إسلام ويب

الإقرار سيد الأدلة، وقد أثبتت الشريعة حجيته بضوابط وشروط معتبرة، والعمل به وإقراره يدل على كمال الشريعة وعدالتها وحكمتها.

شرح حديث: (قل الحق ولو كان مراً)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (قل الحق ولو كان مراً) صححه ابن حبان من حديث طويل ] .

قبل الدرس نقدم الشكر لله، ونحمده سبحانه أن أعادنا إلى هذا المكان، وجمعنا بالإخوان في هذا الدرس المبارك، ونسأله سبحانه أن يتم علينا وعلى كل مريض الشفاء، وأن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يبارك لنا في هذه الجلسات، وهذه الدروس، إنه سميع مجيب.

وأخبر الإخوان أني طيلة هذه المدة ما ذهب عني التشوق إلى لقائكم، والجلوس معكم، والتحدث إليكم، وأحمد الله سبحانه، وإن كان هناك بعض الأثر، ولكن دائماً بحمد الله ولو كنت متأثراً إذا جئت إلى الدرس وجلست وسميت الله سبحانه أحسست بكل نشاط وبكل ارتياح، فأحمده سبحانه وأشكر فضله؛ ولهذا أحث الإخوة على الحرص الدائم على طلب العلم عامة، وفي المسجد النبوي خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من راح إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزى في سبيل الله)، وقد ميّز الله سبحانه وتعالى هذا المسجد المبارك ببركات عديدة، يفتح بها على طلاب العلم، فيحصلوا على أضعاف ما يحصله طلاب الجامعات أياً كانت، ويكفي أنه إذا ذكر في الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحالاً وبسرعة وقوة ورغماً عنك تتذكر مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونسأله سبحانه أن ييسر الخير لنا ولكم، وأن يعلمنا وإياكم، ويفتح علينا وعليكم والمسلمين، إنه سميع مجيب، ونبدأ بحمد الله الدرس، وإلى الإقرار.

معنى الإقرار

الإقرار في اللغة: قرّ، بمعنى: مكث وثبت، تقول: أقر بالمكان بمعنى: جلس وثبت فيه، ومنه قرار البئر، وقرار النهر أي: عمقه ونهايته، والإقرار يكون في الحقوق المدنية أو في الجنائية، إلا أنهم في الجنائية اصطلحوا على أن يسمى اعترافاً، يقال: اعترف بالجريمة، وفي الحقوق المالية يقال: أقر، وهو في الشرع -سواءً كان جنائياً كالحدود، أو مدنياً كالأموال ونحوها- يسمى إقراراً، ويعرفونه: بأنه إخبار عن حق في الذمة للغير، هذا أوجز التعريفات، وإن كانت قد تعددت، فالإقرار إخبار، والبعض يعتبر الإقرار إنشاءً، والصحيح الأول، والفرق في اللغة بين الإخبار والإنشاء هو: أن الإخبار إنباء عن شيء حاصل بالفعل قبل أن تخبر عنه، مثلاً تقول: أكلت تمراً، تخبر بالأكل، والأكل قد وقع قبل أن تخبر به، بخلاف الإنشاء، تقول: كل تمرة، الآن ما حصل الأكل، وأنت تنشئ القول بإيجاد الأكل، وهناك ألفاظ تحتمل الخبر والإنشاء ينصون عليها كصيغة البيع والطلاق، تقول: بعت كتابي، بعتك الكتاب، بعت واشتريت، قد تقول قبل البيع والشراء: أتبيعني كتابك؟ فيقول: بعتك، ويمكن أن تقول: بعتك كتابي العام الماضي، ولم تدفع لي ثمناً، فبعتك تحتمل إخباراً عن بيع قد سبق قبل القول، وتحتمل إنشاء البيع الآن بإيجاب وقبول.

فالإقرار من باب الإخبار عن شيء سابق، وليس إنشاءً، أقول: هذا الكتاب لك، هل هو إخبار أم إنشاء؟ إن قلت لك هذا بمعنى: أعطيتك إياه، فهو إنشاء هدية تتوقف على القبول، وإن كان إخباراً فأكون قد أعطيتك الكتاب من قبل، والآن أقرر أني قد أعطيته لك فلا أملك الرجوع، والإقرار له مباحث عديدة، وهو ركن أصيل في القضاء، وطرق الإثبات ثلاثة كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه في أمر الزنا: إما بينة أو حمل أو إقرار، يعني: لا يثبت حد الزنا إلا بالبينة كما ذكر سبحانه أربعة شهود، وإما أن يظهر الحمل وهي ليست ذات زوج، وإما الإقرار.

