إسلام ويب

إذا أحرم المحرم للحج أو للعمرة فلا يجوز له أن يَنكح ولا أن يُنكح، وكذلك يحرم عليه أن يصيد صيداً، أو أن يأكل صيداً صيد لأجله، أما إذا لم يصد لأجله فلا بأس أن يأكل منه، ولذلك حكم عظيمة من تربية النفس وتهذيبها وتعويدها على اجتناب المحرمات، فما دام أن الإنسان قد امتنع عن الحلال حال إحرامه، فمن باب أولى أن يجتنب الحرام حال إحلاله.

شرح حديث: (لا ينكح المحرم)

قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) رواه مسلم ].

من محظورات الإحرام عقد النكاح والوطء، فإذا أحرم الإنسان حرم عليه وطء زوجه، وحرم عليه أيضاً أن يعقد عقد نكاح لابنته أو أخته أو مولاته.

مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة في عمرة القضاء

وهنا وقع خلاف بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الجمهور في قضية أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية -وتسمى عمرة القضية، وعمرة القضاء، وهي العمرة الثانية بعد عمرة الحديبية لما خرج صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية، وما كان من قريش حين أن منعوه من دخول مكة، وصالحهم على ما فيه مصلحة المسلمين، وتمت فيها بيعة الرضوان، وتحلل المسلمون وحلقوا رءوسهم في الحديبية على مشارف حدود الحرم، ورجعوا وحسبت لهم عمرة، وكان من شروط الاتفاق: أن يتحللوا مكانهم ويرجعوا إلى بلدهم ثم يأتوا في العام القادم، على أن تخلي قريش مكة للمسلمين حتى يقضوا عمرتهم ويقيموا فيها ثلاثة أيام.

وسميت القضية ؛ لأنها العمرة التي كانت بمقتضى التقاضي بين الفريقين والاتفاق عليها، وسميت عمرة القضاء كذلك، لكن بعض الناس يقول: إنها قضاء عن العمرة الأولى، ولكن المحققين من العلماء يقولون: العمرة الأولى انتهت، ولهذا لم يلزم النبي صلى الله عليه وسلم جميع الذين حضروا معه عمرة الحديبية أن يرجعوا معه في العام الثاني ليقضوا ما فات، فإن هذه عمرة مستقلة وتلك عمرة مستقلة.

الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في الطريق إلى مكة لأداء العمرة أرسل إلى ميمونة من يخبرها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطبها للزاوج منها، فلما أتوا إلى العمرة وانتهت الثلاثة الأيام، جاءت قريش وقالوا: يا محمد! اخرج بمن معك فقد انتهت الموعدة، قال: أمهلونا، نحن نريد أن نتزوج من عندكم، ونريد أن نحتفي ونريد أن نطعم سوية، قالوا: لا حاجة لنا في زواجك ولا في طعامك، اخرج، فخرج صلى الله عليه وسلم وتزوجها ودخل بها في سرف في عودتهم إلى المدينة، وسرف تبعد عن مكة مرحلتين.

وهنا اختلفوا: هل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم حينما أرسل يخبرها، أم تزوجها بعد أن حل من عمرته وانتهى وبنى بها في سرف؟

والعجيب أنهم يقولون: المكان الذي بنى لها فيه خيمة وبنى بها هو المكان الذي توفيت ودفنت فيه.

فقال بعضهم: تزوجها وهو محرم، وأخذ بذلك أبو حنيفة رحمه الله.

وقد اختلفت الروايات فـرافع بن خديج كان السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة وقد روى أنه تزوجها وهو حلال. وابن عباس هي خالته، وقد روى أنه تزوجها وهو محرم، فلما اختلف الناس في ذلك سألوا ميمونة رضي الله عنها، فقالت: تزوجني وهو حلال.

فهنا اختلفت الرواية في قضية واحدة، ولا يمكن أن يدعي أحد تكرار القضية وتعددها -كما يقال في غير هذا الموضع- فتحمل بعض الأحاديث على نوع وبعض الأحاديث على نوع آخر، لكن هذه قضية واحدة لم تتكرر.

