إسلام ويب

جزاء امتثال الأمر بغض الصوت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فقد تقدم الكلام على الآيتين الكريمتين في أول السورة الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، والتي تليها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2]، إلى آخر الآية.

وهنا يأتي قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3].

في الآية التي قبلها (لا تَرْفَعُوا)، وهذه الآية بيان لمفهوم المخالفة؛ لأن من لم يرفع صوته يغضه، وهذا في النسق القرآني الكريم يدل على الترابط بين الآي والآي.

ويقول علماء الأصول: إن النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ويمثلون: إذا قلت لإنسان: اسكن، فقد أمرته بالسكون ويتضمن النهي عن الحركة، وإذا قلت له: صم، فإنك أمرته بالصوم ونهيته عن الأكل والشرب ومبطلات الصوم.

ففي الآية الأولى (لا تَرْفَعُوا)، وعكس رفع الصوت غضه.

فالآية الكريمة الثالثة جاءت بنص مفهوم الآية التي قبلها، وبيّن سبحانه مكانة من تأدب بأدب القرآن ونتيجة هذا الامتثال، إذا قيل لهم: (لا ترفعوا أصواتكم)؛ فحالاً يمتثلون ويغضون الأصوات، وبيّن نتيجة هذا الامتثال السريع فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ).

ومجيء (إن) هنا راجعة لتبعيض الصوت، أو راجعة لتبعيض الغض منه، فقد يضطر الإنسان في حالة شديدة ويرفع صوته ليبلغ مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الحالة لا يعاب عليه؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلى ما يريد إلا بهذا النوع من رفع الصوت، فلا يكون في ذلك ارتكاب للمنهي عنه، أما في الأمور العادية فلا يرفع صوته بل يغض منه.

والغض من الشيء: التنقيص منه، كما في غض البصر، فهو كف البصر عن النظر إلى منتهاه، وإنما يغض بصره ويكفه عما لا يحل له.

حالات جواز رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفي هذه الآية يبيِّن سبحانه وتعالى جزاء الذين امتثلوا بالأمر السابق (لا تَرْفَعُوا)، أو بالنهي المتقدم وغضوا أصواتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ).

إذاً: الظرف هنا معين، بغير ما لو لم يكن عندهم رسول الله، وقد يضطره الرسول بنفسه، وقد يضطره غيره بحضرته صلى الله عليه وسلم لمصلحة عامة، كما جاء في غزوة حنين لما فوجئ المسلمون بنبل الأعداء فانصرفوا وولوا الأدبار فوقف صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وأعلن ونادى: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب).

وهذا في عرف العسكريين في غير شخصية رسول الله مخاطرة، ولكن هذا من الأدلة على ما كان صلى الله عليه وسلم يتمتع به من الشجاعة والقوة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: نُرَى أنه أعطي قوة أربعين رجلاً منا.

والعادة العسكرية أنه حينما ينكشف الجند في المعركة فالقائد يخفي نفسه؛ لأنه المسئول عن سير المعركة، فإذا قُتل القائد ذهبت قوة الجيش واضطربت أموره، فالقائد يكون دائماً في مؤخرة الجيش أو في مكان آمن، ويخفي نفسه، وقد قيل: إن هتلر كان يدير المعارك في منطقة في الجو.

الذي يهمنا في هذه الحالة: أنه صلى الله عليه وسلم بعد قرار أصحابه وانكشافهم عنه، وقف وأعلن عن نفسه: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، ثم قال للعباس : (نادي أصحاب السمرة).

والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، أي: الذين بايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله، وقيل: على أن لا يفروا، وقد رضي الله عنهم، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، فنادى العباس بأعلى صوته، فنادى وجهر بالصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.

ويقولون: إن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذا صاح في البرية ربما فزعت الوحوش من صوته، وإذا وقف في المدينة كانت له أرض بالغابة، وإذا أراد من عماله شيئاً جاء إلى سلع ونادى إلى عماله فبلغ صوته عماله في الغابة.

إذاً: قد يتطلب رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.

امتحان الله للمؤمنين بأوامره لهم

قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3].

الامتحان في اللغة: التخليص، ومنه: عرض الذهب على النار؛ لأن الذهب من حيث هو: ذهب معدن نفيس لا تحرقه النار، ولا تنقص من معدنه شيئاً، وإذا ما وضع على النار وأذيب ليست له فقاقيع كالزيت أو كالرصاص أو غيره، إنما يتموج متماسكاً كالزئبق.

والذهب من حيث هو: معدن نفيس لا يصلح للصياغة خالصاً، ولابد أن يضاف إليه معدن فيه صلابة، وهو النحاس، فيضاف مثلاً إلى الثمن ثلاثة قراريط من الأربعة والعشرين؛ حتى يمكن أن يصاغ فيصير صلباً صالحاً للاستعمال.

