إسلام ويب

إذا أراد المحرم أن يحرم بالحج أو العمرة فيشرع له أن يهل بالنسك، والإهلال هو التلبية، ويشرع رفع الصوت بها، ولها معان عظيمة جليلة، كإفراد الله تعالى بالتوحيد والعبودية، ونحو ذلك من المعاني، وعند الإهلال يجب على الناسك أن يتجرد من ثيابه ويلبس ثياب الإحرام، ويسن له الاغتسال، وبعد الاغتسال يلبس ثياب الإحرام، وعليه أن يجتنب لبس القميص والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف، ولا يلبس ثوباً مسه الزعفران أو الورس.

الإهلال بالحج والعمرة وصفته

قال المؤلف رحمه الله: [ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) متفق عليه ].

بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى المواقيت للإهلال، وكأن كل مريد للحج قد وصل إلى ميقاته، شرع في بيان ميقات أهل المدينة؛ وذلك لقرب المدينة من مكة، وأراد أن يبين لنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خرج صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الظهر في هذا المسجد النبوي الشريف أربعاً، وسار إلى ذي الحليفة ووصلها قبل العصر وصلى العصر قصراً ركعتين وبات ليلته هناك، ثم أهلّ بنسكه.

تعدد الروايات في مكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم

ويأتينا المؤلف رحمه الله بهذه الرواية: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد)، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع إهلاله في الميقات.

وقد تقدمت الإشارة إلى أنه أهل قبل الميقات المكاني وهو خاص، وهنا جاءت روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ من عند المسجد، وهناك رواية: أنه أهلّ حينما استوت به راحلته، وأخرى أنه أهلّ حينما كان بالبيداء.

وقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس ! لقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ووقع في نفسي شيء لكثرة ما سمعت في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وما ذاك؟ قال: سمعت من يقول: أهلّ بالمسجد، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوت به راحلته، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوى بالبيداء -والبيداء: هي الأرض المرتفعة المطلة على ذي الحليفة وليست بعيدة عنها- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك بذلك كله. ووضع لنا ابن عباس رضي الله عنهما منهجاً علمياً في مسألة: كيف نعمل مع الأحاديث إذا تعددت وكان فيها شبه تعارض؟

قال: يا ابن أخي! أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة بالمسجد، فسمع ذلك أقوام فأخبروا بذلك، ثم لما نهضت به راحلته أهلّ، فسمع بذلك أقوام آخرون ولم يكونوا قد سمعوا ما تقدم فأخبروا بما سمعوا، ثم لما كان بالبيداء أهلّ، فسمع بذلك أقوام ولم يكونوا قد سمعوا بما قبلها فأخبروا بما سمعوا، فكل صادق، وكل أخبر بما سمع.

إذاً: فقد تعددت الروايات في مكان إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الروايات: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ومعلوم أن السنة في الإهلال هي اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد قدمنا ما جاء عن مالك رحمه الله تعالى أن رجلاً أتاه وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد، فقال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة وأنا أحرم من مسجد رسول الله، إنما هي خطوات أزيدها؟ قال: هذه هي الفتنة، أخشى أن يقع في نفسك أنك زدت في إحرامك خطوات لم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك.

وعلى هذا: فمن قدّم الإهلال على الميقات المكاني فإن إهلاله صحيح، ولكن الأفضل أن يكون من الميقات، مخافة أن يطول عليه الزمن أو المكان فيقع في بعض المحظورات وقد كان في عافية من ذلك.

وإذا لاحظنا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (خذوا عني مناسككم)؛ علمنا أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأعمال هو الأولى والأفضل.