فقالوا: في هذه الحالة يؤخذ بالترجيح، فيرجح بالقرائن التي تدل على صدق أحد الفريقين، ومن القرائن: أن الذي يروي أنه تزوجها وهو حلال هو الواسطة بين الطرفين، فـرافع بن خديج هو الواسطة في تزويجهما، فيكون أعلم من غيره: أتزوجها وهو حلال أم وهو محرم؟

وابن عباس يروي عن خالته، ومن روى عن خالته ليس مثل شخص آخر يسمع بواسطة، فلو قارنا رواية ابن عباس عن خالته برواية غيره، فإن الذي يكون أعلم بهذا الأمر هو ابن عباس بلاشك.

إذاً: هنا اختلف رافع بن خديج وابن عباس ، فالأول يروي أنه تزوجها وهو حلال، والثاني يروي أنه تزوجها وهو محرم، وهنا رجعوا إلى ميمونة فسألوها عن ذلك فقالت: تزوجني وهو حلال. فاختلفت رواية ابن عباس عن رواية رافع وميمونة ، وابن عباس يروي عن خالته، فهو يعادل حديث رافع ، ورافع هو الرسول بينهما، وابن عباس هو ابن أختها، فاختلفا، وكلاهما له صلة قوية بها، فقالوا: إذاً نرجع إلى صاحبة القصة وهي ميمونة ، فسألوها فقالت: تزوجني وهو حلال. وبهذا أخذ الجمهور أنه لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح.

ثم بعد ذلك ذكروا مسائل أخرى، مثل هل يطلق؟ وهل يخالع ؟ هل يرد الزوجة في طلاقها قبل تمام العدة؟ كل ذلك موضع بحث في هذا الحديث.

والذي يهمنا أن من محظورات الإحرام: النكاح، أي: أن يكون النكاح ابتداء لا دواماً، فالمحرم يكون متزوجاً ويبقى حكم الزواج بعد الإحرام، ولكن لا يبتدئ ولا يستأنف النكاح، وإذا كان العقد ممنوعاً وهو مجرد قبول وإيجاب ؛ فالوطء من باب أولى.

حكمة تحريم النكاح على المحرم

وهنا يقال: إن هذه المحظورات تعتبر من خصائص الإحرام، فإن الزوجة حلال بكتاب الله، وحينما أحرم قيل له: لا تمس الزوجة فإنها محرمة عليك مدة الإحرام، سبحان الله! الإحرام الذي هو قربة إلى الله يحرم عليه الزوجة؟! والشخص الحلال الذي لم يحرم زوجته حلال له؟! قالوا: لأن معطيات الإحرام تهذيب النفس وتربية المسلم تربية مثالية، فإذا كانت الزوجة معه في هودجهما، والاثنان على بعير واحد متقابلان، ويكونان معاً في خيمتهما، ومعاً في طعامهما وشرابهما ومنامهما، ويمسك نفسه منها وهي كذلك مدة الإحرام، وكم من نوازع تأتي بينهما، وكم تكون هناك من تفاعلات نفسية غريزية، لكنه يتذكر أنه محرم فيكف عن ذلك ؛ بل ربما لا يفكر نهائياً في هذا الموضوع ؛ لأنه محرم.

ولو قدر أنه اختلى بأجنبية لظروف ما فإنه تكون عنده حصانة ومناعة، وقد تعلم كيف يمتنع من زوجته التي هي حلال له في كتاب الله، فتكون الأجنبية من باب أولى، فيأخذ هذا الدرس، ويتعود هذا التعود بالنسبة للمحرمة عليه بناء على الحلال التي أحلها الله له، ولكن بالإحرام كف وامتنع.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة -وهذا قطعاً-في عمرة القضية، وبنى بها في سرف، لكن جاء عن ابن عباس أنه عقد عليها وهو محرم، وجاء عن رافع بن خديج أنه ما عقد عليها إلا بعد أن تحلل، فتعارضت الروايتان عن صحابيين كل له صلة بالقصة ؛ هذا يروي عن خالته، وهذا كان السفير بينهما، فجاء حديث صاحبة الموضوع وفصل في النزاع وعرفنا أنه تزوجها وهو حلال.

