إسلام ويب

الدلالة العامة لقوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)

باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:

السؤال: فضيلة الشيخ! رأينا في بعض الكتب قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64] في ضمن الأدعية المسنونة عند زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هذا من السنة؟ وإن كان من السنة، فما المقصود بها؟

الجواب: أيها الإخوة الكرام: لعلها من ساعات التوفيق من الله سبحانه وتعالى أن نجتمع في هذا المسجد النبوي الشريف، وأن نستمع إلى هذا السؤال من الأخ السائل الكريم الذي عبرنا عنه بحسن الظن إن شاء الله.

ونحن أولاً نتناول صيغة السؤال، ثم نأتي إلى القضية في كتاب الله على منهج التفسير الموضوعي وليس الموضعي.

يقول الأخ الكريم: وجدنا في بعض الكتب. أعتقد أن هذه الصيغة صيغة مجهول، ولو سألنا كل إنسان -سواء الأخ السائل أو غيره- في أيِّ الكتب؟! أهي العلمية التي هي مراجع المسلمين في الفقه والأحكام، أم هي الكتب التجارية التي تطبع وتباع للزوار بقصد الربح والتجارة؟!

هذا أول ما يلزمنا معرفته؛ لأن هذه دعوى تتعلق بمعتقد، وتتعلق بحق المسلم وبهذه القضية، وهي: استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن جاءه، وكنت أود لو أن الأخ السائل الكريم أو غيره حتى لا يكون هناك إحراج أن يسمي لنا كتاباً من تلك الكتب لنعرفها جميعاً، ونحن نريد أن نبحث هذه المسألة بحثاً علمياً هادئاً إلى أبعد حد، من غضون سياق الآية أو جزء الآية في كتاب الله سبحانه وتعالى.

فإذا كنا لا نعلم عن هذه الكتب التي قرأ فيها، فأنا أقول له ولغيره: قد ذكر ابن كثير في تفسيره هذا القول، ولم يعقب عليه، ولكن قال: وقال شيخنا ابن الصائغ وقيل أو وذكر...

وهي قضية مشهورة عند الناس قديماً وحديثاً، وتناولها المتأخرون بالنقض والنفي وإبطالها بالكلية.

نحن نترك كلام الناس أولاً -ولا غنى لنا عنه- ونأتي إلى كتب التفسير المعتمدة كـابن جرير والشوكاني وأبو السعود وغيرهم من كتب التفسير المعتبرة.

نأخذ سياق هذا النص، ما موضوعه لكي نتصور هيكل القضية؟

لا نأخذ النص من حيث هو فقرة، فنقطعه عما قبله ونقطع ما بعده عنه، ولكن نأخذ السياق كاملاً، ونأخذ المصحف الشريف ونقرأ من سورة النساء.

الأمر بأداء الأمانات

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].

الشيخ: انظروا يا إخوان وتأملوا هذا التنبيه، فقبل قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ [النساء:64] بثماني آيات متضمنة مسار تمجيد وخطاب، قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء:58] أي: المسلمين.

(وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ): ولفظ (الناس) هنا عام يدخل فيه المسلم والكافر، لأن المسلمين واجب عليهم فيمن يتحاكم إليهم ممن تحت رعايتهم أن يحكموا فيهم بكتاب الله. وإذا تحاكم غير المسلمين فيما بينهم فلا دخل لنا فيهم، أما إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الحاكم المسلم الموجود، أو إلى قاضي المسلمين ليقضي بينهم؛ حكم بينهم بكتاب الله.

(يأمركم أن تؤدوا الأمانات) جمع أمانة، نزلت في مفتاح الكعبة ولكنها عامة، والحكم أمانة.

وجوب طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر بالمعروف

ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].

من جانب ولي الأمر: إذا حكمت بين الناس فاحكم بالعدل، ومن جانب الرعية: واجبهم ما دام ولي الأمر يحكم بالعدل؛ فأنتم يا أيها المحكومون: يجب عليكم الطاعة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، طبعاً طاعة الله في طاعة رسوله، وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ؛ لأنهم نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذان نصان مقترنان:

الأول: في حق الحكام أن يأمروا بالعدل.

والثاني: في حق المحكومين أن يسمعوا ويطيعوا، لمن يحكم بالعدل.

العودة إلى الكتاب والسنة حال الاختلاف

ثم قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59].

نادى المؤمنين أن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر.

ولاحظوا هنا في بلاغة القرآن وإعجازه اللفظي، فعل الطاعة: أطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (أولى الأمر)، هل قال: (وأطيعوا أولي الأمر) أم وردت بدون لفظ الفعل؟

(أطيعوا الله) (وأطيعوا الرسول)؛ لأن لله على خلقه حق الطاعة، وللرسول على الأمة حق الطاعة مستقلاً ابتداءً؛ لأنه مشرعٌ عن الله ومبلغ عنه.