معنى الإهلال بالنسك

وقوله: ( أهل ) أي: رفع صوته مهلاً بنسكه، والإهلال: مأخوذ من التهليل وهو رفع الصوت، والتهليل مأخوذ من الهلال، يقول أهل اللغة: إن أسماء المعاني مأخوذة ابتداءً من أسماء الذوات، أي: المحسوسات، فالاسم يوضع أولاً للذات المحسوسة، ثم ينقل منها إلى المعنوي، كما تقول: أذن الآذن بكذا، وفلان مأذون بكذا، فإن أصل مادة (أذن) هي الأذن؛ لأنها يلقى فيها الأمر الذي أُذن فيه للسامع بما أُذن، فكذلك الإهلال، فقد كانوا إذا رأوا هلال الشهر رفعوا أصواتهم بالتهليل، أي: إعلاناً برؤية الهلال لهذا الشهر، ثم انتقل الاستعمال لكلمة الإهلال والتهليل لكل صوت مرتفع، ولهذا يقال للصبي عند ولادته: أهلّ باكياً، إذا استهل صارخاً ثبتت حياته وثبت ميراثه ولو مات بعدها بلحظة.

وعلى هذا فقوله: (أهلّ النبي من عند المسجد) أي: رفع صوته بالتهليل بالنسك الذي أراده، وهنا يقول العلماء: إن عقد النية لجميع أعمال العبادات يكون سراً في القلب إلا في أحد النسكين، فله الحق في أن يتلفظ به رافعاً صوته: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجاً، أو لبيك اللهم عمرة وحجاً، وما عدا ذلك من صيام وصلاة وزكاة وغير ذلك فلا يرفع فيها صوته ولا يتكلم بالنية إلا بقدر ما يسمع به نفسه توكيداً لما انعقد عليه القلب.

رفع الصوت بالإهلال

قال المؤلف رحمه الله: [ وعن خلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان ].

الخبر الأول: في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهل.

والخبر الثاني: في حق أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، وهنا نجد جبريل عليه السلام مع رسول الله في هذه الحجة، فنجده صلى الله عليه وسلم يقول: (أتاني جبريل)، فهو يأتيه بكل ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوحيه إليه، فقد يأتيه بوحي من كتاب الله قرآناً، وقد يأتيه بخبر آخر سوى ذلك.

فهنا أتاه جبريل وأمره، ولم يلقِ الأمر جزافاً، بل قال أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال، وهناك رواية: (بالتلبية)؛ لأن الإهلال هو التلبية، والتلبية هي الإهلال، ورفع الصوت من شعار الحج، وهذا خاص بالرجال، أما النسوة فيسمعن أنفسهن فقط.

من معاني التلبية

وهذه التلبية وشعار الحج لو وقف الإنسان عندها لوجد -كما أسلفنا سابقاً- أن الحج يشمل عموم أعمال الإسلام، وقد أسلفنا أيضاً أن رحلة الحج لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي رحلة عامة للدين والدنيا والآخرة، فهنا حينما يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، التلبية في اللغة تأتي بمعنى: الإقامة، أي: إقامة على طاعة الله، وتأتي بمعنى: إجابة النداء، كأن تنادي: يا زيد! فيقول: لبيك، أي: أنا سامع مجيب مستعد لما تأمرني به.

وهنا يقول العلماء: (لبيك) إجابة لنداء، وأين هذا النداء الذي يلبيه الحاج عند إهلاله بالنسك؟ قالوا: هناك نداء سابق وهو ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]، ولما بنى إبراهيم البيت أمره الله أن ينادي في الناس: (إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فقال: يا رب! وأين سيبلغ ندائي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد أبا قبيس ونادى وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه)، فأبلغ الله سبحانه وتعالى بقدرته هذا النداء لجميع الخليقة إلى يوم القيامة، فقد بلغ الصوت للحاضرين آنذاك، وللأشخاص في الذراري في أصلاب الآباء قبل أن يوجدوا، فشمل كل أجيال بني آدم، وقالوا: من لبى مرةً حج مرة، ومن لبى أكثر حج أكثر.

فمجيء الإنسان إلى الميقات وإعلانه: لبيك اللهم لبيك، عبارة عن إجابة لذلك الدعاء الذي دعاهم به إبراهيم عليه السلام لحج بيت الله الحرام، وفي قول الحاج أو المعتمر: لبيك اللهم لبيك، تكرار للتأكيد.