حكم عقد المحرم للنكاح من حيث الصحة والبطلان

والحكم عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل أن المحرم لا يحق له أن يعقد نكاحاً، وإن عقد فهو باطل ؛ فلا يزوج وليته ولا يتزوج، ولا يتوكل عن إنسان في الزواج، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن له أن يتزوج بناءً على وجود الخلاف في الروايتين.

وهنا نشير مرة أخرى إلى أن الخلاف إذا وقع بين الأئمة رحمهم الله في قضية واحدة كهذه، لم يكن الخلاف عن دوافع شخصية، ولا عن تعصب في الرأي، إنما يكون الخلاف في معنى الحديث، وفي الرواية التي وصلتنا، فلا يستطيع إنسان أن يقول لـأبي حنيفة : أنت خالفت الحديث، ولكن يقال: إن الحديث الذي تمسكت به حديث صحيح وعن إنسان له علاقة، ولكن الآخر أرجح.

وأما رواية ابن عباس فقالوا: هذا ثقة خالف الثقات، ويقال في علم الحديث: هذه رواية شاذة، والله تعالى أعلم.

حكم الصيد للمحرم

قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قصة صيده الحمار الوحشي وهو غير محرم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وكانوا محرمين (هل منكم من أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه) متفق عليه].

وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفق عليه].

ابتلاء الله تعالى للمؤمنين بمسألة الصيد

موضوع هذين الحديثين أن المحرم لا يقتل الصيد، ولا يأكل لحم صيد صِيد لأجله، ولكن القضية في التشريع الإسلامي أوسع بكثير من هذه الكلمة والنصف، فإن الله سبحانه وتعالى قد امتحن المسلمين بقضية الصيد، وامتحن قبلهم بني إسرائيل بقضية الصيد، فكيف كان نوع الامتحانين ؟ وكيف كانت النتيجة ؟

قال الله تعالى عن بني إسرائيل: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] فذكر حال هذه القرية وما فعلت وما حل بها، وقال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]، فبنو إسرائيل قالوا: لا نعمل في يوم السبت، وكانوا يقولون بأن يوم السبت هو اليوم الأسبوعي، وأنه خير من يوم الجمعة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمم اختلفت في يوم الجمعة، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله المسلمين ليوم الجمعة، فقال بنو إسرائيل: إن يوم السبت فيه السبوت، قالوا: إن الله خلق الكائنات فبدأ من يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وسبت في يوم السبت فلم يخلق شيئاً، فقالوا: ففي يوم السبت لا نعمل شيئاً، فأخذهم الله بادعائهم، وامتحنهم الله بالحيتان في يوم السبت الذي أخذوا على أنفسهم أنهم لا يعملون فيه شيئاً، ففي يوم السبت كانت تأتيهم الحيتان على سطح البحر، فما استطاعوا أن يصبروا، فأتوا بالشباك وألقوها يوم الجمعة وربطوها وذهبوا وناموا في بيوتهم، ويوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق فيها من الحيتان يوم السبت، وقالوا: نحن لم نفعل شيئاً، فقد كنا يوم السبت في بيوتنا وما فعلنا شيئاً، فكان ما كان، قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65].