ونحن نسمع: عيار (21)، وعيار (18)، وعيار (20)، فكيف يتوصلون لذلك؟

في دُور الدمغ أو الضرب والصك يأخذون من السبيكة التي وزنها -مثلاً- كيلو جرام، عشرة جرامات أو جرامين فيعرضونها لنار مرتفعة إلى درجة مائتين فهر نهايت، فتذيب الذهب وتحرق ما معه من معدن آخر ويتبخر ويتلاشى، ويبقى المعدن الصافي من الذهب، فيعيدون وزن الباقي، ويقارنون بينه وبين وزنه قبل الاحتراق -كم نقص وتبخر؟- فيعرفون الجزء المضاف إلى الذهب، ويعرفون كم عيار هذا الموجود، فيكتبون عيار كذا، بنسبة ما فيه من معدن أجنبي عنه، ويقولون لك: عيار كذا، أو كذا. بقدر ما فيه من ذهب خالص.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ بمعنى خلّص، كما أن امتحان الذهب بالنار يخلصه من شوائب أي معدن آخر.

إذاً: قلوبهم أصبحت أوعية للتقوى، وليس في قلوبهم شيءٌ آخر قط غيرها، فطهرت ونقت، وتعطرت واستقبلت التقوى في تربة خصبة خالصة لا تشوبها شوائب أخرى.

بمثل هذا تكون التقوى في قلوبهم ذات فعالية قوية، بخلاف ما إذا كانوا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهذا أمر متموج، وبخلاف ما إذا كان خالصاً صافياً إلى آخر أمره، فهؤلاء بمقتضى صفاء قلوبهم، وما خلصت فيه من التقوى، يكون العكس في ذلك هو غض الصوت عند رسول الله؛ لأن رفع الصوت عند إنسان ليس دلالة على احترامه وتوقيره، وغض الصوت عند إنسان دلالة على توقيره واحترامه، ولو لم يكن له سلطان عليه، ولكن إكراماً وإجلالاً له، كما قيل:

أهابكِ إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها

فيهاب ويوقر لا لمخافة ولا لذلة، ولكن توقيراً ومحبة لمن يهابه ويوقره بغض الصوت عنده، وهذا هو غاية إكرامهم وتأدبهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

مغفرة الله لذنوب المؤمنين

قال الله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ، إذا كان عظيم يستعظم شيئاً: أيكون هذا الشيء بنفسه عظيماً أم حقيراً؟ العظيم لا يستعظم الحقير. لو أن الحقير استعظم شيئاً نقول: صحيح؛ لأنه أعظم منه؛ لأنه حقير، لكن عظيم يستعظم شيئاً معناه: أن ذلك الشيء هو في ذاته عظيم، فإذا كان المولى يقول: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ، لا يقدر قدر هذا الأجر الذي استعظمه الله إلا الله، ويكفي في وصف الجنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).

والمغفرة: الستر، ومنه المِغفر الذي يغطي به الفارس رأسه عند القتال، فالمغفرة وغفران الذنوب هو تغطيتها وسترها، والعفو إزالتها ومحوها نهائياً.

فهؤلاء الصنف من الناس الذين تأدبوا بأدب القرآن، وأصبحوا يغضون أصواتهم عند رسول الله لهم هذا الأجر العظيم.

وتعقيباً على ما تقدم عند السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على الإنسان أن يغض من صوته ولا يرفعه، وسيأتي بيان خلاف ذلك، وماذا قال الله تعالى فيمن يفعل ذلك.

أدب نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4].

ترابط الآيات للدلالة على الآداب

لاحظوا هذا النسق القرآني الكريم: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ، هل الذي ينادي إنساناً من وراء بيته: أغض من صوته أم جهر بالقول؟ بل جهر بالقول. وارتكب عدة أخطاء أدبية.

وهذه الآية الكريمة اشتملت على أنواع من الآداتب التي ينبغي أن نتأدب بها في حق النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: الآية الأولى: أدب للأمة في حق الرسالة، أن يتبعوا ولا يبتدعوا.

والآية الثانية: توقير للرسول صلى الله عليه وسلم في شخصيته بالنبوة.

والآية الثالثة: بيان لمفهوم المخالفة للأمر الذي تقدمها.

وتأتي هذه الآية وتبين من لم يغض من صوته بعدما نهي عنه لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ويلزم غض الصوت، وتأتي الآية الرابعة لبيان ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ، الحجرات: جمع حجرة، والحجرة: السكن.

إذاً: أدب الأمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته كرب أسرة، وبيان أن للبيوت حرماتها، وخاصة حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ليس من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات والآداب أن يأتي الإنسان من تحت النافذة ويقول: يا فلان، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، وتستأذن بلطف، وتتجافى عن الباب، ولا تأت مقابل الباب فتفاجئ من يأتيك، بل تستأذن وبلطف.

وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، قد يكون صاحب البيت معذوراً، قد يكون في حالة لا يريد أن تراه عليها، وقد يكون مشغولاً بما هو أهم.