أما أولو الأمر فليست لهم طاعة مستقلة ذاتية، ولكنها طاعة بطاعة الله ورسوله، ولهذا لم يقل في أولي الأمر: (وأطيعوا أولي الأمر)؛ لأنه لو قال: (وأطيعوا أولي الأمر)، لكان لهم حق الطاعة الذاتية، ولكن لا؛ لأنه لا طاعة لأولي الأمر في معصية الله، ولا طاعة لأولي الأمر إلا إذا كانت في طاعة الله.

إذاً: طاعة أولي الأمر تبع لطاعة الله ورسوله..

ماذا إذا وقع النزاع؟ (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)، فإذا حصل نزاع فيما بينكم، أو بينكم وبين أولي الأمر، كما لو أمروكم بأمر لم يأمر الله به، أو أمروكم بأمر فيه معصية لله، وتنازعتم في الأمر؛ فالمرد لمن؟ أولو الأمر لهم السلطة، لكن السلطة العليا هنا لمن؟ (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، وتأمل أداة الشرط، (إن كنتم).

قال تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

حال المنافقين واليهود إزاء التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

لاحظ، بعد ذلك التمهيد وبيان حق ولي الأمر في الحكم بالعدل، وبيان واجب الأمة في السمع والطاعة، وبيان مرد النزاع إلى الله ورسوله، يعجب الله رسوله من قوم خرجوا عن هذا كله، وهنا مبدأ القضية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ [النساء:60] (ألم تر) يا محمد رؤيا تعجب (إلى الذين) من هم؟أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء:60]، يقولون: الزعم أخو الظن، إذا قوي الزعم وصل إلى الظن، وليس بيقين ولا بحقيقة، (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وهذا الخلق في بعضٍ من المنافقين، (وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وهذا في بعض اليهود؛ لأن اليهود آمنوا بما أنزل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والمنافقون آمنوا ظاهراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

فالمنافق يزعم أنه آمن بما أنزل إليك، واليهودي يزعم أنه آمن بما أنزل من التوراة والإنجيل.

مع هذا الزعم يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء:60]، يريدون أن يتحاكموا إلى من أمروا أن يكفروا به، ويبقى السؤال: هل هم في هذا موافقون لمنهج الحكم السليم في الإسلام أم أنهم خرجوا عنه؟ لا شك أنهم خارجون عنه.

وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60]، يبين سبحانه العلة، وأن من وراء ذلك الشيطان. (أن يضلهم):، أي: يغويهم ويضلهم ضلالاً بعيداً عن الحق والهدى.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:61].

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)، أي: هؤلاء الذين يزعمون الإيمان بالحاضر والسابق، وهم المنافقون واليهود، (تَعَالَوْا) في الحكم والتحاكم (إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ)، أي: تعالوا إلى ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

وَإِلَى الرَّسُولِ [النساء:61]، أي: تعالوا إلى الكتاب المنزل من عند الله ومن الرسول، لماذا؟ ليحكم بينكم.

(رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)، فهل هؤلاء مؤمنون بما أنزل إليك، وهل هم صادقون في زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إليك، كيف يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك؛ وهم إذا دعوا إليك يصدون عنك.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ)، وهو محمد صلى الله عليه وسلم (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ)، (يَصُدُّونَ)، أي: يعرضون عنك، ويصدون صدوداً بعيداً، وفعلهم هذا وصدهم موجه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم.

لم يقل: يصدون عما أنزل الله، وإنما قال: (عنك)، أي: يصدون عن شخصك يا محمد استثقالاً لما جئت ولعدم الرضا به.

(صُدُودًا)، يقول العلماء: يؤتى بالمصدر بعد الفعل؛ لتأكيد معنى الفعل، كما سيأتي وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] وكما جاء في قوله سبحانه: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، تأكيداً للفعل الذي جاء قبل المصدر، فهم يصدون عنك صدوداً حقيقياً أكيداً مقصوداً.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63].

(أُوْلَئِكَ)؛ أي: هؤلاء الموصوفون بالصد عنك، الزاعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، الله يعلم ما في قلوبهم، والقلوب هي محل الإيمان والتصديق؛ فهل في قلوبهم ما زعموه من الإيمان، أو في قلوبهم غير ذلك؟! ما أسباب الصدود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ المانع لديهم هو النفاق.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) وهذا فيه خسارة، ولا يهم ذلك؛ لأنهم لا يستحقون التقدير وليسوا أهلاً له.

(وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ)، (في أنفسهم) يعني: في مسلكهم، وصدودهم عنك ونفاقهم بين المسلمين، أو في أنفسهم: بينك وبينهم لا تفضحهم (قولاً بليغاً).

فهذا السياق من الآيات الدالة على معنى ومفهوم قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]، ومنه يتضح سبب هذا الخطاب الإلهي لنبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دروس الحرم [14] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net