إسلام ويب

شعار المرء المسلم إذا أمره الشرع أو نهاه السمع والطاعة، والرضا والتسليم سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر، وسواء عقل المعنى أو لم يعقل. ومن تلك الأوامر التي يجب السمع والطاعة فيها استلام الحجر الأسود وتقبيله، فاستلام الحجر الأسود وتقبيله ليس لحجريته ولا لذاته، وإنما هو لامتثال أوامر الشرع.

بيان العمل الذي يعمله المحرم إذا وصل إلى البيت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) ].

لما وصل إلى البيت أي: بعد ما كان منه من مبيت واغتسال أتى البيت، وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله لتعظيم هذا البيت وتشريفه وتكريمه، وبعض الفقهاء يقول: يدخل الحاج الآن من باب السلام، وأما في ذلك الوقت فلم يكن هناك باب السلام ولا باب الرحمة ولا غيرهما؛ لأنه لم يكن هناك بنيان على المسجد، وإنما كان الناس يطوفون حول الكعبة، والبيوت من حولها تطوقها عن بعد، ثم بني المسجد بعد ذلك.

من أين يبدأ الطواف؟

وقوله: (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) أي: الحجر الأسود، وهو نقطة البداية؛ لأن الطواف حركة دائرية حول الكعبة، والحركة الدائرية تكون البداية فيها من قطر الدائرة، فإن بدأت من الركن اليماني فسوف تنتهي بالركن اليماني، وإن بدأت بالركن الشامي الأيمن أو الشامي الأيسر، فسوف تنتهي الدائرة أو الشوط عند نقطة البداية التي بدأت منها، ولكنه صلى الله عليه وسلم قد حدد نقطة البداية في الطواف.

إذاً: أيّ نقطة في الدائرة يصح منها البداية للشوط، ولما كانت جميع النقاط صالحة للبداية خص صلى الله عليه وسلم منها نقطة، وفي هذا ترجيح بعض المتساوي على بعض ليتعين البداية به، وما دام أنه قد بدأ صلى الله عليه وسلم بالركن فيتعين البداية بالركن، ومن بدأ مثلاً: بالركن اليماني فلا يحتسب له ما بين الركن اليماني والحجر الأسود في هذا الشوط، ويكون بداية شوطه من الحجر.

كيفية استلام الركن وحكمه

فجاء (واستلم الركن) والاستلام إنما هو للحجر الأسود؛ لأنه في الركن، كما هو معلوم للجميع، وأما كيفية استلام الركن فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم بيان ذلك أنه استلمه ووضع كفيه عليه وقبّله بدون صوت، فإذا تيسر للإنسان ذلك فبها ونعمت، وإذا لم يتيسر له ولمسه بيده عن بعد قبّل يده، وإذا لم يتيسر له وكان بيده محجن أو عود أو شيء ولمس بالعود طرف الحجر قبّل الجزء الذي لمس الحجر من ذلك العود أو القضيب أو نحوه، حتى ولو بطرف الغترة إذا كنت بعيداً وأعطيتها لشخص قريب من الحجر وقلت له: مس بهذه الغترة الحجر، فإذا مسها أخذتها وقبّلتها، وإن لم يتيسر هذا أشرت بيدك وكبّرت ومضيت في طريقك.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الزحام عند الحجر، قال لـعمر رضي الله عنه لما قال: (كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية فماذا أفعل؟ فقال: أوف بنذرك، ثم لما أراد الذهاب، قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر ! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول: إن الضعيف والقوي لا ينبغي أن يزاحما؛ لأن القوي يؤذي غيره، والضعيف يتأذى بغيره، إذاً: لا حاجة إلى الزحام، وإن كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه له في ذلك رأي آخر، ولكن رأي الجمهور وحث النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى، وخاصة مع ما نشاهده الآن من مزاحمة النسوة على استلام الحجر أشد من مزاحمة الرجال، وهذا ما أنزل الله به من سلطان، ولا يحق للمرأة -كما يقولون- أن تهدم مِصراً لتبني قَصراً، أتريد أن تصل إلى فضيلة تقبيل الحجر على أكتاف الرجال؟!! فلا ينبغي لها هذا أبداً، وكذلك يجب على الرجل الذي معها أن يحدها وأن يمنعها عن مثل هذا الزحام الذي لا يليق بحرمة المرأة، وخاصة تحت جدار الكعبة.

