إسلام ويب

علو الله عز وجل على خلقه من صفات الله عز وجل الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، فالله سبحانه وتعالى له العلو المطلق: علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القدر، وعلو القهر. فالواجب إثبات هذه الصفة لله عز وجل والإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تشبيه ولا تعطيل.

إثبات صفة الرجل والقدم لله عز وجل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية: عليها قدمه- فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط)متفق عليه ].

هذا الحديث فيه إثبات صفة القدم والرجل لله سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث صواعق على رءوس المبطلين؛ لأنهم إما أن يردوها، وإما أن يجتهدوا في إبطال معناها، إما أن يردوها لفظاً ومعنىً، وإما أن يجتهدوا في إبطال معانيها بالتحريف والتأويل المذموم.

أما أهل السنة والجماعة فهذه نصوص تزداد قلوبهم إيماناً بسماعها، ويقيناً بعظمة الرب، وتسبيحاً وتحميداً له سبحانه وتعالى.

(لا تزال جهنم) (جهنم) هي: الدار التي أعدها الله عز وجل للكافرين، وهي النار، فجهنم اسم جنس للنار التي أعدها الله عز وجل للكافرين والعصاة المخالفين لأمره.

(لا تزال جهنم يلقى فيها) أي: يرمى، و( لا تزال ) المراد بذلك: أنها موصوفة بهذا الوصف، وهي لا تنقطع ولا تفارق هذا الوصف.

(يلقى فيها وهي تقول)، يعني: وحالها؛ لأن الواو هنا حالية، ( وهي تقول: هل من مزيد؟ ) أي: تطلب الزيادة، وهذا الاستفهام استفهام طلبي، يعني: زدني زدني، وقال بعض أهل العلم: إن قول النار: هل من مزيد؟ استفهام استنكاري، أي: لا مزيد فيّ، لا مزيد فيّ، ولكن هذا ليس بصحيح، ولا يدل عليه اللفظ، بل الذي دل عليه اللفظ أنه استفهام طلبي؛ لطلب الزيادة من رب العالمين، ويدل على ذلك ما بعده حيث قال: (حتى يضع رب العزة فيها رجله)يضع رب العزة، وفي رواية: (حتى يضع رب العالمين -الله جل وعلا- فيها رجله)والرجل في كلام العرب تنصرف إلى الجارحة المعروفة بالنسبة لنا، أما بالنسبة للخالق جل وعلا فنثبت هذا المعنى له، لكن لا نملك أن نعرف كيفية ذلك، ولم نكلف بمعرفة كيفية ذلك، بل نثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات من دون تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

وفي الرواية الثانية: (عليها قدمه) أي: يضع عليها قدمه سبحانه وتعالى، ولا تقل: كيف؟ فإن الكيف أمره مؤصد مغلق، والكيف مجهول، وهذه القاعدة اجعلها معك في كل خبر عن الغيب، الكيف مجهول فيما يتعلق بالله عز وجل أو فيما يتعلق بما أخبر به مما يكون يوم القيامة، وبذلك تريح نفسك، وتسلم من كل وساوس الشياطين، ومن كل ما يلقيه شياطين الإنس من زخرف القول الذي يريدون به إبطال ما دلت عليه النصوص.

وقوله: وفي رواية: (عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض)يعني: ينظم ويجتمع بعضها إلى بعض، فتقول: (قط قط)أي: كفاني كفاني، أو حسبي حسبي، وعند ذلك تكتفي من طلب الزيادة.

وفي لفظ: (قط قط)، جاءت رواية بالتسكين (قطْ قطْ)، ورواية: بالكسر (قطِ قطِ)، ورواية بالكسر مع الياء (قطي قطي)، ورواية بالتنوين (قطٍ قطٍ)، ورواية خامسة: (قطني قطني)، كل هذا مما جاء في هذا اللفظ، والمعنى في الجميع واحد، وهو حسبي حسبي أو كفاني كفاني.