وقوله: (لا شريك لك لبيك)، هذه هي عقيدة التوحيد التي خلق الله الخليقة من أجلها ليعبدوه ويوحدوه، (لا شريك لك) رد على أهل الجاهلية، فقد كانوا يقولون في حجهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فهم يعترفون بأنه شريك صغير، وأنه مملوك لله، ولكن ذلك لم ينفعهم، فجاءت التلبية تخلص العبادة لله وحده: (لبيك لا شريك لك) لا في هذا الحج ولا في غيره.

ثم يعقب ذلك بما يشبه التعليل لنفي الشراكة عن الله، فيقول: (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) فكأنه يقول: موجب التوحيد وعدم الشريك هو أن الحمد والنعمة لك، والحمد يكون لكمال الممدوح لذاته، قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، و(رب العالمين) فيها التنصيص على أن جميع النعم في جميع العوالم هي لله، وهنا: تحمد الله لكمال ذاته، والحمد يتضمن الشكر على نعمه؛ لأن جميع النعم لله، (إن الحمد) أي: الكمال الذاتي، (والنعمة): التي نعيش بها ونرجوها في الدنيا أو في الآخرة هي لله.

إذاً: ما دام الكمال لله فلا نعبد غيره، وما دامت النعمة كلها لله فلا نطلب من غير الله شيئاً؛ بل نتوجه إلى الله بكليتنا بدون شراكة في ذلك.

والملك كله لله، إذاً الخير والشر لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، فلا تخشى في دنياك أحداً؛ لأن النعمة التي ترجوها عند الله، والشر الذي تتقيه وتخشاه لا يأتيك إلا بقضاء الله؛ فلا وجود لمن ترجوه أو تخشاه إلا الله، وبهذا تكون بداية الناسك تجديد العهد بربه إيماناً وتصديقاً ورضاً، ويظهر شعار الحج بهذا النشيد المبارك: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، أي: في ذلك كله، فهذا هو معنى الإهلال.

ومن المعلوم أن الأذان وهو شعار الإسلام في أعظم ركن وهو الصلاة يبدأ بالتكبير ثم بالتهليل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم نجد الدعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح، فنجد فيه أيضاً توحيد الله سبحانه، والتصديق برسوله في النطق بالشهادتين، ونجد تكرار التكبير؛ لأنك في عملك أياً كان نوعه، أو في جلوسك ومتعتك أياً كانت صفتها، حينما تسمع: الله أكبر، توقن بأن الله أكبر مما أنت فيه مهما كان، فلا يمنعك ولا يؤخرك عن إجابة المنادي (حي على الصلاة)؛ لأن الله أكبر مما أنت مشغول به، أو مما تسعى إليه.

وهكذا يكون الإمعان في التلبية بمعنى: الإمعان في أسس التوحيد والعودة إلى الله سبحانه وتعالى.

التجرد من الثياب والاغتسال عند الإهلال

قال المؤلف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: تجرد لإهلاله واغتسل)، رواه الترمذي وحسنه].

التجرد: هو الخروج من هذا اللباس العادي، وإذا ما تجرد فلابد أن يستتر فيلبس الإزار والرداء بعد التجرد، وقبل اللبس يغتسل، ولذا اتفق الجميع على أن من شروط الإحرام: التجرد، ولكنه ليس شرط صحة، فإذا أهل ولم يتجرد صح إهلاله وانعقد نسكه، ثم يجب عليه أن ينزع ما هو لابس من ثيابه، فإن لم يفعل فتلزمه فدية.

ويصح أن يتجرد الإنسان قبل الميقات أو في الميقات، أما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فهو أنه تجرد في بيته في المدينة واغتسل ثم خرج إلى ذي الحليفة بإزاره وردائه، وطيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.

إذاً: السنة والواجب على المحرم أن يتجرد من ثيابه، وإذا نظرنا إلى هذا العمل نجده من غرائب حكمة التشريع فحينما تأتي وفود المسلمين من أقطار شتى ويجتمعون في المدينة، فتجد كل جنس في كل قطر له لباس خاص به يميزه عن غيره، ولو رأيته بلباسه لعرفت من أي الأجناس أو من أي الأقطار هو، فإذا ما أرادوا الحج فلا يجتازون الميقات إلا وقد خرجوا من تلك الألبسة وتوحدوا بلباس واحد إزار ورداء، وهناك تكون قد ذهبت الفوارق، وألغيت العادات، وظهر المسلمون أمة واحدة في شكل واحد، توحدت أشكالهم كما توحد شعارهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.