إذاً: لا ينبغي الزحام على الحجر، لا من رجل ولا من امرأة، لا من قوي ولا من ضعيف.

وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حينما قدم إلى الركن ليقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، يقولون: جاء في رواية -الله أعلم بصحتها-: أن علياً سمع قول عمر ، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه يضر وينفع؛ لأنه يأتي يوم القيامة له لسان وعينان، يشهد لكل من استلمه)، ويذكر العلماء في هذا آثاراً عديدة منها: (الحجر يمين الله في أرضه) ومنها: (الحجر نزل من الجنة) وتاريخ الحجر طويل.

ويهمنا هنا قول عمر : (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع) فيه ما يرد به على أولئك الذين يشككون ويوردون شبهة وهي: أنهم يقولون: الإسلام ينهى عن تعظيم الأحجار، ويحطم الأصنام، ثم يقول: قبلوا حجراً! فما الفرق بين هذا الحجر وبين الصنم؟ ويوردون بهذا تشكيكاً على بعض الناس، ومن الأسف كل الأسف أني وجدت من يتصف بالعلم قدم من الآفاق، وطاف بالبيت وامتنع عن استلام الحجر، وقال لي من يصحبه: أنا لا أؤمن أو لا أوقن بمشروعية تقبيل الحجر بعد أن حطمت الأصنام، وهذا تحكيم للعقل، والعقل يقتضي أيضاً الإيمان بالله وبما جاء عن رسول الله؛ لأن سيد الخلق الذي حطم الأصنام بقضيب في يده جاء وقبّله، أي: لبيان الامتثال لأمر الله سبحانه.

ثم لنعلم أيها الإخوة! أنه صلى الله عليه وسلم عندما طاف بالبيت واستلم، وجاء إلى مقام إبراهيم وصلى ركعتين سنة الطواف، ماذا قرأ فيهما؟ قرأ بالتوحيد، فقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2] فكأنه بعد أن قبّل الحجر واستلمه يعلن بأن الله واحد أحد، وأنه ما قبّل الحجر عبادة له، وما قبّل الحجر تعظيماً لحجريته، وإنما قبّله امتثالاً لأمر الله، ولسان حاله أنه يقول: يا أيها الكافرون! أنتم في دين وأنا في دين، وأنا بعيد عنكم وأنتم بعيدون عني كما قال تعالى: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] أي: فلم أقبّل الحجر كما تقبلون أنتم، وهكذا تأتي سورة الكافرون، وسورة الإخلاص في ركعتي الطواف رداً على هذه الشبه مسبقاً من ذلك التاريخ.

استحباب الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى وسبب ذلك

قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً) ].

يقول جابر رضي الله عنه في إيراد حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خرجنا مع رسول الله إلى أن قال: ثم أتى البيت)، والبيت أي: الكعبة، (واستلم الركن) والركن هو: الذي فيه الحجر الأسود، وقد تقدمت الإشارة إلى كيفية الاستلام، والصورة الأكمل في الاستلام هو أن يضع الشخص كفيه على الحجر ويقبل الحجر من بين الكفين، وبعد ذلك يمسحه بيده ويقبل يده، أو يمسحه بواسطة ثوب أو عصا أو نحو ذلك، ويقبل تلك الواسطة، فإن لم يتيسر له لا هذا ولا ذاك فيشير ويمضي ولا يقبل يده.

