، والاختلاف في الدليل المعين لا يستلزم الاختلاف في المدلول، إلا إن كان هذا المدلول لا يثبت إلا بهذا الدليل، أما في الرؤية فهناك أحاديث متواترة، وصريح من القرآن في غير ما آية هي معقد الإجماع.

أما إذا انعقد الإجماع في مسألة فقهية فهنا لا يلزم أن يكون موجب الإجماع نصاً معيناً، بمعنى أنه يحصل الإجماع في مسألة فقهية، ولكن استدلال مالك رحمه الله بظاهر من القرآن، واستدلال الشافعي بظاهر آخر من القرآن، واستدلال أبي حنيفة بحديث من السنة، فتكون النتيجة واحدة، ولكن مأخذها من النصوص متنوع، فيكون الإجماع لم ينعقد من جهة دليل معين واحد..

هذا الذي يقع غالباً في المسائل الفقهية، وإن كان قد يقع في المسائل الفقهية دلائل نبوية يطبق الأئمة على الاستدلال به. والنتيجة من هذا: أن الإجماع لا يحصل إلا بنص، سواء كان نصاً معيناً أو نصاً متنوعاً.

وهذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع هي المعتبرة في مسألة أصول الدين.

مواقف فرق أهل القبلة من الأصول الثلاثة

ما مواقف الطوائف من هذه الأصول الثلاثة؟

أما السلف رحمهم الله فقد اعتبروا أن مسائل أصول الدين معتبرة بهذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع، ولهذا لا يوجد أصل من أصول الدين عند السلف إلا وهو محقق بدلائل من القرآن والسنة والإجماع.

أما المخالفون من أصناف المتكلمين وغيرهم فهم -في الجملة- يقولون بأن الدلائل القرآنية دلائل على مسائل أصول الدين، وهذا حكم كلي يطلقونه، لكنهم يدخلون المعارضة عليه بما استعملوه من الدلائل العقلية، فيكون المحصل أن الدليل العقلي عندهم مقدم على الدليل النقلي؛ وذلك لأنهم اعتبروا أن القول في المسائل الإلهية، وبخاصة في مسألة الصفات والأفعال لابد من اعتباره بدلائل العقل مع دلائل الشرع، فنظروا في دلائل عقلية أوجبت عندهم معارضة الدلائل النقلية الشرعية، فلما حصل هذا التعارض قرر المتكلمون من المعتزلة وغيرهم ما سموه قانوناً في كتبهم، وهو قانون تعارض العقل والنقل وقد رد عليه المصنف -أعني: شيخ الإسلام - في كلام كثير، لكن أخص ذلك في كتابه الكبير درء تعارض العقل والنقل .

القصد: أن هؤلاء اعتبروا الدلائل القرآنية ولكنهم تأولوها.

أما الدلائل النبوية ففي الجملة منع المتكلمون الاستدلال بالآحاد، وإن كان تقريرهم للآحاد يقع الغلط فيه من جهتين:

الأولى: أنهم وصفوا كثيراً من نصوص السنة بأنها آحاد، وهي في نفس الأمر متواترة.

الثانية: من جهة اعتبار حد الآحاد والمتواتر.

وهذه مسألة تحتاج إلى بسط لكن أشير إليها على عجل.

الإشكال في حد المتواتر والآحاد

المشهور في كلام المتأخرين من أهل الحديث وأهل أصول الفقه والمتكلمين أن المتواتر: هو ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس. ولما تكلموا في هؤلاء الجماعة منهم من قال: عشرة، ومنهم من زاد على ذلك. وبهذا يكون المتواتر هو ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرة، وعن هؤلاء العشر مائة، وعن هؤلاء المائة ألف... على هذا الترتيب.

ولهذا قال بعض متأخري الحفاظ كـابن الصلاح بأنه لم يقف على مثال معين لهذا من السنة.