إذاً: صاحب البيت أدرى بحالته، إن أذن لك دخلت، وإن لم يأذن لك انصرفت ولا تغضب، فهو أزكى لك وأطهر وأنقى.

معذرة الإخوان لبعضهم فيما بينهم

جاء العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم ومعه عبد الله بن عباس وما زال فوجد الباب مفتوحاً، فاستأذن العباس على رسول الله ثلاث مرات فلم يأذن له، -ويقولون كان في بني هاشم حدة- فعاد مغضباً، فأدرك الغلام أن أباه غضب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن له بالدخول، فقال: يا أبت! لا تغضب لعله مشغول مع الرجل الذي هو جالس عنده، قال: أوعنده رجل؟ قال: بلى. قال: ما رأيته، قال: بلى رأيت رجلاً عنده يحادثه، فجاء راجعاً، ولما جاء راجعاً استأذن فأذن له، فقال العباس: يا ابن أخي.. جئت فاستأذنت عليك ثلاث مرات فلم تأذن لي، وقال لي الغلام: لعلك مشغول بالرجل الذي كان عندك، وأنا لم أر أحداً، وجئتك الآن فأذنت لي لأول مرة، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلام وقال: (رأيته؟ قال: نعم. قال: ذاك جبريل) فهو لم ينتبه له حتى يأذن له أو لا.

وأيضاً: قد يمر الإنسان على أخيه وهو مشغول البال أو تأتي مناسبة فيناديه أو يكلمه فلا ينتبه له، ففي هذه الحالة عليه أن لا يأخذ في خاطره ومما يروى في ذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يوماً فمر على عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فوجده جالساً في طريقه وهو ذاهب إلى بيت أبي بكر فسلّم عليه فلم يرد عليه السلام، فلما دخل على أبي بكر قال: أشكو إليك أخاك عثمان ، مررت عليه جالساً في مكان كذا، وسلمت عليه فلم يرد علي سلام.

وهذا من حق الأخوة أن لا يبقيها في صدره حتى تسوء الصلة بين الإخوان، بل حالاً استفسر عنها، ولا تتركها، ليكون القلب على أساسه امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3]، فما انتهى عمر من كلامه إلا وعثمان يستأذن على أبي بكر رضي الله عنهم.

فقال له أبو بكر : ما لك يا أخي عثمان على أخيك عمر يسلم عليك فلم ترد عليه السلام؟ قال: ومتى هذا؟ وأين؟ فقال عمر: وأنت جالس في مكان كذا. قال: والله ما سمعتك ولا شعرت بك.

وهنا انتبه عمر رضي الله عنه وظهرت حقيقة الأخوة، فقال: فيما كنت مشغولاً إذاً؟ وهذا يهم عمر ، لأن أخاه مشغول البال، فلعله يساعده فيما شغل به، ويخفف عنه، فقال: فيم كنت مشغولاً إذاً؟

قال: جلست أتفكر ثم عرض لي ميراث الجد والإخوة، فكنت أفكر وأقول: يا ليتنا كنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمه.. فقال: والله ما أخرجني من بيتي إلا هذا.

إذاً: الإنسان قد يأذن لمن يستأذن عليه، وقد لا يأذن له أو لا يسمعه، والإنسان قد يحدث أخاه أو يسلم عليه وهو لم يشعر به سواء لثقل في السمع، أو لقلة في الصوت، أو لانشغال البال، فإذا حدث ذلك فلا ينبغي أن يحمل على أخيه.

وبهذه المناسبة أيضاً: جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إذا بلغتك مقالة عن صديق لك أو أخ لك مسلم، وفيها خمسون احتمالاً على معنى سيء واحتمال واحد لمعنى حسن فاحملها على المعنى الواحد الحسن ولا تظن بأخيك شراً).

وكنت أسمع والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: (الشائع عندنا في بلادنا من باع أخاه بخمسين زلة باعه بيعة وكس)، يعني: بيعة رخيصة.

إذاً: يجب على الإنسان أن يغتفر لأخيه إساءته، وأن يصرف ما وصله من أخيه على أحسن احتمال.

ثبوت إمكانية رؤية البشر للملائكة

لما استأذن العباس رضي الله عنه ولم يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ في نفسه فأخبره الغلام بأنه شاهد عنده رجلاً وهذا من الشواهد على أن الملائكة عالم موجود، وإن كانوا عالماً نورانياً خفياً عن أبصارنا فإن رؤية واحد من البشر لواحد من الملائكة، ممكنة، كما يقال: الواحد بالجنس كالواحد بالكل، فإذا وُجِد واحد من الملائكة رآه واحد من البشر، فيمكن لجميع البشر أن يروا جميع الملائكة؛ لأن ما جاز على الفرد جاز على المجموع.

وهذا من الشواهد، وكذلك ما جاء في حديث عمر: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد) وهذا يبين دقة عمر في الاستدراك.