مع أن قول عمر : أو الحمل، فيه نقاش؛ لأن المرأة قد تبتلى بالحمل بدون زنا، وذلك إذا وصل إلى محلها ماء الرجل دون قصد، كما قال عمر : اعزلوا ما شئتم، فإن جاءت الأمة بولد وهي تحت سيدها لألحقت الولد به؛ لأن الماء يسري، ولذا عندما قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (لي جارية، وأحب منها ما يحب الرجل من أمته، أفأعزل عنها؟ فقال: اعزل إن شئت أو لا تعزل، إذا أراد الله خلق الولد من ماء الرجل خلقه ولو ألقيته على حجر)، يعني: ولو ألقى الماء على حجر، وجاءت امرأة ولامسته ووصل إلى جسمها فحملت، مثل التلقيح الصناعي يكون مشروعاً إذا كان بماء الزوج، وممنوعاً إذا كان بماء رجل أجنبي، وقد يكره مطلقاً.

الإقرار سيد الأدلة

الإقرار يقول فيه أرباب القوانين: هو سيد الأدلة، مع أنه يدخله الاحتمال؛ لأن الخبر في اللغة: ما احتمل الصدق والكذب لذاته، وكلمة (لذاته)، تخرج غيره كإخبار الله وإخبار رسوله، فهي لا تحتمل إلا الصدق، أما قول شخص: أكلت، فهذا إخبار، قد يصح أنه أكل ولعله لم يأكل.

فالإقرار أصل في القضاء في الإثبات، وهو سيد الأدلة؛ لأن غالب الأحوال أن الشخص لا يعترف على نفسه بما فيه مضرة، فلا يقول: سرقت، وهو لم يسرق، ويعلم أنها تقطع يده، أو يقول لك: عندي ألف وما عنده شيء، فيغرم الألف!! فالغالب أن الشخص لا يقر على نفسه إلا بالحق، ولكن قد يكون الإقرار لغرض، وليس الإقرار صحيحاً، وهذا من أصعب ما يكون أمام القضاة؛ لأن القاضي إذا سمع الدعوى، وسأل المدعى عليه فأقر بصدق ما ادعى به المدعي؛ انتهينا، هذه دعوى، وهذا إقرار المدعى عليه، فلم يبق إلا الحكم، ولكن قد تكون هناك دوافع تدفع الشخص إلى أن يقر بغير الواقع، إما لدفع شيء أعظم مما ادعي به عليه، وإما لمصلحة لنفسه.

من أخبار القضاة

يذكر وكيع في إخبار القضاة: أن شيخاً دخل ومعه شاب على القاضي، فادعى الشيخ على الشاب ألف دينار، فسأل القاضي المدعى عليه: ما تقول؟ قال: نعم، أقر بأن له عليّ ألف دينار، فتعجب القاضي! ثم قال: قوما عني وارجعا غداً، فذهبا، وكان في السابق القاضي يستصحب طلبة العلم والعلماء ويستشيرهم في مجلس القضاء بغية الوصول إلى الحق، فكان بعض أصدقاء هذا القاضي من العلماء جالساً، وسمع الدعوى، وسمع الإقرار، ورأى القاضي صرفهما، فلما انصرف قال: ما بالك؟! مدعٍ يدعي ومدعى عليه يقر بصدق الدعوى، وتقول: قوما وارجعا غداً! لماذا لم تحكم بمقتضى الإقرار؟! قال له: على رسلك، ننتظر، وفي الغد جاء شخص مع الشيخ والشاب يصيح: مولانا القاضي! إن ولدي هذا قد أفسد علي مالي، وقد طلب مني ألف دينار، فامتنعت أن أعطيه، فأتى وتواطأ مع هذا الشيخ، أن يدعي عليه بألف فيعترف، وليس عنده ما يسدد، فتحكم عليه بالحبس، فتأتي أمه وتلح عليّ أن أدفع الألف لأخرجه من الحبس، ثم يخرج ويقتسمها مع الشيخ.