وكذلك يستلم الركن اليماني إلا أن الركن اليماني ليس فيه تقبيل، والخلاف إنما هو إذا لم يتيسر له أن يستلمه، فهل يشير إليه بيده كما يشير إلى الحجر أو لا؟ البعض يرى الإشارة إليه إذا لم يتيسر له استلامه بيده.

يقول جابر رضي الله عنه (فرمل ثلاثا)ً الرمل هو: مشي سريع ببطء، بمعنى: أن يكون سريع الحركة بطيء الانتقال، يعني: أنه يمشي بخطىً متقاربة، في صورة الجري ولكن بدون إسراع، كما لو كان الإنسان معه طفل صغير والطفل يجري، فهو يريد أن يجري معه، لكن لا بخطىً واسعة بل بقدر جري الطفل، كان للرمل سبب في مشروعيته، وقد استمرت هذه المشروعية بعد انتفاء السبب، وبقي هذا العمل تسجيلاً لذلك السبب لما له من عظيم الأهمية، ولهذا دائماً نقول: إن جميع أعمال الحج هي تاريخ ومواعظ وإرشاد، وبيان لما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، والسبب هو أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهب معتمراً في عمرة الحديبية، وقد رأى صلى الله عليه وسلم قبلها رؤيا أنه يأتي البيت معتمراً، فأخبر أصحابه بذلك وخرج في ألف وأربعمائة رجل، فلما سمعت بهم قريش واجهتهم على حدود الحرم ومنعتهم من الدخول، وصدتهم عن البيت، ثم جرت المفاوضة بين الطرفين على أن يرجعوا من عامهم هذا، فتحللوا في مكانهم، وعظم ذلك على المسلمين، وتم الاتفاق على أنهم يأتون من عام قابل ويعتمرون وتخلي قريش لهم مكة ثلاثة أيام، على أن يدخلوا بغير سلاح القتال، ولكن بسلاح المسافر وهو السيف في قرابه.

فخرج صلى الله عليه وسلم من العام الثاني الذي بعده على هذا الاتفاق، ولكنه أخذ معه سلاحاً كافياً، وأودعه قبل مكة، وأقام عليه الحراس، تخوفاً من غدر قريش، فلما دخلوا المطاف جلس سادة قريش على جبل أبي قبيس وما حوله ينظرون ماذا سيفعل المسلمون في عمرتهم، أيطوفون كما كانوا يطوفون بالسابق أم سيفعلون شيئاً جديداً جاء في الإسلام؟!

فلما وصلوا إلى البيت أتاهم الشيطان وقال لهم: هذا محمد وصحبه قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليهم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم، وهذه مؤامرة خطيرة؛ لأن المسلمين يعتبرون كالعزَّل، وهم بعيدون عن أي مدد، فلو انقضَّت عليهم قريش ولو بالحجارة لآذوهم، لأن أولئك فوق الجبل، وهؤلاء في بطن الوادي، وأهل مكة بكاملهم، وهؤلاء عددهم محدود.

فلما تآمروا على ذلك كان الوحي أسرع، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمه بما تآمروا عليه، وهنا يقف كل عاقل ويتأمل كيف سيصنع المسلمون أمام هذه المؤامرة الغادرة؟ وليس هناك أحد قريب يمكن أن يسعفهم بعدد من الرجال والسلاح، ولكن يوجد هنا نور النبوة، وتوجد الحكمة النبوية الكريمة، كما قال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بواقع الحال، ليتعاونوا معه على مواجهة هذه الأزمة، وأمرهم وقال: ما دامت قريش تظن بكم الضعف والوهن فيجب أن تقلبوا عليهم فكرتهم، وعكس الضعف والوهن هي القوة، ولذا قال: (فأروهم منكم اليوم قوة) كي يخلف الظن عندهم، ويعلموا أن هؤلاء ليسوا بضعفاء وليس الوهن يعتريهم، فأمرهم بالاضطباع، وذلك بأن يجعلوا وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، وأن يرملوا، وتلك هي صورة المشمر المستعد القوي الفتي، فلما رأى المشركون ذلك، ورأوا المسلمين يطوفون وهم أشداء قالوا: أتقولون: إن هؤلاء قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر وهم ينقزون كالجن، والله! ما هم بأنس إنهم كالجن لا طاقة لنا بهؤلاء.

