إسلام ويب

رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري في أمور القضاء

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

النظر إلى الأشباه والنظائر عند القضاء

انظروا إلى أي مدى يسطر عمر منهج القضاء، وانظروا أيضاً ماذا يتعين على القاضي! (الفهم الفهم! وانظر الأشباه والنظائر) يعني: كن محيطاً بغالب القضايا المتقدمة، وبآراء سلف الأمة، وهذه حصيلة ليست بسيطة، ثم ينظر أيها أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله، هذه مسئوليات ليست بالهينة، وأي القضاة يدرك ويجمع ذلك كله؟

وكما قال مالك رحمه الله: لو أننا أخذنا بكلام العلماء فيما يشترط في القاضي أن يكون عليه، لما وجدنا أحداً يصلح للقضاء!

أي: لا يوجد أحد تجتمع فيه هذه الأمور، مع ما يذكرون في ذاته من الورع والتقى والصلاح والأمانة وذكر الله.. إلى آخره، ولكن يقضي بين الناس الأشبه فالأشبه، والأمثل فالأمثل، فمهما كانوا على حد من المعرفة أو من التقى، فلا بد أن نأخذ الأمثل فيهم وننصبه قاضياً عليهم، ولو لم يصل إلى درجة القضاة الذين يقول عنهم السلف.

المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا ما استثني من ذلك

(المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد).

والأصل في المسلم العدالة ما لم يجرح، فلو جاءنا شاهد مسلم لا نعرف ماضيه ولا حاضره وقال: أنا رجل مسلم وأشهد بأني سمعت.. أو رأيت كذا.. وجب على القاضي أن يسمع شهادته، حملاً على البراءة الأصلية (عدول بعضهم على بعض).

أما إذا كان يعلم فيه شيء، أو طعن الخصم فيه بشيء، فعلى القاضي أن يسمع الطعن، فإن كان طعناً يجرح في عدالته قال: ائتني بشاهد آخر، ولا ينبغي أن يقول: اذهب فشهادتك غير مقبولة، وإنما يقول لمن طعن فيه: ائتني بشاهد آخر.

(إلا مجلوداً في حد):

هنا استثناء، فممن لا تصح شهادته المجلود في حد إذا ثبت عليه حد ونفذ؛ لأنه قد يدعى عليه بحد ولا يثبت، وقد يدرأ الحد بالشبهة، لكن إذا ادعي عليه الحد وثبت عند القاضي، وأقيم عليه الحد، فحينئذ ترد شهادته.

(أو مجرباً عليه زور):

أي: إذا عرف في اليوم الفلاني أو في السنة الفلانية أنه شهد زوراً وشهر به، فيبقى أنه شهد زوراً وشهر به، فلا تقبل شهادته.

(أو ظنيناً في ولاءٍ أو نسب):

أي: عتق ولكن ولاؤه مظنون فيه، كذلك إذا كان مظنوناً في نسبه إلى أبيه، فلا تقبل شهادته؛ لأن الشاهد حين يشهد، يترتب على شهادته إثبات الحق على المدعى عليه.

فالشاهد له ولاية على المدعى عليه، ولا ينبغي أن يكون لمظنون النسب ولاية على إنسان غير مظنون؛ لأنه ليس من أهل الولاية.

(أو نسب أو قرابة).

فلا تصح شهادة القريب لقريبه، ولكن أي القرابة؟ جميع الحاضرين توجد قرابة بينهم، كما قال الأعرابي لـمعاوية : سألتك بالرحم التي بيني وبينك إلا أعطيتني، قال: ومن أنت يا أخا العرب حتى أعرف هذه الرحم؟ قال: أنسيت؟ قال: لا بأس ذكرني، قال: الرحم التي بيني وبينك في آدم وحواء.

فقال: والله صحيح! هذه رحم لا يمكن لأحد أن يجحدها، وهذه رحم تستحق الصلة، فأخذ وكتب له بدرهم، فأخذ الخطاب إلى بيت المال وقال له: خذ هذا عطاء معاوية ، فتأمل! أنت متأكد، قال له: نعم، فقام وأعطى له درهماً، فوضع الدرهم وقال: ما هذا؟ قال: هذا ما كتب لك في خطابك؛ إن كان لك اعتراض فارجع إليه، فرجع إلى معاوية وقال: ما هذا يا معاوية؟! تصل رحم آدم وحواء بدرهم! قال: والله يا أخا العرب لو أني وصلت هذه الرحم مع كل الموجودين ما بقي في بيت المال درهم.