فهنا التفت القاضي لصاحبه وقال: أرأيت؟! قال: ما الذي ساق نظرك لذلك؟! قال: ألم تر سرعة إقراره؟! لأنه قال فوراً: نعم.

وبهذه المناسبة أذكر أنه دخل عليّ شيخ وشاب، والشيبة أعرف اسمه له قضايا كثيرة، وكان الشاب يدعي على الشيخ أنه باعه أرضاً وقبض ثمنها منذ ثلاث سنوات، ولم يسلمها إليه، ويطلب الحكم عليه بأن يفرغ له الأرض، فإنه باعه الأرض منذ ثلاث سنوات وأخذ ثمنها، ولم يفرغ له الأرض، فطلب أن يفرغها له، وهذا حق.

فسألت الشيبة المدعى عليه، فقال: نعم، أنا بعت واستلمت! فضحكت! فالشيبة فطن فقال: لماذا تضحك؟! قلت: أضحك عليكم، قال: لماذا؟ قلت: أنت -يا فلان- شيبة، وتعرف المحاكم، وتذهب وتأتي، ما هي قضيتكم التي أنتم تختصمون فيها؟ كيف يقول: اشتريت، وأنت تقول: بعت واستملت، بلا إنكار؟ فضحك الشيخ!! فقلت: لماذا تضحك؟! قال: لأنك فهمتنا! قلت له: ما هي القصة؟ قال: أنا بعت، وجئنا لكاتب عدل ليكتب ، فامتنع؛ لأن الأرض فيها مبيعات، وليس فيها حلول درعة، وقال: لازم تعملوا درعة وتأتوا، فقلت: إذاً: دعواكم عند الكاتب. فقد يكون الإقرار مظنة التهمة، والقاضي الفطن يتنبه لدوافع الإقرار.

لابد في الإقرار من قرينة تدل على صدق المقر

جاءت الجهنية إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأقرت على نفسها بالزنا، وطلبت إقامة الحد، فردها صلى الله عليه وسلم، فهذا إقرار صحيح، والدافع عليه هو ما قالت: طهرني. وكذا الرجل الذي وجد امرأة في طرف المدينة، فأصاب منها كل شيء إلا الجماع، فقال: أصبت حداً فأقمه علي وطهرني، فسأله عما فعل، فذكر كل شيء إلا الوطء، فأمره بما يطهر ذلك.

فالإقرار سيد الأدلة إذا كانت هناك قرائن تؤيده، أما إذا وجدت قرائن تدل على أن هناك عوامل أخرى حملته على الإقرار بغير الواقع فلا قيمة له.

ومن مباحث الإقرار يتناول العلماء أيضاً: من هو الذي يقبل إقراره؟ وما هو الحق الذي يقبل الإقرار به؟ ومن الشخص الذي يصح الإقرار له؟ وهناك مباحث واسعة في رجوع المقر عن إقراره، والفرق في هذا الرجوع بين شخص وشخص، وبين حق وحق، فيختلف الحكم إذا كان الذي رجع عن الإقرار معروفاً بالتهمة، أو إذا كان الحق لله سبحانه في حد من حدوده. وهذه المسائل بحثت فيما يتعلق بالإقرار، وأعتقد أن استيفاء أحكام الإقرار لا يتأتى بما اقتصر عليه المؤلف، فإنه اقتصر بجزء من حديث، وإلا فأبواب الإقرار القضائية وأبواب الإقرار الفقهية متسعة.

ثبوت الحق بالإقرار

قول النبي عليه الصلاة والسلام: (قل الحق ولو كان مراً)، يدل هذا اللفظ: (قل الحق) على صحة إثبات الحق بالإقرار؛ لأنه لو لم يكن لقول الحق فائدة في الإثبات لما صح.

ويقولون: الإقرار حجة بالكتاب، والسنة، والإجماع.

في الكتاب في قضية الدين: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [البقرة:283]؛ لأنه يملي ما عليه، ويقر بذلك في نفسه، ومن حكمة التشريع: أن الذي يملي على الكاتب هو المدين؛ لأن إملاءه عليه اعتراف بالدين، لا أن نملي عليه الدائن؛ لأنه

يملي بما يريد، وإقرار الشخص لا يسري إلا على نفسه، فلا يحق للدائن أن يملي على الكاتب، فهذا من الأدلة، وأيضاً قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ [آل عمران:81]، وقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، فأخذ المولى سبحانه العهد على النبيين بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم: قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].