وبهذا أحبطت مؤامرة الشيطان مع أعوانه، وسلم المسلمون من الغدر الذي كان يحاك ضدهم جميعاً.

وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم أن يكون الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، وأن يمشوا مشياً عادياً في الأربعة الأشواط الباقية، وكذلك يرملون من الحجر الأسود حين يطوفون بالكعبة إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، فيمشون مشياً عادياً يلتقطون أنفاسهم فيه، فإذا قيل: لماذا لم يرملوا في الأشواط الأربعة الباقية؟

الجواب: المتأمل في هذه الحالة يرى أنه لا يمكن أن الألف والأربعمائة سينزلون المطاف في لحظة واحدة، ويستلمون الركن في لحظة واحدة، ويسيرون معاً جميعاً في لحظة واحدة، لا يمكن هذا، بل سيأتون إلى المطاف أرسالاً، فإذا كانت الدفعة الأولى في الشوط الثاني ستكون الدفعة الثانية في الشوط الأول، وإذا كانت الدفعة الثالثة في الشوط الأول فستكون الدفعات التي سبقتها في الشوط الثالث أو الرابع وهكذا، فدخلت الأشواط الأربعة ضمن الثلاثة الأولى في صورة الهرولة، ولن يخلوا المطاف من جماعة تهرول في مدة الأشواط السبعة، وعلى هذا كانت مشروعية الرمل من أجل أن يعكسوا على المشركين خطتهم وتآمرهم مع الشيطان.

وبعد ذلك فتحت مكة، وصارت بلداً إسلامياً في إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وفتح مكة كان في السنة الثامنة، ولما فتحها أقام عليها أميراً، وكان الحج في السنة العاشرة، ولما جاء صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة بعد فتح مكة بسنتين ومكة آمنة ليس فيها عدو، والمسلمون آمنون مطمئنون، وقد انقضت دولة الشرك، وانتفى الإيذاء، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل في الأشواط الثلاثة أول ما قدم إلى مكة، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال هذه الهرولة، لقد هرولنا سابقاً ونحن في خوف، والآن نحن في أمن، وليس هناك خوف؟ يعني: أن العلة قد انتفت، والمعلول باقٍ.

فقال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية وهرولنا معه، وفتحت مكة وجاء رسول الله فهرول في حجة الوداع وهرولنا معه، إذاً: فهي سنة باقية، ومثل هذا قد يقال في القوادح عند الأصوليين بالكسر وهو انتفاء العلة مع بقاء المشروع.

ولهذا صفة الهرولة باقية إلى اليوم.

والهرولة للرجال وليس للنساء فيها شيء، وكذا العاجز وكبير السن والذي لا يستطيع الهرولة ليس عليه في ذلك شيء، وإذا تركه الإنسان ليس عليه دم في تركه، وإذا كان هناك زحمة ولا يستطيع أن يهرول فعليه أن يتحرك حركة المهرول كما يقولون في رياضة الصباح: محلك سر، يرفع أرجله وينزلها وهو لا يتقدم إلى الأمام، فبقدر ما يستطيع يهرول، وبهذه المناسبة لا يكون الاضطباع في الإحرام إلا عند البيت لمن سيهرول، أما الذين يكشفون أكتافهم من الميقات فهذا خطأ، ومغاير للسنة، ويعرضون أنفسهم بذلك للحر وللبرد، حتى إن بعض الناس يتقشر جلده من شدة الحر وهو باق على هذه الحالة.