موقف أهل التحريف والتعطيل من إثبات صفة الرجل والقدم، والرد عليهم

أما أهل التحريف وأهل التعطيل فقالوا: إن معنى الرجل هنا هو الجماعة من الناس، ومن أين أتوا بهذا المعنى؟

قالوا: إن الرجل يطلق على الجماعة من الجراد، كما أنك تقول لجماعة الطير: سرب، فتقول لجماعة الجراد: رجل، فيكون معنى: (حتى يضع رب العزة فيها رجله) أي: جماعة من الناس يتهافتون في النار كتهافت الجراد على النار.

فنقول: هذا المعنى -أيها المحرفون- من سبقكم إليه من سلف الأمة؟ أعطونا واحداً من الصحابة أو من التابعين أو من تابعيهم من أئمة السلف قال بهذا القول، قالوا: اللغة دلت على هذا، فنقول: لا بأس، هذا المعنى قد يكون موجوداً في اللغة، لكن نحن نتلقى السنة لفظاً ومعنىً عن الصحابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنزل عليه القرآن وأنزل عليه الذكر ليبينه للناس، فهو قد بلغ لفظه ومعناه، والله سبحانه وتعالى حفظ للأمة الألفاظ والمعاني فقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، والحفظ ليس فقط حفظ اللفظ إنما حفظ اللفظ والمعنى؛ ولذلك ما تلقته الأمة بالقبول عن الرسول صلى الله عليه وسلم من المعاني الظاهرة لا يجوز الانصراف عنه إلى مثل هذه الإرادات الواهية.

فنقول: الرجل معلومة عند العرب، وما ذكرتموه استعارة وتشبيه، والأصل في الكلام هو الحقيقة لا المجاز.

وقوله: (حتى يضع رب العزة عليها قدمه)، قالوا: القدم هو: اسم لمن قدمهم الله عز وجل في النار، فيكون واقعاً على الجماعة، وقالوا أيضاً: القدم: هم اسم لمن تقدم في علم الله أنهم من أهل النار.

كل هذا -يا إخوة- تحريف وفرار مما دلت عليه النصوص وسلم له صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقته الأمة بالقبول، ولو أنهم اكتفوا بالنصوص، وعدلوا عن هذا الانحراف وعن هذه الشبه لسلموا ولسلكوا طريق أهل السنة والجماعة.

إثبات صفة الكلام لله عز وجل

قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) متفق عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان) ].

هذان الحديثان من جملة ما مثل به المؤلف رحمه الله لأحاديث الصفات الواردة في سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهما يفيدان إثبات صفة الكلام للرب جل وعلا، وصفة الكلام صفة ذاتية فعلية كما تقدم، وهي: صفة يثبتها أهل السنة والجماعة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، وهي: صفة ثابتة لله عز وجل في جميع الشرائع؛ ولذلك التحريف فيها وإنكارها مما يقدح في الإيمان بالرسل؛ لأن جميع الأنبياء أخبروا بذلك، وهم مجمعون على أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بحرف وصوت، كما سيأتي بيانه.

والحديث الأول: فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى) والقول يدل على اتصافه سبحانه وتعالى بالكلام، وهذا النوع من الأحاديث يسمى بـ(الحديث القدسي)، وهذا التعبير هو المشهور، وهو الاصطلاح المعروف عند كثير من أهل العلم، فالأحاديث المصدرة بقوله: قال الله تعالى، أو التي فيها: قال الله تعالى هي أحاديث قدسية، وشيخ الإسلام رحمه الله يسميها (الأحاديث الإلهية)، والفرق بين الحديث الإلهي والحديث النبوي أن الحديث الإلهي فيه خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ربه، فهو خبر عن الله.