وفي السنة لما جاء ماعز واعترف بالزنا، ورده عليه ثم ألزمه بإقراره، وأمر بإقامة الحد عليه، وكذلك قصة العسيف، لما جاء أبو العسيف مع رجل آخر، وقال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً عنده- فزنى بامرأته، فسألت فقيل: على ابنك وليدة ومائة شاة، فاقض بيننا -يا رسول الله- بكتاب الله فقال: (سأقضي بينكما بكتاب الله: الوليدة والمائة شاة رد عليك، وعلى ابنك الجلد وتغريب عام -لأنه بكر- واغد -يا أنيس- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، ثم رجمها بناءً على اعترافها.

إذاً: الإقرار بينة يعتمد عليها بنص السنة في ذلك.

وجاء رجل إلى أبي بكر فقال: إني وجدت رجلاً مع امرأتي، فقال: يا فلان! اذهب إلى امرأته فسلها، فوجدها مع نسوة فقال لها: إن زوجك يقول كذا وكذا -وإقرار الإنسان لا يكون إلا على نفسه، يعني: ما يلزمك من إقراره غيرك أي شيء- فأقرت ولم تنزع عن إقرارها، وأصرت على إقرارها واعترافها، فأمر برجمها.

هل يشترط تكرار الإقرار؟

وهل يكون الإقرار مرة واحدة، أو مرتين بعدد الشهود في الأموال، أو أربع مرات بعدد الشهود في الزنا؟

الصحيح: أن الإقرار ما دام أنه اعتراف المرء على نفسه يكفي مرة.

والذين قالوا: يجب تكراره، استدلوا بقضية ماعز ؛ لأنه أتى فاعترف فأعرض عنه، ثم جاءه عن يمينه، وجاءه من أمامه ومن خلفه أربع مرات، لكن الرسول كان يعرض عنه لعله يذهب ويترك إقراره، لا لينتزع منه تكرار الإقرار الموجب للحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولما ألح قال: (أبك جنون؟ قال: لا، لعلك فاخذت؟ لعلك قبلت؟)، فقال: بل زنيت بها، وكل هذا من دواعي صدقه، وتلك الأسئلة كأنها إيماء له بالرجوع عن إقراره، وسأل أصحابه: (أمجنون هو؟).

قالوا: تكرر اعتراف ماعز أمام رسول الله أربع مرات، فيجب أن يكون الإقرار في الزنا أربع مرات بدلاً من أربعة شهود. لكن جاء رجل برجل وقال: قد سرق، وليس معه متاع، فقال: (ما إِخالك سرقت!) حتى يقول: ما سرقت، ويذهب.

وجاء عن علي أنه قال: إذا جاء المعترف بالسرقة أو بالزنا فردوه.

إذاً: ليس تكرار إقرار ماعز ، وإعراض الرسول عنه؛ لإثبات الحد بل هو يريد أن يدرأه عنه، ويدل على أن الإقرار مرة يكفي قوله في حديث العسيف: (فإن اعترفت)، وما قال: أربع مرات.

إذاً: الإقرار مرة يكفي في الحقوق، أما الرجوع عن الإقرار فهذا مبحث كبير، إذا كان الرجوع عن حد من حدود الله فيصح رجوعه، بل إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله ذهب إلى أبعد من هذا، فقال: لو جاء إنسان وأقر على نفسه بالزنا، ولم يعين من زنى بها، أخذ بإقراره؛ لكن إذا عين المرأة التي فعل معها الفاحشة، وسئلت فنفت، فهي لا تؤاخذ بإقراره، ويسقط الحد عن هذا المعترف! لماذا؟! قالوا: لأن الزنا لابد فيه من جانيين، وهذه أنكرت، وقبلنا إنكارها، والزنا لا ينتصف، إذاً: لا يقام عليه الحد، وهذه شبهه، والجمهور على خلاف ذلك، وأنها إن أقرت أخذت بإقرارها، وإن لم تقر لا يقام عليها الحد.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءته الجهنية ما سألها: مع من زنيت؟ ولما جاءه ماعز ما سأله: مع من زنيت؟ فهو يرغب في الستر على المسلمين، فلا يبحث عن الزناة، بل يسكت عنهم.