ثم جاءت هذه الأمة وامتحنها الله بالصيد، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، فمنعهم من قتل الصيد ثم قال: سأبتليكم بالصيد وأنتم حرم، فجاء منع الصيد، فخرجوا في عمرة القضية، فأرسل الله الطيور تقع على أسنة الرماح، وتقع على أعواد الركاب أمام الإنسان، وجاءت الغزلان وصيد البر تتخلل بين أرجل الخيل والإبل كأنها غنم تمشي معهم، وهذا شيء يسيل له اللعاب وخاصة عند العرب، فإن الصيد من ألذ ما يكون لهم وإن لم يأكلوه، فلم تمتد يد إنسان منهم لا على طائر فوق رمحه ولا على غزال بين قدم فرسه، وكفوا أيديهم فعلاً ؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم مر على ظبي عاكف في ظل شجرة مصوب بسهم إنسان عادي كان قد رماه فجاء ونام عند الشجرة، فأوقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من المسلمين يحرسه لئلا يهيجه أحد ؛ لأنه مصوب مجروح، ومروا في هذا الامتحان بنجاح، فبنو إسرائيل امتحنوا بالصيد ففشلوا، والأمة الإسلامية امتحنت بالصيد فنجحت، وهذا الابتلاء بالطعام أشد ما يكون على الأمم.

وكذلك طالوت لما فصل بالجنود قال تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة:249] فابتلاهم الله بالماء، يقول ابن كثير : كانوا في شدة الحر فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ [البقرة:249]، ولم يمنعهم من الشرب مرة واحدة، ولكن من يغترف بيده فلا بأس.

وحينما تبتلى الأمم وتمتحن بمن يحاربهم في أرزاقهم وفي حياتهم وفي طعامهم، ويتحكم في موادهم الغذائية ويتاجر بها كيف شاء، فهي محاربة وبلاء شديد، وأشد ما يكون ابتلاء على الأفراد، وكذلك يكون الابتلاء بإخراجهم من ديارهم، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ [النساء:66]، فجعل الإخراج كالقتل سواء، فقد ابتليت الأمم وامتحنت، ولتمام هذه القضية بالذات امتحن بنو إسرائيل في مادة أخرى امتحنت فيها الأمة المحمدية، فسقطت تلك ونجحت هذه.

كذلك قضية القتال لما قال لهم نبي الله موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ [المائدة:21-22]... قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، قالوا كلمة يستحيا من التلفظ بها، ونفس المادة والدرس امتحنت به هذه الأمة في غزوة بدر.

فقد خرج صلى الله عليه وسلم ليأخذ عير أبي سفيان، وقال: (إن هذه عير قريش، نخرج إليها لعل الله ينفلكموها) فأرادوا أن يجمعوا جيشاً يخرج معه فقال: من كان ظهره حاضراً فليركب، وخرج في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وحينما مشى وقبل أن يصل إلى بدر جاءته عيونه بأن العير فاتتهم وأقبل النفير، وأصبحوا بين أمرين: إما أن يرجعوا ولا يقابلون النفير، وأما أن يجازفوا بلقاء النفير.