وقد قال جمهور المحدثين: إن الحديث الإلهي -الحديث القدسي- لفظه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومعناه من الله، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الحديث الإلهي لفظه ومعناه من الله، وهذا القول قوي، وهو الذي يستفاد من ظواهر الأحاديث، فإن نسبة القول إلى الله هي نسبة لفظ ومعنى، ولكن يفارق الحديث الإلهي -الحديث القدسي- القرآن أن لفظه ليس بمعجز، وأنه لا يتعبد بقراءته، فليس كل حرف فيه بعشر حسنات كما ورد ذلك في القرآن، وأنه لا يشترط في مسه الطهارة لا الصغرى ولا الكبرى، فلو أن كتاباً تضمن الأحاديث الإلهية -الأحاديث القدسية- فلا يشترط للمسه ومطالعته أن يكون الإنسان على طهارة، هذا هو الصحيح، وبهذا يتميز الحديث الإلهي -الحديث القدسي- عن القرآن فيقال: إن لفظه ومعناه من الله جل وعلا هذا الأصل، وأن ما يثبت للمصحف من أحكام فهو غير ثابت للحديث الإلهي.

فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى) هذا فيه إثبات أن الله جل وعلا يتكلم؛ لأن القول الأصل فيه لا يكون إلا على ما ظهر وتبين من اللفظ، وأما ما يدور في الخاطر فإنه قد يصح أن يقال: إنه قول، لكن لابد من تقييده. فلا يرد القول مطلقاً ويراد به حديث النفس، وإنما إذا أريد بالقول ما يدور في الخاطر وما يجول في الضمير والقلب فلابد من تقييده، فيقال: قول القلب أو قول النفس أو قالت نفسي، أما إذا ورد القول مطلقاً فإنه لا ينصرف إلا على القول الذي يتبين ويظهر بحرف وصوت.

قوله: (يقول الله تعالى: يا آدم!) هذا فيه خطاب لأبي البشر آدم عليه السلام، وآدم إنما يعقل كلاماً بحرف وصوت، وليس المراد كلاماً معنوياً كما تقول الأشاعرة ومثبتة الصفات.

(فيقول -أي: آدم عليه السلام-: لبيك وسعديك). (لبيك وسعديك) هذان مصدران لا مفرد لهما من لفظيهما، ومعنى (لبيك) أي: أقمت على طاعتك وإجابتك، إقامة بعد إقامة، وإجابة بعد إجابة، والتثنية للتكثيف، كقوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:4]، فإن التثنية في كلام العرب ترد ويراد بها مطلق التكثيف لا العدد نفسه.

وكذلك (سعديك) معناها: إسعاد بعد إسعاد، يعني: إعانة بعد إعانة، فهو يطلب من الله عز وجل العون والإسعاد على ما هو بصدده.

(فينادي -والمنادي هو الله جل وعلا- بصوت)، وهذا لفظ نبوي فيه إثبات النداء بصوت، وقوله: (بصوت) هذا تأكيد للنداء، وإلا فإن أهل اللغة مجمعون على أنه لا يكون نداء إلا بصوت رفيع؛ ولذلك لا حاجة إلى أن نقول: الذي يدل على إثبات الصوت هو قوله: (بصوت) ولا شك أنه إثبات ومستند، ولكن نقول: لو لم يرد إلا النداء مستقلاً لأفاد إثبات الصوت لكلامه سبحانه وتعالى، وقد ورد النداء في القرآن في أكثر من عشرين موضعاً كما تقدم في الآيات.

(فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) قد يقول قائل: إن المنادي هنا غير الله بقرينة قوله: ( إن الله يأمرك ) ولكن هذا مصروف ومردود بأن يقال: إن ذكر لفظ الجلالة وذكر اسم الله سبحانه وتعالى في الأمر يكون لتأكيد الأمر ولزومه وإثباته.

(فينادي -الفعل مضاف إلى الله عز وجل لأنه لم يذكر غيره في السياق- بصوت: إن الله يأمرك) تأكيداً للأمر، فذكر لفظ الجلالة -اسم الله سبحانه وتعالى- في ثنايا الأمر تأكيداً له وإلزاماً به.

(إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) -نعوذ بالله منها- وهذا يثبت هذه الصفة لله عز وجل في موضعين:

الأول: في قوله: (يقول الله تعالى).

والثاني: في قوله: (فينادي بصوت).

قال: (وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) ). (ما) نافية تفيد العموم، والكاف في قوله: (منكم) كاف الخطاب، فمن المخاطب؟

قيل: المخاطب هم أهل الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الصحابة.