من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر المؤلف رحمه الله جزءاً من حديث طويل، وسبق أن كتبت عنه في كتاب صدر باسم: وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع هذا الكتاب فوق الخمسين وصية بنص الوصية، لا كما فعل بعض الناس جمع النصائح من باب الترغيب والترهيب، وجعلها وصايا، بل ذكرت ما فيه: (أوصاني خليلي)، وهذا الحديث ذكره الشارح الصنعاني وسنشرحه جملة جملة.

[وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم ..) ].

هذه الخلة نعمة كبرى، وإذا سمعت هذه الكلمة: (أوصاني خليلي) تحس برقة وتحس بشفافية، وقوة ارتباط: (خليلي) من التخلل، وأصل الخلة: مأخوذة من عيدان الخِلال، أتعرفون الخِلة؟

إن الفلاحين يعرفوها، وقبل ما تظهر المساويك هذه وفرشات الأسنان، كان كوز الخِلة في الجيب دائماً وأبداً، وهي عبارة عن ثمرة فيها أعواد رفيعة دقيقة مثل الإبر التي طرفها عادي، وليست متينة، والكوز يجمع حوالى مائة عود، فكانوا يخَللون بها الأسنان، ينظفون ما بين السن والسن، وما بين السن والسن ضيق جداً، وبعضهم يتخلل بالخيط، فالخلة هذه تدخل بين السنّين بقوة وبضغط، ولا تدع فراغاً بين السن والسن إذا تخلل بها، فكذلك الخلة محبة تتخلل القلب فلا تدع فراغاً لغير المحبوب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت متخذاً من أمتى خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن الله اتخذني خليلاً)، ومنه الخليلة، شديد الحب لها، حتى تخلل حبها قلبه، فلم يبق لغيرها مكان، وهنا قال: (أوصاني خليلي) يعني: حبيبي الذي ملأ حبه قلبي، فلم يعد لأحد مكاناً فيه.

وإذا كان الموصى له بهذه الصفة يحب خليله، فسيوصيه بأعظم شيء، وبأحسن شيء؛ لأنها وصية من الخليل إلى الخليل، قال: (أوصاني خليلي)، من هو؟ ما يحتاج أن يسميه؛ لأن الوصف إذا ذكر مطلقاً صرف إلى أعلى فرد فيه، وأعلى فرد في الخلة والمحبة للصحابة ولكل مسلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين).

وكلمة: الوصية وأوصاني لها فقه في اللغة: وصل، وصي، قالوا: إذا اتفقت الكلمتان في المادة في حروفها، واختلفت في حرف واحد، كان بين الكلمتين ارتباط وصلة، فوصي من وصل الحبل، فكأن الموصي يصل الموصى إليه بخير من عنده، فعندما تقول: أوصيك بكذا؛ فكأنك تصله بمعروف من عندك، ومنه الوصية في المال، تقول: أوصيت لفلان بكذا، يعني: وصلته بشيء من مالي.

النظر إلى من هو أسفل منك

قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: أن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي) ].

أول جملة في الوصية أن أنظر إلى من هو أسفل مني.

والناس في الدنيا قسمان بالنسبة إليك، دونك وأعلى منك، مهما كنت، وإن كنت لا تملك إلا درهماً، فهناك من هو دونك لا يملك درهماً، وهو مريض، فهو دونك.

وإن كنت تملك ملياراً، فهناك من يملك مائة ألف فهو دونك، وهناك من يملك المليارات فهو فوقك.

إذاً: دون وفوق أمور نسبية، ومهما كنت في حالة من الحالات، فهناك من هو دونك، وهناك من هو فوقك.

انظر إلى هذه الجملة! والله! ثم والله! لو أن العالم كله وقف عندها، وطبقها لاستراح، إذا نظرت إلى من هو دونك وعندك مائة ألف، أو ألف ريال، أو في يدك عشرة ريالات، وهو عنده ريال واحد، فصاحب الريال ماذا سيفعل به؟ سيأخذ له رغيفاً من الخبر، وقليلاً من ملح، أو حبتين تمر!