إذا كان بهذه النظافة والأناقة، ولم يكن مسافراً ولم نعرفه، فليس من أهل المدينة فنعرفه، وليس قادماً من سفر فيكون أشعث أغبر.

إذاً: من أين أتى؟

هل طلع من تحت الأرض أو نزل من السماء؟! يقول عمر فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم... كما في حديث جبريل الطويل، فلما ولى قال: (إنه جبريل).

إذاً: رآه كل من كان في المسجد، ثم قال: (أتاكم يعلمكم دينكم).

سبب نزول قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات)

يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ [الحجرات:4] نداء الإنسان في بيته من وراء الحجرات يتنافى مع الآداب العامة.

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [الحجرات:5]، ومع ذلك مادام أكثرهم لا يعقلون وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:5].

ويذكرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة: أنه وفد من تميم -وكان المسلمون قد أخذوا لهم أسارى- جاءوا يفادونهم، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم فادى البعض وأطلق البعض عفواً، لو صبروا لكان قد أطلق الجميع.

وقد كان مجيئهم في وقت القيلولة، ووقت القيلولة حق لكل إنسان أن يستريح ويقيل فيه، وكان الواجب أن ينتظروا حتى يخرج لصلاة العصر ويكلمونه، لكنهم ما صبروا، فنادوه في وقت الراحة يريدونه أن يخرج إليهم في وقت قيلولته.

فأزعجوه وأقلقوه وواجهوه بكلمات ما كان يريدها، ولما نادوه ما أجابهم أولاً، فقالوا: يا محمد! اخرج إلينا، جئنا نفاخرك، والمفاخرة والمنافرة معروفة عند العرب:

المفاخرة: أن يأتي وفد إلى وفد ويذكر كل وفد مفاخر قومه.. فينا فلان الكريم.. فينا فلان الشجاع.. فعلنا من المكرمات كذا وكذا، ويكون هناك حكم من أهل العقل والروية يعرف طباع العرب فيحكم لمن يكون الفخار في هذه المفاخرة.

وكذلك المنافرة: تكون فيما بينهم من عداء وانتصارات ووقائع، فكانت هذه طريقة عند العرب وهي طريقة جاهلية.. وقد يتفاخرون بأمور جاهلية لا أصل لها.

فقال صلى الله عليه وسلم: (ما بالفخار بعثت) أي: أنتم جئتم لشيء أنا ليس لي به شأن، أنا لم أبعث بالفخار، إنما بعثت بالإسلام والإيمان والتواضع... إلى آخره.

فقال أحدهم: (اخرج إلينا فإن مدحي زين وذمي شين)، يعني: إن جئتنا مدحناك، وإن لم تخرج هجوناك أو ذممناك.

(وذمنا شين): أي: يطير عند العرب.. ويلصق بك..

(ومدحنا زين): يطير عند العرب ويكون فخراً لك.

هذا على مقاييس الجاهلية، فهم ما ارتفعوا إلى مستوى النبوة، ولا إلى ما هو عليه صلى الله عليه وسلم، ونسوا أنفسهم أنهم بشر كغيرهم، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ذاك الله عز وجل). أي: أن الله إذا مدح إنساناً فذاك المدح هو الزين، وأن الله إذا ذم إنساناً فذاك الذم هو الشين، لا ينقطع عنه.

فمثلاً: مدح الله سبحانه وتعالى أهل بيعة الشجرة فقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] امتدح الله أولئك فكان هذا المدح شرفاً لهم إلى يوم القيامة، وذم أبا لهب وزوجه فقال: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] من يستطيع أن يمحو هذا أو يرفعه عنهما؟ لصقت فيه وفي زوجه إلى يوم القيامة.

إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له مناديهم أو أميرهم: (إن مدحي زين وذمي شين)، قال له: (ذاك الله عز وجل)، لأن من مدح الله كان ممدوحاً وثبت له المدح إلى يوم القيامة، ومن ذمه الله لصق به هذا الذم إلى يوم القيامة، وهذا تصحيح للمفاهيم.

وأخيراً: خرج إليهم صلى الله عليه وسلم، فقال الأقرع بن حابس أو أميرهم: أتأذن لشاعرنا أن يتكلم -وكل كتب التفسير تذكرها خاصة أبو حيان وابن كثير - فقام شاعرهم وفاخر بقومه في الحروب والغنائم فدعا رسول الله حسان وقال: (يا حسان أجبه)، فقام وأجابه على نفس الروي، وافتخر بوجود رسول الله وباتباعه وبنزول القرآن عليهم وبهدايتهم إلى الإسلام، ثم قال: ائذن لخطيبنا، فقام خطيبهم وخطب، وطلب من ثابت بن قيس الذي جاء ذكره سابقاً وهو ثقيل السمع، وكان خطيب رسول الله، فقام فخطب، ثم قال أمير الوفد: والله إن هذا الرجل لمؤتى -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- شاعره إن من شاعرنا، وإن خطيبه لأفصح من خطيبنا وأسلموا، ثم فادوا نصف القوم، وأطلق صلى الله عليه وسلم لهم النصف الآخر.