فهذا الحد للمتواتر لا شك أنه غلط على سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإن أئمة الحديث لم يكونوا على مثل هذا، وإن كان متقدمو أئمة الجرح والتعديل كـالبخاري وابن المديني وأحمد بن حنبل ، وأمثال هؤلاء قد تكلموا في الأحاديث المفردة، حتى إنهم ردوا كثيراً من الأحاديث باعتبار التفرد، وإن لم يكن التفرد دائماً عندهم مردوداً.

لكن هذا التقسيم معناه أن يكون عامة السنة النبوية حتى المخرجة في الصحيحين، وحتى الأحاديث المتلقاة بالقبول عند الأمة آحاداً وليست من المتواتر.. وهذا تكلف؛ فإن هذا الحد لا يدل عليه الشرع ولا تدل عليه اللغة، ولا يدل عليه المقصد الذي بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث الواحد من أصحابه بتقرير مسائل أصول الدين من التوحيد وغيره إلى قوم من الكفار، وربما كانوا قوماً تختلف عقائدهم كالمشركين وعبدة الأوثان مع أهل الكتاب، كما بعث معاذاً إلى اليمن وفيها اليهود والنصارى وعبدة الأوثان.

فهذا الحد ينبه إلى خطئه وإن كان شائعاً في كتب المصطلح المتأخرة.

كيفية ضبط مذهب السلف

وهنا سؤال: بم يضبط مذهب السلف؟

من المعلوم أنه إذا قيل: إن هذا القول مذهب للسلف لزم من ذلك أن ما يخالفه يكون بدعة، ولهذا ينبغي أن لا يقال عن شيء ما بأنه مذهب للسلف إلا إذا كان إجماعاً لهم، أما إذا اختلفوا فيقال: اختلف الأئمة أو اختلف السلف، وإن كان الخلاف الفقهي ينبغي أن يعبر عنه بالقول: اختلف الأئمة أكثر من أن يقال: اختلف السلف؛ فإن هذا الحرف إنما يستعمل في مسائل الإجماع كما يظهر في كتب أهل العلم المحققين.

وقد أشار شيخ الإسلام إلى كيفية ضبط مذهب السلف، فقال: واعتبار مذهب السلف الذي هو مذهب لازم يجب اتباعه بدلالة القرآن والحديث هو ما علم إجماعهم فيه، قال: ومعرفة الإجماع تقع بنقل علماء الإسلام الكبار بأن هذا إجماع للسلف، أو بتواتر مقالاتهم في هذه المسألة ولا يحفظ لأحد منهم مخالفة .

فهذان طريقان يعرف بهما إجماع السلف:

الأول: التنصيص من كبار العلماء المتقدمين أو المحققين من المتأخرين على أن هذا إجماع للسلف.

الثاني: تواتر المقالة عن السلف، ولم يحفظ لأحد منهم فيها مخالفة.

وقد أراد شيخ الإسلام بهذا درء مسألة تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم؛ ولهذا قال رحمه الله: وأما من تحصل له فهم في الكتاب والسنة فقال: إن هذا مذهب السلف؛ لأن السلف عنده لا يخرجون عن دلالة القرآن والسنة، فهذه طريقة يستعملها من يستعملها ممن انتحل مذهب السنة والجماعة من متأخري المتكلمين، ومن قلدهم من الفقهاء وغيرهم.. وهذا التنبيه غاية في الأهمية، وهو أن مذهب السلف لا يصح تحصيله بالفهم.

وهذا قد وقع في كلام كثير من الفقهاء وفي كلام كثير من المتكلمين، ويقع اليوم قدر كثير منه بين بعض طلبة العلم، حيث نجد أنهم يعينون مسائل ويقولون: هذا مذهب للسلف. مع أن المسألة فيها نزاع بين كبار أئمة السلف؛ لكونها مسألة فقهية.