وأنت معك عشرة ريال، ستأخذ خبزاً، وتأخذ لبناً، وتأخذ جبناً، وحلواء، فإذا نظرت إلى صاحب الريال وأنت معك عشرة، فهل تقلق وتنزعج أو ترضى؟ ترضى وتطمئن، وإذا نظرت لمن عنده ألف ريال، ستقول: أوه! والله! هذا سيأتي بذبيحة، هذا سيفعل..، وتجري على يديك ورجليك من أجل أن تدركه فلا تستطيع، إنسان يمشي وهو يتوكز على عصا، وآخر يزحف على الأرض، وآخر يجري على قدميه، وأنتم في طريق واحد، وأنت تمشي برجلك وتتوكز على عصا، والآخر مر عليكم مثل الفرس، فلو نظرت إلى هذا السريع وأردت أن تجري مثله، تتعب نفسك وتسقط، لكن إذا نظرت إلى هذا الزحاف مشيت على مهلك؛ لأنه يوجد من هو أقل منك.

ولو كنت صاحب سيارة، انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى سيارة أحسن من سيارتك، لأنك إن رضيت بسيارتك استرحت، وهي ستوصلك، وإذا نظرت إلى الأخرى تألمت.

كذلك في البيوت، إذا نظرت إلى من يسكن في عشة .. في خيمة .. في صندقة، وأنت في بيت من اللبن، قلت: الحمد لله معي بيت مبني، وإذا نظرت إلى صاحب الفيلة والعمارة والحديقة ماذا تفعل؟ تبيت كمداً، والحسرة لا تفيدك شيئاً. وفي الملابس قد تقول زوجتك: أريد فستاناً، فتشتري لها بمائتين ريال، فتقول: لا! فلانة عندها فستان بألف، فإذا نظرت إلى من فوقها أرهقت زوجها، وشقت عليه، ونكدت نفسها، وما طابت نفسها بفستان بمائتين، لكن التي ما عندها، ولا شيء، وتستعير ثوباً من جارتها إذا احتاجت، فإذا جاءها فستان بمائة ريال تقول: هذا ليوم العيد، وتفرح به؛ لأنها ما عندها شيء، فلو نظرت المرأة إلى من دونها أراحت نفسها، وأراحت زوجها. وهكذا في الأمور الأخرى، بعضهم يقول: مهر ابنتي كذا. لا، لازم بنتي يكون مهرها كذا، ولو نظر إلى من كان مهرها عشرة ريال أو درهمين لفرح بمهر ابنته، لكن يقول: أريد الزواج في قصر صفته كذا، حتى في مكان الأفراح قد ينظر المرء إلى من فوقه أو ينظر إلى من تحته، وفي جميع أحوال الحياة، سواء في نفسك أنت، أو في ظروف حياتك، كلما نظرت إلى من هو دونك استرحت، وإذا نظرت إلى من هو فوقك تعبت، وكما يقول الناس: الذي يمشي في الطريق مستوياً مستريح، لكن الذي يمشي ونظره إلى السماء، رقبته ورأسه يدوخ.

والمقصود من هذا -يا إخوان- القناعة بالواقع، إذا كنت تنظر إلى من دونك، ووجدت نفسك خيراً منه، قنعت بما أنت عليه، وإذا نظرت إلى من هو فوقك لا تعرف القناعة لنفسك طريقاً ودائماً تقلق، وكان والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عندما جاء الرياض، يأتيه فلوس وهدايا من الملك عبد العزيز الله يغفر له، فقد كان يعطي العلماء في المناسبات، فكان الشيخ حالاً يقسمها على الأرامل، وعلى أسر منقطعة في المدينة من عوائل الشناقط، ويرسل لأهله أيضاً، وكان يكثر من هذا، ففي يوم كنت خالياً معه، فقال: أنا خائف على نفسي، جئت من بلادي بكنز عظيم جداً، والآن أخشى عليه الضياع، قلت له: ما هو هذا الكنز يا شيخ؟! أنا أعرف أن الشيخ في بعض الأحيان لا يجد مالاً، وهذا ليس عيباً في طالب العلم، وكان يرسلني لأقترض له من بعض الأشخاص، فقلت له: ما هو هذا الكنز وأنا اقترض لك من فلان وفلان؟ قال: هو كنز القناعة، كنت قانعاً بكل ما يكون في حياتي وجدت أو لم أجد كله عندي سواء، وفعلاً كانت الأمور عنده سواء، وهذا الكنز من القناعة من أين جاء إليه؟ من النظر إلى من هو دونه.