وقيل: إن المخاطب هو جنس الإنسان، فكلٌ سيكلمه الله سبحانه وتعالى من كافر ومسلم: (ما منكم من أحد) وأكد العموم بـ (من ) التي هي نص في العموم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه)، والكلام إنما يفهم ويعرف باللفظ، فليس الكلام هنا كلاماً معنوياً كما تقول الأشاعرة، إنما هو كلام بحرف وصوت، وهذا الكلام قد وقِّت بظرف وهو يوم البعث، فدل ذلك على أنه كلام متعلق بمشيئته وإرادته.

وهذا يدل على أن صفة الكلام صفة ذاتية فعلية، فهي ذاتية باعتبار أصل اتصاف الله عز وجل بهذه الصفة، فإنه لم يزل ولا يزال متصفاً بهذه الصفة، وفعلية باعتبار أفراد ما يتكلم به جل وعلا، فتكليمه للعباد يوم البعث متعلق بمشيئته، وهذا دليل على أن الكلام صفة فعلية، كما أنه صفة ذاتية له سبحانه وتعالى.

قوله: (سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) الترجمان هو: المفسر، أي: ليس بينه وبين الله عز وجل مفسر يبين الكلام ويوضحه، وهذا النفي فائدته تحقق التكليف، وأنه من الله مباشرة، ليس هناك بينه وبينه وسيط، هذا فائدة التأكيد في قوله: (ليس بينه وبينه ترجمان)، وهذا فيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وسيأتي مزيد بحث في هذه الصفة في كلام المصنف رحمه الله.

إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه

قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) حديث صحيح.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم ].

هذه الأحاديث فيها إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد تقدمت الآيات الدالة على علو الله جل وعلا على على خلقه، وأنه على كل شيء سبحانه وتعالى، وهذه الصفة تقدم ذكر أدلتها، وهي:

الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والعقل ، والفطرة.

والإجماع هنا ليس إجماع أهل القبلة، وإنما الإجماع هنا إجماع الخلق مسلمهم وكافرهم، فالناس مفطورة قلوبهم على أن ربهم جل وعلا في العلو.

قال رحمه الله: (وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض) يعني: فيما يقرأ على المريض طلباً للشفاء: (ربنا الذي في السماء تقدس اسمك)، هذا توسل لله سبحانه وتعالى، فيتوسل العبد لربه جل وعلا بوصفه الذي تفرد به، وهو أنه جل وعلا فوق كل شيء.

(ربنا الذي في السماء) والسماء هنا اسم جنس للعالي، أي: الذي في العلو، وإذا كانت السماء هنا المراد بها اسم جنس لما خلقه الله من السموات السبع، ففي بمعنى: على، يعني: ربنا الذي على السماء، وكلا المعنيين صحيح.

(تقدس اسمك) (تقدس) أي: تنزه، وهذا معنى قوله تعالى: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] فإن تسبيح اسم الله جل وعلا هو تنزيهه، والمراد: تنزهت أسماؤه سبحانه وتعالى جميعها؛ لأن الاسم هنا مفرد مضاف، فيعم كل اسم له سبحانه وتعالى، وتقديس اسم الله عز وجل تقديس للمسمى؛ لأن الأسماء تدل على المسمى، أي: أسماء الله سبحانه وتعالى تدل عليه جل وعلا.

( (أمرك في السماء والأرض) ) (أمرك) أي: لك كامل التصرف، (في السماء والأرض) فيشمل الأمر الكوني والأمر الشرعي.

قوله: ( (كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض) ) رحمة الله عز وجل في السماء، وهي في الأرض أيضاً، وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، فرحمته وسعت كل شيء، وإنما توسل إلى الله عز وجل بصفته التي في السماء؛ لأنها محل الرحمة، فالجنة التي وعدها المتقون في السماء كما قال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، فتوسل إلى ربه بأن الرحمة التي جعلها في السماء أن ينزل منها شيئاً إلى الأرض، والرحمة هنا هل هي صفته أو خلقه؟

الجواب: الرحمة هنا خلقه؛ لأن الرحمة تارة يراد به الصفة، وتارة يراد به متعلقها وهو أثرها كما تقدم ذلك في بيان الآيات التي تكلمنا فيها على صفة الرحمة.