إذاً: لابد أن يعتبر مذهب السلف بالأصول الثلاثة، فكل ما أضيف إلى مذهب السلف، ولا يوجد عليه دليل من الكتاب والسنة والإجماع فإنه لا يعد من مذهب السلف الذي هو إجماع لهم، وإنما قد يكون محل خلاف بين أهل السنة والسلف أنفسهم؛ لأنه إذا انضبط أن هذا مذهب للسلف لزم أن يكون صواباً محضاً، وما يقابله يكون بدعةً وضلالاً محضاً على حد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

فكل ما قابل مذهب السلف فهو بدعة وضلالة؛ ولهذا لا تُعين مسألة أنها مذهب للسلف إلا إذا عُلم أنها إجماع لهم، أما إذا كانت اختياراً لبعض كبار أئمتهم ويخالفهم أئمة آخرون من أئمة السلف أنفسهم فإنه مهما كان ظهور الدليل فيها من الكتاب والسنة ينبغي أن يتوقف عن نقل الإجماع فيها، بمعنى أنه إذا قيل: إن هذا مذهب للسلف فإن هذا بمنزلة القول: بأن هذا إجماع.

وينبه هنا إلى أنه إذا ظهر دليل المسائل التي ليست إجماعاً من الكتاب والسنة -ولو خالف من خالف فيها من بعض علماء السنة الكبار- فإنه يجب الاتباع لدلالة الكتاب والسنة، وربما صح في بعض المقامات الإنكار حتى في المسائل التي هي محل خلاف، وإن كان هذا لا يطرد، فإن بعض الأئمة قد يجزم في مسألة بحكم يعلم أنه غلط؛ لكون الدليل لم يبلغه مثلاً، أو لسبب آخر كما يذكره شيخ الإسلام في رسالته رفع الملام .

إذاً: الإنكار ليس محصوراً بالضرورة في مسائل الإجماع، بل حتى مسائل الخلاف قد يقع أحياناً وجه لإنكار بعض الأقوال، ولو قال بها بعض الكبار من أهل العلم، وإن كان هذا لا يطرد.

القصد: أن تحقيق مذهب السلف معتبر بثبوت إجماع صريح لهم، أما المسألة التي ليس فيها إجماع فلا يصح أن يقال فيها: إن هذا مذهب للسلف؛ ولذلك لا يصح وصف القول المخالف في مسألة فيها شيء من النزاع، ولو كان المرجح يرجح أن قوله هو الراجح بدلالة القرآن والسنة مثلاً أو بدلالة أحدهما بأنه بدعة، كذلك لا يوصف القول المخالف بأنه بدعة إذا كان القائل به من أعيان الأئمة كأئمة الصحابة وأئمة التابعين وأمثالهم؛ ولهذا نجد أن الصحابة لم يكن بعضهم يبدع بعضاً في مسائل الاختلاف، وكذلك الأئمة الكبار.

بيان إسناد مقالة السلف

[فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه].

هنا بدأ المصنف بذكر أوجه نظرية مبنية على مقدمات من الشرع ومقدمات من العقل ضرورية الحكم.

ويستفاد من هذا أن من أراد مناظرة المخالف في أصل من أصول الدين فإن الفاضل له أن يستعمل الأدلة التي هي لازمة الحكم عند المخالف.

فهذه طريقة أقوى في التحقيق، وإن كان قد تستعمل أدلة ليس بالضرورة أنها مسلمة عند المخالف؛ لأن المقصود إقامة الحجة عليه. لكن المصنف في هذه المقدمات يستعمل مقدمات لازمة.

تضمن القرآن تفصيل مسائل أصول الدين

فهو يقرر أن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً بالهدى ودين الحق، فمن المحال أن يكون هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يتضمن تفصيل مسائل أصول الدين سواء من جهة كونها مسائل أو من جهة كونها دلائل، ولهذا يقول المصنف رحمه الله في درء التعارض: ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم في دلائله أو مسائله إلى شيء لم يقع في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لما تحقق أن الله أكمل لهذه الأمة دينها.. وهذه مقدمة ضرورية الثبوت؛ ولهذا تكون نتيجتها ضرورية، والنتيجة هنا هي: أنه يجب في أصول الدين التزام النصوص القرآنية والنبوية، وأنه لا يصح استعمال أي دليل خارج عن الكتاب والسنة يعتبر تحصيل أصول الدين به.