وقد علم صلى الله عليه وسلم أن القوم ما بين التسعمائة والألف، وذلك عن طريق الإحصاء لما أخذوا الغلام ليلاً وسألوه عن عدد القوم، فقال: لا أدري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم ينحرون في اليوم ؟ قال: يوماً تسعة ويوماً عشرة من الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف)، وهذه مهمة القائد اليقظ، يجب أن يعرف عدد عدوه وآلاته ومنهجه في القتال، فعلم عدد المشركين وما معه صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر، وهنا احتاج أن يشاور أصحابه، فإنه قد خرج لأخذ العير، وجاء النفير، وقد كان العهد بينه وبين الأنصار -وهم أكثر الموجودين- عند بيعة العقبة أن يحموه إذا خرج إليهم مما يحمون منه نساءهم وأطفالهم، وهذه الحالة لم يكتمها عن القوم ؛ لأن الجهاد في الإسلام مشورة ومشاركة، والفرد في الجيش الإسلامي كالقائد يشعر بمسئولية المعركة ؛ لأن الكل جند في سبيل الله، فشاورهم وقال: يا أيها الناس! ذهبت العير وجاء النفير، فماذا نفعل؟ فقال البعض: يا رسول الله! نحن ما خرجنا للنفير بل خرجنا للعير، ومعنى هذا: أن نرجع، وقال آخرون: لعلك خرجت لأمر وأراد الله أمراً آخر، فلتمض إلى ما أراد الله، وتكلم المقداد وعمر وأبو بكر، فيثني عليهم خيراً ويقول: (أشيروا علي أيها الناس) حتى قال قائلهم: يا رسول الله ! والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك، وقال آخر: والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] لكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وبعد هذا الكلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، فيقوم سعد بن عبادة وقيل: سعد بن معاذ ، فكلاهما سيد الأوس والخزرج، فقال: لكأنك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟! -لأن الذين تكلموا من قبل هم من المهاجرين - فقال: نعم، أريدكم -أي: لأن العهد بيني وبينكم في بيوتكم ولكنكم الآن خارج منازلكم، ولكم أن تقولوا: ليست لك علينا نصرة لأننا خرجنا عن بيوتنا، ومنعتنا من أن نأتي بالباقي من العوالي، ومنعت الآخرين أن يأتوا، فلهم أن يقولوا هذا، وهذا لم يحصل تصريحاً ولكن يفهم من المقام، فقال: (والله يا رسول الله! لقد تخلف عنك بعض أصحابنا، ووالله ما نحن لك أشد حباً منهم، ووالله لو علموا أنك تلقى قتالاً ما تخلف واحد منهم، والله يا رسول الله! لوددنا أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر عند اللقاء... ثم قال: امض لما أمرك الله يا رسول الله!) فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهلل وجهه وقال: (أبشروا، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان)، وأخذ يعدد مصارع صناديد قريش الذين سيصرعون غداً في يوم بدر.

ويهمنا من هذه المقارنة أن بني إسرائيل قالوا: اذهب أنت وربك، وهذه الأمة قالت: والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ؛ ولهذا جاء القرآن الكريم بالشهادة الإلهية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وليست مسألة عاطفية ولا مسألة ابتدائية، بل إنها مؤسسة على سوابق، فقد نجحوا في امتحان الأكل والشرب في الصيد، ونجحوا في امتحان القتال واتصفوا بما وصفهم الله به ونفاه عن بني إسرائيل، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وقال عن بني إسرائيل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79]، فالأمور التي عرضت على بني إسرائيل فأخفقت فيها: الصيد والقتال والأمر بالمعروف، وهذه الأمة نجحت في هذه الثلاث.

الحكمة من تحريم الصيد على المحرم

ولماذا حرم الصيد في الإحرام؟ شخص يقول على ظهر البعير: لبيك اللهم لبيك، حرام عليه أن يصيد، وقائد البعير وليس بمحرم فيصيد ويأكل، فهل الحلال غير المحرم أفضل على الله من المحرم الذي يقول: لبيك اللهم لبيك؟ والصيد هو كرامة، ولو أتينا إلى العقل لكان المحرم أولى من غيره، ولكن هذا من باب التربية، فإذا كان المحرم لا ينكح ولا يمس زوجته وهي حلال له ؛ ليكون ذلك دربة وتمريناً له على العفة عن الحرام، فكذلك الأمر هنا إنما هو دربة وتعليم وتهذيب وكف لليد عن أن تريق دماً ولو كان لشيء حلال وهو الصيد، فإذا ما حل من إحرامه وعاد إلى بلاده، فاليد التي لم تمتد إلى صيد حلال مباح ستكف عن الدم الحرام، ولن يعتدي على أخيه المسلم فيريق دمه من غير ما ذنب.

وهكذا تكون كل خطوة في الحج لها حكمة ولها مدلول ولها عطاء، ويحتاج المسلمون أن يتعلموا هذه المواطن وما فيها من توجيهات، وما يمكن أن يستخلصه الإنسان من تعاليم الإحرام، سواء مما كان جائزاً فيه أو كان ممنوعاً عنه. وبالله تعالى التوفيق.

حكم أكل المحرم مما صيد لأجله ولغيره

وبقي الكلام على فقه الحديث وما يتعلق بالحمار الوحشي.