قوله: ( (اغفر لنا حوبنا وخطايانا) ) الحوب: هو الإثم، كما قال الله جل وعلا: إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2] أي: إثماً كبيراً، فالحوب في اللغة هو الإثم، فقوله: (اغفر لنا حوبنا) أي: إثمنا، (وخطايانا)، وهذا ليس بغريب أن يذكر الذنب باسمين؛ لأن مقام الاستغفار مقام إطناب وتفصيل، ومن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم اغفر لي ذنبي كله: دقه وجله، صغيره وكبيره، علانيته وسره)، فهذا الإطناب والتفصيل في مقام الاستغفار هو الذي جاءت به السنة، فالتكرار هنا طلباً للمغفرة لتشمل المغفرة كل ذنب كبيرٍ وصغير، فالحوب: هو الإثم الكبير، والخطايا تشمل الإثم الكبير والصغير.

قال: (أنت رب الطيبين)، وهذا توسل بربوبية الله عز وجل الخاصة.

والله رب كل شيء كما قال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، لكن هنا توسل إليه سبحانه وتعالى بربوبيته الخاصة وهي ربوبيته جل وعلا للطيبين من عباده، والطيبين من الخلق سواءً من الإنس أو من الجن أو من الملائكة أو من غيرهم من خلق الله جل وعلا.

قوله: (أنزل رحمة من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع -أي: المرض أو أنه يعني المريض- فيبرأ أي: فيسلم من هذا المرض.

الشاهد في هذا الحديث في قوله: (ربنا الذي في السماء) هذا فيه إثبات العلو، وكذلك تؤخذ صفة العلو من قوله: (أنزل رحمة من رحمتك) فإن الإنزال مما يثبت به علوه سبحانه وتعالى، ولذلك استدل السلف على أن الله سبحانه وتعالى في السماء بما أخبر في كتابه من أنه أنزل القرآن الكريم والكتاب الحكيم، فالإنزال دليل على علوه؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من علو إلى سفل.

ثم قال: ( وقوله: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ وهذا الحديث هو في الرد على الخوارج حيث أنهم اعترضوا على قسم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث ذي الخويصرة عبد الله التميمي، فإنه اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : (اعدل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خبت وخسرت إن لم أعدل) يعني: إن لم تعتقد عدلي خبتَ بضمير المخاطب وهو أصح من خبتُ وخسرتُ لضمير الفاعل؛ لأن المراد بيان خسران من اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل، وليس المراد أنه خاب وخسر -حاشاه- صلى الله عليه وسلم، وهو أمين من في السماء.

ثم قال: (ألا تأمنوني -أي: في قسم ما يتعلق بالدنيا- وأنا أمين من في السماء؟) أي: فيما يتعلق بأحكام الشريعة والأخبار عنه سبحانه وتعالى.

وقوله: (وأنا أمين) (أمين) فعيل، بمعنى: فاعل، ويصلح فعيل بمعنى: مفعول، ففعيل بمعنى: فاعل، أي: حافظ ما اؤتمنت عليه، وفعيل بمعنى: مفعول أي: مؤتمن، فهو مأمون من في السماء، أي: أمنه الله سبحانه وتعالى على وحيه وشرعه.

(من في السماء) هذا هو الشاهد، والمراد بمن في السماء الله جل وعلا، والعجيب أن المؤولين المحرفين الذين لا يثبتون علو الله عز وجل يقولون: معنى: (أمين من في السماء) أي: أمين الملائكة؛ لأن الملائكة يأتمنونه! فيتركون الذي هو أعلى وخير إلى من هو دونه، وأيما أعظم في حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مؤتماً من الله أو من الملائكة؟!

الجواب: من الله جل وعلا، فهم يفرون من إثبات علو الله عز وجل ويحملون هذا على الملائكة.