فهنا القرابة ثلاث درجات: قرابة ذوي رحم من ذوي الميراث، وقرابة ذوي رحم ليسوا من ذوي الميراث، كابن خالته وابن خاله وخاله وخالته، فليسوا من أهل الميراث ولكن الرحم موجودة، لكن أخوه وعمه وابن أخيه وابن عمه هذه الرحم موجودة، والميراث موجود عصبة.

وقرابة ليست ذات رحم ولكنها أخوة الإسلام، فعندما نتفق معه في الجد العاشر، أو يكون هذا من قبيلة وهذا من قبيلة وليس بينهما اشتراك في ولادة ولا في شيء؛ فهذه -كما يقولون- أخوة في الدرجة النهائية.

إذاً: ما هي القرابة التي تمنع الشاهد أن يشهد؟

قالوا: كل قريب كانت في شهادته مظنة نفع للشاهد عن طريق المشهود له، فالزوج إذا شهد لزوجته فأين سيذهب المحكوم به؟

الولد لأبيه، والأب لولده، هل يشهد له؟ هناك من يقول: يشهد عليه ولا يشهد له، لكن الكل مرفوض؛ لأنه مظنة أن يجر النفع إليه.

إذاً: القريب الذي هو في الدرجة الأولى أو الدرجة الثانية من ذوي الرحم لا يرث؛ فهؤلاء لا تصح شهادتهم للإنسان، وكذلك لا يحق للقاضي أن يقضي بين اثنين أحدهما من هذه الطبقة في القرابة، فلا يقضي لأبيه ولا لولده ولا لزوجه.

والأخ مختلف فيه، فحينئذ القرابة مظنة جر النفع للمشهود له، فتمنع قبول شهادته.

(فإن الله تعالى تولى منكم السرائر)

هنا يجب أن يسمع القاضي الظاهر من الكلام، فإن الله تعالى تولى منكم معشر القضاة السرائر، لأن السرائر لا يعلمها الخصوم، ولا يعلمها عامة الناس.

إذاً: من الرقيب على القاضي؟ الله، ولهذا يقول أهل العلم: القضاء مستقل لا سلطة لأحد في الدولة على القاضي، ولا لرئيس الدولة ملكاً كان أو رئيساً، فلا يحق له أن يتدخل في الحكم، ولا أن يملي رأيه في توجيهه وإلا بطل الحكم، فإن الله تولى منكم السرائر فليتق الله معشر القضاة؛ لأن الرقيب عليهم والمحاسب لهم إنما هو الله، وكما يقولون: لا واسطة بين القاضي وربه.

العمل بالبينات والأيمان

(وادرء بالبينات والأيمان)

وادرء بالبينات والأيمان يعني: اقبلها واعمل بمقتضاها.

الغضب والقلق من المؤثرات على القاضي

(وإياك والغضب والقلق والضجر!)

أي: وإياك والغضب والقلق والضجر! فكل هذا منقصة في عدالة القاضي، وليس الغضب مخلاً بالعدالة، والأمور الغريزية والجبلية لا يقوى الإنسان على دفعها، ولما جاء الرجل وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصيه فقال له: (لا تغضب)، هل معنى هذا أن تنزع غريزة الغضب من ذهنك وأعصابك؟

لا، فإنك تغضب غصباً عنك، ولكن النهي ليس منصباً على ذات الغضب، ولكنه منصب على نتائج الغضب؛ لأن الغضبان يبطش، ويسب، ويؤذي ويتعدى، فلأجل هذا منع القاضي من أن يقضي وهو غضبان، وسيأتي الحديث بعد هذا في هذا الموضوع.

(والضجر)

إذا جاء خصم وصاح عليك، ومن الناس من يدخل المحكمة في خصومة تافهة، ولا يريد القضاء بها بقدر ما يريد أن يثير القاضي ويغضبه ليتكلم عليه، أي: أن بعض الناس قد يتعمد إثارة القاضي، والقاضي العاقل إذا عرف مراد هذا الخصم يمكنه من ذلك ولا يفوت عليه، ما لم يخل بحرمة مجلس القضاء، فإذا أخل بحرمة مجلس القضاء فللقاضي الحكم ابتداءً بسجنه إلى ثلاثة أيام، لأنه انتهك حرمة مجلس القضاء، ولا أحد يسأله عن ذلك.