كان أبو قتادة رضي الله عنه في عمرة الحديبية غير محرم، قيل: لأنه كان قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهمة فلم يخرج معهم في تلك العمرة، وإنما التقى معهم في الطريق، وقيل: لأنه كان طليعة للمسلمين عند قدومهم على مكة، والحاصل: أنه رضي الله تعالى عنه كان مع أصحابه في المهمة التي بعثه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم قد أحرم وبعضهم لم يحرم، فرأى حمار وحش فأراد أن يشد عليه فسقط سوطه، فقال لبعض إخوانه المحرمين: ناولني السوط، فقال: إنا حرم،فانطلق وأتى بحمار الوحش -ومعلوم أنه رجل غير محرم، والصيد جائز لغير المحرم إذا صاده لنفسه أو لغير المحرم- فلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه) والبعض يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، والبعض الآخر يقول: لم يأكل ؛ لأنه جاء في بعض الروايات أن أبا قتادة صاده لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يأتي، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صاده بنفسه أو صاده غيره من أجله، وينص النووي وغيره في مناسك الحج: لو أن قرية من القرى يمر عليها الحجاج وهم محرمون، وفيها الذبائح واللحم، فقام أرباب الصيد وذهبوا واصطادوا وجاءوا بلحم الصيد للبيع، وعلم المحرم أنهم صادوه من أجله ولو للبيع عليه أو للهدية، فلا يجوز له أن يأكل من ذلك ؛ لأنه صيد من أجله، أما إذا صاده ابتداء لنفسه أو لأهله، وحضر محرم هذا اللحم أو هذا الطعام ولم يشارك لا هو ولا جنسه من المحرمين، فله أن يأكل من هذا اللحم.

حكم أكل المحرم من لحم الصيد إذا اضطر إليه

وهنا يبحث العلماء: إذا لم يجد المحرم طعاماً إلا الصيد، فهل يباح له كما أبيحت الميتة لغير المحرم؟ وإذا وجد ميتة ووجد صيداً ووجد غير صيد من بهيمة الأنعام مملوكة للغير، فهل يأكل الصيد؟ أم يأكل الميتة للرخصة؟ أم يأكل من مال الغير؟ كثير من العلماء قالوا: لا يأكل الصيد، وله أن يأكل من الميتة ؛ لأن الصيد محرم على كل حال ولم يأت فيه استثناء في حالة الاضطرار كما جاء في الميتة؛ ولأن الميتة جاءت فيها رخصة مستقلة، وقالوا: الصيد حرم على المحرم على الإطلاق في كل زمان ومكان، والميتة محرمة إلا على المضطر، فقالوا: يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد، فضلاً عن أن يقتل الصيد وهو حي، وهذا يدل على التشديد في تحريم لحم الصيد للمحرم.

ثم جاء الحديث الآخر بأن الصعب أتى بحمار وحش أو بلحم حمار، أو حمار وحشي -بأي لفظ كان من هذه الألفاظ- وفي بعض الروايات: يقطر دمه، فقدمه للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، فرده عليه صلى الله عليه وسلم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه الصحابي لأن الرسول رد هديته، ولم يعلم الحكم، فجبراً لخاطره أزال عنه هذا الأثر وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) أي: محرمون، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صيد من أجله، ففي حديث أبي قتادة رخص لهم أن يأكلوا ما لم يشارك أحد منهم في صيده، وهنا لم يسأل، ولكن رده ابتداء، وهنا قالوا: هل يمنع المحرم من أكل الصيد مطلقاً، أم لا يمتنع منه إلا إذا شارك فيه؟

في حديث أبي قتادة لم يشارك فيه أحد، فأكلوا منه، وهنا لم يسأل، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرده عليه إلا لأنه تيقن أو غلب عليه الظن أن هذا لم يأت بحمار الوحش يقطر دمه إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت القرائن محتفة بأن هذا الآتي لم يأت بهذا الحمار إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم رده عليه ؛ لأن المحرم لا يأكل ما صيد من أجله، وبهذا يجمع بين الحديثين ؛ فيقال: في الحديث الأول أباحه لأنه لم يصده من أجلهم، ولا شارك أحد منهم في صيده، وفي الحديث الثاني غلبة الظن أنه صاده من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا رده صلى الله عليه وسلم.