وليس معنى قولنا: يعتبر تحصيل أصول الدين به . المنع من الاستدلال بدليل عقلي لإقامة حكم شرعي إذا كان هذا الدليل دليلاً صحيحاً، وإن كان هذا الدليل العقلي لم ينص عليه في النصوص بالتصريح، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالنظر في آياته فقال تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185] إلى غير ذلك من الآيات، وإن لم يأمر به جميع المكلفين.

لكن الذي يقصد المصنف إلى رده: أنه يمتنع أن يكون تحصيل مسألة الأسماء والصفات مبني على دليل عقلي ليس له إشارة في القرآن.

وحينما نقول: دليل عقلي لم يذكر في القرآن. فإن هذا ليس تناقضاً في الحرف، بمعنى: أن القرآن تضمن دلائل خبرية محضة في مسألة الأسماء والصفات، وتضمن دلائل شرعية باعتبار كونها قرآناً، ولكن من جهة ترتيبها هي مخاطبة للعقول، أي: أنها ليست قضايا مبنية على لزوم التسليم.

مثلاً: قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] هذا دليل من القرآن، وهو خبري محض مقول بالتسليم، لكن قوله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79] وإن كان دليلاً قرآنياً، إلا أنه ظاهر فيه أن الترتيب فيه ترتيب عقلي؛ ولهذا خاطب به كفاراً لم يؤمنوا بمسألة التسليم؛ فإن التسليم من صفات المؤمنين.

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: وغلاة المتكلمين والمتفلسفة يقولون: إن الدلائل القرآنية دلائل خبرية محضة. وهذا قول من لم يقدر القرآن حق قدره، فإن الدلائل القرآنية منها ما هو خبري محض مبني على التسليم، ومنها ما هو دلائل عقلية يثبت بها لزوم الإسلام . ومعنى قوله: يثبت بها لزوم الإسلام أي: أنه يتحصل لمن بلغته وسمعها الدخول في دين الإسلام، والتسليم بخبر الله وخبر رسوله؛ ولهذا ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).

فـشيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضع يورد مقدمات قطعية، وهي: أن الله أخبر بالتصريح أنه أكمل لهذه الأمة دينها، وأخبر أن نبيه صلى الله عليه وسلم بعث بالهدى ودين الحق، وأخبر أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم البينات والهدى هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وأخبر أن الناس قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا على شيء في العلم؛ ولهذا أياً كان قدر العقل من الكمال، وأياً كان قدر النفس من الفضيلة فإنه لا يمكن أن تصل إلى تمام المعرفة الإيمانية بدون هدى من الله.

وحينما نقول: العقل والنفس؛ لأن المناهج التي خرجت عن منهج السلف إما مناهج عقلية في الغالب كالمناهج الكلامية، أو مناهج تنبني على المقدمات والترتيبات النفسية الرياضية، وهي مناهج الصوفية؛ ولهذا كانت الفلسفة قبل الإسلام -سواء كانت فسلفة اليونان، أو فلسفة الفرس أو الهند أو غيرهم- إما فلسفة غنوصية إشراقية فيضية كالفلسفة الأفلاطونية الجديدة كما تسمى، أو فلسفة عقلية نظرية.

ومن هنا انقسم الفلاسفة إلى: فلاسفة عرفانيين غنوصيين، وفلاسفة عقلانيين نظريين. وبعض الفلاسفة الذين انتسبوا للإسلام مذهبهم يركب من هذا وهذا، وسيأتي إن شاء الله التنبيه إلى هذا بمثاله.

إذاً: أياً كان قدر العقول من الكمال وأياً كانت فضيلة النفوس لا يمكن أن تصل إلى تمام المعرفة الإيمانية؛ وقد خاطب الله سبحانه وتعالى من هو أكمل الناس عقلاً ونفساً وهو نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ [يوسف:3] وقال: وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى [الضحى:7]وليس المقصود ضلاله صلى الله عليه وسلم بالموبقات أو بالشرك؛ فإنه منزه عن هذا، فقد كان عليه الصلاة والسلام حتى قبل بعثته موحداً لله على الفطرة وعلى الملة العامة، ولكن المقصود: أنه لم يعرف تفاصيل العلم؛ ولهذا قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52]أما الكتاب فلم ينزل عليه شيء قبل النبوة، وأما الإيمان فكان على إيمان مجمل، أي: ولم تعرف تفاصيل الإيمان، كما ذكره المفسرون من السلف.