أيها الإخوة! هذه الجملة من الوصية تعطي الإنسان طمأنينة وقرارة نفس، وقناعة بالواقع، وأخيراً الأمر سواء، فصاحب المليارات وصاحب الريالات في النهاية هم مستوون، صاحب المليارات ليس له منها إلا ما أكل وأفنى، أو لبس فأبلى، وأنت ليس لك من دنياك إلا ما أكلت، أو لبست، وصاحب الريالات آكل ولابس، لكن الخلاف في النوعية، هذا يأكل لحماً مشوياً، وهذا يأكل جبناً وفولاً وطحينية، والمعدة ستمتلئ، والفوارق هذه لا يعادل بها طمأنينة النفس. وهذا باب واسع، ومن أراد التوسع في هذه الوصية بالذات فليرجع إلى ذاك الكتاب: (وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم).

حب المساكين والدنو منهم

قال: [ (وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم) ].

ولماذا يحبهم؟! ولماذا لا يحب الأغنياء؟

لو قلت: صديقي الأمير فلان، وصديقي التاجر فلان، فأنت إذا صادقت من هو أكبر منك كنت معه في منزلة وضيعة، لو كنت مع كبير التجار، وأنت تاجر صغير، وجالسته في المجالس، فالناس يفضلونه عليك، ويقدمون له التشريف والتكريم دونك؛ لأنهم يرونك دونه.

وإذا كنت مع تاجر أقل منك فستكون أنت موضع التكريم. أوصاه أن ينظر إلى من هو دونه، والآخر إلى من هو دونه، وهكذا حتى يصل إلى المساكين، فجالس المساكين، وأحب المساكين؛ لأنهم يحفظون لك دوام النظر إلى من هو أقل منك، والمساكين دائماً وأبداً حياتهم سهلة، لا يكلفونك شيئاً ليس في طاقتك، وهم أقرب الناس إلى الله بالطاعة، وبالذكر، وأقل شيء أنهم لا يظلمون الناس، ولا يعتدون عليهم، ولا يتعاملون معاملة منهياً عنها، ما عندهم شيء، فأحب المساكين، وادن منهم، لا تحبهم من بعيد! بل، أزورهم، أخالطهم، أجالسهم؛ لأكون دائماً على هذا المستوى، وكلما تطلعت نفسي إلى أعلى، أتذكر هؤلاء فيردونني.

صلة الرحم

قال: [ (وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني) ].

ما دام أنه يحب المساكين وهم قد يكونون غرباء وأجانب، فليصل رحمه، وليس حب المساكين محبة في القلب فقط، بل إذا أحب المساكين عطف عليهم وساعدهم، المسألة ليست بالكلام فقط، والحب هذا يكون جسراً لمنفعة المساكين والعطف عليهم، فإذا كان سيعطف على المساكين ويدنو منهم فذو رحمه أحق بذلك.

وذكرت لكم أنه إذا وجدنا صفاتاً متعددة في حديث واحد؛ فلننظر إلى العامل المشترك بينها، فصلة الرحم جاءت مع المساكين بجامع العطف والعطاء، حتى ولو كان ذوو الأرحام أغنى منك، فحقهم عليك أن تصلهم وإن قطعوك.

جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إن لي أقرباء أحسن إليهم ويسيئون إلي، وأصلهم ويقطعونني، قال: (لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل)، أي: الرماد الحار، وصلة الرحم غنية عن التنبيه عليها.

قول الحق ولو كان مراً

قال: [ (وأن أقول الحق ولو كان مراً) ].

(وأن أقول الحق ولو كان مراً)؛ لأن قول الحق فيه صلة لصاحب الحق، كان الحق ضائعاً خفياً لا يعرفه أحد، فإقراره بالحق كما يعطي المساكين، وكما يصل رحمه، فيعطي صاحب الحق حقه، وكيف يكون الحق مراً؟ لأن الحق ثقيل، فيه إلزام، وله توابع، والكذب ذاهب في الهواء، والحق أمر معنوي، والمرارة أمر حسي، تقول: هذا الطعام مر، وهذا الطعام حلو، والحلاوة والمرارة أمر مادي موجود ملموس؛ ولكن الحق أمر معنوي، وهذا على سبيل التشبيه؛ لأن الحق لو كان مطعوماً لكان مراً كما قال الشاعر:

ولم أر كالمعروف أما طعمه فحلو وأما وجهه فجميل

المعروف أمر معنوي، وهو الإحسان، لكن شبهه لو كان من الناس لكان جميل الوجه، ولو كان في الطعام لكان حلواً.