وهنا ينبغي الاستفادة من جانبين: جانب تحريم الصيد على المحرم، وجانب جواز أكل لحم حمار الوحش، والفرق بينه وبين الحمار الأهلي، مع أن كليهما حمار، فالجنس واحد والفصيلة واحدة.

من حكم تحريم النكاح والصيد على المحرم

يقول بعض العلماء الذين تكلموا في حكمة التشريع: لقد تبين لنا بالتتبع أن كل خطوة في الحج وراءها حكمة وموعظة، وفيها توجيه وتهذيب للنفس الإنسانية، فإذا نظرنا -كما تقدم- في قضية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة ، وأن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، وبالتالي فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197]، والرفث: هو الحديث في شأن النساء عند النساء، فإذا كان الحديث ممنوعاً ؛ فمن باب أولى الوطء، وقد أجمع العلماء على أن من وطئ بعد الإحرام وقبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه، وعليه أن يمضي في فاسده وأن يحج من عام آخر، وذكروا أن المحرم يقترن بحليلته قرابة العشرين يوماً أو الشهر، فإنه يخرج من ذي الحليفة -مثلاً- ميقات المدينة، وهو أبعد المواقيت، ويظل حتى يصل إلى مكة تسعة أو عشرة أيام، ثم بعد ذلك إلى عرفات، ثم الرجوع إلى مزدلفة ومنى وحتى يطوف بالبيت هذه تأخذ سبعة أيام، فيظل قرابة العشرين يوماً وهي قرينته في ركوبهما على البعير وفي أكلهما وشرابهما، وفي كل لحظة وهما مختلطان معاً، ومع ذلك يستطيع أن يمسك نفسه وأن يتعالى ويبتعد عنها مع موجب الحليِّة وهي الزوجية، فقالوا: هذا تمرين وتعليم له، وتهذيب للنفس وتربية لها على العزيمة على ترك الحلال حينما يطلب ذلك منه، فإذا رجع إلى بلده ولم يكن هناك إحرام ولكن هناك التحريم عن الأجنبيات والخلوة مع الأجنبية ساعة أو ساعتين، ففي الحج استطاع أن يمسك نفسه مع الخلطة الكاملة، وهذه الأجنبية لا تتاح له الفرصة بالخلوة معها أكثر من نهار، فإذا كان قد استطاع أن يتماسك عن الحلال عدة أيام، فمن باب أولى أن يستطيع أن يتماسك عن المحرم بضع ساعات، ففي هذا تهذيب للنفس.

وقالوا: كذلك في الصيد، فهو أحل الحلال ؛ لأن الشاة التي تربيها وتذبحها أنت مسئول عن رعايتها: من أين جئت بالعلف؟ ومن أين جئت بثمنها؟ لكن الصيد لست مسئولاً عن شيء فيه، وهو هدية لك من الله سبحانه وتعالى، وكذلك النفس تنشرح وتنهض للظفر به، وهو من ملك الله، ومع ذلك فإن الحلال يصطاد ويأكل والمحرم يلبي ولا يأكل.

قالوا: لأنه إذا استطاع أن يكف يده عن هذه الغزال في البر وهي ملك لله، وهو أحق بها من غيره، فإذا رجع إلى بلده فلا يمكن أن تمتد يده إلى مال أحد من المسلمين بغير حق ؛ لأنه درب وكف يده عن أحل الحلال في الخلاء بوجود حرمة الإحرام، وهو الآن يكف يده عن حلال غيره لحرمة التحريم.

إذاً: تحريم الصيد على المحرم ليس تقتيراً عليه ولا تهاوناً بشأنه، ولكن تدريباً لنفسه على أن يكف يده عن الحرام، فإن هذا محرم بالإحرام، وهذا محرم بالتحريم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [3] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net