فإذا كان متحققاً عند جميع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم هو رسول الإسلام، وهو المعلم؛ فإنه يجب اعتبار الإسلام بما بعث به، وإذا قيل الإسلام فإن أخص هذا الإسلام -الذي هو دين الله، وهو خاتم الأديان- القول في أصول الديانة؛ فيلزم من هذا القطع الضروري أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حقق من جهة علمه هو، ومن جهة بيانه باب أصول الدين، ومن ذلك باب الأسماء والصفات.

فهذه نتيجة مبنية على مقدمات ضرورية العلم والثبوت، وهي: أنه صلى الله عليه وسلم علم الحق في باب الأسماء والصفات، وأنه بين ذلك للأمة.

تلقي الصحابة تفصيل مسائل أصول الدين عن الرسول صلى الله عليه وسلم

ينتقل المصنف بعد ذلك إلى استمام هذا، فيبين أن الصحابة تلقوا ذلك عن نبيهم وبينوه للتابعين، ثم في زمن التابعين حدث الخلاف، وقد تميز مذهب التابعين -والذي اطرد فيما بعد عند جميع أهل السنة- عن مذهب المخالفين.

العلم الإلهي هو أشرف العلوم

[فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول].

المصنف -كما تقدم- يستعمل مقدمات مسلمة عند سائر الطوائف، فإن جميع الطوائف من المعتزلة والأشعرية والماتريدية حتى المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام يرون أن هذا العلم الإلهي هو أشرف العلوم؛ فهذا ابن سينا لما ذكر أقسام الفلسفة قال في الفلسفة العليا والحكمة الأولى: هي القول في العلم الإلهي . فهم يسلمون أن المعرفة الإلهية هي أفضل المعارف، لكن يبقى الخلاف في طريقة اعتبار المعرفة الإلهية.

فهؤلاء المتفلسفة اعتبروها بالطرق الفلسفية، والمتكلمون اعتبروها بالطرق الكلامية، وأهل السنة اعتبروها بالقرآن والحديث وإجماع الصحابة رضي الله عنهم.

فإذا كانت المعرفة الإلهية هي أخص المعارف -وهذه هي المقدمة- لزم أن يكون رسول الإسلام، ومن بعثه الله ليبين للناس الديانة مبعوثاً بتفصيلها وتحقيقها وبيانها. وهذه المقدمة بدهية لا يعاضل فيها إلا من في قلبه نفاق أو خروج عن أصل الإسلام.

تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه مسائل أصول الدين

[فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول هو أفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟! ومن المحال أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).

فبما أنه صلى الله عليه وسلم قد علم أمته حتى الأشياء التي هي ليست من أصول الديانة فيمتنع في العقل والشرع أنه صلى الله عليه وسلم يقصد إلى تعليم المسائل اليسيرة التي الجهل بها لا يضر -حيث إن بعض المسلمين يجهلون مثل هذه المسائل ومع ذلك يستقيم دينهم في الجملة، وإن كان فيه شيء من التقصير والنقص- ويدع صلى الله عليه وسلم بيان أصول الدين أو أنه لم يحكم بيانها! هذا يعلم امتناعه ضرورةً.

[وقال فيما صح عنه أيضاً: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم).

المعتبر عند كثير من متأخري الحفاظ: أن الحديث إذا كان في الصحيحين أو أحدهما قالوا: وفي صحيح البخاري أو في صحيح مسلم . أو يعبرون بعبارة: وفي الصحيح.

وإذا كان الحديث صحيحاً وليس في البخاري أو في مسلم قالوا: وقد صح عن النبي، وثبت عن النبي... إلخ.

