إسلام ويب

شرح حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)

بسم الله الرحمين الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم رواه البخاري ومسلم ].

ترجمة راوي الحديث أبي هريرة

هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وكنيته، واسمه: عبد الرحمن بن صخر كما ذكر النووي وللعلماء خلاف في حقيقة اسمه وكنيته:

فقيل: كان اسمه عبد شمس في الجاهلية، فلما أسلم سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن ، وكناه بـأبي هريرة ، وهريرة: تصغير هرة، قيل: كان في الجاهلية كان يرعى غنماً، فوجد هرة برية فاحتملها معه، وكان في الليل يضعها على غصن شجرة لتبيت عليه، فإذا جاء الصباح أخذها واصطحبها معه؛ مخافة عليها من الوحوش، فقيل له: أبو هريرة .

وقيل: إن الكنية كناه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يحمل هرة صغيرة في كُمّه، فقال: (ما هذا يا عبد الرحمن ؟! قال: هرة، قال: يا أبا هريرة)!

وقالوا: إن حمله إياها بعد الإسلام شفقة بها، بينما حمله إياها في الجاهلية تسلية، وإشفاقه على الهرة ناتج عن استشعاره للواجب الشرعي الداعي إلى الرفق بالحيوان؛ إذ أنه صاحب حديث: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، ومهما يكن من شيء فإن كنيته أصبحت أشهر وأعرف من اسمه عبد الرحمن .

وذكروا أ،ه أسلم وهاجر سنة سبع من الهجرة، ووصل إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وقت غزوة خيبر، فلحق به، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات.

وترجمة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه تعتبر من أهم التراجم لكل طالب علم؛ لأنه رسم منهجاً لطلبة العلم المتفرغين.

حب أبي هريرة وأمه من علامات الإيمان

قال أبو هريرة في حقه وحق أمه: (ما من مؤمن يسمع بي أو يراني إلا أحبني، قالوا: ولم يا أبا هريرة ؟! قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتمتنع، وفي يوم أسمعتني كلاماً شديداً في رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني، فذهبت أبكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: إن أمي أسمعتني كلاماً فيك أبكاني، فادع الله لها بالهداية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أن يهديها الله للإسلام، فرجع أبو هريرة قال: فوجدت الباب مجافياً، وسمعت صوت الماء، فإذا بأمي تخرج، وقد لبست درعها، ولبست خمارها، وبادرتني قائلة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرجعت إلى رسول الله أبكي من شدة الفرح، ثم قلت: يا رسول الله! إنا غريبان فادع الله لنا، فقال: اللهم! حبب أبا هريرة وأمه للناس)، فلذا يقول أبو هريرة : (إن من رآني أو سمع بي أحبني)، وهنا نلفت النظر إلى أولئك الذين لا يحبون أبا هريرة، ولا يترضون عنه، فيوجد أشخاص بل طوائف وجماعات تبنت هذا الفكر السقيم، وألفت في ذلك الكتب، وقد سخر الله من دافع عن أبي هريرة رضي الله عنه.

صبر أبي هريرة رضي الله عنه على طلب للعلم

بعض الناس استكثروا على أبي هريرة، وربما ردوا آحاده التي تخالف القياس على زعمهم،وقد ذكر أبو هريرة رضي الله تعالى عنه سبب كثرة أحاديثه، ودافع عن نفسه فيما انتُقد عليه، وذلك عندما قالوا له: ( يا أبا هريرة ! تسمعنا أحاديث لم نسمعها من غيرك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: إن إخواني من المهاجرين كانت تشغلهم الأسواق، والضرب في التجارة، وإخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في بساتينهم وزراعاتهم، أما أنا فكنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطني، وقد كنت أصرع ما بين المنبر وحجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يأتي الرجل فيجلس على رأسي أو على صدري يظن بي الجنون، وما بي إلا الجوع، ولقد خرجت يوماً ولقيت أبا بكر فسألته عن معنى آية، وإني -والله- لأعرف ذلك ولكن بغية أن يصحبني إلى بيته، ولقيت عمر فسألته ومشيت معه حتى وصل إلى باب بيته، فأسند ظهره إلى باب البيت وتبسم، وقال: يا أبا هريرة ! لو كان عندنا شيء لاستضفناك).

ويذكر لنا: (أنه رضي الله عنه وجماعة من أهل الصفة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في وجوههم الجوع، فأتي بطبق فيه تمر، فأعطى كل واحد تمرتين، وقال: كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما الماء فإنهما يجزيانكم يومكم، فأكل أبو هريرة تمرة، وأبقى أخرى! فقال له صلى الله عليه وسلم: لم أبقيت الأخرى يا أبا هريرة؟! قال: لأمي) يعني: كان هو وأمه ليس عندهما شيء، فيقتات بتمرة، ويحمل تمرة لأمه.