شروط صحة الإقرار

محل الشاهد من هذا الحديث: أن الإقرار معتبر؛ لأنه إذا أقر بالحق على نفسه أخذ به، وألزم بما أقر به، وهنا تفاصيل عديدة، فما يشترط في المقر؟ ومتى يقضى عليه بإقراره؟

قالوا: يشترط أن يكون عاقلاً، سليماً، بالغاً، حراً، فيعترف بإرادته بغير إكراه، وكونه عاقلاً أخرج المجنون، والمغمى عليه، والمخدر ففاقد العقل فاقد الأهلية، وفي الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يصحو، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ).

فلا يعتبر الإقرار حال الجنون، والإغماء، والنوم، فبعض الناس قد يتكلم وهو نائم، وربما يعترف بشيء وهو نائم، فلا يؤاخذ بذلك؛ لأن الإقرار التزام، والالتزام مسئولية، وهذا فاقد المسئولية.

قالوا: وأن يكون بالغاً؛ لأنه يقر على نفسه بحق، والصبي ليس عليه التزام، وكذلك أن يكون اعترافه بإرادته لا بإكراه؛ لأنه إذا أكره ألغي إقراره، كما في قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، وهذا في أعظم شيء وهو التوحيد، تكلم بما يوهم شركاً، وأقر بما يريدونه؛ ليدفع عن نفسه التعذيب، ولكنه إقرار مكره، ويذكر ابن قدامة رحمه الله أو غيره: أن امرأة أتت عمر وقالت: إن زوجي طلقني ثلاثاً ثم أنكر، فاستدعاه، فقال: كانت دائماً تسألني الطلاق وأمتنع، فذهبت وإياها يوماً نشتار عسلاً -اشتار العسل بمعنى: جناه- في صفحة جبل، فتدليت بحبل إليه -ربط الحبل في قمة الجبل في صخرة، وتدلى بالحبل حتى نزل عند مستوى النحل- فقامت على رأسي وقالت: طلقني، قلت: لا أطلق، قالت: سأقطع عليك الحبل! وإذا قطع الحبل سيتردى ويموت، فقال: أنت طالقة ثلاثاً، قال: فطلقتها ثلاثاً، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه وقال: اذهب لا شيء عليك، لا طلاق في إكراه.

فإذا أكره الإنسان على شيء لا يعتبر ذلك، ويبحث الفقهاء عن نوعيه الإكراه، فليس إكراه زيد كإكراه عمرو، بعض الناس يعتبر مجرد التأنيب والعتاب إكراهاً، وبعض الناس لو جلد عشرة أسواط أو عشرين سوطاً، ما يعتبر هذا شيئاً، فالإكراه بحسب الشخصيات، فهذه شروط من يؤاخذ بإقراره.

وكذلك يشترط إمكان إقراره عقلاً، فلو أن امرأة ادعت على رجل بالزنا، والشخص الذي ادعت عليه مجبوب الذكر، فجاء ليدرأ الحد عن غيره فقال: نعم زنيت بها، فكشفنا عليه فإذا به ليس عنده آلة الزنا، فهل يكون هذا الإقرار صحيحاً؟ ليس بصحيح، لو جاءت بأربعين شاهداً فواقع الحال يكذب البينة، وكذلك لو قال: هذا ولدي، ونظرنا في السن، فإذا بهذا ولد والمدعي له عمره خمس سنوات. فهل يتأتى هذا؟ لا.

يقول المالكية: إذا كان هناك ما يشبه قبول الدعوى سمعت.

وعلى كلٍ الإقرار مباحثه طويلة، وهو سيد الأدلة، ولكن تحفه شبهات، ويجب أن يتحرى فيه، ومن أراد التوسع فكتب الفقه تفصل ذلك.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب البيوع - باب الإقرار للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net