لكن المصنف -أحياناً- لا يلتزم هذا الاعتبار، وإن كان كثيراً في كتبه عليه، بمعنى أنه تارةً يقول: وقد صح عن النبي، وفيما صح عن النبي، وثبت عن النبي، ومع ذلك يكون الحديث في الصحيحين أو في أحدهما، وتارةً يقول: وفي الصحيح. ومع ذلك لا يكون الحديث لا في البخاري ولا في مسلم .

ومن الأمثلة على هذا ما قاله هنا، حيث قال: وقال فيما صح عنه، ولم يقل: وقال كما في الصحيح أو في صحيح مسلم ، مع أن الحديث في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في سياق طويل، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتصل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها)إلى آخر ما ذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.

الشاهد منه: هذا الحرف الذي أشار إليه المصنف: (أنه لم يكن نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم) فهذا يدل ضرورةً على أن جميع الأنبياء وأخصهم نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد بينوا مسألة أصول الدين.

[وقال أبو ذر: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً). وقال عمر بن الخطاب : (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه)رواه البخاري .

ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام؟!].

قوله هنا على غاية التمام ليبين به غلط من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هذا للأمة كما يقرر ذلك المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام، وليبين به غلط من زعم بأنه لم يقع ذلك منه على جهة التمام، وإنما في القرآن أحرف مجملة والتفصيل يتلقى من الدلائل العقلية كما هو حال جمهور متقدمي المتكلمين من الجهمية والمعتزلة.

وكذلك غلط من يسلم بأن القرآن تضمن هذا الباب على جهة التمام، لكنه لا يلتزم هذا القول الذي قاله، فتجده يستعمل التأويل أو يستعمل الدلائل الكلامية في ذلك، كما هو شأن الأشعرية وأمثالهم الذين سلموا أن القرآن -في الجملة- بين هذا الباب، لكنهم عند التطبيق والتحقيق يخرجون عن هذا، ولا سيما المتأخرون منهم.

وبهذا ينتهي المصنف من المقدمة الأولى، وهي مقدمة ضرورية ظاهرة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم هذا الباب على التفصيل وأنه بينه لأصحابه.

تبليغ الصحابة مسائل أصول الدين للتابعين

[ثم إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خيرُ أمته وأفضل قرونها قصَّروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه].

ينتقل المصنف الآن إلى بيان أن البيان النبوي تلقاه أصحابه رضي الله عنهم ، والصحابة رضي الله عنهم بلغوه للتابعين، ويمتنع أن يكون الصحابة لم يبلغوه للتابعين؛ لأن عدم بلاغ الصحابة للتابعين إما أن يكون سببه أن الصحابة لم يفقهوا بيان النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ممتنع؛ فإنهم إذا لم يفقهوا أصول الديانة فمن باب أولى أن يقع غلطهم في غير ذلك.

وإما أن يكون سبب عدم بلاغ الصحابة للتابعين: أنهم قصدوا كتم الحق عنهم، وبما أن النظر العقلي لا يخرج عن هذين الاحتمالين، وكلاهما يعلم بطلانه وامتناعه، فتتحقق النتيجة: أن الصحابة بلغوا القول الحق والفصل والصواب في الأسماء والصفات إلى التابعين.

وعند مرحلة التابعين يقف الإسناد، أي: يقف المقصود من التقرير؛ لأنه في زمن التابعين ظهر الجعد بن درهم وظهرت مقالة نفي الصفات، وعلم بإجماع الناس -لم يخالف في هذا أحد- أن أئمة التابعين ردوا على هؤلاء المخالفين، فهنا تظهر النتيجة، وهي أن الحق مع التابعين؛ لأنهم تلقوا عن الصحابة والصحابة تلقوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويعلم أن هذا المذهب الطارئ - الذي هو مذهب الجعد بن درهم - باعتبار مخالفته لمذهب التابعين غلط محض، وإن كان يعلم غلطه من هذا الوجه وغيره.

ولهذا من أوجه الاستدلال الفاضلة عند السلف: أن كل بدعة يعلم غلطها بدلالة الإجماع المتقدم. وقد كان الإمام مالك رحمه الله من أكثر الأئمة سلوكاً لهذا المسلك.