دفاع الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم

قال الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ [الحجرات:4]، لما كانوا ليسوا كلهم سواء بل (أَكْثَرُهُمْ).

إذاً: البعض منهم عنده عقل أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، فمن لم يعقل فهو في حكم الجاهل، ولما كانوا على حكم الجهالة كان الحكم في الأخير وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، لجهالتهم.

هذه الآية تعتبر دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في من جاءوا وانتهكوا حرمة بيته وهو موجود فيه كرب أسرة.

وكما تقدم أنه قد يكون للشخص الواحد عدة جوانب، وكل جانب له لوازمه، فتأتي مثلاً إلى أمير دائرة، وهو رئيس الدائرة في دائرته له الرئاسة والأمر والنهي، إذا خرج إلى السوق ليتقضى بعض الشيء فهل أوامره التي يصدرها في الدائرة يملك أن يصدرها في السوق؟ لا. فهو في السوق مثله مثل غيره.

إذا عاد إلى البيت، فهل منزلة الرئاسة وسلطانها تُفرض على البيت؟ الطفل الصغير يرد عليه ويعصي أوامره.

إذاً: جانب هذا الإنسان في رئاسته له حدود، وله صفات، وجانبه في السوق له مواصفات وحالات، وجانبه في البيت له صفات وحدود، فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.

في جانب الرسالة له حقوق الرسالة والاتباع، وفي جانب شخصه وتكريمه ونبوته له التوقير والتعظيم، وفي جانب كونه رب أسرة وفي بيته له جانب احترام حرمة بيته، وهكذا له عدة جوانب، وسيأتي الجانب الأخير بعد هذه الآية الكريمة.

من هنا أيضاً أيها الإخوة نرجع ونقول: كما أن الآيتين المتقدمتين معمول بهما إلى اليوم وإلى قيام الساعة في أنه لا يحق للمسلمين أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا بين يدي سنة رسوله الموجودة الآن عوضاً عنه، وكذلك لا ينبغي لهم أن يرفعوا أصواتهم عنده حين السلام عليه، فكذلك هنا لا ينبغي لهم أن يأتوا من البعد وينادوا من وراء الحجرات للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) عن هذا النداء (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) في احترامهم لرسول الله، وفي توقيرهم لحرمة بيت رسول الله، وفي الأمر الذي جاءوا من أجله وهو مفاداة الأسارى.

عتاب الله لداود عليه السلام لتركه حوائج الناس

دائماً نقارن بين هذا الموقف: دفاع المولى عن رسوله صلى الله عليه وسلم فيمن أخطأ عليه، وبين قضية نبي الله داود، حينما كان يعتكف في محرابه وجاء إليه الخصمان وتسورا عليه، بأنه كان الفرق في ذلك في توجيه الله لنبي الله داود في موقفه في محرابه، وثمة فرق بعيد بين أن يدافع الله عن رسوله ممن جهل حرمة بيته، ومن يرسل إليه الملائكة يتسورون عليه المحراب، وذلك كما في سورة ص: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17] .. فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص:22] إلى آخر الأبيات.

فنبي الله داود قد آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وجعله خليفة في الأرض ليحكم بين الناس، فهذه مهمته وهذا منصبه وهذه مؤهلاته، لكنه قسم زمنه إلى أثلاث: يوم لأهل بيته وشأنه الخاص، ويوم يجلس فيه للحكم بين الناس، ويوم يخلو ويعتكف لله سبحانه وتعالى في محرابه، ولكن.. هل الرسل بعثوا ليعتكفوا في المحاريب؟ وهل القضاة يتركون القضاء بين الناس ويعتكفون؟

لا. فأداء الواجب مقدم على ذلك، فلما حصل من داود عليه السلام ما حصل وكان الخلطاء في حالة لا ترضى، بعث الله له ملكين تسورا عليه المحراب ففزع منهم، قالوا: نحن خصمان بغى بعضنا على بعض، وذكرا له القضية، وهي قضية محلولة لا تحتاج إلى قضاء، رجل عنده تسعة وتسعين نعجة والثاني عنده واحدة، فقال صاحب: التسعة والتسعين: أعطنيها أكمل المائة، وهذا ظلم لو عرضته على طفل صغير لقال: لا. هذا ظالم، ولا حاجة إلى قاضٍ صاحب اجتهاد قد أوتي الحكمة.

هل سمعتم بأن اثنين بغى بعضهما على بعض، وقالوا: يا أيها القاضي احكم بيننا، حتى في أيامنا المدعى عليه ظالم ويعرف ذلك ولكنه يحتاج إلى مراسلة عشرين مرة، ويحتاج إلى إرسال الجنود حتى يأتوا به، متغيب ويعرف نفسه أنه ظالم، ونحن كلنا متفقون على هذا.

إذاً القضية منتهية.