إذاً: محل الاضطباع والهرولة إنما يكون في الطواف الذي يعقبه سعي، فإذا كان هناك شخص حج فإذا طاف طواف القدوم، أو طاف طواف الإفاضة وليس عليه سعي فليس عليه هرولة؛ لأن الهرولة لا تكون إلا في الطواف الذي يعقبه سعي، سواء كان في طواف العمرة الذي يأتي بعده السعي للعمرة أو كان في طواف القدوم الذي يسعى بعده للحج تقديماً.

وها نحن في هذه الآونة وبعد أربعة عشر قرناً نهرول؛ لأننا بهذا العمل نحيي تلك الذكرى، ونتذكر موقف المسلمين في ذلك الوقت، وكيف صبروا وتحملوا، وكيف كانت حياتهم في سبيل الإسلام وفي نصرته، وكيف يواجه الناس مكائد الأعداء، لو تركنا ذلك لنسيناه ولانمحى من تاريخ المسلمين، ولكن إذا استمر الناس على إحيائه وعلى فعله فإنه بمثابة السجل الناطق على مدى الزمن على تلك الأحداث.

والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته أنه إذا بدأ عملاً واظب عليه ولو لم يكن واجباً، وقد يصير في حقه واجباً، وأما في حق الأمة فعلى حسب التشريع من وجوب أو ندب أو استحباب أو غير ذلك.

إذاً: (رمل ثلاثا)ً أي ثلاثة أشواط من السبعة، (ومشى أربعاً) أي مشى مشياً عادياً. والله تعالى أعلم.

مشروعية الصلاة خلف المقام واستلام الحجر بعد الانتهاء من الطواف

قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم أتى مقام إبراهيم فصلى، ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ].

بعدما أكمل الطواف سبعة أشواط أتى إلى مقام إبراهيم فصلى ركعتين، وفي رواية عند مسلم في هذا الحديث: وقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وهذا من المواضع التي وافق عمر فيها ربه سبحانه، أو وافق القرآن فيها رأي عمر؛ إذا ثبت أن عمر رضي الله عنه أول ما جاءوا قال: يا رسول الله! ألا نصلي خلف المقام؟! فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وقد أشرنا إلى أن هاتين الركعتين هما سنة الطواف، وأن السنة أن يقرأ المصلي فيهما بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وأشرنا إلى أن هذا المعنى الذي تضمنته هاتان السورتان فيه رد عملي على أولئك الذين يثيرون الشبه والشكوك عند ضعاف النفوس، لأنا وجدنا من يقول: الإسلام يحطم الأصنام وأنتم تعظمون بنية من الحجارة وتقبلون حجراً، وهذا بعينه هو الوثنية، ولكن غاب عنهم الابتلاء والامتحان لمجرد الامتثال، فالمؤمن إذا قيل له: افعل هذا، قال: على العين والرأس، وإذا قيل له: لا تفعل هذا، قال: مرحباً وأهلاً وسهلاً، والكلام في هذا يطول، وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6] فأين الوثنية هنا؟ وأين المشابهة والمشاكلة؟ الجواب: لا توجد، وهكذا في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2] إلخ.

إذاً: ليست هناك شبهة بين الطواف بالكعبة وتقبيل الحجر قطعاً.

يقول بعض الفقهاء -والله تعالى أعلم-: إن الله سبحانه وتعالى ينزل مائة رحمة على البيت: ستين للطائفين، وعشرين للمصلين، وعشرين للناظرين، أو ثلاثين للمصلين وعشراً للناظر أي: الذي ينظر إلى الكعبة، وهناك بعض الآثار أن من طاف سبعين شوطاً يعني: عشر مرات أجر كذا وكذا، والله تعالى أعلم، فإذا أراد إنسان أن يطوف سبعين شوطاً نافلة، فهل يا ترى! يصلي ركعتين بعد كل سبعة أشواط، ثم يستأنف الطواف، أو أنه يواصل الطواف سبعاً سبعاً سبعاً ثلاث مرات ثم يذهب إلى المقام فيصلي ركعتين ركعتين ثلاث مرات؟ الجمهور على أن الأفضل في ذلك أن يصلي ركعتين خلف كل سبعة أشواط من الطواف.

قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ].

بعد أن صلى خلف المقام رجع صلى الله عليه وسلم إلى الركن، أي: إلى الحجر فاستلمه قبل أن يخرج إلى السعي، إذاً: استلمه في بادئ الأمر في أول الطواف، ثم بعد ذلك على ما تيسر من استلامه في بقية الأشواط، ثم صلى ركعتين خلف المقام سنة الطواف، ثم رجع إلى المقام فاستلمه، أي: كالاستلام الأول، ثم ذهب إلى الصفا والمروة.

السعي بين الصفا والمروة

قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: ..) ].

قوله: (خرج من الباب) يشعر هذا أنه كان هناك باب، وبعض التواريخ تقول: إن أول من بنى المسجد إنما هو عمر ، والآخرون يقولون: عمر إنما وسعه وأدخل فيه دار الندوة، والله تعالى أعلم، فهنا خرج إلى الصفا، فلما وصل إلى الصفا رقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة وهو على الصفا، ثم نبه وقال: (أبدأ بما بدأ الله به، أو: ابدءوا بما بدأ الله به)، أو أنهم سألوا: (من أين نبدأ يا رسول الله؟! قال: ابدءوا بما بدأ الله به)، أو سألوا: (من أين تبدأ يا رسول الله؟! قال: أبدأ بما بدأ الله به) ومن هنا نجد أن المنهج العلمي في كتاب الله أنه سبحانه إذا قدم أحد المتماثلين كان لتقديمه دلالة أولولية في الموضوع، والصفا والمروة كلاهما غاية، والجمهور على أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط والعودة من المروة إلى الصفا شوط، إلا رواية عن ابن بنت الشافعي وغيره يقولون: إن الذهاب من الصفا إلى المروة والعودة إلى الصفا شوط واحد، وهذا ما يقول به ابن حزم ، ولكن كما قال النووي : هذا شاذ مغاير لما عليه إجماع المسلمين.

فهنا صعد صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وهذا الترتيب هو المنهج في كتاب الله، ومن ذلك ما جاء في الحدود: ففي حد السرقة قال سبحانه وتعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا [المائدة:38] وفي حد الزنا قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2] ففي حد السرقة قدم الرجل؛ لأن الرجل في السرقة أقوى؛ لأنه يقاوم ويدافع، وأما المرأة في السرقة فهي ضعيفة، وفي باب الزنا قدم المرأة؛ لأنها هي السبب، وهي التي تغري الرجل كما قال تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] فلما كان الرجل أقوى في عنصر السرقة قدمه على المرأة، ولما كانت المرأة أقوى فاعلية في أمر الزنا قدمها على الرجل؛ لأن الرجل لا يمكن أن يزني بامرأة إلا إذا وجد منها الميل، أو جد منها الإغراء بنفسها.

إذاً: إذا وجدنا في القرآن الكريم متساويين فبدأ أو قدم ذكر أحد هذين المتساويين عرفنا أن لهذا المقدَّم خصائص أو أولوية في الموضوع، لهذا قال صلى الله عليه وسلم هنا (أبدأ أو ابدءوا بما بدأ الله به) فبدأ صلى الله عليه وسلم بالصفا.

ما يقوله المحرم على الصفا والمروة والبدء بالصفا

قال المؤلف رحمه الله: [ (فلما دنا من الصفا قرأ: إن إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] . أبدأ بما بدأ الله به) ].

والمناسبة هنا هي مثل التي هناك في المقام في قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] وكأنه يشير إلى المناسبة، وهنا لما صعد على الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158] يعني: أنه ذكر الآية التي تنص على السعي.

قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].