وفي هذا التجرد خروج من مظاهر الدنيا، سواءً كانت مظاهر غنى أو فقر، مظاهر إقليمية أو جنسية أو غير ذلك، والإسلام في ذاته لا يعترف بشيء من هذا إلا للتنظيم فقط: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13] ، للتعارف والتنظيم فقط، والحقيقة: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

فهنا حينما يريد الحاج أو المعتمر أن يهل فإن عليه قبل ذلك أن يتجرد، فإذا تجرد اغتسل، وكما أسلفنا فإن التجرد شرط للإحرام، ولكن إذا لم يفعله جبر بدم، وسيأتي أن البعض قد يعذر في تجرده من بعض ما يحتاج إليه من لباس، فيترخص ويدفع قيمة ذلك الترخص.

ويسن كذلك الاغتسال، وقد سن الاغتسال للمحرم في عدة مواطن، وكلها -كما أسلفنا- سنة حسب ما تيسر له، وهي: عند إرادته الإحرام بعد التجرد، وعند دخول مكة، وعند الوقوف بعرفات، فقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن، فإذا لم يتيسر له أن يغتسل توضأ وأجزأه ذلك، وإن كان معذوراً في استعمال الماء أو لم يجد الماء تيمم.

ثم إن أهل دون أن يغتسل ودون أن يتوضأ ودون أن يتيمم فإن إهلاله صحيح؛ بل إن المرأة الحائض أو النفساء عند الإهلال تغتسل للإهلال وليس للحيضة، فإذا جاءتها الحيضة مثلاً في الصباح فتهل في المساء ولا زالت بحيضتها، والسنة أن تغتسل لا لحيضتها ولكن تطهراً واستقبالاً لهذا النسك، كما جاء (أن أسماء بنت عميس -زوج الصديق رضي الله تعالى عنهما- نفست -أي: ولدت- في ذي الحليفة ليلة مبيته صلى الله عليه وسلم بها فجاء أبو بكر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: مرها فلتغتسل)، وبين له أنها تفعل ما يفعل الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر من نفاسها، وكذلك مثلها صاحبة الحيضة.

إذاً: الإهلال ينعقد ويصح ولو لم يغتسل، ولو لم يتوضأ، ولو لم يتيمم، ولكن الغسل هو السنة، وكذلك مس الطيب في البدن لا في الثياب، على ما سيأتي إن شاء الله.

إذاً: على المحرم أن يتجرد من ثيابه، وأن يغتسل لإهلاله، وأن يلبس إزاراً ورداءً أو ما ينوب عنهما، كما سيأتي إن شاء الله.

شرح حديث: (ما يلبس المحرم من الثياب)

قال المؤلف رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس) متفق عليه، واللفظ لـمسلم ].

بعدما قدم المؤلف رحمه الله التجرد والاغتسال للإهلال وموقع الإهلال ومكانه، كأنه قيل: بعدما تجرد واغتسل لابد أن يلبس شيئاً، فجاء بهذا الحديث الشامل العام في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا يلبس المحرم؟) وهذا الحديث من نماذج أسلوب الحكيم في الإجابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سُئل: ماذا يلبس؟ فأجاب: (لا يلبس)، أي: سُئل عن بيان ما يجوز للمحرم أن يلبسه فكان الجواب عكس السؤال: لا يلبس المحرم كذا وكذا.

وقد ذكر العلماء أن القاعدة الأساسية في الجواب أن يطابق السؤال، ولكن المسئول إذا كان حكيماً راعى حالة السائل، فقد يزيده عما سأل، وقد يغاير ويجيبه عن غير ما سأل؛ ليبين له أن الأهمية فيما تضمنه الجواب، أو يختصر في الجواب ليسهل على السائل فهم الجواب.