لكن ليرشد نبي الله داود بأن مهمته ليست الاعتكاف وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ص:24]، سبحان الله، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ [ص:24]، أي: بترك الخلطاء يبغي بعضهم على بعض وهو معتكف في محرابه، وما دمت تعترف بأن الخلطاء يبغي بعضهم على بعض فلماذا تتركهم ومهمتك الأساسية الخلافة في الأرض، وقد آتيناك الحكمة وفصل الخطاب؟ لماذا تعطل هذا وتأتي إلى محرابك تعتكف؟

هذه هي حقيقة الفتنة المذكورة في سورة ص، ولن يكون للمرأة دخل في هذه القضية البتة؛ لأن الله قدم لهذه القصة، فقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) وإضافته بصفة العبودية أعظم في التكريم وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ [ص:17]، صاحب القوة المعنوية، والقوة المادية، إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، شديد الأوب والرجوع إلى الله.

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19] سبحان الله! إنسان أعطي القوة، ويسخر الله الجبال معه بالتسبيح، ويجمع الله الطير عليه حينما يسبح فتسبح معه، وهو شديد الأوب إلى الله ويفتن بامرأة؟! والله ولا حتى المجنون يصدق هذا.

إذاً سياق القصة يدل على نزاهة نبي الله داود، وأن حقيقة الفتنة هو ما ذكر، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص:24].

إذاً: ما دام تعلم ذلك، وهذه هي الفتنة، وهل تكون الفتنة في العبادة؟

نعم. معاذ رضي الله تعالى عنه كان يسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وراءه العشاء في المسجد النبوي، وبعد أن يصلي مع رسول الله يذهب إلى أهل قباء فيصلي بهم العشاء، وفي ليلة من الليالي بدأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2] .. وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، الم [البقرة:1]، إلى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا [البقرة:285]، جاء رجل من مزرعته متعب في عمل نهاره ودخل معه في صلاة العشاء، لما وجده بدأ بسورة البقرة واسترسل فيها، قال: والله لن يرده شيء حتى يختمها، وانفصل عنه وأتم صلاته وذهب إلى بيته، فلما أصبح أُخبر معاذ بذلك، قال: إنه رجل منافق، وكلمة منافق ليست هينة على المسلمين وخاصة في الصدر الأول، فذهب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكاه، وقص له القصة، فدعاه رسول الله: (ما هذا يا معاذ ؟ أتريد أن تكون فتاناً)، فسمى رسول الله الإطالة في القراءة والقيام على الناس الضعفاء فتنة، ثم قال (من أم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف وذو الحاجة، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، والليل إذا يغشى).

أين أنت من قصار السور ولا تشق على الناس في طول القيام فتفتنهم.

إذاً: قد تكون الفتنة في العبادات، وهذا نبي الله داود عليه السلام في محرابه لما ترك المهمة التي من أجلها استخلف، ومن أجلها أوتي مقوماتها، وهي الحكمة وفصل الخطاب، وترك الخلطاء -وهم الرعاة- يبغي بعضهم على بعض، عندها ترك مهمته الأساسية؛ فكان الفساد يعم خارج المحراب وهو ساكت عنه وهذا لا ينبغي، ولهذا كنا دائماً ننبه فيما يتعلق بآيات الصيام، عند قوله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]: إن كل من تتصل به مصلحة الجماهير لا يحق له أن يعتكف ويعطل مصالح المسلمين إلا إذا كان هناك من ينوب عنه، حتى قلنا: يدخل فيهم السقايين والفرانيين وعمال النظافة؛ لتعلق مصالح المسلمين بهم.

مكوث النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس

عاتب الله سبحانه وتعالى الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وهناك عاتب الله داود عليه السلام الذي كان معتكفاً وراء الأسوار، وفرق بين هذا وبين ذاك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكوثه بين الناس واعتكافه في المسجد وأبوابه مفتحة، وما امتنع في لحظة من الحظات عن الناس بخلاف صلاة الليل أو موضع النوم فهذا أمر يشترك فيه الجميع، وإلا فقد كان من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء وهو في مصالح الناس، كما جاء عن جميلة بنت فلان أنه صلى الله عليه وسلم خرج لصلاة الفجر فإذا سواد عند البيت، فقال: (من هذه؟ قالت: جميلة بنت فلان، قال: ما شأنكِ؟ قالت: زوجي فلان لا أنا ولا هو، فاستمهلها حتى صلى واستدعى زوجها وقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم.. أردها وزيادة، قال: أما الزيادة فلا، فقال له: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة). فهذا رسول الله في مصالح المسلمين من طلوع الفجر.

وأبعد من هذا: رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه وقال: (يا رسول الله! لي بعير قد ندّ عليَّ، عنده جمل هاج عليه، فما دخل الرسول في هذا؟ ولكن.. بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] .. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فقال: قوموا بنا إلى بعيره، فلما أقبلوا على البستان والبعير، قال أبو بكر : على رسلك يا رسول الله الجمل هايج، قال له: (بل على رسلك أنت يا أبا بكر)، وتقدم ودخل البستان على الجمل الهايج، فلما رأى الجمل أن رسول الله قد دخل البستان أقبل عليه ووضع عنقه على كتفه، وصبر وأصغى إليه رسول الله.