إذاً: لا تضجر من الخصوم؛ لأنك إذا كنت في حالة الضجر هل تفهم ما يقال لك؟! وإذا كنت في حالة الغضب هل تفهم فهماً كاملاً ما يلقى إليك؟!

ولكن الغضب درجات، الطفل الصغير يغضب، والرجل يغضب، والمرأة تغضب، والحيوان يغضب، والقاضي إذا لم يكن عنده استعداد للغضب لا يصلح قاضياً؛ لأنه تنتهك عنده حرمات الله، أو يرى انتهاك حرمات الله في الدعوى ولا يغضب لها! لكن إذا غضب فليجعل الغضب في فعله ولا يجعله في لسانه ولا في عقله، ولهذا كنت أقول في مذكرة القضاء: على القاضي أن يجعل نفسه في فانوس من زجاج، يرى ويسمع، ولا يتعدى الفانوس الذي هو فيه، لكنه في زجاج يستطيع أن يرى أحوال الخصوم ويسمعها.

لكن إذا كان الغضب مطبقاً، فلا يحق للحاكم أن يحكم في وقته، والغضب المطبق هو الذي يبحثونه في باب الطلاق، ومثاله أن يقول: أنا كنت غضبان، وتكلمت وما شعرت، هذه هي محل الدعوى.

والأدباء يقسمون الغضب إلى أقسام: غضب أسود، وغضب أحمر، وغضب أخضر، وهذه اصطلاحات! فالغضب الأسود الذي يسيطر على الغضبان بحيث لا يرى أمامه شيئاً، ولا يفرق بين رجل وامرأة، ويتكلم بمقتضى الغضب وهو لا يدري ما يقول، والأحمر دون ذلك بقليل، والأخضر يكون في الأمور العادية، مثاله: أن تكون ماشياً في الطريق ورأيت رجلاً يضرب ولده، فأنت تتأذى وتغضب، لكن لا تملك شيئاً فهذا أب وهذا ابنه، وكما تغضب إذا لم يقدم لك الطعام على العادة المعلومة.

إذاً: الغضب المنهي عنه هو الذي يأخذ على الإنسان عقله ويصرفه عن مراده؛ لأنه في هذه الحال لا يدري ماذا يقول، ولا يعقل ما يحكم به.

الحذر من التأذي بالناس عند الخصومة

(والتأذي بالناس عند الخصومة)

أي: إياك أن تتأذى من الناس عند الخصومة، وذلك إذا تكلموا على بعض، إذا رأيت من فحوى المدعي أن خصمه ظالم، فلا تظهر التأذي منه وتظهر أنه ظالم، ومن أول وهلة تعلن ميولك أو عطفك على الطرف الثاني، فلا تتأذ بين يدي الخصوم، فلربما حمل أحد الخصمين تأذيك منه فييأس من عدلك.

(والتنكر عند الخصومات)

إياك والتنكر عند الخصومات! بأن تتنكر للطرفين، فلا ينبغي هذا، ولا بد أن تكون حليماً بشوشاً واسع الصدر، وأن تسمع من الطرفين، وكما تسمع من هذا تسمع من ذاك، ولو كنت تعلم من فحوى خطاب المدعي وبيناته أن المدعى عليه لم يأت بشيء، فعليك أن تسمع بهذا الذي ليس بشيء؛ لأنك توفيه حقه وتعطيه فرصة الدفاع عن نفسه.

(فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر)

فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله تعالى به للقاضي الأجر -وهذه من المحسنات أو الملطفات لتولي القضاء- ويحسن به الذكر بعد ذلك أو بعد تركك القضاء، فيثني عليك حتى الخصوم الذين حكمت عليهم، لأنه في قرارة نفسه يعلم بأن الحكم صحيح.

(ومن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس).. إلى آخر ما جاء في هذا الخطاب.

ويكفينا ما تقدم من القواعد والأصول والتوجيهات والإرشاد في هذا الكتاب المبارك، والذي أشرنا إلى أنه اختير في جامعات بعض الدول الأوروبية، وترجم وقرر في الدراسات القضائية، فعلى كل قاض قبل أن يجلس على منصة القضاء أن يحفظ هذا الكتاب.

والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دروس الحرم [18] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net