ويقول: (خرجت فلقيني عمر فسلم ومضى، ولقيني أبو بكر فسلم ومضى، ولقيني رسول الله فعرف ما في نفسي، فتبسم وقال: يا أبا هريرة ! ما أخرجك؟ قلت: الجوع، قال: اتبعني، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، واستأذنت ودخلت، فأتي بقدح فيه لبن، فسأل: من أين هذا؟ قالوا: أُهدي إلينا من بيت فلان) ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا تُصدق عليه بشيء أرسله إلى أهل الصفة، وإذا أهدي إليه شيء أخذ منه وأعطى أهل الصفة، وكان أهل الصفة ضيوفاً على الإسلام، ليس لهم بيت يأوون إليه، ولا تجارة، ولا زراعة، منقطعون ومتفرغون للعبادة، وتلقي العلم، وإذا دعا داعي الجهاد كانوا هم الأوائل، قال: (يا أبا هريرة ! ادع أهل الصفة، يقول أبو هريرة : فساءني ذلك في نفسي، وودت لو أخذت جرعات من هذا اللبن، ولكن طاعةً لله وطاعة لرسوله، ذهبت ودعوتهم، فلما جاءوا وجلسوا في البيت قال: يا أبا هريرة ! خذ فاسق القوم، فأخذت أعطي الرجل يشرب، ثم أعطي الآخر حتى شربوا جميعهم، ورددت القدح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: يا أبا هريرة ! لم يبق إلا أنا وأنت) .

انظروا هذه الكرامة يا إخوان! (لم يبق إلا أنا وأنت)، وفيها مساواة أبي هريرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفضلة الباقية، فقال: (اشرب يا أبا هريرة! قال: فشربت، قال: اشرب يا أبا هريرة! قال: فشربت، ثم قال: اشرب قال: فشربت، ثم قال: اشرب، فقلت: والله! لا أجد له مسلكاً)، وفي بعض الروايات: (فرويت حتى رأيت الري بين أظفاري، وبقي في القدح بقية، فشرب صلى الله عليه وسلم من تلك الفضلة)!

معجزة عظيمة، قدح يسقي أهل الصفة حتى يفيض، ويشرب أبو هريرة حتى لا يجد له مسلكاً، ولو كان انفرد بالقدح لشرب كل ما فيه، ولكن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، والذي يهمنا أن أبا هريرة صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه: (على شبع بطني).

بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة

يقول صحابي: (كنا في المسجد ندعو، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسكْنا، فقال: عودوا إلى ما كنتم عليه، فأخذنا ندعو: اللهم! اغفر لنا، اللهم! ارحمنا، اللهم! ارزقنا، فقام أبو هريرة وقال: اللهم! إني أسألك بمثل ما سألك به صاحبي هذان، وأسألك أن تعلمني ما لم أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: آمين) ، فدعا أبو هريرة أن يعلمه الله، وأمّن على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا نرد على أولئك الذين يقولون: أبو هريرة راوٍ وليس بفقيه، فنقول: بل هو فقيه، وقد قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: الإمام الثقة الحافظ الفقيه، وإذا لم يكن أبو هريرة فقيهاً فمن يكون الفقيه إذاً؟!

ولما أكثروا عليه، قال: تقولون: أكثر أبو هريرة! أكثر أبو هريرة!

وفي يوم وقف عند باب المسجد، فكلما رأى رجلاً خارجاً قال: قف! ماذا قرأ الإمام في صلاة العشاء؟ فيلتبس على البعض منهم، فيقول: الآن صليت مع الإمام ونسيت ماذا قرأ، وتريد أن تكون مثلي فيما حفظت عن رسول الله؟!

وامتاز أبو هريرة بخصيصة لم يمتز بها أحد من الصحابة، ففي الحديث: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكى إليه النسيان)، وفي بعض الروايات: (جلس صلى الله عليه وسلم، فأخذ شملة لي عن كتفي وبسطها) ، وفي بعض الروايات: (فأخذت ردائي فبسطته) ، وفي بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يحفظ فليبسط رداءه، فبسطت ردائي، فلما قضى حديثه صلى الله عليه وسلم قال: ضم إليك رداءك يا أبا هريرة ! فضممته إلى صدري، فما نسيت حرفاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم!) .