سليمان يقول: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، وهذا يستمع لمن؟ للجمل، ولذا يقول السيوطي رحمه الله: ما أوتي نبي معجزة إلا وأوتي نبينا نظيرها.

ثم رفع البعير رأسه والتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه وقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي -يعني: حصلت بينكما خصومة- قلة العلف وكثرة الكُلف)، هذه العبارة كما يقولون: تعطي قانون توازن الحياة بكاملها عند الإنسان والحيوان وكل الكائنات.

قانون المبادلة بين البعير وصاحبه؛ يعطيه العلف فيعطيه العمل، فإذا قلل في العلف قلت قوة البعير بقدر ما أعطاه، وإذا زاد في العلف زادت قوة البعير، وزاد في عمله الذي يعطيه، فبقدر البدل يكون المبدل، وأنت تذهب للسوق وتدفع وتأخذ، تدفع عشرة ريال تأخذ كذا، تدفع ألف ريال تأخذ أكثر، تدفع مليون ريال تأخذ عمارة، وقانون المبادلة هو الذي يسير العالم بين الإنسان والإنسان في المعاوضات، وبين الإنسان والحيوان في التكليف، حتى قالوا: هناك قانون للمعاوضة والمبادلة قائم بين الحيوانات نفسها.

وذكروا أن التمساح حينما يأكل فريسته في الماء؛ فإنه لا يستطيع أن ينظف أسنانه كما تفعل الهرة وبقية الحيوانات، فالهرة إذا أكلت بلسانها نظفت نفسها كأحسن ما يستاك المسلم، لكن التمساح لا يستطيع؛ لأن طواحينه فيها شوك في الأركان الأربعة مثل الإبر، فلا يستطيع أن يمرر لسانه عليها وينظفها، فيخرج إلى البر ثم يأتي طائر خاص من أنواع الطيور ويقع في وسط فم التمساح، ويأخذ يلتقط تلك الفضلات الموجودة على طواحينه، فمن جهة يشبع الطائر، ومن جهة يتنظف فم التمساح.

وقد سألت طبيباً بيطرياً عن السبب في أن هذا الطائر بالذات هو من يفعل هذه المهمة؟ فوصفه لي بأن حجمه بقدر الحمامة الصغيرة.

قال: هذه قدرة الله، وهذا ما اختص الله به هذا الطائر؛ لأن الله جعل لهذا الطائر شوكة فوق رأسه، فلا يستطيع التمساح أن يطبق فمه عليه، فهو يخاف من تلك الشوكة... سبحان الله العظيم!

إذاً: قانون المعاوضة هو الذي يحكم تصرفات العالم من إنسان وحيوان وحيوان... حتى الأرض والتربة؛ إذا أعطيت التربة سماداً وماءً وخدمة أعطتك إنتاجاً أحسن، وإذا أهملتها ما أعطتك أي شيء، وهكذا...

وعوداً على ذي بدئ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحتجب عن الأمة، وما كان يمنع أحداً من الوصول إليه، وكما قالت المرأة التي مر عليها في المقبرة ووجدها تبكي عند قبر لها فقال: (يا أمة الله اتقي الله واصبري، فلم ترفع رأسها، وقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي فأتاها إنسان، وقال: أتدرين من كان يكلمك؟ قالت: لا، قال لها: هذا رسول الله)، فأسفت المرأة على هذه المواجهة وتبعته، فكان قد وصل البيت فأتته وقالت: والله ما وجدت على بابه حارساً ولا باباً مقفلاً.

يعني: ما كان عنده حراس يمنعون الناس من الدخول عليه حتى بالليل، وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ حراساً، ولكن لما نزلت المعوذتان قال: (انصرفوا عني، لا حاجة لي بكم)، فهنا ما كان يمتنع عن أحد، فما كان هناك موجب ولا داعي لأن يأتي إنسان أو وفد وقت القيلولة أو الراحة وينادي: يا محمد اخرج إلينا، فهذا منافٍ للآداب، ومنافٍ للحقوق النبوية، والرسول صلى الله عليه وسلم ما تأخر عنهم.

والذي يهمنا مما سبق: هو المقارنة بين دفاع الله عن رسول الله فيمن ناداه من وراء الحجرات، وبين عتاب الله لنبي الله داود في اعتكافه وراء المحراب من أجل مصالح الناس، والله تعالى أعلم.