المهم أن قوله: (من في السماء) المراد به الله عز وجل، وقوله: (من في السماء) أي: من على السماء هذا إذا كانت السماء المراد بها السموات السبع التي خلقها الله عز وجل، أو من في العلو إذا كان المراد بالسماء اسم جنس للعالي، وهذا نكرره حتى يثبت في الأذهان.

ثم قال: (وقوله: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه وهذه قطعة من الحديث الذي أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن حملة العرش وفيه قال: (والعرش فوق الماء) العرش هو: سرير الملك، وهو الذي استوى عليه الرب جل وعلا. (فوق الماء) هذا الماء الله أعلم به، ولم يخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء. (والله فوق العرش) أي: أنه سبحانه وتعالى استوى عليه وعلا عليه، وفوقيته على العرش فوقية خاصة؛ ولذلك أضاف سبحانه وتعالى الاستواء على العرش إليه في سبعة مواضع من كتابه كما قاله الشيخ رحمه الله فيما تقدم عند قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].

قوله: (وهو يعلم ما أنتم عليه) هذا فيه إثبات أن علوه لا ينافي إحاطته وعلمه بما عليه الخلق، فشأنه سبحانه وتعالى ليس كشأن الخلق، الخلق إذا كانوا في مكان غاب عنهم غيرهم، أما الرب جل وعلا فليس كمثله شيء، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر وأخفى، كما قال جل وعلا: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

ثم قال: [وقوله -وما زال الحديث موصولاً في إثبات صفة علو الرب جل وعلا- صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟)] هذا سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الناس بربه، وأعلم الخلق بربه، وأنصحهم للأمة، وأكملهم تنزيهاً، وأخشاهم لله سبحانه وتعالى، وأصدقهم قولاً، يسأل جارية ترعى الغنم فيقول لها: (أين الله؟) وهذا عند أهل التحريف والتأويل إحدى الكبر، فلا يجوز عندهم أن تسأل: أين الله؟ فإن السؤال عن أين الله من أكبر ما يرونه، ومن أعظم جرم يُقترف، مع أن هذا السؤال صادر من النبي صلى الله عليه وسلم!

قوله: (أين الله؟ قالت: في السماء) وهذا فيه الخبر عن الله عز وجل بأنه في السماء، وقلنا لكم: إن (في السماء) معناها: جنس العالي، فيراد به (في العلو) فتكون (في) بمعنى (على).

قوله: (قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله)، فلما أجابت بهذين الجوابين اللذين فيهما إثبات الكمال للرب جل وعلا، وإثبات الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينئذٍ لمولاها: (اعتقها فإنها مؤمنة) فأمره بإعتاقها لأنها مؤمنة، وهذا الوصف نستدل به على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجارية في خبرها عن الله عز وجل بأنه في السماء.

وهؤلاء المحرفون دخلوا بعقولهم الكليلة وآرائهم الحسيرة في تأويل هذه النصوص، وقالوا: إن هذا الإيمان إيمان العوام، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أجراها على ما تعلم لضعف عقلها، وما إلى ذلك من الكلام الفارغ الذي محصله ونهايته رد ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قدروا الله حق قدره، وصدقوا في إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ما دخلوا في هذه الأخبار بعقولهم ولا بآرائهم؛ لأنك لو سألت هؤلاء الآن: ما دليلهم على أن الله ليس في العلو؟ ماذا سيقولون؟ هل سيأتون بدليل من الكتاب والسنة أو من كلام سلف الأمة؟

الجواب: لا، والله! لن يأتوا بذلك أبداً، إنما يقولون: العقل يمنع أن يكون في العلو، سبحانك ربي! بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟! فالواجب على العقل هو الاتباع، وأن يكون تابعاً للنصوص، لا حاكماً عليها كما يفعل هؤلاء.

والخلاصة: هذه الأحاديث الشريفة بينت لنا ثبوت هذه الصفة للرب جل وعلا على الوجه اللائق به، كما دلت على ذلك الآيات من قبل، وسيأتي مزيد بيان لهذا في كلام الشيخ رحمه الله، والله تعالى أعلم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الواسطية [12] للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

https://audio.islamweb.net