شعائر جمع شعار، وجمع شعيرة، والشعيرة هي: النسك، والشعار هو: العلامة المظهرة، كما تقول: شعار الشركة الفلانية كذا، وكذلك هنا الصفا والمروة من شعائر الله، وجميع مناسك الحج من شعائر الله.

قوله: [ (أبدأ بما بدأ الله به، فرقى الصفا حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبره) ].

وحد وكبر، وحد عنوان لقوله: لا إله إلا الله، هذا هو التوحيد، وكبر قال: الله أكبر، وكبر من ألفاظ النحت، تقول: كبر، وسبح، وحمدل، وحوقل، فكبر أي: قال: الله أكبر، وهلل قال: لا إله إلا الله، وحوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا سبحل قال: سبحان الله، فهذه ألفاظ يسمونها ألفاظ النحت.

قوله: [ فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ].

وهنا عيّن الذكر الذي يقال على الصفا كما عيّن الذكر الذي جاء في التلبية وهو: (لبيك اللهم، لبيك لبيك لا شريك لك) ...إلخ، وكذلك هنا وحد الله وأعلن أن الملك كله لله.

قوله: [ لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده].

في هذا تذكير بغزوة الأحزاب (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده) أي: بنصر دينه ونبيه والمسلمين، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9] فهذا وعد الله والنصرة بالفعل، وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا والجنود هنا غير الرياح؛ لأن الرياح مذكورة وحدها، وجنود الله لا يعلمهم إلا الله كما قال سبحانه: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31].

وقد جاء في حديث حذيفة في غزوة الأحزاب أن الملائكة شاركت في القتال، ففي قصة حذيفة حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم؟) ولشدة البرد والجوع والخوف لم يتحرك أحد، كما قال حذيفة : فلم يتحرك أحد، ثم قال صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية: (من يذهب فيأتيني بخبر القوم وأضمن له العودة؟) فلم يتحرك أحد، وفي الثالثة قال: (وأضمن له العودة ويكون رفيقي في الجنة) فما قام أحد، فتتبع الحاضرين واحداً واحداً حتى إذا وقف علي وقال: حذيفة. قلت: نعم، وكنت أتقاصر إلى الأرض، فلما سماني لم يكن لي بد من أن أقوم، فقمت وأنا أقرقر من البرد.. أي: يرتعش وأسنانه تدق في بعضها، قال: وهو ملتف في مرط لأهله فضمني إليه، فوالله! لكأنني في حمام، وقال لي: (اذهب وائتني بخبر القوم، ولا تحدث حدثاً حتى تأتيني) فذهبت.

وهو خبر طويل وفيه عند رجوعه قال: (لقيت عشرين رجلاً معمماً على خيل، فقالوا لي: أخبر صاحبك بأن الله قد كفاه) وهؤلاء العشرون المعممون على هذه الخيل من أين جاءوا؟ لو كانوا من جيش المسلمين لعرفهم حذيفة ، فإذاً: هؤلاء ليسوا من جيش المسلمين، وليسوا من جيش المشركين، فهم فريق ثالث، فمن يكون؟ لاشك أنهم من الملائكة.

إذاً: نصر الله عبده وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، هزمهم بتسليط الريح عليهم، وبالجنود التي لا يعلمها إلا هو.

قوله: [ ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة ]

بعد ما أدى نسك الصفا والذكر الوارد في ذلك نزل إلى المروة، والسنة هنا في السعي هي أن يستغرق الساعي كامل المسافة بين الغايتين، يبن الصفا والمروة، فكيف يتحقق الشخص أنه قد استغرق البينية؟ والبينية نهايتها من الطرف الأول الصفا ومن الطرف الثاني المروة؟ لا يتحقق الإنسان من ذلك إلا إذا صعد على جزء من الصفا، ومشى وأتم المشوار وصعد على جزء من المروة، فإذا كان قد أخذ في مشواره جزءاً من الصفا وجزءاً من المروة جزمنا يقيناً أنه قد استغرق بينية ما بين الصفا والمروة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [2] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net