ومن مغايرة الجواب للسؤال، ما جاء في كتاب الله عند قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:215]، فهم يسألون عن ماذا ينفقون؟ وفي آية أخرى: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أي: الزائد عن حاجتكم، وهذا مطابق للسؤال، ولكن هنا قال: قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]، فقد سألوا عن نوعية ما ينفقون فأجابهم بأن دلهم على جهة ما ينفقون عليه؛ لأن معرفة ذلك أهم من معرفة ماذا ينفقون.

وكذلك من الزيادة في الجواب على السؤال حديث: (قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فالسؤال محدود عن صحة الوضوء من ماء البحر، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه الحل ميتته)، مع أنهم لم يسألوا عن ميتته أحلال هي أم حرام؟ ولكن نظر صلى الله عليه وسلم إلى السائل عن صحة الطهور من ماء البحر ورأى أن تحريم وتحليل ميتة البحر أشد إشكالاً عليهم، فإذا كانوا قد استشكلوا الوضوء من ماء البحر لكونه مالحاً فلأن يستشكلوا حِل ميتته من باب أولى، فزادهم فيما يرتبط بركوب البحر.

وهنا سُئل صلى الله عليه وسلم: ماذا يلبس المحرم؟ قال بعض العلماء: لقد أجابهم بما كان ينبغي أن يتوجه السؤال إليه، وهو: ما الذي يمتنع علينا لبسه في الإحرام؟ فكأنه يرشدهم إلى ما كان ينبغي أن يجعلوا السؤال عنه، وهو: ما الذي نجتنبه إذا أحرمنا؟ وقد عللوا ذلك بأن الأصل جواز لبس أي شيء، فالأصل في اللباس إباحة كل شيء حتى يأتي المانع، كما نهي عن لبس الحرير والذهب للرجال، فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت الدليل المانع، لكن اللباس في الإحرام من حيث هو خرج عن هذه القاعدة؛ لأن تاريخ لبس المحرم في الجاهلية كان مغايراً، فقد كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عرايا لا يلبسون شيئاً رجالاً ونساء، وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: من شدة مكيدة الشيطان للإنسان؛ لأنه ما وجد مصيدة أشد وأقوى للرجال من النساء، ويقول: إن فتنة الرجل بالمرأة من أول ما وجد جنس الإنسان، فقد كان آدم عليه السلام في الجنة منعماً مطمئناً في عيشة رغيدة، فلما طرد الشيطان حسد آدم على بقائه، فأراد أن يكيد له ليخرجه ليستويا في الحرمان، فجاءه عن طريق حواء وأغراه حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، فخرجا معاً، قال تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:22].

والعجيب أن الشيطان جاء لآدم بالطريق الذي يريده ليكون انقياده أهون عليه، قال تعالى: قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ [طه:120]، فكلمة (أدلك) تعني: أنه يريد أن ينصحه. (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]، وهذا هو ما يريده آدم، وتخيل إنساناً في الجنة منعماً، فإن أخوف ما يخافه هو الخروج منها، فقال له: أنا أدلك على الطريق الذي يؤمنك من هذا الخوف، فدله على ما أراد، وجاء عن طريق حواء وحصل ما حصل، قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38].

ثم بعد ما نزل آدم إلى الأرض وبدأ يكون مجتمعه جاءت فتنة المرأة، فكان قتل أحد ولديه لأخيه بسبب المرأة، بسبب أخته، ثم واصل الطريق معه عن طريق المرأة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء)، وكما قال جرير :

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك بهوهن أضعف خلق الله إنسانا

وهذا هارون الرشيد ينادي جارية صغيرة ويقول لها: تعالي، فتقول له: لا! خليفة المسلمين الذي سمعت به الدنيا! ومع ذلك جارية صغيرة تقول له: لا! فتمثل بهذه الأبيات:

ما لي تطاوعني البرية كلهاوأطيعهن وهن في عصياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوىوبه قوين أعز من سلطاني

فسلطان الهوى أعز من سلطان الملك، ومما يذكر أن جورج الخامس أو غيره نزل عن عرشه لامرأة! يقولون: لم تكن بارعة في الجمال، ولكنها كانت بارعة في الظرف والأدب والحديث، فأراد أن يتزوجها، فقيل له: لا يمكن؛ لأن الملك في انجلترا لا يتزوج إلا من بيت الملك، فأنت مخيّر بين الملك وامرأة، فقال: خذوا الملك كله. فتنازل عن عرش بريطانيا وتزوج بالمرأة؛ لأن سلطانها أعز عليه، ولهذا يقول صريع الغواني :

وحديثها السحر الحلال لو أنهلم يجن قتل المسلم المتحرز

فدمه متحرز حرام لكنها تقتله.