اختبار قوة حفظ أبي هريرة رضي الله عنه

يذكرون أن مروان بن الحكم لما كان أميراً للمدينة طلب أبا هريرة، فاحتال عليه ليكتب حديثه، وأجلس الكاتب وراء حجاب، وأخذ يسأله، وأبو هريرة يحدث، والكاتب يكتب، حتى انتهى المجلس فقال: يا أبا هريرة ! كتبنا حديثك، فقال: أوفعلتم؟! أسمعوني، فأسمعوه، ثم بعد سنة دعا أبا هريرة، وطلبه أن يحدثهم بما كتبوا عنه، فحدثهم، فما أخطأ في حرف واحد!

ونحو هذا وقع للبخاري رحمه الله حينما جاء إلى بغداد، وقد سمع الناس بحفظه، فجعلوا له مجلساً وجاءوا بعشرة رجال، وأعطوا كل واحد عشرة أحاديث، ثم قلبوا الأسانيد، ثم سأله كل رجل منهم، ويقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا .. فيقول: لا أعرفه بهذا السند، ثم الثاني.. إلى العاشر، مائة حديث ويقول في كل حديث: لا أعرفه بهذا السند، فكيف يكون حافظاً؟ وكيف يكون طالب علم؟ مائة حديث لا يعرف منها حديثاً واحداً بذلك السند! لكنه واثق من نفسه، وقبل أن ينصرفوا قال: على رسلكم، أما أحاديث فلان الأول فإن حديثه الأول سنده كذا وكذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وحديثه الثاني: كذا وكذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وأعاد المائة حديث إلى أسانيدها الصحيحة، فحينئذٍ سلموا له بالإمامة والحفظ.

منهجية أبي هريرة رضي الله عنه في نشر العلم

أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مناقبه كثيرة، ومنهجه في العلم يعد قدوة، فقد كان منقطعاً لطلب العلم والحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: أبو هريرة لا يُطعن في شخصيته، ولا يُشك في أحاديثه، وقد ردها طائفة من أهل البدع، وطعنوا في كل ما روى، وشكك فيه بعض الناس، وقال بعضهم: إذا وافقت روايته القياس أخذنا بها، وإذا لم توافق قدمنا القياس عليها، وكل هذا انتقاص له، وطعن في مرجعية إسلامية كبرى.

وبعضهم يأخذ عليه قوله: (إن عندي جرابين من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: جراب بثثته لكم، وجراب لو بثثته لقطع هذا -وأشار إلى حلقه-)، فقالوا: لماذا يخفيه؟ والجواب أنه لم يبثه على جميع الناس، ولكن لم يعدم أن يذكره لبعض الآحاد والأفراد وإلا لما وصلنا، وفي هذا الجراب الذي أمسكه أحاديث الفتن، وكان يمشي في السوق ويقول: (اللهم! إني أعوذ بك من سنة الستين، وإمارة الصبيان)، وكان يذكر أشياء ويدع أخرى، وله سلف، فأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!)، ويقول الذهبي : لو أن أبا هريرة حدثهم بأن البيت يهدم أو يحرق، سيقولون: من يصدق أبا هريرة في هذا؟! ومن كان يخطر في باله أن الكعبة ستهاجم؟ فكان يحفظ أشياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحدث بها؛ لأن عقول الناس آنذاك لا تتحملها.

ولاية أبي هريرة رضي الله عنه للمدينة

من عدالة أبي هريرة: أنه ولي الإمارة في المدينة، فكان معاوية تارة يوليه، وتارة يولي مروان ، وعمر رضي الله تعالى عنه استعمله على البحرين أو أرسله مع العلاء، فقد ولي الإمارة لعدالته، وكان آخر أمره أنه لازم بستانه في العقيق، ومات بالمدينة رضي الله تعالى عنه عن ثمانين سنة، بعد أن خلف لنا آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الحث على الصبر في طلب العلم

أطلنا في ترجمة أبي هريرة لتعلقها:

بمنهجه في تحصيل العلم عن رسول الله، ومن ينقطع للعلم يحصل على بعض ثمرته، والعلماء يقولون: أعطه كلك يعطك بعضه، إن أعطيت العلم كلك، وتفرغت له ليلاً ونهاراً، أعطاك بعضه.. وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فإذا أعطيته كلك ويعطيك بعضه؛ فكيف إذا كنت تعطيه البعض الأقل؟! كيف إذا كان يزاحمه في قلبك الشيء الكثير؟ ورحم الله الشاعر الشنقيطي الذي يقول:

جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب

ذل: أي تواضع لمن تأخذ عنه، تواضع لمن كان أكبر منك، وارحم من كان دونك، وابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجم لنا هذا عملياً، يقول: كنت غلاماً عند أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لشاب: هلمّ نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كثر، فقال: أتظن أن الناس يأتيهم يوم يحتاجون فيه إليك؟ قال: فقمت أنا، وقعد هو، فكنت أسمع بالحديث عند الرجل ولو آذنته لجاءني، فأتبعه من المسجد وأمشي خلفه، إلى أن يأتي إلى بيته، وأريد أن يلتفت عند دخوله البيت فيراني فيكلمني، فيدخل البيت ولا يتلفت، فأجلس على باب بيته حتى يخرج إلى الصلاة المقبلة، أضع ردائي على وجهي وتسفي الرياح على التراب، فيخرج الرجل فيقول: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لو أعلمتني لجئتك، فأقول: العلم يؤتى إليه.

وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يمشي مع زيد بن ثابت، وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول: يا ابن عم رسول الله! إما أن تركب أو أنزل؟ فيقول: لا أركب ولا تنزل، هكذا أمرنا أن نكون مع علمائنا..

جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب

ليس ذل الصغار ولا الهوان، ولكن التواضع في طلب العلم.

لقد رسم لنا جبريل عليه السلام صورة طلب العلم، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور: دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد منا، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يديه على ركبتيه وقال: أخبرني عن الإسلام؟... وهذه جلسة المتعلم المؤدب، جلسة من يطلب العلم، ويوقر من يأخذ عنه.

وسغب في البيت المذكور هو الجوع، ويقولون: الإنسان إذا ملأ بطنه، وأعطى نفسه كل مطلوبها تبلد الذهن، ويقل الذكاء مع كثرة الشبع، ومن عادة العلماء في طريقة التعليم أنهم يلزمون الطالب في بداية النهار أن يحفظ قبل أن يفطر، وبعد أن يحفظ ويُسمّع ورده، يؤذن له بأن يتناول الإفطار بعد ارتفاع الشمس، ولذا يقولون: إذا أردت أن تحفظ أو تذاكر مسألة عويصة عليك؛ فلا تأتها وأنت على شبع، وإنما وأنت خالي المعدة، وقوله في هذا البيت: (ذل وسغب)، أي: لا تشغلك الدنيا وملذاتها عن طلب العلم.

ومن هنا أقول: إن فترة الدراسة بالمنحة الدراسية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هي الفرصة الذهبية في حياة طالب العلم؛ لأنه يقضي -على أقل تقدير- سبع سنوات، ثلاثاً في الثانوية، وأربعاً في الجامعة، وإن قدر له دراسات عليا أربع أو خمس سنوات كان مجموعها عشر سنوات، يقضيها منقطعاً للدراسة، ليس كالمهاجرين يشتغلون بالأسواق لطلب المعيشة، وليس كالأنصار يشتغلون في البساتين لإصلاح أموالهم، ولكن تجارته ومزرعته وكل شيء -في هذه الفترة- هو درسه وطلبه للعلم ما بين الجامعة والمسجد النبوي الشريف الذي جعل الله فيه البركة لكل طالب علم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الآتي إليه معلماً كان أو متعلماً كالغازي في سبيل الله.

ولو تتبعنا ترجمة أبي هريرة لخرجنا عن موضوع الحديث، ويكفينا هذا القدر، ونرجع إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجوب اجتناب ما نهى عنه الشرع

يقول أبو هريرة : (سمعت) وإذا ذكر السماع فمعناها: التلقي بواسطة السمع مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) (ما نهيتكم عنه): شيء عام، ويقول علماء اللغة: أعم العموم لفظة شيء، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] فشملت كل كائن.

وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمل ما كان في السنة ابتداءً أو كان في كتاب الله، فهو المبلغ عن الله، فكل ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نهى عنه الله، وما حكم النهي؟ اجتناب المنهي عنه، ولذا قال العلماء: النهي يقتضي الفساد، والنهي إما أن يكون في العقود وإما في العبادات، إما في عبادة أو معاملة، فالنهي في المعاملات يقتضي: الفساد، والنهي في العبادات يقتضي: التحريم والبطلان.

وإذا تتبعنا النواهي سنجد أنها شرعت لحفظ الكليات الخمس وهي: الدين، والدماء، والنفوس، والأموال، والأنساب.

وقال صلى الله عليه وسلم: (فاجتنبوه) بدلاً من (فاتركوه)؛ لأن الترك قد يكون بعد فعل، وقد يكون بمجرد الكف، أما (اجتنبوه) فمعناها: أن تكون أنت في جانب والمنهي عنه في جانب آخر، وبينكما مسافة بعيدة.

إذاً: (فاجتنبوه) أبلغ من (فاتركوه) أو (فلا تفعلوه).



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع [1] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net