مكانة الحجرات في تبليغ الشرع

هنا لفتة قد يتساءل عنها كل عاقل، وهي: ما مكانة تلك الحجرات النبوية؟ كل إنسان يعتقد بأن الله قد شرفها سبحانه وتعالى بما وجه إليها زوجات رسول الله، فقال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34]، ويتفق المسلمون على أن الحكمة المذكورة مع آيات الكتاب هي السنة، وكن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ينشر السنة للمسلمين، وكل ما اختلفوا فيه من بعد وفاته عليه الصلاة والسلام أو أشكل عليهم ولم يجدوا له حلاً ولا جواباً يرجعون فيه إلى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجدون الجواب والحل العملي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا وجدت قضايا عديدة ذكرها مالك رحمه الله في الموطأ، منها: من أصبح جنباً في رمضان؛ هل له صوم أم لا؟ ومنها: قضية عمر فيمن جامع أهله ولم ينزل هل عليه غسل أم لا؟ ولم يجدوا عند أحد نصاً في ذلك، فأرسلوا إلى زوجات رسول الله فأجابوا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحة الصوم ووجوب الغسل، وغيرها..

إذاً: فالحجرات كان لها شأن كبير في إبلاغ السنة وبيان الأحكام، ويوم أن هدمت وأدخلت في المسجد في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة لبني أمية، قال بعض السلف: ليتها بقيت ليرى الناس ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي القادمون من الآفاق فيرون كيف كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التواضع والرضا بما قسم الله له: ولو أفردت الحجرات برسائل جامعية لكانت حرية بذلك، والله تعالى أعلم.

وبالمناسبة كانت الحجرات مطيفةً بالمسجد من الجنوب من ناحية القبلة، وتبدأ بحجرة حفصة ، وهناك الطاقة المواجهة تجدون جدار القبلة كله مصمت ما عدا طاقة مقابل الحجرة النبوية، كانت هناك حجرة حفصة ، وكان هناك دار آل الخطاب، وكان بين حفصة وعائشة كوة يتبادلن الحديث منها، ثم تأتي الحجرات من جهة الشرق بعضها إثر بعض حتى تصل إلى جهة الشمال، فكانت الحجرات بالمسجد من ثلاث جهات، الجنوبية من حفصة ، والشمالية لزوجات رسول الله، والشرقية لبعضهن أيضاً، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

حكم كشف الرجل عن فخذه

السؤال: ذكرتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً وفخذه ظاهرة، فدخل أبو بكر ثم عمر ... الحديث، كيف نوفق بين هذا الحديث وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه للأعرابي: (غطي فخذك فإن الفخذ من العورة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: هم يذكرون هذا ويقارنون بينه وبين كيف يكون ذلك، فيقولون: إنما هو بين إخوانه أبو بكر وعمر وفي بيته، ولعله لم يكن مكشوفاً كشفاً كاملاً، ويجبون عن ذلك بأجوبة، ولكن نقول: هذا صح عن رسول الله وهذا صح عن رسول الله، والله تعالى أعلم.

حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم لمن زار مسجده

السؤال: هل يجوز التوجه إلى القبر للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ولو من مؤخرة المسجد؟

الجواب: هذه المسألة يختلف فيها أهل المدنية من زمن الإمام مالك ، وإذا كان الإنسان من أهل المدينة وليس عنده وقت فهل كلما دخل إلى المسجد ويسلم وعندما يمر بباب المسجد ينحرف ويقول: السلام عليك يا رسول الله في نفسه، يقولون: كان مالك لا يرى في ذلك بأساً، ولكن ليس من باب: يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ [الحجرات:4]؛ لأنه في نفسه ولم يناد، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغونني عن أمتي السلام)، فكل إنسان بعد عن القبر الشريف وسلم على رسول الله؛ فإن أولئك الملائكة الكرام يحملون هذا السلام ويبلغونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان في المشرق أو في المغرب، فهذا الذي عند باب المسجد حينما يسلم في نفسه فهو داخل في هذا المعنى، والمعنى المنهي عنه أن يرفع صوته من عند الباب وينادي ويصيح: السلام عليك يا رسول الله. هذا هو المنهي عنه وهذا المتنافي مع الأدب معه.

ونجد بعض الناس يتوجه هنا مثلاً أو في ذاك الركن أو إلى تلك الحجرة ويقبض يديه ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، نقول: هذا تقصير منه في حق رسول الله؛ لأنه في المسجد، والذي في المسجد عنده وقت، وكان عليه أن يذهب إلى الحجرة الشريفة وأن ويسلم عن قرب، وسلامه هنا إما استعجالاً وإما كسلاً.فهذا لا ينبغي، بخلاف الشخص الذي هو مار في الطريق قد لا يكون متوضئاً، وحينما مر على باب المسجد نادته عاطفته أو من ناحية روحية أو وجدانية فسلم على رسول الله بمعنى الوجدان والشوق ولم يناد، ولم يرفع صوته، ولم يجهر، إنما هو أمر في نفسه استدعته إليه عاطفته ومحبته لرسول الله، فيكون داخلاً في من تبلغ الملائكة سلامه إلى رسول الله، والله تعالى أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحجرات [1 - ب] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net