فالمقصود: أن الشيطان اتخذ المرأة وسيلة لإغواء الرجل، فما زال يغوي العرب إلى أن جعلهم في تلك الصورة التي يستنكرها كل عاقل حتى صاروا يطوفون بالبيت رجالاً ونساءً عرايا، حتى يذكرون عن بعض النسوة أنها قالت وهي تطوف:

اليوم يبدو جله أو كلهوما بدا منه فلا أحله

وكيف وصل بهم إلى هذا الأمر الشنيع؟

وصل إلى ذلك بحيلة، فقد جاءهم وقال: أنتم جئتم تحجون وتطوفون تريدون المغفرة من الذنوب؟

فقالوا: هذا كلام صحيح.

فقال: إن ثيابكم التي تلبسونها في الطواف قد باشرت معكم وشهدت عليكم ارتكاب المعاصي، فكيف تطوفون بالبيت وهذه الثياب عليكم شاهدة بمعاصيكم؟

فقالوا: وما هو الحل إذاً؟

قال: اخلعوها، وطوفوا مجردين من كل شيء.

فقالوا: لقد أصبت. وأضلهم بهذه الحيلة، وكان الواحد منهم إذا استحى أن يطوف عرياناً ولم يستطع وتأبى عليه مروءته ذلك، كان عليه أحد أمرين:

إما أن يستعير ثوباً من جيران البيت الحرام فيلبسه، على أن جيران البيت لا ذنوب ولا معاصي لهم، أو لأنهم مكرمون عن هذا.

وإما أن يشتري ثوباً جديداً ما شهد معصية، فيلبسه ويطوف به، فإذا أنهى طوافه خلعه ورماه عند البيت ويكون هدية لسدنة البيت.

ثم جاء الإسلام وكرم الإنسان، وقد كان المسلمون يعلمون بأن المشركين كانوا يطوفون عرايا، ففي سنة تسع لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس قال له: (ولا يحجنّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان)، فما ألغي هذا الأمر إلا سنة تسع من الهجرة بعدما فتحت مكة بسنة.

إذاً: هم يعلمون أن الطواف في الجاهلية كان يقع والناس عرايا، إذاً ماذا يلبسون؟

فالسؤال منهم عما يلبس المحرم هو عين الصواب، والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم المغاير للسؤال الصحيح السليم إنما هو لبيان وحصر ما يمكن تجنبه، ومعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

أيضاً قالوا: إن ما يمنع المحرم من لبسه محدود ومحصور، وما يجوز له أن يلبسه مطلق دون حد أو حصر، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا هذه المذكورات وما عداها فالبسوا ما شئتم.

وسواء كان ذلك في عمرة أو كان ذلك في حج، وقوله (لا تلبسوا) خطاب للرجال يخرج عنه النساء، وإن كان المؤلف لم يورد ما تجتنبه المرأة، لكنه معروف عند الجميع وفي غير هذا الموطن، وقد ذكره المصنف في فتح الباري في شرح صحيح البخاري.

وقوله: (لا تلبسوا القمص) القمص: جمع قميص، وهو كناية عن الثوب، سواء كان القميص الذي يلبس مع البدلة، أو مع السروال الطويل، أو كان نفس الثوب المعروف، فإنه يسمى ثوباً ويسمى قميصاً، فما كان على هيئة البدن بكمين فهو قميص.

ويراد بالقميص كل مخيط على هيئة البدن وله كمان، وسواء كان هذا القميص مخيطاً بيد أو بمكينة أو ملصقاً بلصقة أو مشغولاً بالإبرة، أو نحو ذلك؛ لأن الغرض منع لبس المحيط بالجسم، فالنهي هو عن المحيط لا المخيط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [1] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net