وبهذا يعلم أن معرفة الحق شيء وطريقة رد البدعة المخالفة للحق في أصول الديانة شيء آخر.

فهنا طريق مطرد، يعني يمكن أن يستعمل في جميع الموارد والمسائل: وهو أن كل ما خالف مذهب السلف المجمع عليه يعلم غلطه لكونه مخالفاً للإجماع المتقدم.

استخدام السلف للدلائل العقلية

وهنا مسألة يحسن التنبيه إليها: وهي أن المصنف يستعمل طريقة الترتيب والمناظرة في عرضه، وقد كان بعض أئمة السلف تارةً يستعملون هذا، وهذا رد على من قال: إن مذهب السلف لا يستعمل الدلائل العقلية.

فإن السلف لم يذموا الدلائل العقلية إنما ذموا علم الكلام، وهذا لا يعني أن علومهم مبنية على العقل، لكن لأن العقل لا يعارض الشرع، فإنه لا يذم، ولهذا لا نجد أن السلف ذموا الدلائل العقلية بإطلاق، إنما قد يذمون دليلاً معيناً عقلياً، لكن العبارة المتواترة عن السلف هي ذم علم الكلام، وعلم الكلام هو عبارة عن أدلة مفروضة من العقل لكنها ليست كل الدلائل العقلية، مثلما قد يقال: إن بعض الأحاديث أحاديث موضوعة، فتضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي في حقيقتها ليست من كلامه، فكذلك الأدلة الكلامية حقيقتها أنها ليست دلائل عقلية؛ فإن العقل الصحيح لا يدل عليها ولا يصححها. وسنرى فيما بعد أن أخص الدلائل الكلامية المستعملة عند جميع الطوائف بلا استثناء لا تخرج عن ثلاثة أدلة من الترتيب العقلي الكلامي: دليل التركيب، والأعراض، والاختصاص.

ومن الأمثلة على استخدام السلف للدلائل العقلية: أن الإمام أحمد قال لـابن أبي دؤاد : يا أحمد ! القرآن مخلوق.. أهذا من الدين أم ليس من الدين؟ فقال ابن أبي دؤاد : هو من الدين. قال: هذا الدين أعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟ فقال ابن أبي دؤاد : بل قد عرفوه -طبعاً لا يستطيع أن يقول: لم يعرفوه- فقال له الإمام أحمد : أين هو من كلامهم؟ يعني: أين في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه وخاصة الخلفاء أن القرآن مخلوق؟ فانقطع ابن أبي دؤاد وانتهى المجلس.

فلما كان من الغد قال ابن أبي دؤاد : يا أبا عبد الله ! أقلني -يعني: أقلني عن الجواب الأول- فقال الإمام أحمد : أقلتك. قال: لم يعرفوه. قال: دين لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي جئت لتعرفه أنت؟! فانقطع ثانيةً.

فلما كان المجلس الثالث قال ابن أبي دؤاد : يا أحمد ! -يعني الإمام أحمد - القرآن غير مخلوق.. أهذا من الدين؟ أراد أن يستعمل نفس المناظرة.. فقال الإمام أحمد : من الدين. قال: عرفه النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟ قال: عرفوه. قال: أين هو في كلامهم؟ قال الإمام أحمد : اسكت ونسكت.

ما معنى هذا الجواب؟

معناه أن كلمة: القرآن غير مخلوق هي نفي لإثبات؛ فقصد الإمام أحمد وأئمة السنة نفي بدعة طرأت، حيث إن هذه البدعة تقول: القرآن مخلوق. فنفاها الأئمة بقولهم: القرآن غير مخلوق. فقوله: اسكت ونسكت أي: لا تقولوا القرآن مخلوق حتى لا ننفي ما قلتم؛ فإنه إذا لم يقع هذا الإثبات المعتزلي الجهمي لم يحتج أئمة السنة إلى نفي شيء لم يقع، فيبقى الناس على معتقد القرآن، أي: على ما صرح به في القرآن وهو: أن القرآن كلام الله كما في قوله تعالى:

وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] وقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الحموية [2] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net